من هو الصدّيق ؟ ومن هي الصدّيقة ؟

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-397-135-X
الصفحات: ١٧٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والأولياء والصالحين وأدوارهم المعنوية ، مدَّعين أنّ هؤلاء لا يمكنهم الاتصال بعالم الدنيا بعد فناء أجسادهم جرياً مع الظواهر الطبيعية التي عرفوها في الحياة المادية الدنيوية وما اعتادوا على فهمه في الجاهلية ؟

فلو كان هؤلاء قد عرفوا قوله تعالى : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (١) حق معرفته لعرفوا مقامات أولئك المصطفين وما منحهم رب العالمين من مكانة ، ولَمَا شكّكوا ولما قالوا جزافاً. فإبليس مع طغيانه يخاطب رب العزة بأنه سيجدّ ويسعى لإضلال أبناء آدم ، لكنه لا يقدر على فئة منهم لقوله : ( لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) (٢) أو قوله : ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ). (٣)

وعليه فالوقوف على أسرار عالم الغيب يجعلنا نفهم وندرك الأمُور بعمق أكثر مما نحن فيه ، ونحن ـ والحق يقال ـ لا ندرك كنه مقام النبي وفاطمة والأئمة عليهم السلام ؛ لأن عالمهم الغيبي أسمى من عالمنا بكثير ؛ ولأنّ أبعاد ذلك العالم وصلاحياته وذاتياته مجهولة لكثير منا ، فلا يمكن للذين يفكرون تفكيراً مادّياً وحسياً كالوهابية اليوم أن يعرفوا كيف يكون الرسول شهيداً علينا وبعد أربعة عشر قرناً ؟ وذلك في قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ، (٤) وقوله تعالى : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

_______________________________________

١. البقرة : ٢٤٩.

٢. الإسراء : ٦٢.

٣. ص : ٨٢ ، ٨٣.

٤. البقرة : ١٤٣.

٦١

فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، (١) وقوله تعالى : ( قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ). (٢)

فنتساءل : هل أنّ شهادة الرسول ، ورؤيته للأعمال ، مختصّتان بعصر الصحابة ومن عاصروا الرسول الأكرم ، أم لهما الشمولية لكل الأزمان والأمكنة وجميع الأجيـال ؟

بل ما معنى قوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) ، (٣) وهل هي مختصة بعصر الرسالة فقط ، أم أنها تشمل سائر الأزمان ؟ وإذا اختصت الآية بعصر الرسالة ، ألم يكن هذا إجحافاً في حقّ الأجيال اللاحقة ؟

وما معنى شهادة الرسول في الآية السابقة ؟ وكيف يمكن تصور شهادته على الناس طبق الظوابط المادية التي نعرفها ؟ مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ميت وأنهم ميتون في الظاهر ؟!

إن ذلك كله من الغيب الإلهي الذي لابدّ من الإيمان به ، وإن لم نعرف تفاصيل حقيقته وكيفيته ، لأنّ المسلم يجب أن يؤمن بالغيب طبقاً لقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، فهناك مفاهيم معنوية غيبية كثيرة في حياتنا الإسلامية يجب معرفتها والوقوف عليها.

وباعتقادي أن تسليط الضوء على هذه الزاوية سيحل الكثير من المسائل العقائدية التي لا يدرك عمقها الآخرون ؟! لأنّ التعامل مع الأمور تعاملاً حسياً

_______________________________________

١. التوبة : ١٠٥.

٢. الرعد : ٤٣.

٣. النساء : ٦٤.

٦٢

مادياً هي نظرة ماركسية وهابية ـ وليست نظرة إسلامية إلهيّة ـ وقد جاءتنا في القرنين الأخيرين ، غافلة أو متغافلة عن أنّ الإيمان بمقامات الأنبياء والأوصياء والصالحين تشابه تسبيح الموجودات لربّ العالمين التي لا نفقه تسبيحها ، وهي كضيافة الله لعباده في شهر رمضان والتي لا تشابه ضيافة الناس بعضهم لبعض ، إذ أنّ مفهوم الأكل عند الباري يختلف عن مفهوم الأكل عندنا ، وهكذا مفهوم الشهادة والشهود وغيرها من الجهات المعنوية الملحوظة في الفكر الإسلامي لا يمكن فهمها ببساطة وسطحية في التفكير. فهي مختصة بالرسول ومن عنده علم الكتاب.

ومن هذا المنطلق نقول : إن كثيراً من أفراد الأُمة الإسلامية ـ في عهد الرسول الأكرم ومن بعده ـ كانوا لا يدركون ـ أو لا يريدون أن يدركوا ـ عمق الرسالة ومكانة الرسول ، فكانوا يتعاملون معه كإنسان عادي يصيب ويخطيء ، ويقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا ، فالإمام علي أراد أن يوضّح لأبي بكر بأنّه لا يدرك عمق العقيدة الإسلاميّة ، ويخالف بفعله القرآن الكريم ، ويتعامل مع الأُمور بسطحيّة وبساطة ، بعكس أقوال وأفعال ومواقف الإمام عليه‌السلام الصـادحة الصـادعة بأنّه يدرك عمق الرسالة تمام الإدراك ، ويعتبر أمر الرسـول أهم من الصـلاة ، فتراه لا يتحرك حين نـزول الوحي على النبي ورأسه في حجر علي امتثـالاً لأمر الله ورسـوله حتى كادت تغيب الشمس وفاته وقت الفضيلة ، فأكرمه الله سبحانه بردّ الشمس عليه. (١)

وعلى عكس ذلك الحال بالنسبة إلى أبي سعيد بن المعلى الأنصاري ، فقد نقلت كتب التاريخ بأنه كان في الصلاة ، فدعاه رسول الله فتباطأ حتى أكمل صلاته ثم جاء إلى رسول الله ، فاعترض رسول الله على هذا التباطؤ موبّخاً إياه

_______________________________________

١. حديث رد الشمس لعلي عليه‌السلام سبق تخرجه.

٦٣

بقوله : ألم تسمع قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ). (١)

وجاء في كتب التاريخ والحديث : إنّ رسول الله اشترى فرسا من سواد بن قيس المحاربي فجحده ، فشهد له خزيمة بن ثابت ، فقال له رسول الله ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضراً ؟ قال : صدّقتك بما جئتَ به وعلمتُ أنك لا تقول إلّا حقاً. فقال رسـول الله : من شهد له خزيمـة أو شهد عليه فحسبه. (٢)

وأخيرا أنقل لك ما رواه جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه شهد أعرابياً وقف على باب فاطمة وطلب منها عليها‌السلام ما يسد جوعه ويكسي جسده ، فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين ، فقالت : خذ هذا أيُها الطارق ! فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه.

قال الأعرابي : يا بنت محمد شكوت إليك الجوع فناولتيني جلد كبش ! ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب ؟

قال : فعمدت عليها‌السلام لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمها حمزة بن عبد المطلب ، فقطعته من عنقها ونبذته إلى الأعرابي فقالت : خذه وبعه فعسى الله أن يعوّضك به ما هو خير منه.

فأخذ الأعرابي العقد وانطلق إلى مسجد رسول الله ، والنبي جالس في أصحابه ، فقال : يا رسول الله ، أعطتني فاطمة [ بنت محمّد ] هذا العقد وقالت :

_______________________________________

١. الأنفال : ٢٤. وقد ذكر الخبر البخاري في صحيحه ٥ : ١٤٦ ، ١٩٩ ، ٢٢٢ ، من كتاب تفسير القرآن ، و ٦ : ١٠٣ من كتاب فضائل القرآن ، ومسند أحمد ٣ : ٤٥٠ ، ٤ : ٢١١ ، سنن أبي داود ١ : ٣٢٨ / ١٤٥٨ ، سنن النسائي ٢ : ١٣٩ ، صحيح ابن حبان ٣ : ٥٦ ، المعجم الكبير ٢٢ : ٣٠٣ ، وفي سنن الترمذي ٤ : ٢٣١ / ٣٠٣٦ ، مسند الحاكم ١ : ٥٥٨ ، سنن البيهقي الكبرى ٢ : ٢٧٦.

٢. الآحاد والمثاني ٤ : ١١٥ ، المعجم الكبير ٤ : ٨٧ ، مستدرك الحاكم ٢ : ١٨.

٦٤

بعه فعسى أن يصنع الله لك.

قال : فبكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : وكيف لا يصنع الله لك ، وقد أعطتكه فاطمة بنت محمد سيدة بنات آدم.

فقام عمار بن ياسر رحمه الله فقال : يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد ؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اشتره يا عمار ، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذّبهم الله بالنار.

فقال عمار : بكم العقد يا أعرابي ؟

قال : بشبعة من الخبز واللحم ، وبردة يمانية أستر بها عورتي واُصلي فيها لربي ، ودينار يبلغني إلى أهلي ـ وكان عمار قد باع سهمه الذي نفّله رسول الله من خيبر ولم يبق منه شيئا ـ.

فقال : لك عشرون ديناراً ومائتا درهم هجريّة ، وبردة يمانية ، وراحلتي تبلغك أهلك ، وشبعة من خبز البّر واللحم.

فقال الأعرابي : ما أسخاك بالمال أيها الرجل ، وانطلق به عمار فوفّاه ما ضمن له وعاد الأعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له رسول الله : أشبعت واكتسيت ؟

قال الأعرابي : نعم واستغنيت بأبي أنت وأمي ، قال ... إلى آخر الخبر. (١)

فعمار بن ياسر ـ لأجل معرفته بمنزلة أهل البيت ـ عرف قيمة هذه الهدية ، أما الأعرابي فلم يكن يعرفها إلّا على مَلْء البطن والكسوة ، ولما أُعطي ما أُعطي فرح ، وهو لا يدري ما الذي خسره وما الذي حصل عليه الآخر ، إنها المعرفة ، وكفى لعمار بها تعريفاً.

إذاً التركيز على الجانب المعنوي وتبيّن المفاهيم الإلهية كما هي ، يفتح لنا آفاقاً كثيرة ، وعلى ضوئها يمكننا أن نعرف معنى الإسراء والمعراج ، وتكلّم الله مع

_______________________________________

١. بشارة المصطفى ٢١٩ ، وعنه في البحار ٤٣ : ٥٧.

٦٥

موسى ، وإجابة الرسول لمن يسلّم عليه وهو في القبر ، وإجابة الأئمة لنا حين نخاطبهم ، لأنّ الموت بالمنظور الإلهي هو الحياة الدائمة لا الفناء ، وهو وجود لا عدم ؛ لأنّه جل وعلا خلقهما معا لقوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ). (١)

فلو كان الموت هو الحياة ، فما أوجه الشبه بينه وبين الحياة الدنيوية ؟ وهل يعقل أن يحيا شخص دون أن يتكلم أو يأكل أو يشرب و ...

هذه أمُور يجب أن تطرح ويُبحث في جوانبها ، لكنّ من المؤسف حقاً أنّ هناك طوائف من الأُمة لا تدرك عمق هذه الأفكار ، فيتعاملون مع النبي والأئمة كأنهم أُناسٌ عاديّون بعيدون عن الملكات المعنوية الإلهية ، فترى أبا بكر مثلاً لا يعرف كنه آية التطهير فيتعامل مع الصدّيقة فاطمة الزهراء كما يتعامل مع أدنى امرأة من المسلمين تماماً ، وعمله هذا مخالف لصريح القرآن المجيد وما جاء به الرسول الأمين.

إن عدم تفهّمهم ودركهم لهذه الخصائص الإلهية قد يرجع إلى قلّة المعرفة بمكانة هؤلاء العباد المخلصين ، وقد يكون ـ علاوة على ذلك ـ لمطامع شخصيّة ، والثاني هو الأقرب إلى الحقيقة ومجريات الأحداث.

*

_______________________________________

١. سورة الملك : ٢.

٦٦



بعض معايير الصدّيقية

اتضح لك ـ وفق الصفحات السابقة ـ من هو الصادق ومن هو الكاذب ، والآن نريد أن نوضّح من هو الصدّيق ومن هي الصدّيقة في المنظومة الإلهية ؛ لأن مرتبة الصدّيق هي أسمى وأرفع من مرتبة الصادق ، إذ هي صيغة مبالغة وهي غالباً ما جاءت في القرآن الكريم صفة للأنبياء :

كقوله تعالى : ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ). (١)

وعن إبراهيم : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ). (٢)

وعن إدريس : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ) ، (٣) وغـيرها.

ولم تلحظ هذه التسمية في القرآن الكريم لأشخاص عاديين وغير معصومين.

إذاً الصدّيقية هي صفة للأنبياء والأوصياء ، وإذا توسّعنا في مدلولها فإنّها ربّما أُطلقت على الصالحين الكُمّل من العباد الذين آمنوا بالله ورسله إيمان قلب

_______________________________________

١. يوسف : ٤٦.

٢. مريم : ٤١.

٣. مريم : ٥٦.

٦٧

وعقيدة لا إيمان لسان ومصالح.

ولكي ندرس الموضوع بموضوعية أكثر ، ولنضع النقاط على الحروف ، لابد من ذكر بعض المعايير والسمات المتصورة للصدّيق ، لكونها مرتبة عالية في التقييم البشري ، ثمّ نأتي لنطبقها على ما نحن فيه.

الأوّل : الصدق

إنّ أوّل سمات الصدّيقية هي كون الشخص صادقاً في كلامه ومواقفه ، وقد اعتبر سبحانه وتعالى الكاذب ظالماً لنفسه بقوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ). (١)

وقوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ). (٢)

وقوله : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ). (٣)

وفي رابع قوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ). (٤)

وفي خامس قوله : ( فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). (٥)

ويوسف الصدّيق كان صادقاً مع فرعون حين ( قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَ

_______________________________________

١. الأنعام : ٢١ ، الأعراف : ٣٧ ، يونس : ١٧.

٢. العنكبوت : ٦٨.

٣. الأنعام : ١٤٤.

٤. هود : ١٨.

٥. آل عمران : ٩٤.

٦٨

إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ). (١)

فتأكد لك قول الإمام علي في قوله تعالى : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) (٢) حيث قال : الصدق ولايتنا أهل البيت. (٣)

كما مرّ عليك أنّ الزهراء عليها‌السلام بخطبتها المشهورة شككت في كل مدعيات أبي بكر ، وكان مما قالته له :

... أم أنتم أعلم بخصوص القرآن من أبي وابن عمي ؟ فدونكها مخظومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب عظيم ، ثم أشارت إلى قوله تعالى ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ).

فأجابها أبو بكر بأنه سمع رسول الله يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً وإنّما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة ...

فقالت عليها‌السلام : سبحان الله ما كان رسول الله عن كتاب الله صادفاً ولا لأحكامه مخالفاً ، بل كان يتبع أثره ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور ؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ، هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاً فصلاً يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) و ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) فبين عزوجل فيما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظ

_______________________________________

١. يوسف : ٢٦.

٢. الزمر : ٣٢.

٣. مناقب آل أبي طالب ٣ : ٩٢ ، الأمالي للطوسي : ٣٦٤ المجلس ١٣ ح ١٧.

٦٩

الذكران والإناث ما أزاح به علة المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغابرين ، كلا بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون.

فقال أبو بكر : صدق الله وصدق رسوله ، وصدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجة ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ... . إلى آخر. (١)

وبهذا فقد رأيت أن الزهراء كذّبت أبا بكر لكنه لم يجرؤ على تكذيبها. بل أقر بصحة كلامها ، وقد وقفت سابقاً على كلام عمر بن الخطاب للإمام علي ( إنا لا نقوى على حجتك ).

ووفي الوقت الذي رأينا فيه أبا بكر يقول للأنصار في السقيفة : نحن الأُمراء وأنتم الوزراء ، ثمّ لم يصدّق فعلهُ قوله ، حيث أبعد الأنصار عن جميع المسؤوليات فضلاً عن الوزراء ، في نفس هذا الوقت نرى تصريحات الكتاب والسنّة بأنّ عليّاً هو المعنيّ بـ « الصادقين » ، بل سيرة عليّ كلّها تدل على أنّه الصدّيق الأكبر وأنّه إمام الصادقين.

قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ).

القراءة : في مصحف عبدالله ، وقراءة ابن عباس : « من الصادقين » وروى ذلك عن أبي عبدالله عليه‌السلام.

اللغة : الصادق : هو القائل بالحق العامل به ؛ لأنّه صفة مدح ، ولا يطلق إلّا على من يستحق المدح على صدقه.

المعنى : ثمّ خاطب الله سبحانه المؤمنين المصدقين بالله المقرين بنبوة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

_______________________________________

١. الاحتجاج ١ : ١٤٤.

٧٠

فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) أي اتقوا معاصي الله واجتنبوها ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) الذين يصدقون في أخبارهم ولا يكذبون ، ومعناه : كونوا على مذهب من يستعمل الصدق في أقواله وأفعاله ، وصاحبوهم ورافقوهم ، كقولك : أنا مع فلان في هذه المسألة ، أي أقتدي به فيها ، وقد وصف الله الصادقين في سورة البقرة ، بقوله : ( وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إلى قوله : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ، فأمر سبحانه بالاقتداء بهؤلاء الصادقين المتقين. وقيل : المراد بالصادقين هم الذين ذكرهم الله في كتابه ، وهو قوله : ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ ) يعني ، حمزة بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب ( وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ) يعني ، علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : ( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) مع علي وأصحابه.

وروى جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) قال : مع آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : مع النبيين والصديقين في الجنة . ... وقيل : إن معنى ( مَعَ ) هنا معنى ( من ) فكأنه أمر بالكون من جملة الصادقين ، ويعضده قراءة من قرأ : ( مِنَ الصَّادِقِينَ ) والمعنيان متقاربان هنا ؛ لأنّ ( مَعَ ) للمصاحبة ، و ( من ) للتبعيض ، فإذا كان من جملتهم فهو معهم وبعضهم ، وقال ابن مسعود ، لا يصلح من الكذب جد ولا هزل ، ولا أن يَعِدَ أحدكم صبيه ثمّ لا ينجز له ، اقرؤوا إن شئتم هذه الآية ، هل ترون في الكذب رخصة ؟ (١)

وعن ابن اذينة ، عن بريد بن معاوية العجلي ، قال : سألتُ أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : ( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) قال : إيانا عنى. (٢)

_______________________________________

١. انظر مجمع البيان في تفسير الآية ١١٩ من سورة التوبة.

٢. بصائر الدرجات : ٥١ / ١ ، الكافي ١ : ٢٠٨ / ١.

٧١

وروى الصفار ، عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن عن أحمد بن محمد ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : ( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، فقال : ( الصَّادِقِينَ ) الأئمة الصديقون بطاعتهم. (١)

وفي حديث المناشدة قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) فقال سلمان : يا رسول الله أعامة هي أم خاصة ؟ قال : أمّا المأمورون فالعامة من المؤمنين أُمِروا بذلك ، وأما الصادقون فخاصة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة ؟ قالوا : اللهم نعم. (٢)

وروى ابن شهرآشوب من تفسير أبي يوسف ، يعقوب بن سفيان حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع عن ابن عمر ، قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) قال : أمر الله الصحابة أن يخافوا الله ثمّ قال : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يعني مع محمد وأهل بيته. (٣)

وجاء عنه عليه‌السلام : نحن شيعة علي ، إنّما شيعة علي من صدق قوله فعله. (٤)

فالتمسك بتلك الآية لإثبات الإمامة والصدّيقية في المعصومين ، بين الشيعة معروف ، وقد ذكره المحقق الطوسي في كتاب التجريد ووجه الاستدلال بالآية الكريمة ، فقال :

إن الله تعالى أمر كافة المؤمنين بالكون مع الصادقين ، وظاهر أن ليس المراد به

_______________________________________

١. بصائر الدرجات : ٥١ / ١ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٤ : ٣١.

٢. كتاب سليم بن قيس : ٢٠١ ، التحصين : ٦٣٥ ، ينابيع المودة ١ : ٣٤٤.

٣. مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٢٨٨ ، ينابيع المودة ١ : ٣٥٨ / الباب ٣٩ / ١٥ عن الموفق بن أحمد الخوارزمي ، الفضائل لابن شاذان : ١٣٨.

٤. الكافي ٨ : ٢٢٨ / ٢٩٠.

٧٢

الكون معهم بأجسامهم ، بل المعنى لزوم طرائقهم ومتابعتهم في عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم ، ومعلوم أن الله تعالى لا يأمر عموماً بمتابعة من يعلم صدور الفسق والمعاصي عنه مع نهيه عنها ، فلا بد من أن يكونوا معصومين لا يخطأون في شيء حتى يجب متابعتهم في جميع الأمور ، وأيضاً لا يختص بزمان دون زمان ، فلا بد من وجود معصوم من الصادقين في كلّ زمان ليصح أمر مؤمن كل زمان بمتابعتهم. (١)

قال الشاعر :

إذا كذبت أسماءُ قومٍ عليهم

فإِسمكَ صدّيقٌ له شاهدٌ عدلُ

بعد كل هذا ، لك أن تحكم من هو الصديق ؟ ومن هي الصديقة ؟

الثاني : العصمة

إنّ صفة الصدّيقيّة تعني بأن الشخص قد بلغ مرتبة الكمال والعصمة لأنه اختير وانتجب من قبل الله ، وهي أسمى من الصادقية ، فالصدق يرجع إلى الفرد ، أما الصدّيق فيرجع إلى الباري تعالى ، والمعصوم ليس صادقاً وحسب بل هو صدّيقٌ ، وليس طاهراً فحسب بل هو مطهَر ، فالذي يُصطفى من العباد من قبل الله ويُجتبى يجب أن يكون مسدّداً في قوله وفعله ، كما هو الملاحظ في السيدة مريم بنت عمران سلام الله عليها لقوله تعالى : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ). (٢)

وقال سبحانه وتعالى عنها : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ

_______________________________________

١. كشف المراد : ٢٢٢.

٢. المائدة : ٧٥.

٧٣

الرَّاكِعِينَ * ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ). (١)

ولما قال القوم لمريم : ( يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) (٢) أي مفترى مكذوباً ، أو عظيماً في المناهي ، ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) (٣) فأشارت مريم إلى عيسى وهو في المهد وطلبت منهم أن يستفسروا منه عن الأمر ، فقالوا : ( كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) (٤) فأنطق الله عيسى ، ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا  * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ). (٥)

فمريم هي الصدّيقة بنص القرآن الكريم ، وبينها وبين فاطمة الزهراء مشتركات كثيرة ، منها أنهما من سلالة النبوة ، والنبوة سلالة بعضها من بعض ، لقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ، (٦) فهي ابنة نبي وفاطمة ابنة خاتم الأنبياء ، ومريم أم لنبي وفاطمة أُم لأبيها وأم لوصيَّين بل أمّ الأوصياء ، ومريم ولدت من غير زوج على نحو الإعجاز حيث لم يكن لها كفو ، وفاطمة أنجبت من

_______________________________________

١. آل عمران : ٤٢ ـ ٤٤.

٢. مريم : ٢٧.

٣. مريم : ٢٨.

٤. مريم : ٢٩.

٥. مريم : ٣٠ ـ ٣٣.

٦. آل عمران : ٣٣ ـ ٣٥.

٧٤

بعل كعلي ولولاه لما كان لها كُفْءٌ.

وكلاهما كفلا من قبل نبي فمريم ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) وفاطمة قد كفلها سيد الانبياء محمّد المصطفى ، وجاء عن الإمام الرضا انه قال في جواب ابن ابي سعيد المكاري : انّ الله تبارك وتعالى أوحىٰ الى عمران : أني واهب لك ذكراً ، فوهب له مريم ، ووهب لمريم عيسىٰ ، فعيسىٰ من مريم ، ومريم من عيسىٰ ، ومريم وعيسىٰ شيء واحد ، وأنا من أبي ، وأبي مني ، وانا شيء واحد. (١)

وقد روت الخاصة والعامة أن علياً أصبح ساغباً (٢) فسأل فاطمة طعاماً ، فقالت : والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أصبح عندي شيء يطعمه بشر ، وما كان من شيء أطعمك منه يومين إلّا شيء كنت أوثرك به على نفسي وعلى الحسن والحسين.

قال عليه‌السلام : أعلى الصبيين ؟ إلّا أعلمتِني فآتيكم بشيء.

قالت : يا أبا الحسن إنّي لاستحيي من إلهي أن أكلّفك ما لا تقدر عليه.

فخرج واثقا بالله حسن الظن به ، فاستقرض من النبي ديناراً فخرج يشتري به شيئاً ، إذ عرض له المقداد في يوم شديد الحر قد لوّحته الشمس من فوقه وتحته ، فأنكر عليه‌السلام شأنه فقال : يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة ؟

قال : خل سبيلي يا أبا الحسن ولا تكشفني عما ورائي.

قال عليه‌السلام : إنّه لا يسعني أن تجاوزني حتى أعلم علمك.

قال : يا أبا الحسن إلى الله ثمّ إليك أن تخلي سبيلي ولا تكشف عن حالي.

فقال علي : إنّه لا يسعك أن تكتمني حالك.

_______________________________________

١. بحارالأنوار ٢٥ : ١ عن معاني الاخبار : ٦٥.

٢. أي جائعاً.

٧٥

فقال : إذا أبيت فوالذي أكرم محمداً بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أزعجني إلّا الجهد ، ولقد تركت عيالي بحال لم تتحملني لها الأرض فخرجت مهموماً راكباً رأسي ، فهذه حالي.

فهملت عينا علي عليه‌السلام بالدموع حتى أخضلت دموعُهُ لحيتَه ، ثمّ قال : أحلف بالذي حلفت به ما أزعجني ، من أهلي إلّا الذي أزعجك ولقد استقرضت ديناراً فخذه ، فدفع الدينار إليه وآثره به على نفسه.

فوضع عليه‌السلام رأسه فنام ، فخرج النبي فإذا هو به فحرّكه ، وقال : ما صنعت ، فأخبره ، فقام وصلى معه ، فلما قضى النبي صلاته قال : يا أبا الحسن هل عندك شيء نطعمه ؟ فمكث عليه‌السلام مطرقاً لا يحير جواباً حياءً من رسول الله وهو يعلم ما كان من أمر الدينار ، ثم قال عليه‌السلام : نعم يا رسول الله على الرحب والسعة ، وقد كان أوحى الله إلى نبيه محمد أن يتعشى عند علي بن أبي طالب ، فانطلقا حتى دخلا على فاطمة وهي في مصلّاها وجنبها جفنة تفور دخاناً ، فأخرجت فاطمة الجفنة فوضعتها بين أيديهما ، فسأل عليٌّ : أنى لك هذا ؟

قالت : هو من فضل الله ورزقه ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

قال : فوضع النبيُّ كفّه المبارك بين كتفي علي ثمّ قال : يا علي هذا بدل دينارك ، ثمّ استعبر النبي باكياً وقال : الحمد للّه الذي لم يمتني حتى رأيت في ابنتي ما رأى زكريا لمريم. (١)

وجاء في أخبارنا أنّ الأئمة من ولد فاطمة ، هم أفضل من أنبياء بني إسرائيل ،

_______________________________________

١. انظر مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٣٥٠ ، أمالي الطوسي : ٦١٧ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٥٢٢ ، ذخائر العقبى : ٤٦ ، فضائل سيدة النساء لعمر بن شاهين : ٢٦ ، تفسير فرات : ٨٤ ، كشف الغمة ٢ : ٩٨ ، تأويل الآيات ١ : ١٠٩ ، ينابيع المودة ٢ : ١٣٦.

٧٦

وفي روايات العامة ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) ، (١) وفي روايات الفريقين ما يصدّق قول الإمامية ، حيث روى الفريقان أنّ في الأخبار بأن عيسى عليه‌السلام حين يأتي في آخر الزمان سوف يصلي خلف الإمام المهدي عند ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف ، (٢) وهو دليل على أفضلية أئمة أهل البيت على أنبياء بني إسرائيل.

ولو قايست بين كلام إبراهيم عليه‌السلام والإمام علي لوقفت على المنزلة المعرفية الكبرى لعلي عليه‌السلام ، فسبحانه جلّ وعلا قال لنبي الله إبراهيم : ( أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، (٣) وأما الإمام علي فقال : ( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً ) ، (٤) وفي هذا معنى عظيم يدركه العالم البصير.

وبنفس المنطق ، وبنص كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت السيدة الزهراء هي أفضل من السيدة مريم ، لأنّ رسولَ الله قال في وصفها ـ وهو الذي نزل عليه القرآن المصرح باصطفاء مريم ـ : إنّها [ فاطمة ] سيدة نساء العالمين ، فقيل : يا رسول الله هي سيدة نساء عالمها ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك لمريم بنت عمران ، أما ابنتي فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين. (٥) فكيف بعائشة !

*

_______________________________________

١. المحصول للرازي ٥ : ٧٢ ، سبل الهدى والرشاد ١٠ : ٣٣٧.

٢. الآحاد والمثاني ٢ : ٤٤٦ ـ ٤٤٩ / ١٢٤٩ ، كنز العمال ١٤ : ٢٦٦ / ٣٨٦٧٣ عن أبي نعيم في كتاب المهدي عن ابي سعيد. فتح الباري ٦ : ٣٥٨ ، تفسير القرطبي ١٦ : ١٠٦.

٣. البقرة : ٢٦٠.

٤. تفسير أبي السعود ١ : ٥٦ ، ٤ : ٤ ، الصواعق المحرقة ٢ : ٣٧٩ ، حاشية السندي ٨ : ٩٦ ، مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٣١٧ ، والفضائل لابن شاذان : ١٣٧.

٥. أمالي الصدوق : ٥٧٥ وعنه في شرح الأخبار ٣ : ٥٢٠ / ٩٥٩ وبحار الأنوار ٢٤ / ٢٠ : ٤٣ ، بشارة المصطفى : ٣٧٤ / ٨٩ من طريق آخر وعنه في البحار ٣٧ : ٨٥ / ٥٢.

٧٧

شبهة وجواب :

وهنا لابد لي وأنا أسير في البحث من الإجابة عن شبهة قد ترد على ذهن بعض الأشخاص ، وهي : كيف تكون فاطمة سيدة نساة العالمين مع أنّ رب العالمين قال في محكم كتابه عن مريم : ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) ؟

نجيب عن ذلك بجوابين ، أحدهما نَقْضي ، والآخر حَلّيٌ.

أما الجواب النقضي : فنسأل المستشكل ماذا يقول في قوله تعالى : ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ). (١)

فهل هو يعتقد ، أو هل هناك أحد يقول بأن هؤلاء الأنبياء هم أفضل من نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ كلّا وألف لا ، فالرسل على مراتب وأفضلهم خاتمهم ، فالتفاضل حقيقة ربانية لكن لا على جميع العصور : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ). (٢)

والأوضح من ذلك أن نرى الله قد فضّل اليهود على العالمين في كتابه ؛ لقوله تعالى : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ). (٣)

فهل هناك مسلم أو مسيحي يعتقد بأنّ اليهود هم أفضل العالمين ؟ كلا وألف لا ، خصوصاً بعد عِلمنا بما فعله أبناء تلك الأمة بأنبيائهم وتحريفهم للشريعة ،

_______________________________________

١. الأنعام : ٨٦.

٢. البقرة : ٢٥٣.

٣. البقرة : ١٢٢.

٧٨

وبهذا يتّضح أنّ المقصود من جملة : ( عَلَى الْعَالَمِينَ ) في زمانهم لا في جميع الأزمنة ، لأن الزمن الأخير مختص برسول الله والصدّيقة الزهراء والإمام علي وأولادهم المعصومين الذين هم أفضل من أنبياء بني إسرائيل بلا شك.

وأما الجواب الحَلّي فنقول : إنّ الذي قال : فاطمة هي أفضل من مريم ، وأنها سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء أهل الجنة بما فيهم مريم ، هو الذي نزل عليه القرآن الذي فيه اصطفاء مريم ، ولو تأمّلت في كلام رسول الله وما قاله في بنته ، وما جاء فيها : من أن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها ، لعرفت أن في هذه النصوص تصريحا لها بالعصمة والاصطفاء ، وأنّها تفوق في الفضل والمرتبة مريم بنت عمران.

عود على بدء :

والآن لنرجع لما نحن فيه كي نرى هؤلاء الأربعة ( علي ، فاطمة ، أبو بكر ، عائشة ) أيهما هو الأحق في الاتصاف بصفة الصدّيقية ؟ ومن منهم يتّصف بالعصمة وله سمات ومواصفات هذا اللقب ؟

من المعلوم الذي لا خلاف فيه بأنّ أحداً من المسلمين لم يدّعِ العصمة لأبي بكر ولا لعمر ولا لعائشة ، ولم يدّعوا هم لأنفسهم ذلك ، بعكس الأمر بالنسبة الى فاطمة والإمام علي عليه‌السلام ، فقد جزما بذلك لأنفسهما كما جزم كثير من المسلمين لهم بذلك ، ونزل فيهم الذكر الحكيم كآية التطهير وأمثالها الدالة على ذلك ، وقد قال النبي فيهما ما يدل على عصمتهما بلا ريب ، وهذا يكفي في ترجيح كون لقب الصدّيقة لفاطمة لا لعائشة ، والصدّيق لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام لا لأبي بكر.

ولنقايس الآن بين أبي بكر ويوسف الصدّيق ، كي نعرف معيار الصدّيقية

٧٩

وكيف جاءَتهما. فيوسف لُقِّبَ بهذا اللقب لصدقه في تعبير رؤيا عزيز مصر الذي رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، فقال سبحانه حاكياً هذه الواقعة على لسان العزيز ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ). (١)

فسبحانه وتعالى صدَّق يوسف في تعبيره للرؤيا بعد أن لبث في السجن بضع سنين.

أما أبو بكر الذي حاولوا إضفاء لقب الصدّيق عليه ، فإنّه لا يصلح أن يكون كذلك طبق الميزان الذي عرفته ، فهو ليس بصدّيق معصوم ، ولا صدّيق غير معصوم ، بل كان لا يعرف مرامي القرآن والسنة ، لانه كان يسال الصحابة عن الاي الحكيم وكثيراً ما كان يُخطا من قبل الصحابة في افتائه وتفسيره ، فقد فسر كلمة ( بضع ) الواردة في القرآن بدون رويّة وعلى عجل طبقا لرايه ، فقد ورد في سنن الترمذي عن ابن مكرم الأسلمي ، قال :

ما نزلت « ألَم غُلبت الرُّوم في أدنى الأرضِ وهُم من بعدِ غَلَبهِم سيغلبُون في بِضعِ سِنِين » فكانت فارسُ يومَ نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يُحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك قولُ الله تعالى ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ

_______________________________________

١. البقرة : ٤٥ ـ ٤٨.

٨٠