هبة السماء

علي الشيخ

هبة السماء

المؤلف:

علي الشيخ


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-22-6
الصفحات: ٢٣٠

فجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهناك وضعت عيسى ( عليه السلام ) ويذكر القرآن أول معاجزه ( عليه السلام ) حيث كلم والدته في أول يوم ولادته حيث يذكر القرآن قصة الولادة بقوله تعالى : ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي وقري عينا فأما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا ) (١).

ثم يقص القرآن كيف أن مريم العذراء ( عليها السلام ) جاءت بالمسيح ( عليه السلام ) إلى قومها فلما رأوها والطفل معها ثاروا عليها بالطعن واللوم فسكتت وأشارت إليه ( عليه السلام ) أن كلموه فتعجبوا من ذلك إذ كيف يمكن التكلم مع طفل ما زال في المعد فنطق الطفل المعجزة بكلام رائع إذ يحكي القرآن هذا الموقف بقوله تعالى : ( فأتت به قومها تحمله قالوا ما مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا. فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام

__________________

(١) سورة مريم آية ٢٢ ـ ٢٦.

٢٠١

علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) (١).

ثم نشأ عيسى ( عليه السلام ) وشب وكان وأمه على العادة الجارية في الحياة الدنيوية الطبيعية للبشر ، يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر عمرهما. ثم أن عيسى ( عليه السلام ) أرسل إلى بني إسرائيل فقام يدعوهم إلى دين التوحيد ، وكان يدعوهم إلى الشريعة الجديدة المطابقة لشريعة موسى ( عليه السلام ) إلا أنه نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديدا على اليهود ، وقد جاء ببينات ومعاجز كثيرة يذكرها القرآن وذلك في قوله تعالى : ( ورسولا إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين. مصدقا لما بين يدي من التوراة ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون. إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) (٢) ثم إنه من خلال دعوته بشر بالنبي الخاتم الرسول الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ ينقل البشارة عن لسان عيسى ( عليه السلام ) بقوله تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم با

__________________

(١) سورة مريم آية ٢٧ ـ ٣٣.

(٢) سورة آل عمران آية ٤٩ ـ ٥١.

٢٠٢

بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) (١).

ولم يزل عيسى ( عليه السلام ) يدعوهم إلى التوحيد والشريعة الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما رآه من استكبار وعناد الكهنة والأحبار عن قبول الدين والرسالة التي جاء بها فانتخب من بين أتباعه الحواريين ليكونوا أنصارا له إلى الله سبحانه فيقول تعالى في القرآن الكريم : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) (٢).

وأيضا ينقل القرآن الكريم قصة نزول المائدة من السماء على عيسى ( عليه السلام ) وحوارييه الذين طلبوا منه هذه المعجزة لتطمئن قلوبهم قال تعالى : ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية

__________________

(١) سورة الصف آية ٦.

(٢) سورة الصف آية ١٤.

٢٠٣

منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) (١) ثم أن أحبار اليهود وعلمائهم ثاروا عليه يريدون قتله ، فتوفاه الله سبحانه ورفعه إليه ، وشبه لليهود أنهم قتلوه وصلبوه فيقول تعالى : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) (٢) فهذه مجمل ما قصه القرآن في المسيح ( عليه السلام ) وأمه القديسة مريم.

كيف وصف القرآن الكريم المسيح (ع) وأمه

إن القارئ للقرآن الكريم يجد أن هذا الكتاب الإلهي ذكر صفات للمسيح ( عليه السلام ) وأمه ، قل ما ذكرها لأحد الأنبياء والنساء ، فقد ذكر لهذا النبي المكرم خصال رفع بها قدره ، وكذلك الحال بالنسبة لأمه الطاهرة. وإني من هنا أدعو كل مسيحي محب للسيد المسيح ( عليه السلام ) وأمه العذراء بمطالعة هذا السفر الإلهي المحمدي ومقارنته بما ذكره الإنجيل ( العهد الجديد ) من صفات وأفعال لهذا النبي العظيم ، ليرى الفارق الكبير بين الكتابين وأيهما قد

__________________

(١) سورة المائدة آية ١١٢ ـ ١١٤.

(٢) سورة النساء آية ١٥٧ ـ ١٥٨.

٢٠٤

أماطا اللثام عن شخصية عيسى الحقيقية وأمه ، القرآن أم الإنجيل؟

وأنا هنا أكتفي بذكر بعض هذه الصفات لهذا النبي وأمه في القرآن ، وأشير أيضا إلى بعض ما ذكرته الأناجيل من أوصافه ( عليه السلام ) وأترك الحكم للقارئ العزيز.

ولنبدأ أولا بذكر ما ورد في القرآن عن الصديقة مريم العذراء ، ونستطيع القول بأنها المرأة الوحيدة التي قص القرآن قصتها بالتفصيل فينقل القرآن عنها : ـ ـ إن الله قد اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين كما في قوله تعالى : ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) (١).

ـ كانت ( عليها السلام ) مقبولة عند الله وقد تكفل الله سبحانه تربيتها وإنباتها كما في قوله تعالى ( عليهم السلام ) ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ... ) (٢).

كانت محدثة حدثتها الملائكة ( وهي الوحيدة من النساء اللاتي ذكر القرآن أن الملائكة قد حدثتها ) كما في قوله تعالى ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ... ) (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٤٢.

(٢) سورة آل عمران آية ٣٧.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٥.

٢٠٥

ـ كانت من آيات الله للعالمين كما في قوله تعالى : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) (١).

وغيرها من الأوصاف الأخرى التي ذكرها القرآن الكريم لهذه الصديقة الطاهرة.

وأما ما جاء في القرآن الكريم عن السيد المسيح ( عليه السلام ) فيمكن القول بأنها من المقامات الرفيعة التي خص بها هذا النبي المقرب ونلخصها بما يلي :

ـ كان ( عليه السلام ) عبدا لله وكان نبيا كما في قوله تعالى : ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) (٢).

ـ وكان رسولا إلى بني إسرائيل كما في قوله تعالى ( ورسولا إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بأذن الله ... ) (٣).

ـ وكان واحدا من الخمسة أولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل كما في قوله تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى

__________________

(١) سورة الأنبياء آية ٩١.

(٢) سورة مريم آية ٣٠.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٩.

٢٠٦

وعيسى ... ) (١) وأيضا في قوله تعالى ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ... ) (٢).

ـ وكان ( عليه السلام ) قد سماه الله سبحانه بالمسيح عيسى وكان وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين كما في قوله تعالى : ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) (٣).

ـ وكان ( عليه السلام ) كلمة لله وروحا منه كما في قوله تعالى : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ... ) (٤).

ـ وكان من الصالحين والمجتبين كما في قوله تعالى : ( وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ) (٥).

ـ وكان ( عليه السلام ) مباركا أينما كان وكان زكيا بارا بوالدته كما في قوله تعالى ( وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة

__________________

(١) سورة الشورى آية ١٣.

(٢) سورة المائدة آية ٤٦.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٥.

(٤) سورة النساء آية ١٧١.

(٥) سورة الأنعام آية ٨٥ ـ ٨٧.

٢٠٧

والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ) (١).

ـ وكان ( عليه السلام ) مسلما على نفسه كما في قوله تعالى : ( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) (٢).

ـ وكان ( عليه السلام ) ممن علمه الله الكتاب والحكمة كما في قوله تعالى : ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ) (٣).

ـ وكان مبشرا برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما في قوله تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ... ) (٤) ، وأوصاف وخصال أخرى كثيرة نكتفي بما ذكرناه.

ولكن أود الإشارة هنا إلى المحاورة التي ينقلها الله سبحانه بينه وبين نبيه عيسى ابن مريم ، لنرى الأدب الرائع والعبودية التامة لهذا النبي أمام رب العزة ، وكيف ينفي ما نسب إليه من ألوهية وأنه برئ من هذه العقائد الباطلة ، فيقول سبحانه وتعالى :

( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته

__________________

(١) سورة مريم آية ٣١ ـ ٣٢.

(٢) سورة مريم آية ٣٣.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٨.

(٤) سورة الصف آية ٦.

٢٠٨

فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم * قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) (١).

فالمسيح ( عليه السلام ) ينفي بشدة ما ينسبه المسيحيون إليه من مقام الألوهية.

يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره القيم ( الميزان ) عن هذه المحاورة وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها ، ويتضمن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عما كان يراه عيسى المسيح ( عليه السلام ) من موقفه تلقاء ربوبية ربه ، وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبدا لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر ، ولم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلا ما أمر به ربه : أن اعبدوا الله ربي وربكم.

ولم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب ،

__________________

(١) سورة المائدة آية ١١٦ ـ ١١٩.

٢٠٩

وأما ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك : غفر أو عذب (١).

والمسيح ( عليه السلام ) بهذا البيان أيضا ينفي كونه فاديا ومتحملا للخطيئة عوضا عن الناس كما يزعم المسيحيون.

هذا باختصار ما أورده القرآن حول شخصية هذا العبد الصالح والرسول المبارك عيسى ابن مريم وأمه العذراء.

ولنطالع الإنجيل ( العهد الجديد ) ونرى بماذا وصف هذا النبي من أوصاف يأباها العقل والذوق السليم وسنكتفي اختصارا بذكر بعضها ومن شاء المزيد فليراجع العهد الجديد ويرى العجب.

ـ المسيح (ع) صانع الخمر ( الجيدة )

من المؤسف حقا أن ينسب هكذا فعل إلى النبي المكرم المسيح ( عليه السلام ) والأعجب أن يكون بأمر من أمه الصديقة مريم ( عليه السلام ) ، فنحن نعلم أن الخمر قد حرم في الشريعة الموسوية ولا سيما المسكر منه ، ولكن نجد في العهد الجديد أن المسيح ( عليه السلام ) لم يكتفي بأنه لم يحرمه بل هو الذي يصنع الخمر ( الجيدة ) المسكرة ليذهب بعقول الناس ، وأنا أذكر أنه عندما كنت مسيحيا وللاعتقاد الراسخ في نفوسنا بحرمة الخمر كنت أسأل

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ج٣ ص ٢٨٢.

٢١٠

والدي عن أسباب حرمة الخمر فكان يحدثني عن مضرات الخمر ، وكلما كانت تذكر هذه ( المعجزة ) كان بعض المتدينين يحاولون تفسير هذه المعجزة بشكل أو بآخر ، ويجيبون بأن هذه الخمر الذي صنعها المسيح ( عليه السلام ) لم تكن مسكرة ، ولكن الإنجيل يرى خلاف ذلك ، وهذه المعجزة لم تذكر إلا في إنجيل يوحنا في الأصحاح الثاني فيذكرها أول معجزة صدرت من النبي عيسى المسيح ( عليه السلام ) فيقول :

وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ، ودعي أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس ، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر ، قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة ، لم تأت ساعتي بعد ، قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه ، وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل

واحد مطرين أو ثلاثة ، قال لهم يسوع املأوا الأجران ماء ، فملأوها إلى فوق ، ثم قال لهم استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ فقدموا ، فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا ولم يكن يعلم من أين هي لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا ، دعا رئيس المتكأ العريس وقال له :

كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولا ومتى سكروا فحينئذ الدون ، أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن ، هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده. أنظر ( يوحنا ٢ : ١٢ ) ،

٢١١

فالظاهر من حديث رئيس المتكأ أن الخمر التي صنعها المسيح ( عليه السلام ) كانت من الخمر الجيدة والتي تعطى عادة في الأعراس أولا حتى يسكر الناس فتذهب عقولهم ثم يأتون بالخمر الدون ( الرديئة ) بعد ذلك فلا يميز الناس بينها وبين الخمر الجيدة لسكرهم. فلا أدري هل جاء السيد المسيح ( عليه السلام ) لتنوير العقول وإرشادها إلى الحق ، أم لتخديرها وإتلافها؟!

ـ المسيح ( والعياذ بالله ) عاق لأمه

وأيضا تنسب الأناجيل إلى المسيح ( عليه السلام ) أنه ظاهرا لم يكن بارا بوالدته ، بل إنه كان ينهرها بشكل غير لائق ، فخلال قصة الخمر الآنفة الذكر مثلا تطلب منه أمه أن يصنع لهم خمرا ، ولكنه ينهرها بحدة كما تنقل القصة قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة بل إنه لا يعتبرها ضمن المؤمنين ويحط من منزلتها أمام تلاميذه ، كما ينقل لنا إنجيل متي ذلك في الأصحاح الثاني عشر : أنظر ١٢ ـ ٤٦ ـ ٥٠ وفيما هو يلكم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه ، قال له واحد ، هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك ، فأجاب وقال للقائل له : من هي أمي ومن هم أخوتي ، ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي ، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي. ولا أدري كيف يمكن توجيه هذا التعامل القاسي مع أمه الصديقة ، مع إننا نرى أنه ( عليه

٢١٢

السلام ) كان يوصي ويؤكد على إكرام الوالدين كما ينقل ذلك إنجيل متي نفسه : أنظر ١٥ ـ ٤ فإن الله أوصى قائلا أكرم أباك وأمك ومن يشتم أبا أو أما فليمت موتا.

ـ المسيح (ع) ( والعياذ بالله ) صار ملعونا

واقعا أن الإنسان ليقف متحيرا من هذا القول في شخص هذا النبي المبارك ، فبولس يصف المسيح ( عليه السلام ) بأنه ملعون ( والعياذ بالله ) فهو يذكر في رسالته إلى أهل غلاطية يقول : المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة ( غلاطية : ٣ : ١٣ ) فهل يوصف باللعنة إلا الأثيم المرتكب للخطايا؟ وهل اللعنة غير الطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه؟

ـ المسيح (ع) تقبل قدميه ( الخاطئات )

وأيضا ينقل لنا العهد الجديد قصة تقبيل قدمي المسيح ( عليه السلام ) من قبل امرأة ( خاطئة ) والقصة كما ينقلها إنجيل لوقا هي أنظر لوقا : ٧ : ٣٦ وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة ، إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جائت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من وراءه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب ، فلما رأى الفريسي الذي دعاه

٢١٣

ذلك ، تلكم في نفسه قائلا لو كان هذا نبيا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي ، أنها خاطئة ... فقد أنكر الفريسي هذا الفعل من المسيح ( عليه السلام ) إذ كيف يقبل نبي أن تلامسه وتقبل قدميه امرأة أجنبية خاطئة. بل أن القصة كما يذكرها إنجيل يوحنا ، يعترض هناك يهوذا على فعل المسيح ( عليه السلام ) من جهة أن هذا الطيب الذي مسحت هذه المرأة قدمي المسيح ( عليه السلام ) به كان يقدر قيمته بثلاثمائة دينارا فلماذا لم يبع ويعط للفقراء الموجودين ، والقصة كما ينقلها يوحنا في إنجيله هي فأخذت مريم منا من طيب نار دين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها ، فامتلأ البيت من رائحة الطيب فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع أن يسلمه ، لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينارا ويعط للفقراء ... ، فقال يسوع أتركوها إنها ليوم تكفيني قد حفظته لأن الفقراء معكم في كل حين وأما أنا فلست معكم في كل حين ( أنظر : يوحنا : ١٢ : ٣ ـ ٨ ).

ـ المسيح (ع) مفرق للرحم والأقارب

أن الاعتقاد السائد عند المسيحيين أن يسوع المسيح ( عليه السلام ) هو الداعي إلى المحبة والسلام بين الناس جميعا ، ولكننا نجد خلاف هذا الاعتقاد في كتب العهد الجديد ، فهذا إنجيل متي ينقل عن المسيح ( عليه السلام ) قوله لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على

٢١٤

الأرض ، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا ، فأني جئت لا فرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته. ( أنظر متى : ١٠ : ٣٤ ـ ٣٦ ) بل لم يكتفي بذلك حتى أضرمها نارا كما ينقل لوقا في إنجيله ( أنظر لوقا : ١٢ : ٤٩ ـ ٥٣ ) جئت لألقي نارا على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض. كلا أقول لكم ، بل انقساما ... ولكن بالرغم من هذا فنحن نجد أن المسيحيين يصفون المسيح ( عليه السلام ) بأنه نبي الرأفة والمحبة والسلام ويعتقدون أن النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جاء بالقوة والسيف ، ويعتبرون الإسلام دين السيف!

ـ المسيح (ع) يجزع من الموت ويعاتب الله سبحانه

إذ تنقل كتب العهد الجديد أن المسيح ( عليه السلام ) وعند اقتراب ساعة ( موته ) قد جزع حتى الموت وتوسل بالله سبحانه أن تعبر عنه هذه الكأس ، ولما لم يستجب له الله سبحانه عاتبه وهو معلق على الخشبة لماذا تركه ، والقصة كما يذكرها إنجيل متى هي ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب ، فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت ، أمكثوا هنا واسهروا معي ، ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي قائلا يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس أنظر متى ٢٦ : ٣٧ ـ ٤٠ وفي تلك الليلة صلى ثلاث مرات قائلا ومكررا لذلك الكلام بعينه. وبعد أن ألقوا القبض عليه وصلبوه

٢١٥

وأرادوا قتله ، صرخ بصوت معاتبا ربه لماذا تركه ، كما ينقل لنا ذلك متى في إنجيله أيضا ( أنظر متي : ٢٧ ـ ٤٦ ) ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني. فلا أدري كيف يمكن تفسير هذه الحادثة ، فهل الموت بالنسبة للانسان المؤمن إلا انتقال من عالم إلى عالم آخر خير منه ، وهذا ما يؤكد عليه الإسلام ، فهذا وصي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي ابن أبي طالب ينقل عنه كلمته المشهورة لابن أبي طالب أنس بالموت من الطفل بثدي مه ويقول الله سبحانه في القرآن الكريم : ( يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) (١). فإن المؤمن يلتذ بالموت ولا سيما إذا كان قتلا في سبيل الله ، ولكننا نرى المسيح ( عليه السلام ) ( ابن الله ) يجزع منه حتى الموت.

وما هذا إلا غيض من فيض ومن شاء التعرف أكثر على شخصية المسيح ( عليه السلام في الأناجيل ، فليطالع العهد الجديد ليرى ما وصفت به المسيح ( عليه السلام ) من تناقضات في شخصيته ، وفي الواقع فإن القرآن الكريم هو الذي أجلى الحقيقة عن شخصية هذا النبي العظيم.

فالقرآن نزه ساحة عيسى المسيح ( عليه السلام ) عن كل شائبة

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ٦.

٢١٦

ونقص ، فقد صور لنا المسيح ( عليه السلام ) نبيا ورسولا مباركا وديعا بارا ، لا جبارا ولا شقيا ، وعبدا موحدا خاضعا لله ، وغير مدع لشئ غير معقول من ألوهية أو اتحاد أو حلول ، ثم نجده في القرآن عزيزا محترما مرفوعا إلى السماء مصانا بالعزة الإلهية ، وأنه روح الله وكلمته وصنيعه ، ومستودع أسراره وحكمته.

وعلى العكس من ذلك نرى المسيح ( عليه السلام ) في العهد الجديد ، رجلا صانع للخمر وشريب لها (١) عاقا لأمه قاطعا ومفرقا للرحم ، مسرف يستأنس بمسح الامرأة الأجنبية ( الخاطئة ) لقدميه وتقبيلها وتدهينها بالطيب الغالي الثمن ، وأيضا أنه ملعون لأنه مصلوب على خشبة ، ويلصقون به الألوهية عنوة ، فهو الله وابن الله ، وغيرها من الأوصاف الكثيرة التي يرفضها العقل ويأباها.

فلا يبقى شك ولا ريب في أن ( بارقليطا ) الذي أشار إليه المسيح ( عليه السلام ) في الإنجيل والذي سيشهد له بالحق ( كما ذكر ذلك إنجيل يوحنا قائلا : ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي أنظر : يوحنا : ١٥ : ٢٦ ـ ٢٧ ) هو النبي الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي شهد له بالحق ، ورفع قدره ، ونزه ساحته المقدسة عن كل

__________________

(١) أنظر : إنجيل متي : ١١ : ١٨ ـ ٢٠ لأنه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان. وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر ، محب للعشارين والخطاة.

٢١٧

سوء ، وذلك من خلال الكتاب الإلهي الموحى إليه من قبل السماء ، أي ( القرآن الكريم ).

٢١٨

الشريعة

من الشبهات التي كانت تلقى إلينا دائما عن الإسلام ، هي أن في الدين الاسلامي أحكاما وتكاليفا لا تطاق أبدا ، ولأني أعيش في بلد أغلب سكانه من المسلمين ، فكنت أرى تلك العبادات والطقوس التي يؤديها المسلمون ، تقع في أغلب الأحيان محل للسخرية من قبلنا ، وكان السؤال والاشكال الأهم المطروح في هذه المسألة هو ما الغرض من كل هذه التكاليف الشاقة التي جاء بها الإسلام ، كالصلاة خمس مرات يوميا والصيام شهرا في السنة ، ودفع الزكاة والحج وغيرها من التكاليف؟

وفي اعتقادي فإن هذه الشبهة كانت ناتجة عن عدم فهم حقيقي وواقعي للشريعة ، ودورها في تكامل الإنسان وارتقاءه مدارج الكمال المنشود له ، ولا سيما من قبل المسيحيين الذين طرحوا الشريعة جانبا واكتفوا بالإيمان وحده سبيلا للنجاة ، إذ ليس التكاليف الإلهية والأحكام الشرعية إلا امتحانا إلهيا للإنسان في مختلف مواقف

٢١٩

الحياة ، ومن خلالها يمكن التمييز بين حزب الرحمن وحزب الشيطان ، بل هي المخرجة لكمالات الإنسان من القوة إلى الفعل ، فنستطيع تشبيه الشريعة والتكاليف الإلهية بالسلم الذي يتمكن من خلاله الإنسان للوصول إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني. وقد أشار إلى هذا المعنى المسيح ( عليه السلام ) نفسه حسب ما تنقله كتب العهد الجديد ، فينقل لنا مرقس في إنجيله : أن رجل جاء بابنه مريضا به روح نجس إلى تلامذة المسيح ( عليه السلام ) فلم يقدروا على شفائه وإخراج الروح النجس منه ، فلما جاء المسيح ( عليه السلام ) أخرج ذلك الروح النجس من الولد ، فسأله تلاميذه لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه فقال لهم : هذا الجنس لا يمكن أن يخرج إلا بالصلاة والصوم. أنظر مرقس : ٩ : ١٤ ـ ٢٩ فالمسيح ( عليه السلام ) يشير إلى أن إخراج الأرواح النجسة وشفاء المرضى تحتاج إلى قوة إيمان عالية وهذا لا يتحصل إلا بالصلاة والصوم.

وعلى هذا تعتبر الشريعة الإلهية والتكاليف العملية التي يأمر بها الدين من أشرف النعم الإلهية التي من بها الله سبحانه على الإنسان.

وكما أشرت سابقا فإن النبي موسى ( عليه السلام ) أرسل بشريعة تناسب حال ذلك الزمان الذي بعث فيه ، والمسيح ( عليه السلام ) أيضا كما بينا لم ينقض الناموس والشريعة أبدا ، بل أنه جاء متمما لتلك الشريعة ، ولكن للأسف فإن الذين جاءوا من بعده هم

٢٢٠