هبة السماء

علي الشيخ

هبة السماء

المؤلف:

علي الشيخ


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-22-6
الصفحات: ٢٣٠

نبذة عن الإسلام

وسوف نتحدث في هذا الفصل عن أبعاد شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيرته ، وكذلك عن معجزته الخالدة القرآن الكريم وما يقوله عن المسيح ( عليه السلام ) والمسيحية وعقائدها وموقفه منها ، ومن ثم نتطرق عن الشريعة الإسلامية بشكل مختصر.

إن من الحقائق الثابتة والتي يؤمن بها كل فرد مسيحي ، هي أن العهد الإلهي والنبوة قد ختما بيسوع المسيح ( عليه السلام ) ابن الله ، فهو المخلص والفادي للبشرية ، وهو الذي على يديه تمت المصالحة بين الناس وخالقه ، وقد ختمت النبوة به لأن العهد قد تم به ، فلا معنى لمجئ نبي بعده ، بل أن المسيح ( عليه السلام ) سيعود في آخر الزمان كما تذكر ذلك أسفار العهد الجديد ، وكذلك فإن المسيح ( عليه السلام ) كان يتنبأ بخروج من يدعون النبوة كذبا ، ويحذر منهم.

ولذا فإن الاعتقاد الذي كنت أحمله هو أن كل يدعي النبوة

١٤١

فهو كاذب ، وهو ما تعلمته من الكنيسة منذ الطفولة ، وأما ما يتعلق بشخص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكنت منذ الصغر أسمع ما يصفه به الكبار من أوصاف خلال جلساتهم وأحاديثهم ، فكانوا يعتبرونه رجلا خشنا ظهر من شبه الجزيرة العربية ، ونشر دعوته بالقوة وشن الحروب وسفك الدماء فقد كان يدعو إلى الحرب والقتال لا إلى السلام والمحبة كالمسيح ( عليه السلام ) ، والكثير من الأوصاف التي لا أجرؤ على ذكرها ، وكذلك القرآن الكريم ، فإن والدي ـ كما ذكرت أول البحث ـ كان يقول أنه من كتابة وتأليف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه وليس كتابا مقدسا كالإنجيل.

وأما تعاليمه وشريعته ، فهي كما يعتقد المسيحيون مجرد أعمال وأفعال بدنية متعبة ومرهقة لا معنى لها ولا نفع فيها ، وأعتقد أن هذه الأفكار يحملها أكثر المسيحيين ، أن لم نقل جميعهم ، ولكن ومن خلال البحث والمطالعة ، اكتشفت الخطأ الجسيم والصورة الزائفة التي كنت أرسمها في ذهني عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقرآن والشريعة الإسلامية ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن خلال ما ينقله التاريخ والمؤرخون كان من أشرف الناس نسبا ، وأحسنهم أدبا وخلقا ، وأعظمهم شأنا ، وأوسعهم رحمة ولطفا ، وأصبرهم على المصائب والمحن ، والقرآن الكريم أيضا اتضح أنه في الواقع الكتاب الإلهي الوحيد من الكتب السماوية التي لم تصل يد التحريف إليه ، وفيه من التعاليم والإرشادات والمعارف الراقية ما يبهر العقول

١٤٢

والقلوب ، فالنفس الإلهي فهي واضح وجلي بل وأوضح من الشمس في رابعة النهار ، ففيه نور وهدى وشفاء للنفوس والقلوب من الظلمات والجهل ...

وأما الشريعة الإسلامية وتعاليم الرسالة المحمدية ، فهي تضمن للانسان سعادة الدارين الدنيا والآخرة ، وهي تبتني على الرحمة والمحبة والأخلاق الكريمة والصدق والأمانة ، ففيها دستور للحياة الفردية الاجتماعية. بل أن الهدف من بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الرحمة كما يذكر القرآن ذلك : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وشريعته هي لإيصال الإنسان إلى مكارم الأخلاق وكمالها كما ينقل عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فالاسلام دين المحبة والألفة والرأفة والتي تجسدت في شخصية النبي المقدسة كما سنبين ذلك أن شاء الله ...

وكما أكدت سابقا فإن الجهل والتعصب والغفلة كل ذلك يكون حاجبا لرؤية الحق ومعرفته ، وتأكد لي بأن كل إنسان منصف وعاقل وباحث عن الحقيقة ، إذا ترفع قليلا عن تعصبه وجهله ، ووضع النظارة السوداء هذه جانبا ، سيرى الحق واضحا كالنهار ، لا شك ولا ريب فيه ..

أنها أمنية ، ولكن تبقى الهداية إلى الحق بيد الله اللطيف الخبير كما يقول عز من قائل : ( أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ... ).

١٤٣
١٤٤

حياة النبي محمد (ص)

أن نسبه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعود إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى النبي إسماعيل ( عليه السلام ) عبر عدد من الآباء والأجداد ، ومن ثم يصل إلى إبراهيم ( عليه السلام ).

فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قبيلة قريش ومن عشيرة بني هاشم ونسب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأجداده هو كالتالي : محمد بن عبد الله وبن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن حزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (١) .. وقد أختلف المؤرخون في آباء وأجداد عدنان إلى إسماعيل ( عليه السلام ) فالبعض ذكر ثلاثة من آبائه حتى إسماعيل والبعض الآخر أكثر من ذلك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٥٦٥.

١٤٥

وخلاصة قصة ذرية إسماعيل ( عليه السلام ) هي : أن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) أمر أن يسكن ولده الرضيع ( إسماعيل ) مع زوجته ( هاجر ) أم إسماعيل في أرض مكة ، فخرج بهما إبراهيم ( عليه السلام ) من فلسطين ، وهبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي من الماء والعشب ( مكة ) ثم أن يد العناية الإلهية امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة ، وجادت عليها بعين زمزم التي جلبت الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة.

ثم تزوج إسماعيل ( عليه السلام ) من قبيلة جرهم التي سكنت بالقرب من مكة ، وأصاب من هذا الزواج عددا كبيرا من الأبناء والأحفاد ، وأحفاد الأحفاد ، وكان من جملتهم ( عدنان ) ثم تشعبت ذرية إسماعيل عشائر وقبائل عديدة ، كان من بينها قبيلة قريش التي حظيت بشهرة كبيرة ، ومنها عشيرة بني هاشم التي انحدر منها الرسول الأعظم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (١).

ولادته

كانت ولادته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الجزيرة العربية بالحجاز في ( مكة المكرمة ) ، وكما يذكر أكثر المؤرخين فإنها كانت في السابع عشر من ربيع الأول لعام الفيل ( الواقعة المشهورة ) أو ما

__________________

(١) سيد المرسلين ١ / ٣٧.

١٤٦

يقارب سنة ( ٥٧٠ م ) (١).

وولد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يتيم الأب إذ أن أباه توفي قبل ولادته ، أو بعدها بشهرين ، وقد ذكر المؤرخون في الكتب التاريخية وقوع حوادث عجيبة عند ولادة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منها : ارتجاس إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة منه ، وانخماد نار فارس التي كانت تعبد ، وجفاف بحيرة ساوة ، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها ، وخرج نور معه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين ولادته ، وغيرها من الحوادث العجيبة المذكورة في كتب التاريخ (٢).

وأما تسميته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن له أسماء كثيرة أشهرها اسمان أحدهما ( أحمد ) إذ سمته أمه بذلك كما أمرت في المنام ، وسماه جده عبد المطلب في اليوم السابع ( عندما عق عنه بكبش واحتفل بميلاده ) ( محمد ) وعندما سئل عن سبب تسمية المولود بهذا الاسم أجاب أردت أن يحمده الله في السماء وتحمده الناس في الأرض (٣) وقد اشتهر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذين الاسمين منذ صغره ونرى ذلك واضحا في أشعار عمه أبي طالب.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٥ / ٢٤٨.

(٢) سيد المرسلين ١ / ٢٠٢ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥ ، السيرة الحلبية ١ / ٦٧ ، وغيرها.

(٣) السيرة الحلبية ١ / ٧٨.

١٤٧

رضاعه

كان المشهور من عادة العرب أن يدفعوا أولادهم الرضع إلى النساء اللاتي يعشن في البادية ، لينشأ الطفل في تلك البيئة ( المعروفة بحسن مناخها وعذوبة مائها ، وفصاحتها ) وهو ذو بنية قوية ، فصيح اللسان ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يرضع من أمه إلا ثلاثة أيام ، ثم نالت شرف إرضاعه امرأتان :

أولا : ثويبة : مولاة ( أبي لهب ) فقد أرضعته لفترة أربعة أشهر فقط ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقدر عملها هذا حتى آخر لحظات حياتها ، فكان يكرمها كثيرا لعملها هذا.

ثانيا : حليمة السعدية التي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن ، وكانت مراضع بني سعد مشهورات بهذا الأمر بين العرب ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد إلى مكة ، وكانت هذه القبيلة تسكن أطراف مكة ، وكانت نساء هذه القبيلة يأتين كل عام في موسم خاص يلتمسن الرضعاء ويذهبن بهن إلى البادية ، وقد دفع جد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( عبد المطلب ) حفيده إلى حليمة السعدية ، وبقي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بني سعد خمس سنوات وفي بعض الكتب أربع سنوات ، ثم أرجعته إلى أمه آمنة بنت وهب ، ويذكر

١٤٨

المؤرخون بعض المعاجز للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الفترة أيضا (١).

وتذكر حليمة أن الخير والبركة حلا بحلول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في دارها ، وكان يشب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا كما يشب الأطفال حيث تقول إنه حين بلغ تسعة أشهر كان يتكلم بالكلام الفصيح ، وقد نقل عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد بعثته أنه كان يقول لأصحابه أنا أعربكم أي أفصحكم عربية ، أنا قرشي واسترضعت في بني سعد (٢).

طفولته

بعد فترة من رجوعه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من البادية إلى أحضان والدته آمنة بنت وهب ، أخذته أمه لزيارة قبر والده ( عبد الله ) الذي توفي في يثرب على أثر مرض ألم به ، ولم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد رآه قط ، وهي الزيارة الأولى التي قام بها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى قبر والده ، وعند العودة من هذا السفر ، شاءت الأقدار الإلهية أن يفقد هذا اليتيم أمه أيضا ، قبل وصوله إلى مكة ، في منطقة يقال لها الأبواء وله من العمر ست سنين ،

__________________

(١) راجع السيرة الحلبية ١ / ٩٠ ، سيرة المصطفى ( هاشم معروف الحسني ) : ص ٤٣ ، وغيرها.

(٢) السيرة الحلبية ١ / ٨٩.

١٤٩

وقيل أكثر من ذلك قليلا (١).

فذاق هذا الطفل الحرمان منذ طفولته ، و قد تكفل به جده عبد المطلب سيد قريش ، وكان يحبه كثيرا ، وشديد الرعاية له ، فإنه كان يفضله على جميع ولده ، وكانت ملامح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والبركات والمعجزات التي رافقته منذ ولادته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تدفع جده إلى التنبؤ بمستقبل عظيم لهذا اليتيم ، حيث ينقل المؤرخون عنه أنه كان يقول :

أن لابني هذا شأنا ، ولكن طواغيت وجبابرة مكة لم تكن تعلم يومئذ ما تخبئه الأيام القادمة من أمر يتيم عبد المطلب هذا ...

ولم يدم هذا الحنان والعطف الذي أحاطه به جده ( عبد المطلب ) كثيرا ، إذ أن الموت ، سنة الله في خلقه ، نزل به ولم يكمل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الثامنة من عمره ، واعتصر قلب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألما وحزنا على فراق جده العطوف ، الذي كان بلسما لجراحات يتمه ، وأوصى به جده حين وفاته ابنه ( أبا طالب ) عم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي كان أخا لعبد الله والد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أم واحدة ، فتكفله أبو طالب ، وشمله برعايته وعطفه ، فكان خير كفيل له في صغره ، وخير ناصر ومعين عندما أحتاج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

__________________

(١) سيد المرسلين : ص ٢٢٧.

١٥٠

إلى الأنصار لنشر دعوته ، وكان أبو طالب معروفا بين أهل مكة بجوده وكرمه ، فهو سيد بني هاشم ، ومع أنه كان فقيرا فقد خضع له القريب والبعيد.

وقد جاء عن وصي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أنه قال : إن أبي ساد الناس فقيرا ، وما ساد فقير قبله (١) ، وكانت زوجة أبي طالب أيضا تشمله برعايتها الخاصة ، وتحرص عليه أكثر من أولادها ، ويمكن القول بأن أبا طالب وزوجته فاطمة بنت أسد استطاعا أن ينسيا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرارة اليتم ، بالرعاية التي أحاطاه بها ، وتنقل كتب التاريخ أن فاطمة بنت أسد كانت في سني الجدب والقحط التي مات الناس فيها جوعا تحرم أولادها القوت وتطعمه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

ولما بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الثانية عشرة من عمره الشريف ، اصطحبه معه أبو طالب في سفره التجاري إلى الشام ، ولما وصل إلى منطقة تدعى بصرى ، وقعت حادثة أدت إلى أن يرجع أبو طالب إلى مكة مع ابن أخيه قبل أن يصلا إلى الشام ، وتلك الحادثة تنقلها كتب التاريخ بتفصيل ، ونحن ننقلها هنا باختصار :

لما نزل الركب ( بصرى ) من أرض الشام ، وبها راهب يقال له

__________________

(١) سيرة المصطفى ٤٩.

١٥١

بحيرا في صومعة له ، وكان ذا علم من أهل النصرانية ، وينقل أنه كان قد انتهى علم الكتاب إليه ، إذ توارثه كابر عن كابر ، عن أوصياء عيسى ( عليه السلام ) فلما نزلوا ، وكانت القوافل التجارية لقريش كثيرا ما تمر من هذا المكان فلا يكلمهم الراهب بشئ ، ولكنه في هذه المرة ، عندما رأى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليه غمامة تظله من بين القوم ، صنع لهم طعاما ودعاهم إليه ، فقال رجل منهم للراهب أن اليوم لك شأنا ، ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا ، فقال الراهب : صدقت ولكنكم ضيف وأحببت أن أكرمكم ، ولما جاءوا إلى الصومعة ، جعل بحيرا الراهب يلحظ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها عنده من صفته ، فلما تفرقوا ، أنفرد الراهب بالنبي ( صلى الله عليه و آله وسلم ) وسأله عن أشياء في حاله ، في يقظته ونومه ، فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه ، فسأل الراهب عن وليه فقالوا هو أبو طالب ، فقال له بحيرا : إنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، نجده في كتبنا وما أخذناه عن آبائنا ، هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين احذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت يبغونه شرا فلما سمع أبو طالب كلام الراهب ، رجع به إلى مكة (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٥١٩ ، السيرة الحلبية ١ / ٢٣١ ، وغيرها من الكتب التاريخية.

١٥٢

شبابه

لقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما يتصف به من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ، قدوة بين قومه و عشيرته منذ شبابه ، ومثالا للنبل والشرف والشجاعة والصدق والأمانة ، فكانوا يلقبونه ( بالصادق الأمين ) ، فقد حضر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( في حلف الفضول ) (١) وهو لم يبلغ العشرين من عمره.

وينقل التاريخ أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أشتغل في فترة شبابه في رعي الغنم ، وقضى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شطرا من عمره في هذا المجال ، وبسبب الوضع المعيشي الصعب الذي كان يواجهه ، اقترح عليه عمه أبو طالب العمل في التجارة وكانت في مكة امرأة ذات مال كثير ، وذات شرف عظيم ، تستثمر أموالها في التجارة وهي خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) ، كانت تضارب الرجال بشئ تجعله لهم من أرباح التجارة ، وكانت تبحث عن رجل أمين لإدارة تجارتها ، وبما أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مشتهرا بين الناس بأمانته وصدقه كما ذكرنا ، لذا بعثت إليه خديجة

__________________

(١) وكان الهدف من هذا الحلف هو الدفاع عن حقوق المظلومين والوقوف بوجه العدوان وجاء عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد بعثته لقد حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ولو دعيت إلى مثله لأجبت.

١٥٣

وعرضت عليه العمل معها قائلة له أني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك ، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك وأبعث معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر ، فأخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه بذلك فقال له : أن هذا رزق ساقه الله إليك (١).

فقبل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك العرض ، وخرج بمال خديجة ذلك العام قاصدا الشام للتجارة ، ووصل إلى الشام وباع البضاعة ، وربح ربحا كبيرا ، كما أنه اشترى بضاعة لبيعها في مكة ، وأقبل راجعا إلى مكة ومعه الربح الكثير ، وأخبر أحد الغلامين واسمه ( ميسرة ) خديجة عند رجوعه إلى مكة ، بحال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعض الكرامات التي لمسها منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذلك عن أخلاقه وخصاله الكريمة ، وأبلغها بالربح الكبير الذي أصابهم من تجارتهم هذه فينقل عنه أنه قال لقد ربحنا في هذه الرحلة ما لم نربحه من أربعين سنة ببركة محمد (٢).

ففرحت خديجة ( رضي الله عنها ) عندما سمعت ذلك من الغلام ، وكانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفا ، وأكثرهن مالا ، وأحسنهن جمالا ، وأقواهن عقلا وفهما ، وكانت تدعى في الجاهلية

__________________

(١) سيد المرسلين ١ / ٢٥٤.

(٢) بحار الأنوار ١٦ / ٥.

١٥٤

بالطاهرة لشدة عفتها ، ولمكانتها الرفيعة كان أشراف قريش كلهم حريصين على الاقتران بها ( إذ أنها لم يكن لها زوج وقد بلغت الأربعين من عمرها كما تذكر كتب التاريخ ) وكانوا يقدمون لها العروض المغرية ، ولكنها كانت ترفضهم الواحد بعد الآخر ، ولكن بعد ما سمعت ورأت من صفات وأخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعثت إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالت له : يا بن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك ، وعرضت عليه الزواج منها ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمه أبا طالب وأخبره بأنه يريد الزواج من خديجة ، ففرح عمه بذلك ، فقصد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع نفر من أعمامه يتقدمهم أبو طالب طالبا خديجة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان والدها قد توفي ، فخطبها عمه أبو طالب من عمها ( عمر بن أسد ) وخطب أبو طالب خطبته وقال :

الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم ( عليه السلام ) وذرية إسماعيل ( عليه السلام ) وجعل لنا بيتا محجوبا ، وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه ، وأن ابن أخي محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يوازن برجل من قريش إلا رجح عليه ، ولا يقاس بأحد إلا كان أعظم منه ، وإن كان في المال قل ، فإن المال رزق حائل وظل زائل وله في خديجة رغبة ، ولها فيه رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي ، وله والله خطب عظيم

١٥٥

ونبأ شائع (١). فتزوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من خديجة وهو ابن الخامسة والعشرين من عمره الشريف ، وكانت خديجة خير سند ومعين للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل دعوته وبعدها ، فإنها قدمت كل ما تملك للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالت له بيتي بيتك وأنا جاريتك ، ويتضح من خلال سيرتها أنها كان قمة في الأخلاق والوفاء والتضحية ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يجل قدرها ، ويعظم منزلتها ، إذ أنه لم يتزوج عليها غيرها حتى رحلت إلى الرفيق الأعلى وفاء واحتراما لها ، والأحاديث في فضلها ومنزلتها التي تنقل عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيرة.

وقد أنجبت له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ستة أولاد : ولدان ، وأربع بنات وهم :

القاسم ( وقد كني به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) و عبد الله اللذان كان يدعيان أيضا ب‍ الطاهر والطيب وأربع بنات هن : رقية ، زينب ، أم كلثوم ، وفاطمة ( عليها السلام ) ، وأما الذكور من أولاده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام (٢).

ومما تذكره كتب التاريخ أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

__________________

(١) سيرة المصطفى : ص ٥٩.

(٢) سيد المرسلين ١ / ٢٧٨ ، وغيره من الكتب التاريخية.

١٥٦

لم يعبد صنما قط طوال حياته ، وأما سيرته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منذ زواجه من خديجة وحتى بعثته ، فالمشهور عنه أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يشتغل باللعب واللهو أبدا كما كان يفعل الرجال ، بل كان يعيش كالحكماء والأنبياء حتى قبل بعثته ، فبالرغم من الأموال الطائلة التي وضعتها خديجة تحت تصرفه ، كان يعيش الحياة البسيطة الخالية من كل ترف وبذخ ، وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقضي معظم أوقاته في التفكر والتأمل ، وكثيرا ما كان يلجأ إلى سفوح الجبال المغارات للخلوة مع ربه ، والاشتغال بعبادته جل وعلا ، وكان إذا تأخر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن خديجة علمت أنه يتعبد خارج مكة.

ومن الأحداث المشهورة في كتب التاريخ والتي تشير إلى حكمته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هي حادثة هدم الكعبة وبنائها من جديد ، فينقل المؤرخون أنه تم هدم الكعبة وبناؤها من جديد لأنها تصدعت من أثر السيل الذي أصابها ، ولما تكامل البناء إلى موضع الركن ، وقعت الخصومة بينهم فيمن يرفع الحجر الأسود ليضعه في مكانه ، وكاد أن ينشب القتال بينهم ، لأنهم يرون أن من يضع الحجر الأسود في مكانه يكون له الفضل والسيادة والفخر ، ثم تشاور شيوخهم واتفقوا أن يكون أول وافد عليهم هو الذي يضع الحجر الأسود مكانه ، وكان أول من وفد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما رأوه استبشروا بقدومه ، وقالوا لقد جاءكم الصادق الأمين ،

١٥٧

وأخبروه بما اتفقوا عليه ، فقال لهم هلموا إلي ثوبا كبيرا فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده ، ثم ألتفت إلى شيوخهم وقال لهم لتأخذ كل قبيلة بطرف منه ثم ارفعوه جميعا ، فانبهر الجميع لحكمته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهو بعمله هذا حفظ حقوق الجميع ، ولم يعط لأحد امتيازا على الآخرين.

بعثته

لقد كانت مسألة ظهور نبي في آخر الزمان من الأمور الرائجة في تلك المنطقة في ذلك الزمان ، وقد اتفق المؤرخون على أنه قبل بعثة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ظهرت بوادر التنكر للوثنية بين العرب في شبه الجزيرة العربية فكان هناك من يترقب ظهور نبي ينقلهم من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الإله الواحد ، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل ، ورقة بن نوفل ، عبيد الله بن جحش وآخرون غيرهم ، ينقل عن زيد بن عمرو بن نفيل وهو يوصي ابنه قائلا :

أنا ننتظر نبيا من ولد إسماعيل ولا أراني أدركه ، بين كتفيه خاتم النبوة ، اسمه أحمد ، يولد ويبعث في هذا البلد ( مكة ) فإياك أن تخدع عنه ، فأني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم ، فكل من اسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه

١٥٨

بمثل ما نعته لك ، ويقولون يبق نبي غيره (١).

وكما ذكرت فإن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان غالبا ما يلجأ إلى الجبال لفترة من أجل الخلوة والعبادة والتفكر ، وكان يقضي أكثر الأوقات في ( غار حرا ) (٢). فكان يقضي شهر رمضان كله من كل عام في غار حراء مكتفيا بالقليل من القوت تحمله إليه زوجته الوفية خديجة ، وفي غير شهر رمضان أيضا كان يقضي أوقاتا طويلة في هذا الغار مستغرقا ومنقطعا عن الدنيا ، ومهيئا نفسه لأمر عظيم ينتظره.

وفي ذلك الغار تجلى الكلام الإلهي على لسان الروح الأمين ( جبرئيل ) ، موحيا ببداية آخر الرسالات الإلهية وأعظمها ، وفيه اختار الله سبحانه عبده ورسوله ( محمدا ) ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليصدع بالدين الخاتم ، وفيه نزلت أول آيات القرآن الكريم الكتاب الإلهي كتاب الهداية والسعادة.

نعم في غار حراء كانت البداية ، فبعد أن قضى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فترة طويلة في العبادة والانقطاع إلى خالقه ، جاءه

__________________

(١) الفضائل الخمس من الصحاح الستة ج ١ / ص ٣١ ، سيرة المصطفى : ص ٩١.

(٢) يقع جبل حراء في شمال مكة المكرمة ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمن ، وهو من الأماكن المقدسة عند المسلمين يقصدونه للزيارة والتبرك.

١٥٩

رسول ربه ـ جبرئيل الأمين ـ يناديه بصوت لا ينفذ لغير قلبه قائلا اقرأ يا محمد فيصغي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويجيب ما أنا بقارئ حيث أنه كان لم يدرس عند أحد ، ويردد عليه جبرئيل القول ، ويكرر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أنا بقارئ وفي المرة الثالثة أمره أن أقرأ ، فوجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نفسه القدرة على القراءة بإذن الله ، فقرأ عليه الأمين جبرئيل ( عليه السلام ) والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقرأ معه أول آيات كتاب الهداية للبشرية : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (١). وسمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل ، وبعدها توجه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى بيت خديجة ، وحدثها بكل ما سمع ورأى من أمر جبرئيل ( عليه السلام ) ، فعظمت خديجة أمره وآمنت به .. وكانت بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في السابع من شهر رجب ، وقد بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الأربعين من عمره الشريف.

الدعوة إلى الإسلام

بدأ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعوته سرا ، فكان يدعو

__________________

(١) العلق : ١ ـ ٥.

١٦٠