هبة السماء

علي الشيخ

هبة السماء

المؤلف:

علي الشيخ


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-22-6
الصفحات: ٢٣٠

بوحي سماوي أو لا؟ فإن كان الجواب نفيا ( وهو كذلك إذ لو كان الاختيار بوحي سماوي لم لم يتم هذا الوحي إلى الكنيسة الأولى وحتى القرن الرابع؟ ) ، فإنه إذن من اختيار البشر ، والبشر معرضون للصواب والخطأ ، فعلى أبعد الاحتمالات فإن الإنسان العاقل يشك في أن هذه الأسفار هي الإنجيل الموحى.

ثالثا : النقطة الأخرى هي أن بعض النصوص المعتمدة كانت قد ترجمت من لغتها الأصلية إلى لغة أخرى والأصل المترجم عنه قد فقد ، وما هو مشهور ومعروف أن المترجم مهما كان ذكيا وبارعا وذا إلمام باللغة يجد صعوبة في نقل المراد بشكل دقيق ، لأنه غالبا ما يجد كلمات ليس لها مكافئ في اللغة المترجم إليها ، فيضطر إلى وضع الكلمات التي يعتقد أنها أقرب للمعنى ، وبالتالي فيمكن أن يتغير المعنى المراد أصلا ، ولهذا فلا يمكن الاعتماد بشكل قاطع على الترجمة. ومراجعة سريعة لحال الأسفار ( المقدسة ) تكشف لنا أن بعض النسخ الموجودة هي ترجمة للنسخ الأصلية المفقودة.

رابعا : أن من الأمور التي يحكم بها العقل هي أن الكتاب السماوي يجب أن لا يشوبه التناقض والاختلاف لأن الله تعالى عالم وحكيم فيستحيل نسبة الاختلاف والتناقض إلى وحيه ، وحتى بمعنى الوحي والإلهام الكتابي الذي يعتقد به المسيحيون إذ يكون المعنى من الله والكلمة والأسلوب من المؤلف ، وذلك لأن الله سبحانه يستحيل أن يوحي إلى شخص معنى يختلف عن الذي أوحاه إلى

٦١

آخر في نفس المورد ، أو معنى واحد لقصة واحدة تنقل في أسلوبين.

مثلا : في قصة صلب عيسى ( عليه السلام ) تنقل بعض الأسفار أنه سقي خمرا مرا ، وفي البعض الآخر يقول خلا ، فهذه قصة واحدة ولكن تختلف من سفر لآخر ، فإذا كان الاثنان مكتوبين بالوحي الإلهي ، فيكون واحد منها صحيحا ( بحكم العقل ) لا كلاهما ، والأسفار مليئة بهذه التناقضات ، ولولا أن قصدي في هذا البحث الاختصار قد الإمكان لبينت العشرات من هذه الاختلافات في العهد الجديد وأكتفي هنا بذكر بعضها ومن أراد المزيد فليطالع العهد الجديد بنفسه :

١ ـ الاختلاف في نسب عيسى ( عليه السلام ) في الأناجيل ، ومهما حاول المسيحيون إيجاد تبريرات لهذه الاختلافات لم يتمكنوا من إيجاد جواب مقنع لها. إذ ينقل كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) ما نصه النسب المذكور في إنجيلي متي ولوقا هناك شئ من الصعوبة في فهم جدوليهما ، إذ نجد فروقا جمة فسرت تفاسير شتى. وهذه الفروق تبرهن استقلال كل من البشيرين عن الآخر في ما كتبه واعتماده على مصادر تختلف عن مصادر أخرى (١).

ويذكر ثلاثة آراء لهذه الاختلافات يبطل اثنين منها ويبقي الآخر ، ولكنه أيضا غير مقنع. فإن لوقا يذكر ٢٥ اسما بين داود

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ص ١٠٣٧.

٦٢

وزربابل ، أما متي فذكر خمسة عشر اسما فقط ، وجميع الأسماء تقريبا مختلفة الواحد عن الآخر في الجدول.

٢ ـ في إنجيل متي ومرقس ولوقا يذكر أن رجلا أسمه سمعان هو الذي حمل صليب عيسى ( عليه السلام ) وأما في إنجيل يوحنا فيذكر أن عيسى ( عليه السلام ) هو الذي حمل صليبه إلى جلجثة.

٣ ـ أن المسيح ( عليه السلام ) بعد قيامته وحسب إنجيل متي أمر التلاميذ بالذهاب إلى جميع الأمم وأن يعمدوهم ( باسم الأب والابن والروح القدس ) أما في إنجيل مرقس فأمرهم بالذهاب إلى العالم أجمع وأن يكرزوا بالإنجيل. وفي إنجيل لوقا وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم. وغيرها الكثير. مما سنذكره في مسألة الصلب والقيامة.

خامسا : وإضافة إلى ذلك فإن عددا كبيرا من علماء الكتاب المقدس يرون أن هذه الأسفار الموجودة في العهد الجديد ليست كلها على الأقل مكتوبة بالوحي الإلهي ، والاختلافات فيها قائمة إلى يومنا هذا ، رغم محاولات الخنق التي قامت بها الكنيسة للآراء والعقائد المخالفة لها.

فمثلا ينقل عن الدكتور موريس بوكاي أن قراءة كاملة للأناجيل يمكنها أن تشوش المسيحيين بصورة هائلة إذ بعد دراسته للعهد الجديد وجد أن التناقضات وعدم التجانس تجتمع على حقيقة

٦٣

أن الأناجيل تحتوي على فصول ومقاطع ما هي إلا الانتاج الوحيد للخيال البشري (١).

وكذلك يقول : الدكتور كنيث كراج : أن الأناجيل جاءت من خلال فكر الكنيسة وآراء المؤلفين وأن الأناجيل تمثل التجربة والتاريخ (٢).

أما كارل أندري أستاذ الفلسفة والدراسات الدينية في جامعة بول فيقول أن الأناجيل الأربعة قد كتبت من قبل أشخاص متحمسين في الحركة المسيحية المبكرة وأنها تعطينا فقط جانبا واحدا من القصة وهي إلى درجة كبيرة نتاجات افتراضات المؤلفين (٣).

وكذلك الدكتور جراهام سكروجي الذي يقول : نعم إن الكتاب المقدس بشري ... هذه الكتب قد مرت عبر عقول الناس ، وهي مكتوبة بلغة الناس وخطت بأقلام الناس وأيديهم وتحمل في أساليبها خصائص البشر (١).

وغيرهم الكثير ، فمنذ القرون الأولى لقبول الكنيسة لهذه الكتب كان يدور هناك النقاش والجدال حول صحتها.

__________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ص ٦٢.

( ٢ ـ ٤ ) نفس المصدر : ص ٧٥.

٦٤

وخلاصة البحث نقول أن العهد الجديد الذي تتمسك به الكنيسة على أنه كتاب سماوي وإلهي ، وتستمد منه عقائدها ، لا يمكن على أقل تقدير نسبته جميعه إلى الوحي الإلهي ، إن لم نقل أنه كتاب تاريخي يحكي بعض الوقائع عن زمان يسوع المسيح ( عليه السلام ) فهو كتاب من نتاج الخيال البشري ليس إلا. إذ أنه مجموعة من القصص كما ذكر ذلك لوقا ، فلا يد للغيب فيه ..

٦٥
٦٦

عيسى ( عليه السلام ) وحياته في ( العهد الجديد )

من الأمور المهمة في العقيدة المسيحية والتي يحملها كل مسيحي ، والتي كنت أحملها بكل وجودي ، هو العشق المفرط ليسوع المسيح ( عليه السلام ) لأني كنت أعتقد أنه ابن الله الحبيب الذي أرسله الله الأب لخلاص العالم ، وهو حمله الذي فدى به البشرية جمعاء ، فهو ليس انسانا ، لأنه ليس له أب كبقية الناس ، فكان اسمه دائما يشير إلى الله أبيه ، وكذلك العشق لمريم العذراء ( عليها السلام ) فهي ( والدة الله ) كما كنا نردد في صلاتنا.

ولم يكن ليخطر في بالي يوما من الأيام أن يسوع المسيح ( عليه السلام ) هو إنسان كسائر البشر ، وذلك لأن تعاليم الكنيسة كانت تؤكد دائما على الجنبة اللاهوتية له ، فالأجواء التي كنت أعيشها في البيت وفي الكنيسة ، وحتى في المجتمع المسيحي الصغير الذي كان يحيطني ، كلها كانت تساعد على تركيز هذا المعنى في قلبي وعقلي ، فلم يكن هناك أي مجال للشك في هذه العقيدة .. ولكن من دون

٦٧

التعمق والتفكر فيها ، فهي من الأمور المسلمة ، وهي سر الله الذي تجسد في يسوع المسيح ( عليه السلام ) أخيرا.

ولم أكن ألتفت إلى التناقضات في هذه العقيدة ، حالي في ذلك حال معظم المسيحيين إذ لا وقت لذلك ، والسؤال حول هذه الأمور شبه ممنوع ، فالمسيحي عليه أن يتبع ما تقوله الكنيسة ويأخذه أمرا مسلما ، فقد نشأنا وتربينا على هذا الاعتقاد.

ولكن بعد المطالعة والتحقيق ، والانتباه من الغفلة ، أتضح لي الخطأ في الاعتقاد الذي كنت أحمله في المسيح ( عليه السلام ) ، إذ لا يمكن قبول فكرة ( البنوة ) عقليا فضلا عن القول بالتجسيد.

وقبل الإشارة إلى ما قيل في المسيح ( عليه السلام ) نقدم نبذة عن حياته كما ترويها الأناجيل والأسفار ( العهد الجديد ).

ولادته وحياته ( عليه السلام ) :

لقد أختلف العلماء المسيحيون في سنة ولادة المسيح ( عليه السلام ) ، وأول من كتب عن التقويم الميلادي للمسيح ( عليه السلام ) هو رئيس دير يدعى ديونيسيوس اكسيجؤس الذي مات قبل عام (٥٥٠) ميلادي فاختار هذا الراهب أن ولادة المسيح ( عليه السلام ) هي في سنة ٧٥٤ لتأسيس روما وهذه السنة تقابل العام الأول الميلادي ، إلا أن ما ذكره المؤرخ يوسيفوس يظهر بوضوح أن

٦٨

هيرودس الكبير الذي مات بعد ولادة المسيح ( عليه السلام ) بوقت قصير مات قبل عام ٧٥٤ لتأسيس روما فعلى الأرجح أنه مات حوالي عام ٧٥٠ لتأسيس روما ، الذي تقابل سنة ٤ ق. م.

إذن فميلاد المسيح ( عليه السلام ) تم أما في أواخر سنة ٥ ق. م أو في أوائل سنة ٤. ق. م (١).

إن من الغريب في الأناجيل التي تروي حياة المسيح ( عليه السلام ) وتعاليمه ، أنها لم تذكر قصة ولادته إلا في إنجيلين هما ( متي ـ ولوقا ) على اختصار شديد ، وأما إنجيل مرقس فلم يذكر شيئا بتاتا عن ولادته ( عليه السلام ) ، وأما إنجيل يوحنا فقد اكتفى بذكر التجسد الإلهي بقوله في أول الإنجيل في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ... والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الأب مملوءا نعمة وحقا.

فإنجيل متي يذكر أن الحبل بيسوع المسيح ( عليه السلام ) كان عن طريق روح القدس ( متي : ١ ـ ١٨ ) أي أنه لم يكن هناك تقارب بشري بل كان معجزة إلهية ، ولكن متي لا يذكر شيئا عن كيفية هذا الحبل بل يكتفي بذكر مريم ( عليها السلام ) وهي حبلى قبل أن تدخل إلى بيت يوسف ( متى : ١ : ١٩ ـ ٢١ ) ويذكر رؤية يوسف للملاك قائلا له أن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. وأما إنجيل لوقا فهو

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس : ٨٦٤.

٦٩

يذكر الحوار بين الملاك ومريم ( لو : ١ : ٢٧ ـ ٣٨ ) الملاك الذي بشر مريم بيسوع ( عليه السلام ).

ولما حان وقت الولادة ، ولد يسوع ( عليه السلام ) في بيت لحم (١) في عهد الملك هيرودس الكبير ، ويذكر ( متي ولوقا ) بشارة الملاك للرعاة بالولادة.

ويذكر لوقا أن ختانه ( عليه السلام ) كان في اليوم الثامن ( لو : ٢ = ٢١ ) ـ وهذا كل ما تذكره الأناجيل عن ولادته ، وأما طفولته فلم تذكر الأناجيل شيئا عنها ، سوى إنجيل لوقا الذي يروي زيارة المسيح ( عليه السلام ) للهيكل وقد بلغ الثانية عشرة من عمره ( لو : ٢ : ٤١ ـ ٥١ ).

ومما يؤسف له إننا لا نملك أية معلومات عن حال هذا الطفل المعجزة ، ولكن هناك بعض الأناجيل الأخرى والرسائل التي تشير إلى بعض تفاصيل حياة سيدنا يسوع المسيح ( عليه السلام ) ولكن الكنيسة لم تعتمدها ضمن الكتب الملهمة فضاعت أكثرها ولم يبق من

________________________

(١) بيت لحم : اسم عبري معناه « بيت الخبز » وهو اسم لقرية صغيرة تبعد ستة أميال إلى الجنوب من أورشليم ، ويعتقد أنّ المسيح ولد في إحدى مغاراتها ، وقد بنت الإمبراطورة هيلاتة كنيسة فوق المغارة التي يُظن أنّ المسيح ولد فيها ، وهي أقدم كنيسة مسيحية في العالم ، وهي مشتركة الآن بين الروم واللاتين والارمن ، ويجانبها أديرة لهذه الطوائف الثلاثة أيضاً. ( قاموس الكتاب المقدّس ، مادة بيت ، ص ٢٠٦).

٧٠

البعض منها إلا الاسم فقط.

وتنتقل الأناجيل بعد ذلك لذكر يسوع المسيح ( عليه السلام ) وهو في سن الثلاثين من العمر أي حوالي سنة ٢٧ ميلادي ( لو ٣ : ٢٣ ) إذ أنه ترك الناصرة واعتمد من يوحنا المعمدان ( يحيى ) ( عليه السلام ) ، واقتيد يسوع ( عليه السلام ) إلى برية اليهودية كي يجربه إبليس ( مت : ٤ : ١ ـ ١١ ) ( فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا ، فتقدم إليه المجرب ... ).

وعندما سجن يوحنا المعمدان ، بدأ يسوع المسيح ( عليه السلام ) دعوته الرسالية في الجليل ، فدعا تلاميذه الأولين ، وبدأ بإظهار المعاجز وأول معجزة ظهرت للمسيح ( عليه السلام ) هو تحويله الماء إلى خمر في عرس قانا بالجليل ( يو ٢ : ١ ـ ١١ ). وعندما أعلن في مجمع الناصرة أنه هو النبي المقصود ، رفضه قومه وأهل بلدته ( لو : ٤ : ٦ ـ ٣٠ ).

ومن بعد هذا أنحدر يسوع ( عليه السلام ) إلى كفرناحوم واتخذها مركز بث دعوته ونشر رسالته ، وبقيت كفرناحوم مركزا له مدة تزيد على سنة كاملة من خدمته ، فكان يعلم فيها وفي أنحاء أخرى من الجليل ويعمل المعجزات ، وأختار من بين تلاميذه وأتباعه اثنا عشر تلميذا ليكونوا تلاميذه المقربين ، وقد علمهم ليكونوا رسله ، فذاعت شهرته بسبب هذه التعاليم والمعجزات بين جماهير الجليل ،

٧١

كما وصلت هذه الشهرة إلى الذروة في معجزة إطعام الخمسة آلاف.

وقد عزمت الجماهير على تتويجه ملكا ولكن المسيح ( عليه السلام ) رفض وانصرف إلى الجبل. وذهب بعد ذلك إلى منطقة صور وصيدا وقيصرية فيلبس. واستمرت معاجزه ( عليه السلام ) فيها وتبليغ دعوته ورسالته إلى أن اقترب موعد رحيله فقصد أورشليم في المساء السابق لصلبه ، فغسل أرجل تلاميذه ، ثم صلى ، ثم جاء يهوذا الإسخريوطي الخائن مع جمع كثير فسلمه إليهم وهرب التلاميذ كلهم ( متي : ٢٦ : ٥٦ ).

ويعتقد المسيحيون أنه ( عليه السلام ) قد صلب ومات وقام من الأموات في اليوم الثالث. وبعد ذلك ظهر لتلاميذه ليبشرهم بقيامته ويرسلهم إلى جميع الأمم لتبليغ تعاليمه وإرشاداته.

هذه باختصار حياة المسيح ( عليه السلام ) كما تذكره الأناجيل وتعتبر مسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) وقيامته من الأمور المهمة في العقيدة المسيحية إذ بدونها لا تكتمل فصول عقيدة الفداء والخطيئة الأصلية ، ولنلق نظرة عن كيفية صلبه وقيامته ، ومن ثم عن موضوع الفداء والخطيئة الأصلية حسب الأسفار الملهمة.

٧٢

الصلب والقيامة

أن قصة صلب المسيح ( عليه السلام ) في الأناجيل الأربعة فيها الكثير من الاختلاف ، وكذلك قيامته.

ففي الأناجيل الثلاثة المتوافقة وعند القاء القبض عليه ينقل أن يهوذا الإسخريوطي تقدم إلى المسيح ( عليه السلام ) وقبله ، وكان قد اتفق مع العسكر على علامة وهي تقبيله للمسيح ( عليه السلام ) فألقوا القبض عليه ( متي : ٢٦ : ٤٧ ـ ٥٥ ) ( مر : ١٤ ـ ٤٣ ـ ٤٦ ) ( لو : ٢٢ ـ ٤٧ ـ ٥١ ). وأما في إنجيل يوحنا فينقل أن المسيح ( عليه السلام ) هو الذي خرج إليهم وقال من تطلبون؟ ، أجابوه يسوع الناصري ، قال لهم يسوع ( عليه السلام ) أنا هو وكان يهوذا واقفا معهم ( يو : ١٨ : ٢ ـ ٩ ).

فلا ينقل يوحنا تقبيل يهوذا للمسيح ( عليه السلام ) بل أن المسيح ( عليه السلام ) هو الذي عرف نفسه ، فهرب التلاميذ كلهم بعد تسليم المسيح ( عليه السلام ) نفسه ، فلم يشهدوا ماذا جرى بعد ذلك ،

٧٣

إلا أنها تنقل أن بطرس تبعه من بعيد.

وكذلك تختلف الأناجيل في قصة محاكمته عند بيلاطس ، وكذلك في حمله للصليب فتقول الأناجيل المتوافقة أن رجلا قيروانيا اسمه سمعان هو الذي حمل الصليب ، ( لو : ٢٣ : ٢٦ ـ ٢٧ ) وأما في إنجيل يوحنا فينقل أن المسيح ( عليه السلام ) هو الذي حمل صليبه : فخرج وهو حامل صليبه ، ( يو : ١٩ : ١٧ ).

وعند موته أيضا ( عليه السلام ) تختلف الأناجيل فيما بينها ، إذ ينقل متي ومرقس أن يسوع المسيح ( عليه السلام ) وقبل أن يسلم روحه صاح بصوت عظيم معاتبا ربه ( إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني ) ( مت : ٧ ٢ : ٤٦ ـ ٥٠ ) ومن ثم صرخ أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح ، أما لوقا فإنه ينقل أن المسيح ( عليه السلام ) لم يعاتب ربه ، بل أسلم روحه بكل طمأنينة فيقول : ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك أستودع روحي ولما قال هذا أسلم الروح ( لو : ٢٣ : ٤٥ ـ ٤٧ ). وأما يوحنا فإنه لم ينقل شيئا عن تلك الصرخة العظيمة بل ينقل أنه عندما أخذ يسوع الخل الذي سقوه قال قد أكمل ونكس رأسه و أسلم الروح ( يو : ١٩ : ٣٠ ).

وأما دفنه فتنقل الأناجيل المتوافقة أنه نحت في صخر ، وأما إنجيل يوحنا فيقول : ( إنه كان في الموضع الذي صلب فيه بستان و في البستان قبر جديد ) ( يو : ١٩ ـ ٤٠ ـ ٤١ ).

٧٤

وأما عن قيامته فالاختلاف أكثر ، لأن الأناجيل المتوافقة هي أيضا مختلفة ، فبعد ما طلب رؤساء الكهنة من بيلاطس أن يضع حراسا على القبر كي لا يسرقه التلاميذ ويدعون أنه قد قام استجاب لأمرهم ، وعند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم أخرى معها فنظرتا إلى القبر ، فحدثت زلزلة عظيمة لأن ملاك الرب نزل من السماء و دحرج الحجر الذي على باب القبر وجلس عليه ، وكان لباسه أبيض ( متي : ٢٨ : ١ ـ ٣ ).

وأما مرقس فإنه ينقل أنهن لم يسمعن صوت الزلزلة العظيمة ، وأن الحجر كان قد دحرج والملك بصورة شاب جالس في داخل القبر على اليمين ( مر : ١٦ : ٤ ـ ٦ ) ، وأما لوقا فإنه ينقل أنهن دخلن القبر فلم يجدن يسوع ( عليه السلام ) وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة ( لو : ٢٤ ـ ١ ـ ٤ ) ويزيد لوقا أنه كان مع النساء أناس آخرون.

وأما يوحنا في إنجيله فإنه يقول أن مريم المجدلية كانت لوحدها ، وعندما جاءت ونظرت الحجر مرفوعا عن القبر ، ركضت إلى سمعان ( بطرس ) (١) ، والتلميذ الآخر وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه ، وجاء بطرس ومعه التلميذ إلى القبر ،

________________________

(١) بطرس : اسم يوناني معناه « صخرة أو حجر » وباليوناني تُلفظ « بتروس » ، وهو الحواري المقرّب جدّاً من المسيح ، وهو وصيه من بعده كما تنقل الأناجيل.

٧٥

فدخل بطرس ورأى الأكفان موضوعة ، ومن ثم دخل التلميذ الآخر فآمن ، لأنهم لم يكونا بعد يعرفون أنه ينبغي أن يقوم من الأموات ، فمضى التلميذان وبقيت مريم المجدلية وهز تبكي فنظرت إلى القبر وإذا بملاكين بثياب بيض ( يو : ـ ٢٠ : ١ ـ ١٣ ).

وأما ظهوره لتلاميذه ولآخرين فهو الآخر مختلف فيه ، فمتي ينقل أنه ظهر لمريم المجدلية ومريم الأخرى وسجدتا له وأمرهما أن يقولا لأخوته أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونه ( متي : ٢٨ : ٩ ـ ٢٠ ) وذهب التلاميذ ولما رأوه سجدوا له وبعضهم شكوا ( متي ٢٨ : ـ ١٦ ـ ١٨ ).

وأما مرقس فإنه يذكر في إنجيله أن الملاك الذي رأته مريم المجدلية هو الذي قال لها وللنساء اللاتي معها ( إذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه ) ( مر : ١٦ : ٧ ـ ٨ ) ، ويردف مرقس أنه ظهر أولا لمريم المجدلية وحدها التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين ، فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معه ولم يصدقوا ( مر : ١٦ : ٩ ـ ١٢ ) وبعد ذلك ظهر لاثنين منهم وأخبرا البقية فلم يصدقوا ( مر : ١٦ ـ ١٢ ـ ١٣ ) وأخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام ( مر : ١٦ : ١٤ ـ ١٦ ).

وأما لوقا فإنه ينقل أن الرجلين اللذين وفقا بهن بثياب براقة

٧٦

هما اللذان ذكرا النساء بأن المسيح ( عليه السلام ) قال إنه يقوم من القبر ، فتذكرن كلامه ( عليه السلام ) فأخبرن الأحد عشر ولم يصدقوهن ( لو : ٢٤ : ٤ ـ ١٢ ) ويضيف لوقا أنه ظهر لاثنين منهم ويسرد القصة بتفصيل عجيب كأنه كان معهم ( لو : ٢٤ ـ ١٣ ـ ٣٣ ). ويردف لوقا قائلا : ( ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم ويقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان ( لو : ٢٤ : ٣٤ ـ ٣٥ ) وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحا ، فأكل معهم سمكا وعسلا ( لو : ٢٤ : ٣٥ ـ ٤٤ ).

وأما يوحنا في إنجيله فهو ينقل : عندما رأت مريم المجدلية الملاكين ، قالا لها ( لماذا تبكين؟ قالت لهما أنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه ، ولما قالت هذا التفت إلى الوراء فنظرت يسوع وافقا ولم تعلم أنه يسوع ، قال لها يسوع يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟ فظنت أنه البستاني فقالت له يا سيدان كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه ، قال لها يسوع يا مريم. فالتفتت وقالت ربوني الذي تفسيره يا معلم. قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ، ولكن اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم أني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ ) ( يو : ٢٠ : ١٢ ـ ١٩ ) ، ويضيف يوحنا في إنجيله أيضا ( أنه ظهر للتلاميذ عشية ذلك اليوم أول الأسبوع وسلم عليهم وأراهم يديه وجنبه وقال

٧٧

لهم كما أرسلني الرب أرسلكم أنا ، أما توما أحد الاثني عشر فلم يكن معهم حين جاء يسوع ( عليه السلام ) وعندما أخبروه قال لا أؤمن حتى أراه وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضا داخلا وتوما معهم فجاء يسوع ( عليه السلام ) وسلم عليهم ، فآمن توما أيضا ) ( يو : ٢٠ : ١٩ ـ ٢٨ ) ، ويذكر يوحنا أيضا ( وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب ، وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه ) ( يو : ٢٠ ـ ٣٠ ٣١ ).

ويذكر في إنجيل يوحنا أيضا في الأصحاح الذي يشك الكثير من علماء الكتاب فيه ، ويقولون بأنه إلحاقي وليس من تأليف يوحنا ، ( والكلام الذي ذكرناه آنفا يدل على أن يوحنا قد أنهى إنجيله ولم يذكر شيئا آخر ، وأما الكنيسة فقد اعتمدته وقبلته ضمن إنجيل يوحنا ) أنه ظهر ( عليه السلام ) للتلاميذ على بحر طبرية ويسرد القصة بالتفصيل. ( يو : ٢١ : ١ ـ ٢٣ ).

هذه هي خلاصة ما ذكرته الأناجيل عن قصة صلب يسوع وقيامته وظهوره لتلاميذه ولآخرين ، وفي الحقيقة فإن القارئ للأناجيل الأربعة ينتابه الشك في هذه القصص ، فإن صدق بواحدة منها كذب الأخرى ، لأنه لا يمكن الجمع بينهما ، لهذا لا أعتقد أن هناك باحثا أو محققا يستطيع الجزم بمسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) وقيامة وظهوره من خلال مطالعته للأناجيل ، حيث يصيبه الشك في

٧٨

صحتها لتناقضها.

وهنا أقف على بعض النقاط التي أرى لا بد من التوقف عندها فأقول : ـ أن من الأمور المتيقنة في قصة القبض على المسيح ( عليه السلام ) والتي لا تختلف حولها الأناجيل هي أن التلاميذ كلهم قد هربوا وتركوه ( مر : ١٤ = ٥١ ) ( متي : ٢٦ = ٥٦ ) والذي تبعه حسب بعض الأناجيل هو بطرس فقط ، وهو حسب الأناجيل أنكر معرفة المسيح ( عليه السلام ) وحلف ولعن إني لا أعرف الرجل ، وعند صياح الديك خرج وبكى ( متي : ٢٦ : ٧١ ـ ٧٥ ) ، والتفاصيل في قصة متابعة بطرس للمسيح ( عليه السلام ) وجلوسه أو وقوفه خارج أو داخل الدار كلها متناقضة في الأناجيل ، فيبقى السؤال هنا : كيف ينقل متي ويوحنا وهما من التلاميذ قصة حوار رئيس الكهنة مع المسيح ( عليه السلام ) وهما لم يكونا موجودين؟

فيأتي الجواب من قبل المسيحيين بأننا نقول بأن الالهام والوحي الإلهي هو الذي أوحى إليهما بذلك ، ولكن من خلال متابعة قصة القبض على عيسى ( عليه السلام ) وحتى تفاصيل المحاكمة وصلبه كلها كانت غير متطابقة بل ومتناقضة ، فأحدهم يذكر أنه حمل صليبه ، والآخر يقول غيره قد حمل الصليب ، والبعض يقول قد سقي خمرا والآخر يقول خلا.

٧٩

فلا يبقى مجال للشك بأن الذي كتب في هذه الأناجيل هو ما كان متداولا على ألسن الناس في ذلك الزمان ، والدليل على ذلك قصة ظهور المسيح ( عليه السلام ) للرجلين حسب إنجيل لوقا ( ٢٤ : ١٨ ) إذ يذكر لوقا بالنص فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام.

فمسألة صلب المسيح ( عليه السلام ) لم ينقلها التلاميذ شهودا ، ولا يد للوحي والإلهام الإلهي فيها ، بل هي مذكورة كما كانت متداولة بين الناس في ذلك الوقت ، والحدث الذي يدور على ألسنة الناس ومن فم إلى فم لا يسلم دائما من الزيادة والنقصان فلا يمكن الوثوق به.

وكذلك مسألة قيامة المسيح ( عليه السلام ) فهي الأخرى دونت بسبب تداولها بين الناس ، إذ نجد في الأناجيل أن مسألة القيامة من أكثر المسائل تناقضا في الأناجيل ، فإنجيل يذكر أن من رأى القبر قد دحرج عنه الحجر هي مريم المجدلية ومريم أخرى ، والبعض الآخر يقول جاء معهما أناس ، وإنجيل آخر أنهن كن نسوة كثيرات ، وأيضا الملاك الذي دحرج الحجر ، وأحدث زلزلة عظيمة رأته مريم المجدلية جالسا عليه ( الحجر ) هذا حسب متي ( ٢٨ : ١ ـ ٣ ) و أما مرقس فإنه يقول أن مريم المجدلية رأت الملاك في داخل القبر على اليمين ( مر : ١٦ : ٤ ـ ٦ ) ، وأما لوقا ، فإنه يؤكد أن النسوة لم يجدن الملاك لا جالسا

٨٠