من هو الصدّيق ؟ ومن هي الصدّيقة ؟

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-397-135-X
الصفحات: ١٧٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المنتجبون ، على الخير أدلّتنا ، وإلى الجنة مسالكنا ، وأنتِ يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا مصدودة عن صدقك ، ووالله ، ما عدوتُ رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث الكتاب والحكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ». (١)

وقد جعلنا ما حاوَلْتِه في الكراع والسلاح يقاتل به المسلمون ، ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المردة الفجار ، وذلك بإجماع من المسلمين لم أتفرد به وحدي ، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي. وهذه حالي ومالي ، هي لك وبين يديك ، لا تزوى عنك ، ولا تدخر دونك ، وأنت سيدة أمّة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع ما لك من فضلك ، ولا يوضع من فرعك وأصلك ؛ حكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فقالت عليها السلام :

سبحان الله ! ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتاب الله صادفا ، ولا لأحكامه مخالفا ، بل كان يتبع أثره ، ويقفو سُورَهُ ، أفتجمعون إلى الغدر اعْتِلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته. هذا كتاب الله حكماً عدلاً ، وناطقاً فصلاً ، يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، ويقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) ، وبيّن عزوجل فيما وزع من الأقساط ، وشرَّع من الفرائض والميراث ،

_______________________________________

١. نقول : ونحن حتّى لو سلّمنا قول أبي بكر أنّ النبي قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدي ... ، فنحن حتّى لو سلّمنا ذلك فالنصوص المتواترة أعلنت أنّ عليّاً هو وليّ الأمر لا أبو بكر ولا غيره ، وحديث الغدير والثقلين والمنزلة وعشرات غيرها أدلّة ناصعة على ذلك.

٤١

وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح به عِلَّة المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغابرين ، كلا ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ).

فقال أبو بكر : صدق الله ورسوله ، وصدقت ابنته ، أنتِ معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين وعين الحجة ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلدوني ما تقلدت ، وباتفاق منهم أخذتُ ، ما أخذتُ غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود.

فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى النّاس وقالت : معاشر الناس المسرعة إلى قيِل الباطل ، المُغضية على الفعل القبيح الخاسر ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ، كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه اعتضتم ، لتجدن ـ والله ـ مَحمِلهُ ثقيلاً ، وغِبّهُ وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراءه الضراء ( وبدالكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ) و ( خَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ). (١)

النموذج الرابع :

تشكيك الصدّيق !! في توريث الصدّيقة واعتبار ما تقوله دعوى تحتاج إلى دليل ، مع علمه بأنّها المعنية في آية التطهير ، الصريحة بابتعادها عن الرجس والخيانة والكذب ، وهي التي قال عنها الصادق الأمين ـ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ـ : إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها ، ومعنى كلامه أنّ فاطمة معصومة عن الخطأ والهوى ، إذ لا يعقل أن يتعلق رضا الله تعالى

_______________________________________

١. الاحتجاج ١ : ١٤١ ـ ١٤٤ ، وعنه في البحار ٢٩ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

٤٢

وغضبه برضى وغضب شخص غير معصوم.

فالرسول الأمين لم يقل : إن فاطمة تغضب لغضب الله وترضى لرضاه ، بل قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها ، وفي هذا معنى عظيم يدركه الواعي البصير ؛ إذ أنّ الإنسان الذي يريد الوصول إلى كمال العبادة والمعرفة يسعى ويجدّ كي يكسب رضا الله تعالى ، لكن الأمر يختلف هنا حيث أنّ رضا الله سبحانه وغضبه يدور مدار رضا وغضب الصدّيقة الزهراء ، وهنا يقف الفكر حائرا ، ولا يمكن لأحد الوصول إلى كنه هذا الكلام إلا الكُمَّل.

والآن لننظر كيف تعامل أبو بكر معها :

عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : لما بويع أبو بكر ، واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار ، بعث إلى فدك مَن أخرج وكيل فاطمة عليها السلام بنت رسول الله منها ، فجاءت فاطمة الزهراء صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي‌بكر ثم قالت : لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله ؟ وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله تعالى ؟ فقال : هاتي على ذلك بشهود. فجاءت بأم أيمن ، فقالت له أم أيمن : لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجَّ عليك بما قال رسول الله : أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال : « أم أيمن امرأة من أهل الجنة » ؟ فقال : بلى ، قالت : فأشهد أن الله عزوجل أوحى إلى رسول الله : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) ، فجعل فدكاً لها طعمة بأمر الله ، فجاء علي عليه السلام فشهد بمثل ذلك.

فكتب أبو بكر : لها كتاباً ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟ فقال : إنّ فاطمة ادّعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي ( عليه السلام ) ، فكتبته لها ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة ، فتفل فيه ومزّقَه. فخرجت فاطمة عليها السلام تبكي ، فلما كان بعد ذلك جاء علي عليه السلام إلى أبي بكر وهو في

٤٣

المسجد وحوله المهاجرون والأنصار ، فقال : يا أبا بكر ، لِمَ منعتَ فاطمة ميراثها من رسول الله وقد ملكته في حياة رسول الله ؟ فقال أبو بكر : هذا فيءٌ للمسلمين ، فإن أقامت شهوداً أن رسول الله جعله لها ، وإلّا فلا حق لها فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا أبا بكر ، تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين ؟ قال : لا ، قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ، ثم ادعيتُ أنا فيه ، من تسأل البينة ؟ قال : إياك أسأل البينة ، قال : فما بال فاطمة سألتَها البينة على ما في يديها وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ، ولم تسأل المسلمين بينةً على ما ادعوها شهودا كما سألتني على ما ادعيت عليهم ؟ فسكت أبو بكر ، فقال عمر : يا علي دعنا من كلامك ، فإنّا لا نقوى على حجّتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله ؟ قال : نعم ، قال : أخبرني عن قول الله عزوجل : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ؛ فيمن نزلت ، فينا أم في غيرنا ؟ قال : بل فيكم ، قال : فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفاحشة ، ما كنت صانعاً بها ؟ قال : كنتُ أقيم عليها الحدّ كما أقيمه على نساء المسلمين ، قال : إذن كنت عند الله من الكافرين ، قال : ولِمَ ؟ قال : لأنك رددتَ شهادة الله لها بالطهارة ، وقبلتَ شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدكاً قد قبضتها في حياته ، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه (١) عليها ، وأخذت منها فدكاً ،

_______________________________________

١. إشارة إلى مالك بن أوس بن الحدثان النضري الذي لم تكن له صحبة ، ومع ذلك روى أكثر من رواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اتهمه ابن خراش بوضع حديث « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة »

٤٤

وزعمت أنه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه » ، فرددتَ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : البينة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعي عليه.

قال : فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض وقالوا : صدق والله علي بن أبي طالب. ورجع إلى منزله. (١)

وفي هذا النص مفارقة يجب الوقوف عندها ، وهي : هل إن فدك إرث لرسول الله ، أو إنّها نحلة وهدية قدّمها رسول الله إلى فاطمة ؟

فان كانت إرثاً ، فالمطالبة بالميراث لا تحتاج إلى شهود إلا أن يقولوا والعياذ بالله بأنّهم يشكون في كون فاطمة ابنة رسول الله.

وإن كانت نحلةً وهدية كما هو المفهوم من طلب أبي بكر الشهود ، فتكون خارجةً عن مدّعى أبي بكر ولا ينطبق عليها قوله : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ) لأنها خارجة عن ملكه صلى‌الله‌عليه‌وآله وداخلة في ملك الزهراء.

ولو صح أن الأنبياء لا يورّثون ، فكيف وُرِّثت نساء النبي ولم تورث ابنته ؟ وإن كانتا ـ دار الرسول وفدك وغيرهما ـ نحلة وهدية فكيف يقبل أبو بكر من عائشة وأضرابها الادعاء دون شاهد ، ولا يقبل من الزهراء عليها‌السلام ـ وهي المطهرة بنص آية التطهير ـ مع إتيانها بالشهود ؟

بل كيف بأبي بكر يوصي بالدفن عند رسول الله مع اطمئنانه بصدور خبر : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

_______________________________________

انظر تاريخ البخاري ٧ : ٣٠٥ ، والجرح والتعديل ٨ : ٢٠٣ ، والثقات لابن حبان ٣ : ١١ ، ٥ : ٣٨٢ ، وإكمال الدين ٢ : ٤٠١ ، تاريخ دمشق ٥٦ : ٣٦٠ ـ ٣٧٢ / ٧١٦١ ، والكامل لابن عدي ٤ : ٣٢١.

١. الاحتجاج ١ : ١١٩ ـ ١٢٣ ، تفسير القمي ٢ : ١٥٥ عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي عبدالله عليه‌السلام.

٤٥

والآن نسائل أبا بكر : إن بيت رسول الله إما خاصة له ، أو من جملة تركته صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فإن كان له خاصة فهو صدقة وقد جعله للمسلمين كما زعمه ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فلا يجوز أن يختص به واحدٌ دون آخر.

وإن كان من جملة تركته وميراثه ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يورِّث كغيره من المسلمين ، فهما ـ أبو بكر وعمر ـ لم يكونا ممن يرث رسول الله يقينا !

لا يقال : إنّ ذلك من حصّة عائشة وحفصة.

فإنه يقال : إن نصيبهما لا يبلغ مفحص قطاة ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مات عن تسع نسوة و بنتٍ لصلبه ، فلكلّ واحدة من نسائه تسع الثمن ، فما بال عائشة وحفصة ترثان ولا ترث فاطمة وهي بنته من صلبه ؟!

ولو كان أبو بكر واثقاً من صحة ما حدّث به وما ذهب إليه ، فلماذا يسعى لاسترضاء الزهراء عليها‌السلام ويتأسّف في أخريات حياته متمنيا أنه لم يكشف بيتها ؟ (١)

ولو صح ما قاله أبو بكر عن الأنبياء أنهم لا يورّثون ، لاشتهر بين الأمم الأخرى والأديان السماوية ولعرفه أتباع الأنبياء ؟ مع العلم بأن فدكا مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، بل استسلم أهلها خوفاً ورعباً ، فهي للنبي خاصة خالصة باتفاق علماء الفريقين ؛ لقوله تعالى : ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (٢)

قال ابن أبي الحديد : لقد كان التكرم ورعاية حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحفظ عهده ، يقتضي أن تعوض ابنته بشيء يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك ،

_______________________________________

١. المعجم الكبير ١ : ٦٢ ح ٤٣ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦١٩ ، تاريخ دمشق ٣٠ : ٤١٨ ، ٤٢٠ ، الخصال للصدوق : ١٧٢ ح ٢٢٨.

٢. سورة الحشر : ٦.

٤٦

وتسلم إليها تطييباً لقلبها ، وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه. (١)

كان هذا بياناً لجانب في هذا النص ، وهناك جانب آخر تجب الإشارة إليه ، وهو : أن الإمام عليّاً والصدّيقة الزهراء قد استدلا على أبي بكر ـ مضافاً لما سبق ـ بقاعدة اليد ، وأنّ على المدّعي [ وهو أبو بكر ] البينة وعلى المنكر اليمين. وقد مرت عليك حجة الإمام علي عليه‌السلام بقوله : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ثم ادّعيتُ أنا فيه ، من تسأل البينة ؟

قال : إياك أسال البينة.

قال : فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده ، ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادعوه شهوداً كما سألتني على ما ادّعيت عليه ؟

فسكت أبو بكر ، فقال عمر : يا علي ! دعنا من كلامك ، فإنّا لا نقوى على حجّتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلّا فهو فيء للمسلمين ، لا حقّ لك ولا لفاطمة فيه.

قال علي : يا أبا بكر ! تقرأ كتاب الله ؟

قال : نعم.

قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فينا نزلت أو في غيرنا ؟

قال : بل فيكم.

قال : فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة بنت ... إلى آخر الخبر.

_______________________________________

١. شرح النهج ١٦ : ٢٨٦.

٤٧

فانظر إلى استدلال الإمام علي والصدّيقة الزهراء وقوة حجتهما على الخصم ، بحيث قال عمر : دعنا من كلامك ، فإنّا لا نقوى على حجّتك. وإن الأنصار لما سمعوا حجتها عليها السلام في كون الخلافة في علي قالوا لها : يا بنت رسول الله ؛ قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. (١)

وفي آخر : لو سمعنا حجتكم ما عدلنا عنكم. (٢)

وكيف لا تفيد شهادة علي ـ وخصوصاً لو ضم إليها شهادة غيره ـ للقطع واليقين.

بل لم تعتبر الصديقة الطاهرة كأحد النساء المؤمنات الصالحات ويطلب في إثبات دعواها إلى بينة ؟!

مع علمنا بأن البينة طريق ظني مجعول لاثبات ما يحتمل ثبوته ، فلا مورد لها مع القطع واليقين المستفاد في المقام من قول سيّدة النساء التي طهّرها الله تعالى وجعلها بضعة من سيّد أنبيائه ، لأنّ القطع طريق ذاتيّ إلى الواقع لا بجعل جاعل ، فلا يمكن رفع طريقيّته أو جعل طريق ظاهريّ على خلافه ، ولذا كان الأمر في قصّة شهادة خزيمة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ثبوت ما ادّعاه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا بيّنة مع مخاصمة الأعرابي له ، فإنّ شهادة خزيمة فرع عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصديق له ، فلا تفيد أكثر من دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كان اللازم على أبي بكر والمسلمين أن يشهدوا للزّهراء عليها‌السلام

_______________________________________

١. الاحتجاج للطبرسي ١ : ١٢٢ ، تفسير القمي ٢ : ١٥٦ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٩٣ ح ٣٣٧٨١. ومثل هذا الكلام أطلقته أم المؤمنين عائشة قبل حرب الجمل الكبرى حيث احتج عليهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقالت عائشة في جوابها لعبد الله بن عباس وزيد بن صوحان اللذين بلغاها رسالة علي بن أبي طالب عليه‌السلام قالت : ما أنا برادة عليكم شيئا ، فإنّي أعلم لا طاقة لي بحجيج علي بن أبي طالب. الفتوح لابن أعثم ١ : ٤٧١.

٢. الإمامة والسياسة ١ : ١٩ ، شرح النهج ٦ : ١٣ ، بحار الأنوار ٢٨ : ١٨٦ ، ٣٥٢ ، ٣٥٥.

٤٨

تصديقاً لها ، كما فعل خزيمة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعله. (١)

وقال السيد المرتضى في ردّه على قاضي القضاة : إنّ البيّنة إنّما تراد ليغلب في الظنّ صدق المدّعي ، ألا ترى أنّ العدالة معتبرة في الشهادات لمّا كانت مؤثّرة في غلبة الظنّ ؛ لما ذكرناه ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة ؛ لأنّ علمه أقوى من الشهادة ، ولهذا كان الإقرار أقوى من البيّنة من حيث كان أبلغ في تأثير غلبة الظنّ ، وإذا قدّم الإقرار على الشهادة لقوّة الظنّ عنده فأولى أن يقدم العلم على الجميع ، وإذا لم يُحْتَج مع الإقرار إلى شهادة ـ لسقوط حكم الضعيف مع القويّ ـ فلا يحتاج أيضاً مع العلم إلى ما يؤثّر الظنّ من البينات والشهادات ... . (٢)

إذن الحق مع علي بن أبي طالب ، والكلّ يعلم هذه المسألة ، لكنّ الأهواء دعتهم إلى أن يدّعوا شيئاً مخالفاً للقران الكريم ، والسنة النبوية ، والعقل السليم.

وحسبك أن المأمون العباسي أحرج العلماء الذين حضروا مجلسه وتعرضوا إلى مسالة فدك وإرث الرسول ، فسألهم المأمون عن فضائل لعلي فذكروا طُرَفاً جليلة له عليه‌السلام ، وسألهم عن فاطمة فرووا لها عن أبيها فضائل جمة ، وسألهم عن أم أيمن وأسماء بنت عميس فرووا عن النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنهما من أهل الجنة.

فقال المأمون : أيجوز أن يقال أو يعتقد أنّ علي بن أبي طالب مع ورعه وزهده يشهد لفاطمة بغير حقّ ، وقد شهد الله تعالى ورسوله بهذه الفضائل له ؟

أو يجوز مع علمه وفضله أن يقال : إنّ فاطمة مع طهارتها وعصمتها وأنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة ـ كما رويتم ـ تطلب شيئاً ليس لها ، تظلم فيه جمع المسلمين ، وتقسم عليه بالله الذي لا إله إلا هو ؟

_______________________________________

١. دلائل الصدق ٢ : ٣٩.

٢. الشافي ٤ : ٩٦ ـ ٩٧ وعنه في شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

٤٩

أو يجوز أن يقال عن أم أيمن وأسماء بنت عميس : أنهما شهدتا بالزور ، وهما من أهل الجنة ؟ إن الطعن على فاطمة وشهودها طعن على كتاب الله وإلحاد في دين الله ، حاشا الله أن يكون ذلك كذلك. (١)

ولا أدري كيف ردّ أبو بكر شهادة علي ، في حين أن عليا ليس بأقلّ من خزيمة بن ثابت ( ذي الشهادتين ) ، بل هو أعلى وأسنى ، وهو المطهّر والمنّزه وأخو الرسول الأمين بل هو نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولو تنزلنا فسلمنا أن شهادة الإمام كشهادة غيره من عدول المسلمين ، فهلّا استحلف أبو بكر فاطمة بدلاً من الشاهد الثاني ، فإن حلفت وإلّا رُدّت دعواها ؟ وهذا ما لم نره في فعل أبي بكر ، وإنما رد الدعوى ملغيا شهادة علي وأُم أيمن وأسماء ؟

إنها مصيبة والله ، بل أعظم مصيبة وفتنة ، إنها فتنة تدنيس المقدّسات وتغيير أحكام الله باسم رسول الله والدين ، فحقَّ للزهراء البتول أن تقول ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ). (٢)

وحريٌ بنا هنا أن نأتي بكلام الفارقي وهو أحد شيوخ ابن ابي الحديد المعتزلي ، إذ سأله ، فقال له : كانت فاطمة صادقة في دعواها النحلة ؟

قال : نعم.

قال له ابن أبي الحديد : فلِمَ لم يدفع لها أبو بكر فدكاً وهي عنده صادقة ؟ فتبسم ، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدكاً ، بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادّعت لزوجها الخلافة

_______________________________________

١. الطرائف : ٢٥٠.

٢. وهو قولها عليها‌السلام في خطبتها التي نقلنا بعضها آنفا : زعمتم خوفَ الفتنة ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ).

٥٠

وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه حينئذ الاعتذار بشيء ، لأنّه يكون قد سجلَّ على نفسه بأنها صادقة فيما تدّعِي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. (١)

والآن أرجع متسائلاً :

هل يعقل أن تطلب فاطمة عليها‌السلام ـ وهي سيدة نساء أهل الجنة وسيدة العالمين ، مع طهارتها وعصمتها وأن الله أوقف رضاه على رضاها وغضبه على غضبها ـ شيئاً ليس لها فيه حق ؟!

وهل تريد بفعلها ظلم جميع المسلمين بأخذها أموالهم ؟

وهل يجوز لعليّ أن يشهد لفاطمة بغير حق ؟! أو يمكن تصوّر مخالفته للحق ، ورسول الله يقول : علي مع الحق والحق مع علي ؛ ويقول : اللهم أدر الحق معه حيث دار. وهل يجوز القول عن أم أيمن ـ المشهود لها بالجنة ـ أنها قد شهدت زوراً ؟

نعم إننا لا يمكننا أن نزكّي أبا بكر والزهراء معاً ، إذ لو صدّقنا أبا بكر في دعواه ـ وهي دعوى كاذبة قطعاً ـ للزمنا تكذيب الدعوى المقابلة ، وإن كان أبو بكر كاذباً فالزهراء ـ كما هو الحق ـ صادقة لا محالة. فلا يمكن أن نجمع بينهما بجامع الصدّيقية. إنها مفارقة !

وهكذا الحال بالنسبة إلى أحاديث ( من خرج على إمام زمانه ) أو ( مات وليس في عنقه بيعة ) أو ( لم يعرف أمام زمانه ) أو ( من خرج من طاعة السلطان شبراً مات ميتة جاهلية ).

فنحن لو قبلنا هذه النصوص معتبرين أبا بكر إماماً لزمانه ، للزم أن تكون الزهراء ـ سيدة نساء العالمين والمطهرة بنص القران والحديث ـ قد ماتت ميتة جاهلية !!!

وأما لو شككنا في كونه إمامَ ذلك العصر ؛ لعدم النصّ عليه ، وعدم أهليته

_______________________________________

١. شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٨٤.

٥١

للخلافة ، ولِتَخَلُّف عيون الصحابة عنه ـ كعلي والعباس وبني هاشم والزبير والمقداد وسعد بن عبادة وغيرهم ـ لجاز خروج الزهراء عليه واعتقادها بانحرافه وضلالته ، ولا يمكن تصحيح الموقفين معاً.

بل كيف يردّان شهادة علي بن أبي طالب ويقولان أنه ـ يجرّ إلى نفسه ؟! مع أنه عليه‌السلام ما كان طالباً للدنيا ولا راغباً فيها ، كما يطمئن بذلك كل من تصفح سيرة ابن أبي طالب وكلماته في نهج البلاغة ، وكفاك كلامه في رسالته لعثمان بن حنيف واليه على البصرة : وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غدٍ جدث. (١)

وإذا لم يقبل أبو بكر شهادة علي بن أبي طالب لكونه المنتفع ، فكيف قبل رسول الله شهادة خزيمة بن ثابت وعدّ شهادته شهادتين ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المنتفع.

بل كيف به لا يقطع بشهادة علي الذي قال عنه رسول الله أنه ( مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار ) (٢) مع علمه بأنه عدل القرآن ، وأحد الثقلين ، وأنه الشاهد الذي قبل الله شهادته في حقّ نبيه ، وجعله شاهد صدق في تصديق رسالته لقوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ). (٣)

ولو صحّ ما استدلوا به من أن الشهادة لم تكتمل في قضية فدك ـ مقتصرين على شهادة الإمام علي عليه‌السلام وأم أيمن ـ فماذا تفعل بما جاء عن سيرة الحكّام ـ ومنهم أبو بكر ـ وحكمهم بالشاهد الواحد مع اليمين ؟!

ففي كتاب الشهادات من كنز العمال : إن رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا

_______________________________________

١. نهج البلاغة ٣ : ٧١ / ٤٥.

٢. شرح أبي الحديد ٢ : ٢٩٧ ، الفصول المختارة : ٩٧ / ٩٧ ، التعجب للكراجكي : ١٥.

٣. هود : ١٧ وتفسير الدر المنثور ٣ : ٣٢٤.

٥٢

يقضون بشهادة الواحد مع اليمين. (١)

وروى الدارقطني عن علي : إن أبا بكر وعمر وعثمان يقضون باليمين مع الشاهد. (٢)

وعن علي أيضاً انه قال : نزل جبرائيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باليمين مع شاهد. (٣)

وعن ابن عباس ، إن رسول الله قضى بيمين وشاهد. (٤)

قال النووي في الشرح : جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين : من بعدهم من علماء الأمصار يقضي بشاهد ويمين المدعي في الأموال وما يقصد به الأموال. وبه قال أبو بكر وعلي وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي وأحمد وفقهاء المدينة وسائر علماء الحجاز ، ومعظم علماء الأمصار ، وحجتهم في ذلك أحاديث كثيرة في هذه المسألة. (٥)

وفي كتاب شرح التلويح على التوضيح : المروي عن علي عليه‌السلام : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الواحد واليمين. (٦)

فنحن لو جمعنا هذه النصوص مع ما ورد عن أبي بكر وقوله للزهراء : وأنت صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا مصدودة عن صدقك.

وفي آخر : صدق الله وصدق رسوله ، وصدقت ابنته ... .

_______________________________________

١. كنز العمال ٧ : ٢٦ ح ١٧٧٨٦ ، عن الدارقطني.

٢. سنن الدارقطني ٤ : ١٣٧ ، سنن البيهقي ١٠ : ١٧٣.

٣. كنز العمال ٥ : ٨٢٦ / ١٤٤٩٨ ، الدر المنثور ٦ : ١٣٥.

٤. صحيح مسلم كتاب الأقضية باب القضاء باليمين والشاهد ٥ : ١٢٨.

٥. شرح النووي : ٤١٢.

٦. شرح التلويح على التوضيح ٤ : ١٢.

٥٣

فلو كان صادقاً في كل ما يقوله فلماذا لم يعطها فدكاً ، وليس بعد اليقين غاية يطلبها الحاكم في المرافعات ، ففي سنن أبي داود انه إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد يجوز أن يقرّ به. (١)

وروى الترمذي : بسنده عن أبي جحيفة ، قال : رأيت رسول الله أبيضَ قد شاَبَ ، ... وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصاً ، فذهبنا نقبضها فأتانا موته فلم يعطونا شيئاً ، فلما قام أبو بكر قال : من كانت له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عِدةٌ فليجئْ ، فقمت إليه فأخبرته ، فأمر لنا بها. (٢)

وأخرج البخاري في كتاب الكفالة « باب من يكفل عن ميت ديناً » : انّ جابر بن عبدالله الأنصاري ادّعى [ في زمن أبي بكر ] أن رسول الله وعده أن يعطيه من مال البحرين ، فأعطاه [ أبو بكر ] ألفاً وخمسمائة دينار من بيت المال دون أن يطلب منه بينة على ذلك.

قال ابن حجر في فتح الباري ( باب من يكفل عن ميت ديناً ) : وفيه قبول خبر الواحد العدل من الصحابة ولو جر ذلك نفعاً لنفسه. (٣)

وهنا يحق السؤال : أكان أبو جحيفة وجابر أصدق عند أبي بكر من الصدّيقة فاطمة سلام الله عليها ؟! وخصوصاً مع اقترانها بشهادة زوجها الصدّيق الذي هو نفس رسول الله ووصيه ، وأم أيمن وأسماء بنت عميس وكلّهم من أهل الجنة ؟ أم أنّ المسالة مسالة سياسية ودنيوية ؟

وبعد هذا هل تقتنع بما علّله الايجي لأبي بكر :

_______________________________________

١. سنن أبي داود ٢ : ١٦٦.

٢. سنن الترمذي ٤ : ٢١٠ ح ٢٩٨٣ ، المعجم الكبير ٢٢ : ١٢٨.

٣. انظر صحيح البخاري ٣ : ٥٨ كتاب الإجارة ، باب الكفالة في القرض والديون و ص ١٣٧ من كتاب المظالم ، باب من لم يقبل الهدية لعلة ، فتح الباري ٤ : ٣٨٩.

٥٤

فان قيل : ادّعت [ فاطمة ] أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نحلها ، وشهد عليٌّ والحسن والحسين وأم كلثوم ، فردّ أبوبكر شهادتهم. قلنا : أما الحسن والحسين فللفرعية ، وأما عليٌّ وأم كلثوم فلقصورهما عن نصاب البينة ، ولعله لم يَرَ الحُكْمَ بشاهد ويمين ، لأنّه مذهب كثير من العلماء. (١)

اقرأ واعجبْ ، ثم احكم بما تشاء ؛ لأنك قد وقفت على قضاء أبي بكر بشهادة العدل الواحد ولو جر ذلك نفعاً لنفسه ، بل وقفت على إعطائه المال المدّعى بمجرّد الدعوى !!

دوافع الكذب عند الطرفين

هذا وإن الإمام عليّاً قد أشار إلى مظلوميته مخاطباً هذا الإتجاه بقوله : ما زلتُ مُذْ قُبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مظلوماً ، ولقد بلغني أنكم تقولون : عليٌّ يكذب ، قاتلكم الله ، فعلى من أكذب ؟! أعلى الله فأنا أول من آمن به ، أم على نبيه ؟ فأنا أول من صدّقه. (٢)

وهذا النص يختزن في طيّاته أدق وأروع معاني الاحتجاج والتنظير ، فما الوجه والمبرر لئن يكذب علي على الله وهو الذي نزل فيه وفي آله الذكر الحكيم كما في آيات التطهير ، والمباهلة ، والمودة في القربى ، وسورة الدهر ، وقوله تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (٣) و ( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٤)

_______________________________________

١. المواقف للايجي ٣ : ٥٩٨ في المقصد الرابع.

٢. نهج البلاغة ، ١ : ١١٩ الخطبة رقم ٧١ ، خصائص الأئمة للرضي : ٩٩ ، الإرشاد للمفيد ١ : ٢٧٩ ، بحار الأنوار ٣٩ : ٣٥٢ ينابيع المودة ٣ : ٤٣٦.

٣. آل عمران : ١٠٣.

٤. التوبة : ١١٩.

٥٥

و ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (١) و ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٢) و ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٣) و ( مَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) (٤) و ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٥) و ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٦) إلى غيرها من الآيات.

وأما الكذب على رسوله فإنه شأن المتملقين وأصحاب الأهواء والمطامع وأعداء الإسلام والمندسين في صفوف المسلمين ، الذين آذوا الرسول وكذبوه ، مخافة كشف أمرهم ، وهم الذين رموه بالقمامة ، وجعلوا في طريقه الشوك و ...

وأما الإمام علي بن أبي طالب فهو أخ الرسول وابن عمه ، والمدافع عنه بنفسه ومهجته ، وهو أول من صدقه بالنبوة والرسالة ، ونام على فراشة دَرءاً للخطر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن كان هذا حاله ، فهل يعقل أن يكذب على الرسول ؟ ونحن نرى مئات النصوص منه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مدحه عليه‌السلام منها قوله عنه ( إمام المتقين وقائد الغر المحجلين ). (٧)

_______________________________________

١. الأنعام : ١٥٣.

٢. النساء : ٥٩.

٣. النحل : ٤٣.

٤. النساء : ١١٥.

٥. الرعد : ٧.

٦. المائدة : ٥٥.

٧. انظر مصادر ذلك في كتاب المراجعات المراجعة ، ١٢.

٥٦

وقوله : ( هذا أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ). (١)

وقوله : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب ). (٢)

وقوله : ( أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي ).(٣)

وقوله : ( أنا المنذر وعلي الهادي ، وبك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي ). (٤)

وقوله لعلي : ( إن الأُمة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملتي ، وتقتل على سنتي ، من أحبك أحبني ، ومن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ستخضب من هذا ، يعني لحيته من رأسه ). (٥)

وعن عمر بن الخطاب أنه قال : لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إليّ من أن أُعطى حمر النعم.

قيل : وما هن يا أمير المؤمنين ؟ قال : تزوجه فاطمة بنت رسول الله ، وسكناه المسجد مع رسول الله يحل له فيها ما يحل له ، والراية يوم خيبر. (٦)

_______________________________________

١. المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٩ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تاريخ بغداد ٤ : ٤٤١ ت ٢٢٣١.

٢. المعجم الكبير ١١ : ٥٥ عن ابن عباس وأيضا في المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٦ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه و ٣ : ١٢٧ عن جابر بن عبدالله ، فيض القدير ١ : ٤٩ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٢.

٣. المستدرك ، للحاكم ٣ : ١٢٢ وفيه : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٨٧.

٤. تفسير الطبري ١٣ : ١٤٢ عن ابن عباس ، وقال ابن حجر إسناده حسن انظر فتح الباري ٨ : ٢٨٥ ، الدر المنثور ٤ : ٤٥ ، قال : أخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، والديلمي ، وابن عساكر ، وابن النجار. وكذلك أخرجه الحاكم عن عباد بن عبدالله الأسدي عن علي وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه انظر : مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٠.

٥. أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٢ ، صحيح ، وصححه الذهبي في تلخيصه ، كنز العمال ١١ : ٢٩٧ ح ١٣٥٦٢ وجاء قريب منه من طرق الشيعة كما عيون أخبار الرضا ١ : ٧٢ ح ٣٠٦.

٦. مصنف ابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٠ ح ٣٦ ، المستدرك علي الصحيحين ٣ : ١٢٥ ، قال : هذا حديث

٥٧

وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص (١) وابن عباس قريباً منه. (٢)

فمن كان هذا حظه من الله ورسوله ، فهل هناك من داع لأن يكذب على الله ورسوله ؟ بل إنّ عدم تصديق علي أو الردّ عليه وعلى فاطمة تكذيبٌ للنبيّ في تلك الصحاح والمتواترات التي نطقت بفضلهما وخاصّة تلك التي هي مورد اتفاق المسلمين.

والذي يتصفح التاريخ الإسلامي يرى أنّ غالبية الكاذبين على الله ورسوله كانوا ذوي نزعات جاهلية أو ميول نفسانية أو عجز فكري فاضح ، وهم في الغالب ممن أسلموا خوفاً من السيف ، أو تركوا الجهاد خوفاً على أنفسهم ، أو اندسوا في صفوف المسلمين كمسلمة الفتح ومن بعدهم وكالمنافقين و ...

وهذه الدواعي الثقيلة في الحسابات السماويّة كلها منتفية في حق علي بن أبي طالب ، وفاطمة الزهراء ، والسيدة خديجة الكبرى ، وعموم من طهرهم الله تطهيرا من أهل البيت ، ولذلك قال الصدّيق الأكبر علي بن أبي طالب : ما كَذِبْتُ ولا كُذِبْتُ. (٣)

وهذه الدواعي منتفية أيضاً عند أتباع أهل البيت كالمقداد وسلمان وأبي ذر وعمار وابن عباس وحذيفة بن اليمان ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين و ... إذ وردت نصوص عن رسول الله في مدحهم وصدقهم ، وهم أُناس منزهون

_______________________________________

صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٠.

١. صحيح مسلم : ١٢٠ كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل علي ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠١ ح ٣٨٠٨.

٢. المعجم الأوسط ٨ : ٢١٢ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٠ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١١١ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٧٢ ، شواهد التنزيل ١ : ٢٢.

٣. مسند أحمد ١ : ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، مستدرك الحاكم ٢ : ١٥٤ حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، السنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٣٧١ ، مسند أبي داود : ٢٤ ، المصنف لعبد الرزاق ٣ : ٣٥٨ ح ٥٩٦٢.

٥٨

معروفون بالصدق ، ولم يذعنوا للأهواء والتيارات ولم يتّهم واحد منهم بالوضع والكذب ، بخلاف ما نراه عند أتباع الاتجاه الحكومي ، المتهمين بالوضع ككعب الأحبار ، ووهب بن المنبه ، وسمرة بن جندب ، وأبي هريرة وأمثالهم.

نعم ، إن السيدة فاطمة الزهراء هي الصادقة المصدّقة وقد كُذِّبَتْ وكُذِّب ابنُ عمها أمير المؤمنين لأُمور سياسية ومطامع شخصية ، وإنها جاءت لتؤكد للناس على أنها ابنة رسول الله وأنها الصادقة في قولها وفعلها ، فلا تقول ما تقول غلطاً ، ولا تفعل ما تفعل شططا وذلك بقولها :

أيها الناس ، اعلموا أني فاطمة ، وأبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أقول عوداً وبدءاً ولا أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) فان تعزّوه وتعرّفوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبلّغ الرسالة صادقاً بالنذارة ... إلى آخر الخطبة.

فالقوم كانوا لا يجهلون مكانتها في الإسلام ، بل يتجاهلونها ، وإذا أقروا بها فعلى مضض وبتدبير جديد يبعدون به الزهراء عن مكانتها التي وضعها الله بها. ونحن لو أردنا أن نحمل فعل القوم على أحسن محمل كان علينا أن نقول : إنهم لا يدركون عمق الرسالة والحقائق الإلهية ، ولو تأمّلت احتجاج الإمام عليّ على أبي بكر لعرفت بأنّ الأخير لا يعرف كنه الرسالة وما جاء به الوحي حق المعرفة ، فإنّ الإمام علياً لما استدرجه في كون آية التطهير نزلت فيهم قال : فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ما كنت صانعاً بها ؟

قال : كنت أقيم عليها الحدّ ، كما أقيمه على نساء المسلمين.

فقال ( علي ) : إذاً كنت عند الله من الكافرين.

قال : ولِمَ ؟

٥٩

قال : لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدكاً قد قبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة أعرابي ـ بائل على عقبيه ـ عليها ، وأخذت منها فدكاً وزعمت أنه فيءٌ للمسلمين ، وقد قال رسول الله : ( البينة على المدَّعي ، واليمين على المدّعَى عليه ) ، فرددتَ قول رسول الله : ( البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه ).

الغيب والمادة

ومن المعلوم بأن المشركين والجاهليين كانوا يعيشون في إطار أفكار خاصة بهم ، فتراهم يعترضون على النبي لعدم إدراكهم كنه الرسالة وما أتى به الرسول ، فكانوا يقولون : لِمَ لا يكون للنبي ملك عظيم ، أو ذَهَبٌ كثير ، وكيف يحيي الله الموتى ، وكيف يبعثون بعد الموت ؟ وكيف وكيف ... ؟

إنها كانت أسئلة المشركين ، وغالبها ترجع إلى أمور مادية محسوسة لا ترتبط بالغيب ، في حين أن الله أراد من المؤمنين أن يؤمنوا بالغيب ، فلا يتعاملوا مع القضايا تعاملاً مادياً بعيداً عن الغيب.

هذا وإن المصادر قد تناقلت عن أبي بكر أنه تعامل ـ في غزوة حنين ـ مع بعض المفردات الغيبيّة تعامل مادة ، فقال : ( لن نغلب اليوم من قلة ) ، فلم يرض الله ورسوله بهذه الفكرة ؛ لوجوب الإيمان بكنه المسائل والاستعانة بمدد الغيب ، ولذلك نزل قوله تعالى ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ). (١)

هذا وقد آمن بهذه الظاهرة طائفة من المسلمين ، فأخذوا يتعاملون مع الأمور تعاملاً حسياً مادياً ، ويأخذون الأمور بسطحيتها مشككين بمقامات الأنبياء

_______________________________________

١. التوبة : ٢٥.

٦٠