من هو الصدّيق ؟ ومن هي الصدّيقة ؟

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-397-135-X
الصفحات: ١٧٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدٌ يقول : سلوني ، غير علي بن أبي طالب عليه‌السلام ». (١)

وروى الخوارزمي بإسناده عن أبي البختري ، قال : « رأيت علياً عليه‌السلام متقلداً بسيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمماً بعمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي إصبعه خاتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقعد على المنبر ، وكشف عن بطنه ، فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنما بين الجوانح مني علم جم ، هذا سَفَطُ العلم ، هذا لُعابُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا ما زقّني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زقّاً من غير وحي أوحي إلي ، فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فيقول : صدق علي قد أفتاكم بما أنزل فيَّ وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ». (٢)

وروى ابن عساكر بإسناده عن زكريا ، قال : سمعت عامراً [ الشعبي ] يقول : سأل ابن الكوا علياً عليه‌السلام : أي الخلائق أشد ؟

فقال : أشد خلق ربك عشرة ، الجبال الرواسي ، والحديد تنحت به الجبال ، والنار تأكل الحديد ، والماء يطفيء النار ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، يعني يحمل الماء ، والريح تقل السحاب ، والإنسان يغلب الريح يعصمها (٣) بيده ويذهب لحاجته ، والسكر يغلب الإنسان ، والنوم يغلب السكر ، والهم يغلب النوم ،

_______________________________________

١. تاريخ ابن معين ١ : ١٠٦ ، قال الدوري حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ... الحديث ، مناقب الخوارزمي : ٩١ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٢ ، ذخائر العقبى : ٨٣ هذا وقد أخرج الحديث أحمد في المناقب ، والبغوي في المعجم ، وأبو عمر ، ولفظه ما كان أحد من الناس يقول سلوني غير علي بن أبي طالب.

٢. المناقب : ٩١ وانظر أمالي الصدوق : ٤٢٢ ، والاختصاص : ٢٣٥ ، والاحتجاج ١ : ٣٨٤ ، عن الأصبغ ابن نباتة.

٣. يعصمها : أي يمنعها.

١٠١

فأشد خلق ربكم الهم. (١)

وروى الخوارزمي بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أقضى أمتي علي بن أبي طالب. (٢)

وروى ابن سعد بأسانيده عن أبي هريرة ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، قالوا : قال عمر : « علي أقضانا ». (٣)

وروى أحمد بإسناده عن أبي البختري عن علي عليه‌السلام قال : « بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن وأنا شاب ، فقلت لرسول الله : تبعثني إلى قوم أقضي بينهم ، ولا علم لي بالقضاء ، فقال : ادنُ مني ، فدنوتُ ، فضرب يده على صدري وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه ، قال : فما شككت في قضاء بين اثنين ».

وروى ابن عساكر بإسناده عن عبدالله [ بن مسعود ] قال : « يقولون : أن أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب ». (٤)

وروى ابن عبدالبر بأسناده عن أنس قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقضاكم عـلي عليه‌السلام ». (٥)

_______________________________________

١. ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٠١ ، والغارات ١ : ١٨٢ وفيه يتقيها بيده بدل يعصمها بيده ، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط ١ : ٢٧٦ عن الحارث عن علي وفيه يتقي الريح بيده بدل يعصمها وعنه في مجمع الزوائد ٨ : ١٣٢ وقال : رجاله ثقاة ، وكنز العمال ٦ : ١٧٧ / ١٥٢٥٢.

٢. المناقب : ٨١ ، وأمالي الصدوق : ٦٤٢ عن سلمان الفارسي ، وتاريخ دمشق ٤٢ : ٢٤١ عن ابن عباس.

٣. طبقات ابن سعد ٢ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ، وانظر مسند أحمد ٥ : ١١٣ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ : ١٨٣ / ٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٣٠٥ ، المناقب للخوارزمي : ٩٢ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٩٧.

٤. انظر مسند أحمد ١ : ٨٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٤ / ٢٣١٠ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٥.

٥. تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٠٥.

٦ ـ الاستيعاب ١ : ٦٨ ، وانظر الحديث في تفسير القرطبي ١٥ : ١٦٢ ، وتاريخ ابن خلدون ١ : ١٩٧ ، وجواهر المطالب لابن الدمشقي ١ : ٧٦ ، وغريب الحديث للخطابي ٢ : ٢٠١.

١٠٢

وعن عبدالله بن عمر ، قال : جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنا بقدر ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله قدّره عليّ ثمّ يعذّبني ؟

قال : نعم ، يابن اللخناء ، أما والله لو كان عندي إنسان لأمرته أن يجأ أنفك. (١)

وهذا الأمر لا نشاهده عند الإمام علي ، فإنه كان يقول للناس : ( سلوني قبل أن تفقدوني ) ؛ لأنّ العالم بالأحكام لا يهاب السؤال ، بل يعجبه أن يُسأل ليجيب ، بعكس الذي لا يعرف الحكم الشرعي فتراه يتخوف من السؤال ، وهذا ما شاهدناه عند أبي بكر وعمر، فقد روى أبو عثمان النهدي قال : سأل رجل ـ من بني يربوع أو من بني تميم ـ عمر بن الخطاب عن الذاريات ، والمرسلات والنازعات أو عن بعضهن.

فقال عمر : ضع عن رأسك ، فإذا له وفرة ، فقال عمر : أما والله لو رايتك محلوقاً لضربتُ الذي فيه عينك.

ثمّ كتب إلى أهل البصرة أو قال : إلينا أن لا تجالسوه ، فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا. اسم هذا الرجل صبيغ بن عسيل ... (٢)

وفي المقابل روى الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي الطفيل ، قال : رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قام على المنبر فقال : سلوني قبل أن لا تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي ، قال : فقام ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ما ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) ؟ قال : الرياح.

قال : فما ( الْحَامِلَاتِ وِقْرًا ) ؟ قال : السحاب.

_______________________________________

١. رواه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة ٤ : ٦٦٣ / ١٢٠٥ ، وعنه في كنز العمال ١ : ٣٣٤ / ١٥٣٧ ، تاريخ الخفاء ١ : ٩٥.

٢. مسائل أحمد ١ : ٤٧٨ ، ح ٨١.

١٠٣

قال فما ( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) ؟ قال : السفن.

قال فما ( الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) ؟ قال : الملائكة.

قال فمن ( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ... جَهَنَّمَ ) قال : منافقوا قريش.

قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (١)

قال ابن شهرآشوب : قوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) يدل على عصمتهم ؛ لأنّه أخبر أن العلم يحصل بالرد إلى أُولي الأمر كما يحصل بالرد إلى الرسول ، والعلم لا يصح حصوله يقينا ممن ليس بمعصوم ، ولأنّه تعالى لا يجيز أن يأمر باستفتاء من لا يؤمن منه بالقبيح من حيث كان في ذلك أمره تعالى بالقبيح ، وإذا اقتضت الآية عصمة أولي الأمر ، ثبتت إمامتهم ؛ لأنّ أحداً لم يفرق بين الأمرين ، وإذا ثبت ذلك ثبت توجه الآية إلى آل محمد ، وقد روي أنّها نزلت في الحجج الاثنى عشر. (٢)

قال الشاعر :

علي هو الصدّيق علامة الورى

وفاروقها بين الحطيم وزمزم

وقال آخر :

فقال من الفاروق إن كنت عالماً

فقلت الذي قد كان للدين يُظهِرُ

_______________________________________

١. المستدرك على الصحيحين ٢ : ٤٦٧ ، وانظره وطرقه في عمدة القاري ١٩ : ١٩٠ ، تغليق التعليق ٣١٨ ـ ٣١٩ ، كنز العمال ٢ : ٥٦٥ / ٤٧٤٠ ، الأحاديث المختارة ٢ : ١٢٤ ، ح ٤٩٤ و ١٧٦ ، ح ٥٥٦ و ٢٩٨ ، ح ٦٧٨ ، مسند الشاشي ٢ ، ٩٦ ، ح ٦٢٠ ، تاريخ دمشق ٢٧ : ٩٩ ، المعيار والموازنة : ٢٩٨ ، فتح الباري ٨ : ٥٩٩ ، الغارات ١ : ١٧٨ ، الاحتجاج ١ : ٣٨٦ ، جواهر المطالب ١ ، ٣٠٠ ، وفي بعض هذا المصادر ذكر الحديث مطولاً جدا وفيه أسئلة كثيرة أجاب عنها أمير المؤمنين ومن أحب فليراجعها.

٢. المناقب لابن شهرآشوب ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

١٠٤

علي أبو السبطين علامة الورى

وما زال للأحكام يبدي وينشر

السادس : لزوم السنخية بينها وبين النبوة

لقوله تعالى : ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ) (١) وهذه النسخية واضحة جلية بين النبيّ وعليّ ، لكنها غير موجودة أصلاً بين النبيّ وبين من ألصق به لقب الصدّيقية من قِبل أتباعه.

إذ لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي ، دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ، فلما سار غير بعيد نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرائيل عليه‌السلام وقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول : لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك.

فاستدعى رسولُ الله علياً وقال : اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر وخذ براءة من يده ، وامض بها إلى مكة فانبذ بها عهد المشركين إليهم ، وخَبِّر أبا بكر إمّا أن يسير مع ركابك أو يرجع إليَّ.

فركب أمير المؤمنين الناقة العضباء ، وسار حتى لحق أبا بكر ، فلما رآه جزع من لحوقه واستقبله وقال : فيم جئت يا أبا الحسن ، أسائر أنت معي أم بغير ذلك ؟

فقال علي عليه‌السلام : إن رسول الله أمرني أن أخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه ؟ فقال : بل أرجع إلى النبي.

فلما دخل على النبي ، قال : يا رسول الله إنّك أهّلتني لأمر طالت الأعناق إليَّ فيه ، فلما توجهت إليه رددتني عنه ، مالي ؟ أنزل فيَّ قرآن ؟

قال النبي : لا ، ولكن الأمين هبط عليّ عن الله بأنّه لا يؤدي عنك إلّا أنت أو

_______________________________________

١. النساء : ٦٩.

١٠٥

رجلٌ منك ، وعلي مني ولا يؤدّي عنّي إلّا علي.

وهذا الإنفاذ كان أول يوم من ذي الحجة سنة سبع من الهجرة ، وأداها الإمام علي إلى الناس يوم عرفة ويوم النحر ، وهذا هو الذي أمر الله به إبراهيم وولده عليهم‌السلام حين قال ( طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) فكأنّ الله تعالى أمر الخليل بالنداء أولاً بقوله ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) وأمر الولي بالنداء الأخير.

ومن المعلوم بأن العهد مختصٌ بمن عقده ـ وهو رسول الله ـ أو من يقوم مقامه في فرض الطاعة وجلالة القدر ، وعلو الرتبة ، وشرف المقام ، وعظيم المنزلة ، وعلي هو الذي يصلح لهذه الأُمة ، لأنّه نفس رسول الله ، (١) وصنوه ، (٢) وزوج بنته ، (٣) وأحب الخلق إليه ، (٤) وفي ذلك إشارة إلى عدم صلاحية أبي بكر لتأدية آيات سورة من كتاب الله ، فكيف به أن يصلح لإمامة المسلمين ، ويكون الملقب بالصدّيق مع وجود الإمام علي ! وهذا حالهما عند الله وعند رسوله.

ولو تأمّلت في النصوص الصادرة في الإمام عليٌ والزهراء والحسن والحسين لوقفت على السنخية بينهم وبين رسول الله ، بل للوصي شبه بجمع من الأنبياء.

فعن ابن عباس قال ، قال رسول الله : من أراد ان ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في حكمته ، وإلى إبراهيم في حلمه ، فلينظر إلى علي. (٥)

_______________________________________

١. في قوله تعالى ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ).

٢. الأمالي للطوسي : ٦٢٦ / ١١٩٢ ، الأمالي المفيد المجلس الأول الرقم ٣ ، كشف الغمة : ٤١٢ ، بحار الأنوار ٣٩ : ٢٤٠.

٣. مسند أبي يعلى ١ : ٣٨٨ / ٥٠٣ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨ / ٩٦٤.

٤. تاريخ دمشق ٣٧ : ٤٠٦ ، ٤٢ : ٢٤٥ ، مناقب الخوارزمي : ٢٢٢ و ٢٢٥ ، الخصال ٢ : ٥٥٤ ، الأمالي للطوسي ٣٣٣ / ٦٦٧.

٥. وفي رواية المحب الطبري ٣ : ٢٤٩ وإلى يوسف في جماله.

١٠٦

وعن أبي الحمراء قال ، قال رسول الله : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب. (١)

قال البياضي : اسند ابن جبير إلى ابن عباس قول النبي : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى عيسى في سمته ، وإلى محمّد في تمامه ، فلينظر إلى هذا الرّجل ، فتطاولت الاعناق وإذا هم بعلي. (٢)

فقد شبهه رسول الله بآدم في علمه ، لأن الله علم آدم الأسماء : « وعلم آدم الاسماء كلها » فما من شـيء ولا حادثه ولا واقعه إلا وعند علي فيها علم وله في استنباط معناها فهم ، وقد خلق الله آدم من تراب وسـمى النبي علـيّاً أبا تراب ، وشبهه بنوح في فهمه وحكمته ، لان نوحاً صبر مع قومه وقال : ( اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون ) ، وهذا ما قاله الإمام علي كذلك : « فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى » ، وان نوحاً لم يدعوا على قومه إلّا بعد علمه باصرارهم على العدوان فقال : ( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فقال عليه‌السلام ما يقارب كلام نوح بقوله : اللهم ان الناس قد مللتهم وملوني وسأمتهم وسأموني اللّهم أبدلهم مني شر بدل وأبدلني منهم خير بدل.

وشبهه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبراهيم في حكمته ، لأن الله لقن إبراهيم الحجة وهو صغير حتى خرج وناظر أباه وقومه كما في قوله تعالى ( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ) (٣) وقوله : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) (٤) وقوله :

_______________________________________

١. مناقب الخوارزمي : ٤٠ الفصل السابع ، ورواه الحاكم في شواهد التنزيل ١ : ٨٠.

٢. الصراط المستقيم ١ : ١٠٣.

٣. سورة مريم : ٤٣.

٤. سورة الصافات : ٨٥.

١٠٧

( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ) ونظائرها من الآيات الاخرى كقوله تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ) ، وكذلك كان الإمام علي حيث لقنه الله حجته وهو صبي لم يراهق الحلم فناظر قومه وكسر الاصنام ، وأمر إبراهيم بتطهير البيت : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) واللّه تعالى طهر بيت علي : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ).

وهذا يشابه ما قاله سبحانه ليحيى ( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) فأُوتي علم التوراة وهو صبي صغير في حجر أبويه ، وقوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) وقد كان يحيى عليه‌السلام ( بَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ) و ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ).

وقد روي ان زكريا وجد ابنه يحيى يبكي فقال له : يا بني ما هذا ؟ قال : أخبرتني أنّ جبرئيل أخبرك أنّ بين الجنّة والنّار مفازه من نار لا يطفي حرها إلّا الدمع.

وكان علي بن أبي طالب كذلك ، فعن الامامين الصادق والباقر أنهما قالا : كان علي بن الحسين اذا اخـذ كتاب علي فنظر في عبادة علي قال : من يطـيق هذا.

وقد شبهه صلى‌الله‌عليه‌وآله بموسى في بطشه حكاية عن قول الباري عن موسى ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ) ، (١) فكان موسى عليه‌السلام معروفاً بالقوة ، وكذلك كان الإمام علي صلباً في ذات الله وقد قتل صناديد قريش والمشركين دفاعاً عن الدين وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أما شبهه بعيسى بن مريم ، فقد روى النسائي في الخصائص الكبرى عن علي قال ، قال رسول الله : يا علي فيـك مثل من مثل عيسـى ابغضته اليهـود حتّى بهتوا امه

_______________________________________

١. القصص : ١٥.

١٠٨

واحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به.

فكان شبهه به عليه‌السلام لعلمه بالكتاب طفلاً ولم يبلغ مبلغ الرجال فقال سبحانه ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ) وكان عبداً مطيعاً لله كعيسى حيث قال : ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ).

إلى غيرها من عشرات الصفات التي كان يشبه بها آدم وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ونوحاً ، ويحيى ، وأيوب ، ويوسف ، وسليمان ، وداود. (١)

وفي بصائر الدرجات عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : كانت في علي سنّة ألف نبي.(٢)

السابع : الثبات على القيم والتفاني فيها

إن من أهم صفات العبودية لله هو التفاني في ذات الله وكمال الطاعة للرسول الأمين ، والسعي لنشر الدعوة بالمال والنفس ، فالمصدِّق هو الذي يُصدق بما آمن به عملاً ويجسّمه في واقع حياته عبر أقواله وأفعاله. والصدّيق هو من كان في أعلى مراتب هذا التفاني ، لا أن يُقدِّمَ المصلحة على القيم كما هو المشاهد في سيرة أبي بكر.

جاء عن الإمام علي عليه‌السلام أنه قال يوم صفين : ولقد كُنا مع رسول الله نقتلُ آباءنا وأبناءنا ، وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلّا إيمانا وتسليماً ، ومضيّاً على اللّقم ، (٢) وصبراً على مضض الألم ، وجِدّا في جهاد العدو.

ولقد كان الرَّجلُ منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما ، أيهما يسقي صاحبه كأس المنون ، فمرّة لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منا ، فلمّا

_______________________________________

١. انظر في ذلك مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٤١ ـ ٢٦٦ وكتاب : قادتنا ١ : ٢٧١ ـ ٣٤٤.

٢. بصائر الدرجات : ١٣٤.

٣. اللّقم : معظم الطريق أو جادته.

١٠٩

رأى الله صدقنا أنزل بعدوِّنا الكبت ، وأنزل علينا النّصر ، حتى استقر الإسلامُ مُلقياً جرانه ، (١) ومتبوئاً أوطانه ، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ، ما قام للدّين عمود ، ولا اخضرَّ للإيمان عود ، وأيمُ الله لتحتلبنّها دماً ، ولتتبعنها ندماً. (٢)

وعنه عليه‌السلام أنه قال : فدعاني رسول الله ، فقال : إنّ قريشاً دبرت كيت وكيت في قتلي ، فنم على فراشي حتى أخرج أنا من مكة فقد أمرني الله تعالى بذلك.

فقلت له : السمع والطاعة ، فنمت على فراشه ، وفتح رسول الله الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ، ينتظرون الفجر وهو يقول : ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) ومضى وهم لا يرونه ) (٣) ... إلى آخر الخبر.

وقال عليه‌السلام : ولقد عَلِم المستحفظون من أصحاب محمد أني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعةً قطّ ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام ، نجدةً أكرمني الله بها. (٤)

ومن كلام له عليه‌السلام لرأس اليهود : لقد كنتُ عاهدتُ الله ورسولهُ أنا وعمّي حمزة وأخي جعفر وابن عمّي عبيدة على أمرٍ وَفَينا به لله ولرسوله ، فتقدّمني أصحابي وتخلّفتُ بعدهم لمِا أراد الله عزوجل ، فأنزل الله فينا : ( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ).

_______________________________________

١. جران البعير : مقدّم عنقه من مذبحه إلى منحره ، وإلقاء الجران كناية عن التمكن.

٢. نهج البلاغة ١ : ١٠٤٢ / ٥٦ ، إرشاد المفيد ١ : ٢٦٨ ، وانظر كتاب سليم بن قيس : ٢٤٧ ، شرح النهج ٤ : ٣٣.

٣. الخرائج والجرائح ١ : ١٤٣ ح ٢٣١ ، الاختصاص للمفيد : ١٤٦.

٤. نهج البلاغة ٢ : ١٧١ / ١٩٧ ، عيون الحكم والمواعظ : ٥٠٦ ، ينابيع المودة ١ : ٢٦٥ / ١٩ ، بحار الأنوار ٣٨ : ٣١٩ / ٣٢.

١١٠

فمن قضى نحبه : حمزة وعبيدة وجعفر ، وأنا المنتظِر يا أخا اليهود وما بدّلت تبديلاً. (١)

وقال ابن عباس : إن علياً عليه‌السلام كان يقول في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله عزوجل قال : ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) ، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد أن هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ووليه ، وابن عمه ووارثه ، فمن أحق به مني. (٢)

إلى غيرها الكثير من النصوص الصادرة عنه عليه‌السلام ، وعن رسول الله ، وعن الصدّيقة فاطمة الزهراء ، وأهل البيت ، والصحابة فيه.

فعليٌّ هو أوّل من أسلم وصلّى مع رسول الله وصدّقه في رسالته ، وثبت على الأمر حتى النهاية ، ولم يكذبه في شيء ، والآن نأتي لنلخص ما أشار إليه الإمام عليه‌السلام لنرى موقع أبي بكر في تلك المواقف :

١ ـ إنه أول من أسلم وصلّى. وهذه المسألة قد كتب الأعلام فيها كتباً ورسائل كثيرة ، والتفصيل فيها قد يخرجنا عن أصل الموضوع. (٣)

٢ ـ التفاني في الله ورسوله بحيث لا ميزة مقابل الدين للآباء والأبناء والأخوة والأعمام ، وهذا ما لا نلحظه في أبي بكر حسبما سنذكر قسماً منه بعد قليل.

٣ ـ السمع والطاعة لرسول الله ، وهي لا تنطبق على أبي بكر ، ويكفي في عدم انطباقهما على أبي بكر أن رسول الله أمره بقتل المتنسك ، فدخل أبو بكر فوجده

_______________________________________

١. الاختصاص للمفيد : ١٧٤ ، الخصال للصدوق : ٣٧٦ ، بحار الأنوار ٣١ : ٣٤٩ / ٣ ، تأويل الآيات ٢ : ٤٤٩ / ٨.

٢. خصائص أمير المؤمنين للنسائي : ٨٦ ، المعجم الكبير ١ : ١٠٧ الرقم ١٧٦ ، مناقب الكوفي ١ : ٣٣٩ / ٢٦٥ ، شواهد التنزيل ١ : ١٧٧ / ٢٤ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٥٦ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٦.

٣. للمزيد انظر الغدير للعلامة الأميني ٣ : ٢٢١ ، ٢٤١.

١١١

يصلي ، فقال أبو بكر في نفسه : إن للصلاة حرمة وحقاً ، فترك الناسك ولم يمتثل أمر رسول الله. (١)

٤ ـ ثباته على الدين وعدم انقلابه على الأعقاب ، وخطبة الزهراء عليها‌السلام صريحة في انقلاب القوم على أعقابهم ، وفي حديث الحوض وآية الانقلاب ما يؤكد ذلك.

هذا ، والملاحظ في سيرة أبي بكر أنه كان يقدّم المصلحة على الفروض الإلهية حينما تدعوه مصلحته إلى ذلك ، إذ أبطل الحدّ عن خالد بن الوليد برغم إجماع المسلمين على لزوم قتله ، وقد كان عمر بن الخطاب ممن يرى قتله ، لكونه زنى بزوجة مالك بن نويرة وهي في العدّة ، لكنّ أبا بكر رفض إجراء الحد قائلاً : ... يا عمر ! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيمُ سيفا سلّه الله على الكافرين. (٢)

ولما أصرّ أبو قتادة الأنصاري ـ الذي شهد الزنا وكان في السريّة مع خالد ـ على موقفه ، دعاه أبو بكر ونهاه عن ذلك. (٣)

وبمنطق التأويل وبمنطق كون أعدائه كافرين ـ وإن كانوا في الواقع مسلمين ـ عَذَرَ أبو بكر خالداً لاحتياجه إليه في مواقف أُخرى.

وبنفس هذه الوتيرة عفى عن الأشعث بن قيس حين ارتدَّ ، وقد تأسف أبو بكر عند موته من فعلته هذه بقوله : ثلاث ... وثلاث ... وثلاث ، وعدّ من اللاتي ودّ فعلها ولم يفعلها : ضرب عنق الاشعث حين جيء به أسيراً ، فإنه يخيّل إليّ أنه لا يرى شراً إلّا أعان عليه. (٤)

_______________________________________

١. مسند أبي يعلى ٦ : ٣٤١ ح ٣٦٦٨ ، حلية الأولياء ٣ : ٢٢٧ ، مسند أحمد ٣ : ١٥ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٣٠.

٢. تاريخ الطبري ٢ : ٥٠٣ وانظر طبقات ابن سعد ٧ : ٣٩٦ ، البداية والنهاية ٦ : ٣٥٤ ، الإصابة ٥ : ٧٥٥ ، وغيرها.

٣. الكامل في التاريخ ٢ : ٣٥٨.

٤. تاريخ الطبري ١ : ٦٢٠ ، تاريخ دمشق ٣٠ : ٤١٨ ، كنز العمال ٥ : ٦٣٢ / ١٤١١٣.

١١٢

إنما كان فِعْل أبو بكر كل ذلك لأن الأشعث زعيم كندة ، وممن يحتاج إليه في مواقف ومشاهد أُخرى.

ولم يكتف الخليفة بإطلاق سراحه ، بل زوّجه أخته وأشركه في المهامّ ، لمصالح كان يرجوها.

هذا وعطّل أبو بكر فرض الصدقة المصرَّح بها في القرآن للمؤلفة قلوبهم نزولاً عند رغبة عمر بن الخطاب لما رآه من مصلحة ، وأن الإسلام قد قوي ولا حاجة للمؤلفة قلوبهم !!

ومثله منعه الزهراء عليها‌السلام فدكاً ، وقد احتجّت عليه بالقرآن على مشروعية ملكيّتها بعمومات آيات الوصية والإرث وتوريث الأنبياء أبناءهم.

وقبل كل ذلك فراره يوم أُحد وحنين وخيبر وعدم الثبات والتفاني فيها. كل ذلك لمصلحة كان يراها !!

قال اليعقوبي عن غزوة أُحد : وانهزم المسلمون حتى بقي رسول الله وما معه إلّا ثلاثة نفر : علي والزبير وطلحة. (١)

وروى الحاكم في مستدركه وصحّحه عن عائشة ، قالت : قال أبو بكر : لما جال الناس عن رسول الله يوم أحد كنت أول من فاء إلى رسول الله. (٢)

ونقل صاحب كنز العمال ـ في غزوة أُحد ـ عن أبي داود الطيالسي وابن سعد ، والبزار والدارقطني وابن حبّان وأبي نعيم وغيرهم بأسانيدهم عن عائشة أنّها قالت : وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحد بكى ... ثمّ أنشأ يحدّث ، قال : كنت أول من فاء يوم أُحد. (٣)

_______________________________________

١. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧.

٢. المستدرك ٣ : ٢٧.

٣. مسند أبي داود : ٣ ، كنز العمال ١٠ : ٤٢٥ / ٣٠٠٢٥.

١١٣

قال ابن أبي الحديد : قال الجاحظ : وقد ثبت أبو بكر مع النبي يوم أُحد كما ثبت علي ...

قال شيخنا أبو جعفر : أما ثباته يوم أُحد فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه ، وجمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي إلّا علي وطلحة والزبير وأبو دجانة ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ولهم خامس وهو عبدالله بن مسعود ، ومنهم من أثبت سادساً وهو المقداد بن عمرو. (١)

قال زيد بن وهب : قلت لابن مسعود : فأين كان أبو بكر وعمر ؟

قال : كانا فيمن تنحّى ، فقلت : فأين كان عثمان ؟ قال : جاء بعد ثلاثة [ أيام ] من الوقعة ، فقال له رسول الله : لقد ذهبت فيها عريضة. (٢)

وفي المغازي عن محمد بن مسلمة ، قال : سمعتْ أُذناي وأبصرتْ عيناي رسول الله يقول يومئذ ، وقد انكشف الناس إلى الجبل ، وهم لا يلوون عليه ، وإنه ليقول : إليّ يا فلان إليّ يا فلان ، أنا رسول الله ، فما عرّج عليه واحد منهما ومضيا. (٣)

وواضح أن الكناية هنا عن الشيخين وإنما لم يذكرهما الراوي صريحاً لأنهما أصحاب سلطان ، ولأن أتباعهما لا يروق لهما ذلك ، ولعله من تبديل النسّاخ.

وروي أن امرأة جاءت عمر أيام خلافته تطلب من برودٍ كانت بين يديه ، وجاءت معها بنت لعمر تطلب بُرداً أيضاً ، فأعطى المرأةَ وردّ ابنته ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن أبا هذه ثبت يوم أحد ، وأبا هذه [ يعني نفسه ] فرَّ يوم أُحد ولم يثبت. (٤)

_______________________________________

١. شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢٩٣.

٢. كشف الغمة ١ : ١٩٣ ، الإرشاد ١ : ٨٤ ، انظر شرح النهج ١٥ : ٢١ ، تاريخ الطبري ٢ : ٢٠٣ ، البداية والنهاية ٤ : ٣٢.

٣. المغازي ١ : ٢٣٧ ، وعنه في شرح النهج ١٥ : ٢٣.

٤. شرح النهج ١٥ : ٢٢.

١١٤

قال الواقدي : ولما صاح إبليس : ( إن محمداً قد قُتل ) تفرّق الناس ، فمنهم من ورد المدينة ... وكان مِمَّنْ ولّى فلان ، والحارث بن حاطب. (١)

لكن ابن أبي الحديد رواه عن الواقدي صريحاً دون كناية ، فقال : وكان ممن ولّى عمر وعثمان والحارث بن حاطب. (٢)

قال رافع بن خديج : ... وإني لأنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يَعْدون ، فكان عمر يقول : لما صاح الشيطان ( قتل محمّد ) أقبلتُ أرقى في الجبل كأنني أُرْويَّة. (٣)

وذكر محمد بن إسحاق في المغازي : ... أنّ الناس فرّوا عن رسول الله يوم أحد حتى عثمان بن عفان فإنه أول من فرّ ودخل المدينة ، وفيه نزل : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ). (٤)

وقال الفخر الرازي : ومن المنهزمين عمر ، إلّا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي ، ومنهم عثمان بن عفان انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما : سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعاً بعيداً ، ثمّ رجعوا بعد ثلاثة أيام. (٥)

قال النيسابوري : قال القفال : الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفراً قليلاً تولّوا وأبعدوا فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب ... ومن

_______________________________________

١. المغازي ١ : ٢٧٧ وفي نسخة عمر وعثمان بدل فلان.

٢. شرح النهج ١٥ : ٢٤.

٣. المغازي ١ : ٢٩٥ ، شرح النهج ١٥ : ٢٢ ، ومثله في المغازي ١ : ٣٢١ ، والدر المنثور ٢ : ٨٩.

٤. تذكرة الخواص : ٣٨ ، انظر صحيح البخاري ٥ : ٣٥ ، عن عثمان بن موهب ، مجمع الزوائد ٩ : ١١٥ والآية من سورة آل عمران : ١٥٥.

٥. التفسير الكبير ٩ : ٤٢.

١١٥

المنهزمين عمر. (١)

وقال الآلوسي : وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا على الجبل وعمر بن الخطاب كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير. (٢)

وبهذا ، فقد عرفت بأن الثلاثة كانوا من المنهزمين في وقعة أُحد ، ولم يثبت فيها إلّا علي بن أبي طالب وبعض الصحابة.

وفي حديث عمران بن حصين ، قال : لما تفرق الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم أُحد جاء علي متقلداً سيفه حتى قام بين يديه ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأسه ، فقال له : مالك لم تفر مع الناس ؟

فقال : يا رسول الله أأرجع كافراً بعد إسلامي ؟

فأشار إلى قوم انحدروا من الجبل ، فحمل عليهم فهزمهم ، ثمّ أشار إلى قوم آخرين فحمل عليهم فهزمهم ، ثمّ أشار إلى قوم فحمل عليهم فهزمهم ، فجاء جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله لقد عجبت الملائكة من حُسن مواساة علي لك بنفسه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يمنعه من هذا وهو مني وأنا منه.

فقال جبرائيل عليه‌السلام : وأنا منكما. (٣)

ومن كلام له عليه‌السلام في حديث المناشدة :

فهل فيكم أحد قال له جبرائيل عليه‌السلام : هذه هي المواساة ، وذلك يوم أُحد ، فقال رسول الله : إنّه مني وأنا منه ، فقال جبرائيل : وأنا منكما ، غيري ؟

_______________________________________

١. تفسير النيسابوري ٢ : ٢٨٧.

٢. روح المعاني ٤ : ٩٩.

٣. الإرشاد للمفيد ١ : ٨٥ ، كشف الغمة ١ : ١٩٤ ، بحار الأنوار ٢٠ : ٨٥.

١١٦

قالوا : لا. (١)

وفي أُسد الغابة : وقال علي لمّا تخلّى الناس عن رسول الله يوم أُحد : نظرت في القتلى فلم أر رسول الله فقلت : والله ما كان رسول الله ليفرّ وما أراه في القتلى ، ولكنّ الله غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيه ، فما فِيَّ خيرٌ من أن أقاتل حتى أُقتل ، فكسرت جفنَ سيفي ، ثم حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا برسول الله بينهم ، وقد أصابت علياً يوم ذاك ستّة عشر ضربة ، كل ضربة تلزمه الأرض ، فما كان يرفعه إلّا جبرائيل. (٢)

ومن كلام آخر له عليه‌السلام : فقلت : يا رسول الله ! ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها ؟

فقال : يا علي ! إن أُمتي سيفتنون من بعدي.

فقلت : يا رسول الله ، أو ليس قد قلتَ لي يوم أُحدٍ حيث استُشهدَ مَن استُشهد من المسلمين ، وحيزت عنّي الشهادة ، فشَقَّ ذلك عليّ ، فقلت لي : أبشر يا صدّيق فإن الشهادة من ورائك.

فقال لي : فإنّ ذلك كذلك ، فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا ، وأهوى بيده إلى لحيتي ورأسي ... . (٣)

بلى إنها فتنة ، فماذا نقول فيمن ترك القتال وولّى الدُبر وأسلم رسول الله للكفار ، هل هو الكفر ، أم أنه الفسق ، أم شيء آخر ؟

من الثابت المسلّم أن رسول الله استاء أشدّ الاستياء من هذا الفعل وغضب من

_______________________________________

١. الأمالي للطوسي : ٥٤٧ ، المجلس ٢٠ الرقم ١١٦٨ / ٤ ، الخصال ٢ : ٥٥٦ ، مناقب الكوفي ١ : ٤٨٦ / ٣٩٢ ، تاريخ الطبري ٢ : ١٩٧ ، المعجم الكبير ١ : ٣١٨ / ٩٤١ ، كشف اليقين : ٤٢٤.

٢. أُسد الغابة ٤ : ٢٠ ـ ٢١.

٣. نهج البلاغة ٢ : ٤٩ من كلام له خاطب به أهل البصرة ، وانظر كنز العمال ١٦ : ١٩٤ / ٤٤٢١٧ ، والمعجم الكبير ١١ : ٢٩٥ ، وأُسد الغابة ٤ : ٣٤.

١١٧

الذين هربوا من القتال.

قال الواقدي : وكان طلحة بن عبيدالله ، وابن عباس ، وجابر بن عبدالله يقولون : صلى رسول الله على قتلى أحد ، وقال رسول الله : أنا على هؤلاء شهيد ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ألسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا !

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بلى ، ولكنّ هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئاً ، ولا أدري ما تُحدثون بعدي ، فبكى أبو بكر وقال : إنا لكائنون بعدك ؟! (١)

وجاء عن رسول الله أنه قال لعمر لما اعترض عليه في صلح الحديبية : أنسـيتم يوم أُحد إذ تُصعدِون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أُخراكم. (٢)

وقد مر عليك كلام رسول الله في عثمان : لقد ذهبتَ فيها عريضة.

أما يوم خيبر ، فقد جاء في السيرة الحلبية قول رسول الله في خيبر ـ لما فر الشيخان ـ برايته : لأعطينَّ الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح على يديه ليس بفارٍّ ، وفي لفظ : كرار غير فرّار.

فدعا علياً وهو أرمد فتفل في عينه ، ثمّ قال : خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك. (٣)

قال أبو سعيد الخدري : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ الراية فهزها ، ثمّ قال : من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان [ أبو بكر ] فقال : أنا ، قال : أَمِطْ ، ثم جاء جاء رجل

_______________________________________

١. المغازي ١ : ٣١٠ ، شرح النهج ١٥ : ٣٨ واللفظ له ، وانظر الموطأ ٢ : ٤٦١ / ٩٨٧ ، والتمهيد لابن عبد البر ٢١ : ٢٢٨ / ٢٠٣.

٢. المغازي ٢ : ٦٠٩ وعنه في شرح النهج ١٥ : ٤٢ ـ ٢٥ وانظر الدر المنثور ٦ : ٦٨ ، وعيون الأثر ٢ : ١٢٥.

٣. السيرة الحلبية ٢ : ٧٣٧ ، سيرة ابن هشام ٣ : ٧٩٧ ، مسند أحمد ١ : ٩٩ ، الأحاديث المختارة ٢ : ٢٧٥ ، فتح الباري ٧ : ٣٦٥ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٤ ، وقد رواه البخاري في صحيحه ٥ : ٧٦ ، ومسلم ٥ : ١٩٥ ، مختصراً.

١١٨

آخر [ عمر ] فقال : أنا ، فقال : أَمِطْ ، ثم قال النبي : والذي كرّم وجه محمد لأعطيّنها رجلاً لا يَفرُ ، فقال : هاك يا علي ، فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر. (١)

فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( غير فرار ) (٢) أو ( رجلاً لا يفر ) (٣) تعريض بالشيخين ، وأيّ فرار أسوأ من الفرار عن الزحف ، إذ في النصوص عبارات مؤلمة مثل أن أبا بكر أخذ الراية ( فانهزم بها ) (٤) وعمر ( سار غير بعيدٍ ثم انهزم ) ، (٥) أو أن عمر وأصحابه رجعوا إلى النبي وعمر ( يجبّن أصحابه ويجبّنونه ) (٦) أو ( وأخذ اللواء أبو بكر فلم يفتح له ، ثمّ أخذه عمر من الغد فرجع ولم يفتح له وأصاب الناس شدة وجهد ) (٧) و ( قد كان النبي دفع لواءه إلى رجُلٍ من أصحابه من المهاجرين [ أبو بكر ] فرجع ولم يصنع شيئاً ، ثم ّ دفعه إلى آخر [ عمر ] فرجع ولم يصنع شيئاً ). (٨)

وقد كانت البيعة [ بيعة الشجرة ] على أن لا يفرّوا ، وقد فرّ الشيخان ، وفي ذلك

_______________________________________

١. مسند أحمد ٣ : ١٦ ، فضائل أحمد ٢ : ٥٨٣ ، سيرة ابن كثير ٣ : ٣٥٢ ، مجمع الزوائد ٦ : ١٥١ ، تالي تلخيص المتشابه للخطيب البغدادي ٢ : ٥٢٨.

٢. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٦ ، مناقب الخوارزمي : ١٧٠ ، الكافي ٨ : ٣٥١ / ٥٤٨ ، كنز العمال ١٣ : ١٢٣ / ٣٦٣٩٣.

٣. مسند أحمد ٣ : ١٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٤ ، مناقب الكوفي ٢ : ٤٩٥ / ٩٩٥ ، البداية والنهاية ٤ : ٢١٢ ، ٧ : ٣٧٥.

٤. مصنف بن أبي شيبة ٧ : ٤٩٧ / ١٧ ، ٨ : ٥٢٢ / ١١ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٤ ، كنز العمال ١٣ : ١٢١ / ٣٦٣٨٨.

٥. كشف اليقين : ١٤٠.

٦. المصنف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٢١ / ٧ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٣٨ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٩٧. الكافي ١ : ٢٩٤ / ٣.

٧. سنن النسائي الكبرى ٥ : ١٠٩ / ٨٤٠٢ ، مجمع الزوائد ٦ : ١٥٠ ، وقال : رجاله رجال الصحيح ، البداية والنهاية ٧ : ٣٧٣.

٨. السيرة الحلبية ٣ : ٧٣٢ ، وعنه في الغدير ٧ : ٢٠٣.

١١٩

نكث للعهد والأيمان ، وقد تعرّض الإمام علي والعباس ـ عم الرسول ـ لهذا المطلب لما جاءا يطلبان ميراث رسول الله ، فكان مما قالاه هو أن أبا بكر وعمر كاذبان آثمان غادران خائنان.

ولهذا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما هادن أهل مكة بعد البيعة تحت الشجرة حمل المسلمون بالسلاح على قريش فهزمتهم قريش ، فبعث صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً فردهم فتابوا ، فقال النبي : الآن عودوا إلى البيعة فقد نقضتم ما كان في أعناقكم ، فبايعوا على أن لا يفروا فسميت بيعة الرضوان ، لوقوعها بعد العصيان. وإن فرار الشيخين ـ بخيبر وحنين ـ وجماعة من المسلمين هو نكث لبيعة الرضوان ». (١)

وقد جاء في صحيح مسلم أن عمر قال لعلي والعباس : ... قال أبو بكر : قال رسول الله ( لا نورث ما تركناه صدقة ) فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، ثم توفى أبو بكر فقلت : أنا ولي رسول الله وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً. (٢)

فأبو بكر في منطق عم الرسول ( العباس ) ، وصهر الرسول ( علي ) ، وبنت الرسول ( فاطمة ) كان كاذباً آثماً ، والكاذب ليس بصادق فكيف يكون صدّيقاً.

قال ابن شهرآشوب في المناقب : وقال المتكلمون : ومن الدلالة على إمامة علي عليه‌السلام قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) فوجدنا علياً بهذه الصفة لقوله : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) يعني الحرب ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) فوقع الإجماع بأن علياً أولى

_______________________________________

١. الصراط المستقيم ٣ : ١٠٠ ـ ١٠١.

٢. صحيح مسلم ٥ : ١٥٢ـ ١٥٣ كتاب الجهاد والسير ، باب حكم الفيء ، وانظر في منازعة الإمام علي والعباس صحيح البخاري ٤ : ٤٤ باب فرض الخمس وكتاب الجهاد والسير ٥ : ٢٣ ـ ٢٤ وتفسير ابن كثير ٤ : ٣٥٩ وشرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٢٢ ، تاريخ المدينة لابن شبة ١ : ٢٠٤.

١٢٠