هبة السماء

علي الشيخ

هبة السماء

المؤلف:

علي الشيخ


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-22-6
الصفحات: ٢٣٠

بالثالوث (١).

ولقد تبلور قانون الإيمان الاثناسيوسي على يد أغسطينوس في القرن الخامس ، و صار القانون عقيدة الكنيسة الفعلية من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا. ففي عام (٤٥١) الميلادي وفي مجمع خلقيدونيا المسكوني تم إقرار التثليث على أنه موثوقة رسمية ولا تقبل المناقشة ، والكلام ضد الثالوث يعتبر كفرا ومن يقترفه يستحق الموت أو التشويه.

ولكن استمر الاصلاح في هذه العقيدة وترميمها وتطويرها ، إذ يعترف المسيحيون أن هذه العقيدة بحاجة إلى تنبير ولا يستطيع دارس هذه العقيدة أن ينسى المصلح جون كلفن ، الذي عاش في القرن السادس عشر ، ونبر على التساوي التام بين الأقانيم الثلاثة في هذه العقيدة ، التي يلزمها مثل هذا التنبير من وقت إلى آخر على مر الزمن ) (٢).

والقانون الذي وضعته الكنيسة ( قانون الإيمان ) يشير بوضوح إلى هذه العقيدة.

وأذكر أني حفظت ( قانون الإيمان ) في فترة ( التناول ) في سن

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٧.

(٢) قاموس الكتاب المقدس : ٢٣٣.

١٠١

التاسعة تقريبا ونصه هو :

أؤمن باله واحد ، أب ضابط الكل خالق السماء والأرض وكل ما يرى وما لا يرى ، وأؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، إله من إله ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر ، الذي به كان كل شئ ، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء ، وصار انسانا وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي ، تألم وقبر ، وقام في اليوم الثالث كما في الكتب ، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب ، وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء. وأؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب والابن ، الذين هو مع الأب والابن ، يسجد له ويمجد ، الناطق بالأنبياء ، وأؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة ورسولية ، واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا ، وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي ، آمين ) (١).

فالمسيحيون يلخصون عقيدة التثليث في النقاط الستة التالية :

١ ـ الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص الله.

٢ ـ هؤلاء الثلاثة يصفهم الكتاب بطريقة تجعلهم شخصيات

__________________

(١) أنظر كتاب تعاليم الكتاب المقدس : ص ٦٠.

١٠٢

متميزة الواحدة عن الأخرى.

٣ ـ هذا التثليث في طبيعة الله ليس مؤقتا أو ظاهرا بل أبدي وحقيقي.

٤ ـ هذا التثليث لا يعني ثلاثة آلهة بل أن هذه الشخصيات جوهر واحد.

٥ ـ الشخصيات الثلاث الأب والابن والروح القدس متساوون.

٦ ـ لا يوجد تناقض في هذه العقيدة (١).

والمسيحيون يؤكدون على التوحيد ، وأن خالق هذا العالم والذي يدير شؤونه هو واحد لا أكثر ، ولكن في تعريفهم لحقيقة هذا الواحد يقولون أنه يتألف من ثلاثة أقانيم أو أشخاص وهم ( الأب والابن والروح القدس ) وهم متساوون في القدرة والمجد.

ويؤكدون أن هذه المعرفة كانت تدريجية ، فالله سبحانه لم يكشف عن نفسه مرة واحدة ، لشدة نوره الذي يبهر العيون ، بل تمت معرفته في يسوع المسيح ( عليه السلام ) ، فالخالق العظيم كانت حقيقته مجهولة للإنسانية ، ولم يستطع أحد التعرف على كنهه ، وبمجئ المسيح ( عليه السلام ) كشف ربنا عن كنهه وحقيقته بتجسده في

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٢٣٢.

١٠٣

عيسى المسيح ( عليه السلام ) (١).

وأما إثبات هذه العقيدة من الكتاب المقدس ، ( والكلام للمسيحيين ) فالعهد القديم لم يوضح الثالوث الأقدس ، بل كان جل اهتمامه وهدفه هو أن يركز مفهوم وحدانية الله سبحانه في نفوس بني إسرائيل ، وكفهم عن عبادة الأوثان ، وهذا الموضوع احتاج إلى وقت طويل ليفهمه ويعتقده هذا الشعب ، فنحن نرى أن موسى ( عليه السلام ) عندما صار إلى ميقات ربه فتأخر ، رجع بني إسرائيل إلى عبادة العجل الذهبي ، فكانت عبادة الأوثان ما تزال مؤثرة في نفوسهم ، ولهذا فمن يطالع العهد القديم يرى بوضوح أن وحدانية الله بارزة في أكثر تعاليمه بل هي أول الوصايا ، كما ذكر في ( تث : ٦ ـ ٤ ) ( اسمع يا إسرائيل أن الرب إلهنا رب واحد ).

ولذا فنحن لا نعثر في العهد القديم على أي إشارة إلى هذا الثالوث ، نعم استعملت في العهد القديم كلمة ( الأب ) وأرادوا به الله سبحانه ، فهو أب الأبرار والصالحين ولكن كان يفهم منها المعنى المجازي لا الحقيقي ، وكذلك كلمة الابن هي الأخرى استعملت في العهد القديم وأيضا كان يفهم المعنى المجازي لا البنوة الحقيقية ، والروح القدس هو الآخر مذكور كثيرا ، ولكن له معاني كثيرة مختلفة ، إذ كان يقصد منه مثلا ، نفخة الحياة ، النفس ، الريح ، وغيرها ... وكأن الله

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٢٥٨.

١٠٤

سبحانه ( والقول للمسيحيين ) كان يهئ البشرية للخطة النهائية التي سيكشف فيها عن نفسه بأنه ( أب ، وابن ، وروح القدس ) في العهد الجديد (١).

وعند مجئ المسيح ( عليه السلام ) أكد هو الآخر على وحدانية الله سبحانه وذلك من خلال ما نجده في العهد الجديد ، مثلا نرى في جوابه لأحد الكتبة عن أول الوصايا ، قال : ( الوصية الأولى هي اسمع يا إسرائيل أن الله ربنا رب واحد ) ( مر : ١٢ : ٢٩ ).

وهو بمجيئه هذا كشف السر الإلهي الذي يصعب على عقل الإنسان تصوره وفهمه ، ولكن المسيح ( عليه السلام ) أيضا أخذ يكشف ذلك السر تدريجيا ، فاستعمل كلمة ( الأب ) وأراد بها الله سبحانه وتعالى ، فهو أب لجميع المؤمنين والأبرار والصالحين ، وهو الأب الرحيم العطوف بأبنائه وخلقه ، أنظر ( متي : ٣٠١٠ ، ٥ ـ ١٦ ) ( مر : ١١ : ٢٥ ـ ٢٦ ) وغيرها.

ولكنه ( حسب المسيحيين ) استعمل هذه الكلمة بالمعنى الحقيقي عندما كان يخاطب الله ويقول ( أبي ) انظر ( متي : ١١ : ٢٥ ـ ٢٧ ) و غيرها ، فالله الأب هنا هو الأب الخاص للمسيح ( عليه السلام ) فانتقل اللفظ من المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي في شخص يسوع ( عليه السلام ) ، فكان لفظ الأب إشارة إلى الأقنيم الأول!

________________________

(١) نفس المصدر : ٢٥٨.

١٠٥

وأما كلمة الابن فقد أشرنا إليها سابقا ، فالمسيح ( عليه السلام ) أيضا استخدم كلمة أبناء الله ، في حق المؤمنين انظر ( متي : ٥ : ٩ ) ( ٥ : ٤٥ ) وغيره ، ولكنه أراد منها المعنى المجازي ، في حين أنه عندما استعملها لنفسه فإنه أراد بها المعنى الحقيقي ، فهو الابن الخاص والوحيد للباري تعالى! أنظر ( يو : ٩ ـ ٣٥ ) ( ١٠ : ٣٧ ) وغيرها.

وأما روح القدس فهو الآخر مذكور في العهد الجديد ، ولكنه لم يفهم منه أنه أحد الأقانيم الثلاثة المؤلفة لله سبحانه ، إلا يوم العنصرة إذ تجلى بوضوح في ذلك اليوم ( أي عند نزول الروح القدس ) (١).

فنحن رأينا أن الأقانيم الثلاثة مذكورة في العهد الجديد وهي منفصلة.

وأما أنه هل ذكرت أسفار العهد الجديد هذه العقيدة الأساسية في المسيحية بوضوح أم لا؟ نقول : نعم هناك إشارة واحدة فقط صريحة في الأناجيل تشير إلى التثليث أنظر إنجيل ( متي : ٢٨ : ١٩ ) وهي اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس.

نعم كانت هناك إشارة أخرى في إنجيل يوحنا ( ٥ : ٧ ) ولكن الباحثين اعترفوا في القرن التاسع عشر بأن كلمات ( أب ، وابن ، وروح

________________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٢٧٠.

١٠٦

القدس ) هي استنتاجات ، وأن نصا بهذا لم يعثر عليه في النسخ القديمة ، ولذلك فإن هذه الكلمة قد حذفت من إنجيل يوحنا ، فلا توجد في نسخ العهد الجديد المعاصرة (١).

وأيضا ، يزعم بعض المسيحيين أن في رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس ، إشارة واضحة إلى التثليث وهي ( ٢ كو : ١٣ : ١٤ ) نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم ولكن الأقانيم غير مذكورة بالاسم.

وفي الواقع فإن عقيدة التثليث لم تذكر بشكل صريح في العهد الجديد إلا في إنجيل متي ، ولذا نجد أن المسيحيين يعترفون بهذه المسألة هم أيضا ، فإن لفظة التثليث والثالوث ، غير مذكورة ويقدمون تعليلا لذلك فالعهد الجديد لا يحتوي على ألفاظ ( ثالوثية ) وليس هناك نصوص تأتي بعقيدة يعبر عنها بألفاظ مجردة ، بل إن الله كشف عن حياته الخاصة بتدبيره الخلاصي حيث يدنو البشر من الأب في الروح والابن (٢).

ولا يفوتني هنا أن أذكر أن التثليث له جذوره العميقة في التاريخ ، فهو ليس وليد المسيحية ، بل كان منتشرا في مصر وفلسطين والصين والهند وغيرها من البلاد قبل مجئ المسيح ( عليه

________________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٥.

(٢) معجم الإيمان المسيحي (١٦٤).

١٠٧

السلام ) وأهم قصة للتثليث مشابهة تقريبا للعقيدة المسيحية ، هي أسطورة ( أوزيريس ) المصرية وتقول هذه الأسطورة أن ( أوزيريس ) قتله أخاه ( ست ) ، وعثرت ( أيزيس ) على جسده فحنطته ، ثم قام من بين الأموات ، وأصبح إله العالم السفلي ، وحملت ( أيزيس ) من ( أوزيريس ) بعد موته ، وولدت له هورس ، وكانت عبادة الإله ( أوزيريس ) في مصر في عصر البطالسة.

ودفع هذا التشابه إلى قول بعض الآباء المسيحيين الأوائل أن في ديانة ( أوزيريس ) تمهيد الطريق وإعدادها لمجئ الإنجيل ، إلا أن القصة المصرية ، قصة الإله الذي مات وقام أسطورة وخرافة ، أما سجل حياة يسوع المسيح ( عليه السلام ) وموته وقيامته كما ورد في الإنجيل فهو سجل تاريخي وواقعي (١).

في الواقع هذا عرض إجمالي لعقيدة الثالوث الأقدس عند المسيحيين الذين يعتقدون أن الله سبحانه قد تجسد في شخص المسيح ( عليه السلام ) ومعنى قولهم أن ( الكلمة ، الله ) قد تجسد ، أي أن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس صار جسدا ، واتخذ الطبيعة البشرية ، فصار يشبهنا في كل شئ ( ما عدا الخطيئة ) والكلمة صار جسدا ، وحل بيننا ( يو : ١ : ١٤ ).

فإن الله ليكشف عن نفسه نزل إلى الأرض ، والتقى الإنسان

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٩٠٤.

١٠٨

بالصورة البشرية ، فقد زار الله شعبه في يسوع المسيح ( عليه السلام ) بل زار البشرية كلها (١).

ولكنه إذ أصبح انسانا بشرا ، فهذا الأمر لم يخسره شيئا من ألوهيته ، فلقد اكتفى أن يخفيها ويسترها متخليا وقتيا عن أمجاده الإلهية التي كانت في سلطته وحوزته (٢).

ولنا هنا بعد هذا العرض لعقيدة الثالوث الأقدس ، تساؤلات وإشكالات نوردها ونبين مدى صحة هذه العقيدة ، عقلا ونقلا من العهد الجديد نفسه .. كما سأتجنب التعرض للمباحث الفلسفية في هذا العرض ، بل أقدمه بشكل سهل لا يصعب فهمه فنقول :

أولا : أن أول إشكال يواجه الباحث في عقيدة اللاهوت المسيحي ( الثالوث الأقدس ) والتبني والتجسيد عامة ، هو أن المسيحيين يغلقون باب العقل ويعطلونه ، فهم يتمسكون بأن هذه العقيدة لا يمكن أن يمسها العقل والادراك البشري ، بل هي فوقهما ، فهي سر لا يفهم إلا بالإيمان الحقيقي والثابت بالمسيح ( عليه السلام ).

وهنا أقدم مقدمة بسيطة لتوضيح مسألة مهمة وهي : أن الأمور والقضايا التي تواجهنا لا تخرج عن ثلاث حالات حسب العقل وهي :

١ ـ ما هو موافق للعقل : وهي الأمور التي يقبلها العقل ويذعن

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٣١٢.

(٢) نفس المصدر : ٢٧٢.

١٠٩

لها ، كالقضية القائلة بأن الجزء أصغر من الكل ، فالعقل البشري يوافقها ويصدقها.

٢ ـ ما هو مخالف للعقل : وهي الأمور التي يرفضها العقل ويحكم ببطلانها ، كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما ، فالعقل يرفض هذه القضية مطلقا ، مثلا أن نقول ( زيد موجود وليس بموجود في نفس الوقت ) فالعقل هنا يؤكد استحالة مثل هذه القضية ، فهي من المحالات العقلية ، فأما أن يكون زيد موجودا أولا.

٣ ـ ما هو فوق العقل : وهي الأمور والحقائق الغيبية التي تقصر يد العقل عن تناولها والوصول إليها : فإن هناك أمورا فوق العقل ، ولولا أخبار الوحي الإلهي عنها لم يكن للانسان أن يتعرف عليها ، كبعض الأحكام الشرعية وكيفيتها ، وكذلك الرابطة بين الأفعال الاختيارية للانسان في الحياة الدنيا ونتائجها الأخروية ، فهذه الرابطة يعجز العقل عن إدراكها فهي لا تدخل في دائرته لأنها ترتبط بعالم الغيب ، وغيرها من الأمور ..

ولكن بقي هنا مسألة مهمة وهي أن القضايا التي هي فوق العقل والادراك البشري ، يجب أن لا تدخل تحت الشق الثاني ، أي أن لا تكون مخالفة للعقل وإلا صارت من المحالات التي يرفضها العقل ويبطلها ، وهذا ما نجده بالضبط في عقيدة التثليث (١).

__________________

(١) راجع الميزان في تفسير القرآن ج ٣ / ص ٣٥٥.

١١٠

فالمسيحيون حينما يواجهون هذه الإشكالات العقلية حول هذه العقيدة ، يلجأون إلى لجم العقل وتعطيله بالقول أن العقل قاصر عن إدراك مثل هذه المسائل ، لأنها من عالم الغيب الذي لا حظ للعقل فيه ، ولأن الوحي قد جاء بها فيجب قبولها والاذعان لها ، وإن كانت مخالفة للعقل ، ويؤكدون أن الكثير من المسائل الدينية يحيلها العقل ، وتقبل تعبدا وهذه العقيدة منها.

وهذا الجواب فيه تناقض صريح ، إذ كيف يستطيع الإنسان أن يميز دين الحق عن الباطل ، أليس بالعقل؟ وحتى المسيح ( عليه السلام ) وتلاميذه فأنهم كانوا يجادلون ويناقشون اليهود بالأدلة والاستدلالات لكي يثبتوا أن المسيح ( عليه السلام ) مرسل من الله سبحانه ، وأنه يدعوهم إلى أتباع العقل من خلال تطبيق ما تنبأ به العهد القديم بالنبي الموعود وحياة المسيح ( عليه السلام ) فهو النبي المنتظر والموعود حسب ما يدعيه المسيحيون .. فإذا كان العقل له الدور الرئيسي في تشخيص الدين الحق من الباطل ، فكيف يقبل بعقيدة تشتمل على محالات وتناقضات يرفضها؟

وأما كيفية مخالفتها للحق فهي واضحة وبينة ، وقد اعترف بها عدة من علماء التثليث ، فالواحد حقيقة لا يمكن أن يكون ثلاثة حقيقة ، فالمسيحيون كما ذكرنا يؤمنون بثلاثة أشخاص وأقانيم حقيقية متميزة الواحد عن الآخر ولكنهم متساوون في الجوهر ، فهل يعقل أن يكون الواحد ثلاثة والثلاثة واحد!!!

١١١

وأيضا يستلزم منه التركيب ، فالإله الواحد مركب من ثلاثة أجزاء ، وعلى هذا فهو بحاجة إلى أجزائه لتكتمل ألوهيته ، والاحتياج والتركيب ينافيان الغنى والبساطة والتي هي من صفات الإله ( واجب الوجود ).

إضافة إلى هذا فإن الله سبحانه بسيط الذات من جميع الجهات فيستحيل انفصال شئ منه ( كما يدعي المسيحيون ) ، وحلوله في مخلوق أو اتحاده معه ، كما أن ذلك يلزم أن يكون الإله عرضة للتغير والتحول وهو مستحيل ... وغيرها من الإشكالات الفلسفية الكثيرة التي تواجه هذه العقيدة المتناقضة ..

ثانيا : إضافة إلى ما ذكرنا فإن نسبة هذه العقيدة إلى المسيح ( عليه السلام ) والوحي الإلهي هي الأخرى غير صحيحة ، فكما أشرنا في بحثنا للثالوث الأقدس ، تبين أن هذه العقيدة لم ينطق باسمها أحد ، ولم تظهر إلى الوجود إلا في القرن الثاني وعلى لسان ( ترتوليان ) ، فالمسيح ( عليه السلام ) والرسل والتلاميذ لم يشيروا إلى هذه العقيدة ، وقول المسيحيين بأن المسيح ( عليه السلام ) وبعض الرسل ، ولا سيما بولس ، كانوا قد هيأوا العناصر الأساسية للعقيدة ، وأن العلماء وآباء الكنيسة لم يقوموا بشئ سوى أنهم أطلقوا اسم الأقنوم على الأشخاص الثلاثة وأظهروا هذه العقيدة بوضوح ، هو الآخر مجرد ادعاء ، إذ أنه إلى القرن الرابع الميلادي لم تكن هذه العقيدة محط نظر المسيحيين ومورد اعتمادهم ، ومن الأصول المهمة في العقيدة

١١٢

المسيحية.

وكما أوردنا فإن المؤسس العلني لها وبشكلها الموجود الآن هو ( أثناسيوس ) ، ولم تقبلها الكنيسة إلا بعد مناقشات وجدال طويل في مجمع نيقية سنة ٣٢٥ ميلادي ، وأعدتها في هذا القالب الذي بين أيدينا الآن ، فهي نتيجة الخيال البشري ، ولهذا فأنا نجد فيها التناقض الكثير ( حتى أنه قيل أن ( أثناسيوس ) وهو الأب الذي صاغ هذه العقيدة قد أعترف بأنه كلما كتب أكثر حول هذه المسألة أصبح أقل قدرة على التعبير بوضوح عن أفكاره بخصوصها ) (١).

فالقول بأن هذه العقيدة يجب أن تقبل لأن الوحي قد جاء بها أمر غير صحيح أطلاقا والدليل على ذلك أن علماء المسيحية أنفسهم كانوا مختلفين فيها ، والباحث في المذاهب المسيحية في القرنين الأول والثاني ، يجد كثرة الآراء المتضاربة حول شخصية المسيح ( عليه السلام ).

بل وحتى بعد قبول هذه العقيدة رسميا ، ومعاقبة كل مخالف لها ، وبالرغم من عمليات تفتيش العقائد ، والقتل والسجن التي مارستها الكنيسة ، والتي يذكرها التاريخ ، فإن صيحات المعارضة لها كانت تعلو بين الحين والآخر ، معلنة بأن هذه العقيدة غير مقبولة عقلا ، وأن المسيح ( عليه السلام ) لم ينطق بها.

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٨.

١١٣

ثالثا : لو رجعنا إلى كتب العهد القديم لنرى من هو الإله ( الله ) وما هي صفاته التي تنعته بها ، لوجدنا أن ما يقوله المسيحيون مخالف للعهد القديم الذي يعتبرونه كلام الله الموحى ، وحتى لو قلنا بأن الله سبحانه لم يعرف نفسه في العهد القديم بشكل تام ، بل تم ذلك في العهد الجديد بالمسيح ( عليه السلام ) ، لا يمكننا القول بأن العهد الجديد يناقض ما جاء به العهد القديم ، فهو متمم له حسب ادعاء المسيحيين.

فالله في العهد القديم هو ( الموجود الذي ليس له بداية ولا صيرورة فهو الأول والآخر ) ( أشعيا : ٤١ : ٤ ، .. ) وهو ( الخالق المدبر ، فالعالم كله من صنعه وخلقه جل وعلا ، وتحت أمرته وتدبيره ، وهو الحي الذي لا يموت أبدا فهو يختلف عن الإنسان ( لأني أنا الله لا إنسان ) ( هو شع ١١ : ٩ ) ، وأيضا فهو سبحانه لا شبيه له ، فهو يحرم كل تصوير له ، وكل صورة يجعلها الإنسان له فهي وثن ، فليس من شئ يشابهه ( أشعيا : ٣١ : ٣ ) (١).

وغيرها من الأوصاف الكثيرة التي يذكرها العهد القديم لله سبحانه وتعالى ، والتي تخالف ما يدعيه المسيحيون في عقيدة الثالوث ، فإذا ما قايسنا بين هذه الأوصاف والنعوت وبين ما يعتقده المسيحيون من أن الله سبحانه وتعالى قد تجسد في صورة إنسان ،

__________________

(١) راجع معجم اللاهوت الكتابي : ص ٩.

١١٤

وصار انسانا ، يجد التناقض الواضح بين العهد القديم والاعتقاد المسيحي ، فالخالق والصانع لكل العالم ، صار مخلوقا ، والحي الذي لا يموت ، صلب ومات ، والأزلي الذي لا بداية له ولا صيرورة ، ولد من أحشاء امرأة ، والذي ليس كالانسان أصبح انسانا يأكل ويشرب وينام ويحزن ويفرح ، والغني المطلق يحتاج إلى غيره لإدامة حياته ، والعشرات من التناقضات الأخرى ، والتي يرفضها العقل والوجدان ، وتنتقص من قدسية الخالق المتعال الذي ليس كمثله شئ.

رابعا : إذا سلمنا للمسيحيين وقلنا بأن الله ( سبحانه ) له أقانيم ثلاثة ، نتساءل : هل هذه الأقانيم متساوية أم لا؟ والجواب يكون كما يذكره المسيحيون ، نعم كلها متساوية في الجوهر والقدرة والمجد ...

ولكننا نرى أيضا أن العهد الجديد يؤكد أن المسيح ( عليه السلام ) ( الأقنوم الثاني ) يبقى خاضعا للأب بشهادة المسيح ( عليه السلام ) أنظر ( متي : ١١ : ٢٧ ) وهو لا يعلم الساعة ( القيامة ) بل الأب وحده يعلمها ( ٢٤ : ٣٧ ) ، والأب هو مصدر كل الأشياء وغايتها ( اكو ٨ : ٦ ) والابن لا يعمل إلا تبعا للأب ( يو ٥ : ١٩ ) والأب أعظم من الابن ( يو : ١٤ : ٢٨ ) وغيرها ...

فهذا يؤكد أن الأقانيم الثلاثة غير متساوية أطلاقا ، فالأب هو الأصل والمصدر الوحيد للقدرة ، والابن ليس له القدرة والقابلية على القيام بشئ دون إذن الأب ، فالأب لا يحتاج إلى الابن ولا إلى غيره

١١٥

في شئ ، إذن نستطيع أن نقول أن الأب مستغن عن الابن دون العكس.

و هذا هو الذي يقبله العقل ويؤيده العهد الجديد ، وعلى هذا فإن الله سبحانه هو الأب وحده فهو لا يحتاج إلى شئ إطلاقا ، وأما الابن فهو مخلوق له وخاضع وتابع إليه ، لا يفعل إلا ما يأمره الأب به ، ومن يطالع العهد الجديد يلمس هذه المسألة بوضوح ..

فكيف يصح أن نقول أن الابن ( الأقنوم الثاني ) هو مساو للأب في الجوهر والألوهية والقدرة والمجد ، وهو في نفس الوقت خاضع إليه في كل شئ ، فأين ألوهيته؟؟؟

خامسا : أن العهد الجديد كثيرا ما يذكر الله سبحانه بأنه أب لجميع المؤمنين والصالحين والأبرار ، فهذا المسيح ( عليه السلام ) يقول ( أبيكم الذي في السموات ) ( متي : ٦ : ٢ : ) ، وفي صلاتنا اليومية كنا نقول كما علمنا المسيح ( عليه السلام ) أن نصلي أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك ( متي : ٦ : ٩ ) وكذلك أيضا ( متي : ٦ : ١٤٩ ) ( فإن غفرتم للناس يغفر لكم أبوكم السماوي ) وغيرها الكثير.

وأيضا يعترف العهد الجديد بأن المؤمنين هم أبناء الله ، أنظر ( متي : ٥ : ٩ ) ( طوبى لصانعي السلام ، لأنهم أبناء الله يدعون ) وكذلك ( لو : ٢٠ : ٣٦ ) ( لأنهم مثل الملائكة ، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة ) وغيرها. فلماذا يدعي المسيحيون بأن هذه الأسماء كلها تحمل على المعنى المجازي لها ، ولكن حين يقول المسيح ( عليه السلام ) ( أبي )

١١٦

إشارة إلى الله سبحانه ، فإنه يستعمله في المعنى الحقيقي ، ويجيبون على ذلك بقولهم : ( أن المسيح ( عليه السلام ) أجرى الكثير من المعجزات كإحياء الموتى ، وإشفاء المرضى وغيرها ) ، فإذا قلنا بأن الأنبياء أيضا جرت على أيديهم المعاجز مثل إيليا وأليشع وموسى وغيرهم ، قالوا ( نعم ، ولكن الطريقة التي كان يجري بها المعاجز تميزه عن باقي الأنبياء صانعي العجائب ، فالآخرون كانوا يصنعون المعجزات بقدرة الله وسلطانه ، في حين أن المسيح ( عليه السلام ) كان يجريها بسلطته الخاصة ، وذلك بإشارة واحدة ، أو حركة ، وغالبا بلكمة كان مفعولها يتم حالا ولهذا فإنه كان يظهر ألوهيته من خلال هذه المعاجز (١) ...

ولكن هذا الكلام مخالف للعهد الجديد ولتعاليم المسيح ( عليه السلام ) الذي يعترف مرارا بأنه لا يفعل هذه المعاجز باستقلاليته وقوته الخاصة بل بمشية أبيه وربه حيث يقول أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا ، كما أسمع أدين ودينونتي عادلة ، لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الأب الذي أرسلني ( يو : ٥ : ٣٠ ) وكذلك هذا ما يذكره لوقا في إنجيله أنظر ( لو : ١١ : ٢٠ ) أن كنت بأصبع الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله فالاصبع إشارة إلى القدرة الإلهية كما هو واضح.

__________________

(١) المسيح في الفكر الاسلامي : ٢٣٦.

١١٧

والإشارة الأكثر وضوحا نجدها في ( أعمال الرسل ) وعلى لسان وصيه ( بطرس ) حيث يقول : أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال ، يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله ، بقوات وعجائب وآيات ، صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضا تعلمون ( أعمال الرسل : ٢ : ٢٢ ). وغيرها ، فهل يبقى مجال لمدعي أن يقول أن المسيح ( عليه السلام ) كان يجري المعجزات باستقلالية وبسلطته الخاصة؟! فلا معنى لفهم كلمة ( أب ) و ( وابن الله ) بالمعنى الحقيقي لشخص عيسى ( عليه السلام ).

سادسا : مما تبين سابقا فإن هذه الأقانيم الثلاثة لم تذكر مجتمعة إلا في موضع واحد ، وهو في آخر إنجيل متي ، فهو بعد ما يتحدث عن قيامة المسيح ( عليه السلام ) من بين الأموات ، يذكر أنه ( عليه السلام ) ظهر لتلاميذه ، وقال لهم فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم ( باسم الأب والابن والروح القدس ) ( متي : ٢٨ : ١٩ ) ، ويورد على هذا النص ما يلي :

أ ـ هذا النقل مخالف لنقل آخر عن نفس القصة حسب إنجيل مرقس ولوقا ، فمرقس يذكر ( مر : ١٦ : ١٤ ) ( أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم ، لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. وأما لوقا فإنه ينقل الحديث بشكل آخر مختلف فهو يذكر وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من

١١٨

الأموات في اليوم الثالث ، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم. ( لو : ٢٤ : ٤٧ ) ..

فهذه الكلمات التي ذكرها متي إضافية ، ولعلها أضيفت إلى إنجيل متي بعد كتابته بقرون عديدة ، فالإنجيل الذي بين أيدينا هو نسخ عن نسخ ووقوع الزيادة والنقصان غير بعيد ...

ب ـ أن المعمدانية في أيام الكنيسة الأولى كانت تعطى فقط باسم عيسى كما يذكر بولس في رسائله. وبالروح القدس أن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس ( أعمال الرسل : ١١ : ١٧ ).

ج‍ ـ مع تسليمنا بصحة هذا القول فهو يذكر الأقانيم الثلاثة ، دون الإشارة إلى أنها أجزاء كائن إلهي واحد (١).

سابعا : تبقى المسألة المهمة وهي أن المسيح ( عليه السلام ) ومن خلال ما يذكره العهد الجديد ، كان كثير العبادة ، إذ أنه صام أربعين يوما قبل أن يجريه الشيطان اللعين ، وكذلك صلاته الشديدة ، وخلوته للعبادة ، كلها تشير إلى معنى كونه عبدا يؤدي واجبات العبودية لمعبوده وخالقه ، فهل يعقل أن يكون الله سبحانه يسجد ويصلي ويصوم لنفسه فأي عقل يقبل مثل هذه الأفكار!!

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ص ٣٤.

١١٩

وغيرها الكثير من الإشكالات التي كلها تقضي ببطلان هذه العقيدة المتناقضة. فالمسيح ( عليه السلام ) لم يكررها قط ، بل كان يؤكد ( عليه السلام ) أنه ابن الإنسان ، وأنه نبي أما يسوع فقال لهم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه ( متي : ١٣ : ٥٧ ) ، ويؤكد بأنه ليس صالحا إلا الله وحده لماذا تدعونني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله ( متي : ١٩ : ١٧ ) ، فهو ينفي عنه كل ألوهية ، وهو ( عليه السلام ) كان يوصي الذين يشفيهم أن لا يظهروا ذلك وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعا وأوصاهم أن لا يظهروه ( متي : ١٢ : ١٦ ) وغيرها ، إذ كان يخشى أن ينسب الناس إليه شيئا من الألوهية ولذا كان يأمر بإخفاء هذه المعاجز ، وكان يحذر الناس ويقول طوبى للذي لا يعثر في ( متي : ١١ : ٦ ) وذلك بأن ينسب إليه بأنه إله ، أو ابن الله حقيقة ..

فلا يبقى إلا أن نقول بأن هذه العقيدة لم تظهر في زمن المسيح ( عليه السلام ) وهي ليس من تعاليمه ، بل مخالفة لها ، فلا يصح نسبتها إلى الوحي الإلهي.

١٢٠