التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر

المؤلف:

الأسعد بن علي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-427-2
الصفحات: ١٧٢

عالية من التصور وكذلك بدرجات أقل ( وما دامت بعض المعارف الأولية بالامكان ان تحصل بقيم احتمالية في البداية فمن الممكن تنمية هذه القيم الاحتمالية وفقاً لنظرية الاحتمال فكلما وجدت احتمالات تتضمن تلك المعرفة الأولية ازدادت قيمتها الاحتمالية ) (١).

هذا تمام الكلام في تحديد الفوارق بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي أما أهم الاختلافات بين الأخير والمذهب التجريبي فهي :

أولا : إن المذهب الذاتي كما رأينا يؤمن بمعارف عقلية قبلية في حين ينكر التجريبيون كل معرفة غير نابعة من الحس والتجربة فهم يعتقدون أن التجربة هي الأساس العام الوحيد الذي يمون الانسان أي معارف قبلية بصورة مستقلة عن التجربة وحتى ما يبدو في أعلى درجات التأصل في النفس البشرية قضايا الرياضة والمنطق نظير ( ١ + ١ = ٢ ) يرجع في التحليل إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مرّ الزمن ) (٢).

وفي ضوء تلك فان بدايات المعرفة عند التجريبيين جزئية فلا مجال لنلتقي بقضية كلية تتجاوز نطاق الخبرة الحسية المباشرة.

ويناقش الصدر المذهب التجريبي في قاعدته هذه مناقشة تفضح تهافتها : ( يلاحظ إلى جانب ذلك تهافتاً منطقياً في ايمان التجريبيين

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٥٠٤.

٢ ـ م. ن ، ص ٤٨٠.

٤١

بمذهبهم القائل إن التجربة هي المصدر الأساسي لكل المعارف البشرية لأن هذا القول نفسه قضية يعمم فيها الحكم على كل معرفة فهل هذه القضية مستمدة من مصدر قبلي بصورة مستقلة عن التجربة أو أنها مستمدة من التجربة كأي قضية أخرى؟ فإن افترض المذهب التجريبي أنها مستمدة من مصدر قبلي فقد اعترف على هذا الأساس بكذبها وبوجود معرفة قبلية وان افترض أنها تقوم على أساس التجربة والخبرة الحسية فيجب أن يعترف بأنها قضية محتملة فقط ولا يمكنه أن يؤكدها تأكيداً كاملا لأنه يرى أن أي تعميم لمعطيات الخبرة والتجربة لا يمكن أن يحظى إلاّ بدرجة احتمالية من التصديق وهذا يعني ان التجريبيين يحتملون ان المذهب العقلي على حق ) (١).

ولذلك فإن المذهب التجريبي يتحير في ضبط الفوارق بين قضايا العلوم الطبيعية وقضايا الرياضيات ففي النوع الأول لا يستطيع المذهب التجريبي أن يبرّر التعميم الاستقرائي لأنه كما بين الصدر هذا التعميم قائم على أساس مصادرات حساب الاحتمال وهذا ما لا يعترف به المذهب التجريبي. ومن جهة أخرى : إن أي موقف يتخذه المذهب التجريبي للتمييز بين قضايا الرياضيات والقضايا الطبيعية يكون محرجاً له : فإن أقر بأن هناك فوارق وأن قضايا الرياضة لها امتيازها الخاص وتعيينها فإن هذا لا يمكن التسليم به إلاّ على أساس أنها ليست استقرائية وأنها عقلية قبلية.

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٤٩٧.

٤٢

وإن أنكر التمايز بينها فإن هذا خلاف الوجدان وثبوت الاختلاف بين النوعين من القضايا إذ ( أن اليقين بالحقيقة الرياضية يصل منذ اللحظة الأولى من إدراكها إلى درجة كبيرة لا يمكن تجاوزها بينما نجد اعتقادنا بالقضايا الطبيعية يزداد باستمرار كلما تظافرت التجارب وأكدت صدق القضية وموضوعيتها ) (١).

ثانياً : هذا الفارق الأول وأما الفارق الثاني إن قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينية بدرجة لا يمكن أن نتصور إمكان الشك فيها بينما يمكن أن تشك في القضايا الطبيعية مهما كنا متأكدين من صدقها.

وثالثاً : ان قضايا العلوم الطبيعية لا تتجاوز حدود التجربة بمعنى إذا تصورنا عالماً آخر غير عالمنا فان هذه القضايا ليست بالضرورة صادقة هناك.

ولكن القضايا الرياضية والمنطقية تتجاوز كل عالم نتصوره فـ ١ + ١ = ٢ صحيحة في أي عالم نتصوره فالتعميم يتعدى العالم الذي نعيشه.

لما واجه المذهب التجريبي هذه المشكلة ( التفريق بين القضايا الرياضية والقضايا الطبيعية ) اضطر إلى قبول نفي الفوارق وصارت حينئذ المعارف الرياضية احتمالية وثبت بذلك فشل المذهب التجريبي في تفسير المعرفة البشرية. من هنا حاول المنطق الوضعي تفسير الفروق بين هذين النوعين من القضايا ( الرياضية والطبيعية ) على أساس التفريق بين القضايا الإخبارية والقضايا التكرارية ،

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٤٨٥.

٤٣

فالقضية الاخبارية كل قضية تمنحنا علماً جديداً ويكون وصف الموضوع بوصف ما غير مستبطن في الموضوع نفسه ، أما القضية التكرارية فهي القضية التي لا تضيف علماً جديداً بل يكون المحمول تكرار لعناصر الموضوع بعضها أو كلها : وهكذا فالقضايا الرياضية ترجع إلى القضايا التكرارية والقضايا الطبيعية إخبارية. وإن كان الوضعيون ميزوا بين قضايا الرياضة البحتة والقضايا الرياضية التطبيقية من قبل هندسة اقليدس فالأخيرة إخبارية أما الرياضية البحتة فهي تكرارية وكذلك يقينية لانها خالية عن الإخبار.

وناقش ( باقر الصدر ) هذه المحاولة بأن افترض كون القضايا الرياضية البحتة تكرارية كلها لا يكفي لحل المشكلة ولانه يبقى السؤال قائماً : لماذا اليقين والضرورة في القضايا التكرارية؟ ويركّز الصدر على مبدأ عدم التناقض الذي هو أساس الضرورة واليقين في القضايا التكرارية فكيف يفسّر المذهب الوضعي الضرورة واليقين في نفس هذا المبدأ من الطبيعي انه لا يمكن تفسير المبدأ إنه قضية تكرارية لأن المبدأ لا يعبّر عن نفسه بقضية إخبارية فهو يحكم بالاستحالة : ( اجتماع النقيضين مستحيل وهذه الاستحالة لا تستخرج من نفس مفهوم اجتماع النقيضين لانها ليست من عناصر هذا المفهوم ) (١).

ولم يكتف المذهب الوضعي بالقول بأن التجربة والحس هي المصدر

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٤٩٠.

٤٤

الوحيد للمعرفة بل ذهب إلى أن القضية التي لا تخضع للخبرة الحسية ليست فقط غير ممكنة الاثبات بل هي ليست قضية من الناحية المنطقية فلا يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب وعلى هذا الأساس رفض المنطق الوضعي مبدأ السببية وقدم مبرراً منطقياً لذلك باعتبار أنها قضية خاوية ولا معنى لها.

ولربط معنى القضية بالخبرة الحسية : أسس المذهب الوضعي ثلاثة مواقف :

الموقف الأول : أن كل مفردة لها مدلولا في خبرتنا الحسية ليس لها معنى.

الموقف الثاني : لابدَّ أن تكون القضية في صدقها تعطينا خبرة حسية مختلفة عن الخبرة الحسية التي تعطيه كذب القضية.

الموقف الثالث : القضية التي لها معنى هي التي يمكن التحقق من صدقها. فالقضية التي لا يمكن أن نتحقق ونتأكد من صدقها وكذبها ليس لها معنى.

ولقد ناقش باقر الصدر الموقف الثاني والثالث بينما تعود مناقشة الموقف الأول إلى نفس مناقشة النظرية التجريبية العامة (١).

هذه أهم المقارنات بين المذهب الذاتي من جهة والمذهب العقلي والتجريبي بما فيها الإتجاه الوضعي.

__________________

١ ـ م. ن ، من ص ٤٩٥ إلى ص ٤٩٩.

٤٥

ومن المهم ونحن نتحدث عن نظرية المذهب الذاتي كنقلة منهجية في المبحث الكلامي أن نشرح بأكثر عمق طريقة التوالد الذاتي للمعرفة.

ذكرنا سابقاً أن المذهب الذاتي يرى أن أكثر معارفنا تتوالد بطريقة ذاتية لا موضوعية وهذا التوالد يمرّ بمرحلتين مرحلة موضوعية ومرحلة ذاتية : ( إن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين إذ تبدأ أولا مرحلة التوالد الموضوعي وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية وينمو الاحتمال باستمرار ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال غير ان طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين ) (١).

والتعميمات الاستقرائية كلها تمر بهاتين المرحلتين :

مرحلة أولى : يعتمد فيها المنهج الاستنباطي والمرحلة الثانية : يعتمد طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائية إلى درجة اليقين. ففي المرحلة الأولى يقوم ( الدليل الاستقرائي ) على أساس التوالد الموضوعي للفكر وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الاستنباطية في الدليل الاستقرائي لأن الدليل في هذه المرحلة يمارس عملية استنباط عقلي وفقاً لقواعد التوالد الموضوعي للفكر التي يحدّدها المنطق الصوري والدليل الاستقرائي في

__________________

١ ـ م. ن ، ص ١٤١.

٤٦

هذه المرحلة ينمي احتمال التعميم الاستقرائي ويصل به إلى أعلى درجة من درجات التصديق الاحتمالي مستنتجاً تلك الدرجة بطريقة استنباطية من المبادىء والبديهيات (١).

ولذلك اعتبر باقر الصدر أن درجة احتمال المبرهن عليها في هذه المرحلة قضية مستنبطة ودرس في ( الأسس ) خطوات هذه المرحلة وشروطها مستدلا على ان التعميم الاستقرائي في هذه المرحلة الأولى لا يحتاج إلى مصادرات إضافية سوى مصادرات نظرية الاحتمال نفسها ويحتاج إلى افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقة السببية بمفهومها العقلي ( استحالة الصدفة ) ( وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي أي اثبات مسبقاً لأن الرفض هو الذي يحتاج إلى اثبات وأما عدم الرفض القبلي فيكفي له عدم وجود مبرّر للرفض ) (٢).

ولأجل ذلك لا يصلح الدليل الاستقرائي في المرحلة الاستنباطية لمن يرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي رفضاً كاملا ولا يمكن له أن يفسّر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية ولذلك يفرق صاحب النظرية بين من يبدأ هذه المرحلة وعند احتمال استحالة الصدفة المطلقة فهذا يمكنه أن يثبت بدرجة كبيرة من الاثبات من هذه الاستحالة بنفس الدليل الاستقرائي خلافاً لمن يبدأ من الاعتقاد بأن كل ما يوجد فهو

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٢٥١.

٢ ـ م. ن ، ص ٣٠١.

٤٧

صدفة ويرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي فإنه لا يمكنه أن ينمّي احتمال القانون السببي بالدليل الاستقرائي (٣). ويحلل باقر الصدر كل المبررات التي تقدمها بعض الاتجاهات لرفض مبدأ السببية : المبرر المنطقي للمدرسة الوضعية ، والمبرر الفلسفي لدى التجريبيين والمبرر العلمي لدى الفيزيائيين الذريين ... الخ .. ويناقش كل هذه المبررات وينفي أي مبرر قبلي لرفض السببية وبالتالي يحافظ على هذا المبدأ.

ولابدَّ من الاشارة ان ( المرحلة الاستنباطية ) لا تنحصر فقط في تعميم ورفع درجات التصديق بشيء نعلم ثبوته من خلال تجربة بل يشمل أيضاً شيئاً مشكوكاً ومحتملا بدرجة محدّدة ... إن الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية تارة يواجه شيئاً ثابتاً نعلم بوجوده خلال التجربة فينمي قيمة احتمال سببيته وليطلق عليه اسم ( الشكل الأول من الاستدلال الاستقرائي ) وأخرى يواجه شيئاً مشكوكاً ومحتملا بدرجة محددة على أساس علم اجمالي قبلي فيتجه إلى تنمية احتمال وجوده على أساس علم اجمالي آخر وتطبيق قاعدة الضرب أو بديهية الحكومة ولنطلق عليه اسم الشكل الثاني من الاستدلال الاستقرائي ) (٢).

أما المرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي المرحلة الذاتية فإن القضية الاساسية التي تواجهنا كيف يتحول التصديق الاجمالي القوي الذي

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٣٠١.

٢ ـ م. ن ، ص ٣٤٠.

٤٨

أدركناه في المرحلة الأولى إلى حالة يقين؟ للاجابة عن هذا التساؤل يميز باقر الصدر بين ثلاثة معان لليقين :

أ ) اليقين المنطقي : العلم بقضية معينة والعلم بأنه من المستحيل الا تكون القضية بالشكل الذي علم.

ب ) اليقين الذاتي : جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده أي شك أو احتمال للخلاف فيها.

وليس من الضروري في اليقين الذاتي ان يستبطن أي فكرة عن استحالة الوضع المخالف لما علم.

ج ) اليقين الموضوعي : التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع ما تفرضه المبررات الموضوعية.

فالفرق بين اليقين الذاتي والموضوعي أن الأول هو التصديق بأعلى درجة ممكنة سواء وجدت مبررات لذلك أم لا أمّا الثاني فهو أن تصل بك المبررات الموضوعية إلى الجزم.

( فاليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقل عن الحالة النفسية والمحتوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الإنسان أو ذاك فعلا أما اليقين الذاتي فهو يمثّل الجانب السيكولوجي من المعرفة ) (١) ، واليقين الذي تتكفّل به المرحلة الذاتية هو اليقين الموضوعي. وهذا ما فات بعض الدارسين أن يلتفتوا إليه فالتبس عليهم الأمر فلم يدركوا قيمة المذهب الذاتي وتخيلوا ان المذهب

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٣٦٠.

٤٩

الذاتي يرجع المعرفة إلى سيكولوجية صرفة لا علاقة لها بالمبررات الموضوعية (١) مع أن باقر الصدر حاول في أكثر من مورد دفع هذا التوهّم ومن بينها هذا المقام الذي أكد فيه أن المرحلة الذاتية تتكفّل إثبات اليقين الموضوعي. وفي مقام آخر يقول شارحاً طريقة التوالد الذاتي : ( إنها لا تقوم على أساس التلازم الموضوعي بين القضية المستنتجة التي تمثّل مقدمات لها : ( ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أي قضية من أي قضية أخرى على أساس التوالد الذاتي دون تقيد بالتلازم بين القضيتين فنستنتج مثلا ان زيداً قد مات من أن الشمس طالعة وأن حجم الأرض أكبر من حجم القمر من أن الأرض تشتمل على معادن كثيرة فإن هذا يؤدي إلى جعل طريقة التوالد الذاتي مبرراً لأي استدلال خاطىء وليس هذا ما نقصده عندما نقرّر هذه الطريقة إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي ) (٢). وبذلك يضع باقر الصدر يده على سرّ الحاجة إلى المنطق الذاتي لكي نميز بين الشروط التي تجعل طريق التوالد الذاتي معقولة عن غيرها.

كما هو الحال عندما احتجنا إلى المنطق الصوري لنعرف صيغ التلازم بين القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي صحيحة ( أشكال القياس ).

__________________

١ ـ انظر : مناظرة في الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش واشتباهات هذا الأخير.

٢ ـ محمد باقر الصدر : الأسس المنطقية للاستقراء ، ص ١٤٠.

٥٠

ولأجل تحقيق اليقين الموضوعي في المرحلة الذاتية لابدّ من مصادرة مؤادها ان هناك درجات من التصديق الموضوعي غير مستنبطة بل بديهية أولية لأنه إذا لم تكن هناك درجات تتمتع بالصحة الموضوعية بصورة مباشرة لا يمكن أن توجد درجات مستنبطة ومن هنا انطلقت الحاجة والبحث نحو صياغة هذه الخطوة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في المرحلة الثانية لكي يبرّر حصول أعلى درجات التصديق الموضوعي وهي الجزم واليقين ، هذه المصادرة التي نفسّر بها الدليل الاستقرائي ترتبط بالمعرفة ولا علاقة لها بالواقع الخارجي ولخصها السيد الصدر في قوله : ( كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة فإن هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول ضمن شروط معينة إلى يقين فكأن المعرفة البشرية مصممة بطريقة لا تسمح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جداً فأيّ قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة وهذا يعني تحول هذه القيمة إلى يقين ، ويؤكد باقر الصدر أن هذا التحول والفناء للقيمة الصغيرة في القيمة الكبيرة وتحول الاخيرة إلى يقين يفرضه التحرك الطبيعي للمعرفة البشرية ولا يمكن تفاديه على خلاف اليقين الناشىء من عوامل نفسية صرفة فقد تتحول بعض القيم الاحتمالية الصغيرة إلى يقين بسبب عوامل نفسية من قبيل

٥١

التشاؤم والتفاؤل أو غير ذلك فقد يتحول احتمال الوفاة عند شخص مقدم على عملية جراحية إلى يقين بسبب التشاؤم الذي يسيطر على نفسه ولكن هذا اليقين يمكن ازالته إذا تحرر الشخص من نزعته النفسية وحصر اتجاهه في النطاق الفكري فحسب وأما اليقين الذي تفترضه المصادرة فهو يقين لا يتاح إزالته ما دام الإنسان سوياً في تفكيره مهما حصر اتجاهه في النطاق الفكري وتحرّر من العوامل الدخيلة ) (١).

هذه باختصار ملامح نظرية المذهب الذاتي في المعرفة مع تحليل لطريقة التوالد الذاتي في المعرفة ولقد بسطنا الكلام فيها حتى نمتلك رؤية واضحة لِما لَهَا من أهمية في النظريات الجديدة لباقر الصدر لا في مجال علم الكلام فحسب والبحث العقائدي بل ان هذه النظرية اعتمدها الصدر في فروع شتى من العلوم الإسلامية كعلم الاصول مثال ذلك تطبيقها في بحثه عن وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي حيث يفسّر التواتر والاجماع والشهرة استناداً إلى نظرية المذهب الذاتي وتراكم القيم الاحتمالية على محور واحد.

ومن تطبيقات هذه النظرية في علم العقائد نرصد أكثر من مثال كإثبات الصانع بالدليل الاستقرائي ، إثبات النبوة ، اثبات ولاية ( الإمام علي ) بحساب الاحتمالات في بحث حول الولاية ، إثبات امامة ( المهدي ) رغم صغر سنه بتراكم الاحتمالات .. الخ وسنقف تفصيلياً مع بعض هذه النماذج في الفصل الثالث من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى.

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٣٦٩.

٥٢

النقلة المنهجية الثانية :

من الاتجاه التجزيئي إلى المنحى التوحيدي الموضوعي

لم يفتأ باقر الصدر في مواطن عديدة ، ينتقد المنهج التجزيئي المعتمد في تحليل القضايا وطرح المسائل حيث أن الرؤية التجزيئية كثيراً ما تجني على الفكرة وتسيء إليها ، لأنها تقدمها مشوهة ومنقوصة وأحياناً تحملها ما لا تريده ، والمتتبع للتراث الكلامي يلحظ بيسر ما لهذه النزعة التجزيئية في التعامل مع النص من نتائج وخيمة وعلى التفكير العقائدي بسبب النتائج الخاطئة أحياناً وغير الدقيقة أحياناً أخرى التي تؤدّي إليها.

فالنظرة التجزيئية هي التي جعلت بعض الاتجاهات تتجمد في حدود حرفية بعض الآيات لتثبت لله يداً ورجلا ووجهاً ، وتنسب له الاستواء على العرض بمعانيها الحقيقية غافلين عن الآيات المحكمة الأخرى والكثيرة التي تنزّه الله عن الجسمية والتشبيه وتجزم أنه ( ليس كمثله شيء ) وأنه ( ولا يحيطون به علماً ).

لقد تغلغلت هذه النزعة وحطمت الوحدة الموضوعية للمقطع القرآني الواحد أحياناً بعزل الآيات عن سياقها فيستشهدون بقوله عزوجل ( والله خلقكم وما تعملون ) ( الصافات : ٩٦ ) لإثبات أن الله خالق أفعال العباد في حين أن الآية أجنبية عن هذا المدلول إذ أنها تتحدّث عن الأصنام بما هو

٥٣

عمل من أعمال العباد وفي النهاية هو خلق الله يقول تعالى : ( قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) ( الصافات : ٩٥ ـ ٩٦ ) ، إن الأمثلة على هذا الاتجاه التجزيئي عديدة جداً ... وبمثل هذا الاتجاه تم التعامل مع أصول الدين كمبادىء منفصلة ومستقلة بعضها عن البعض الآخر. فالتوحيد أصل وحده والنبوة أصل والمعاد أصل .. وغابت الرؤية الترابطية لهذه الأصول والعلاقة فيما بينها .. وغدت هذه الوحدة الموضوعية بين الأصول مسكوت عنها طوال هذا التاريخ العريق لعلم الكلام.

لقد حاول باقر الصدر ( واعتقد انه نجح في محاولته ) ، أن يتجاوز هذا الطوق الذهني والقيد الفكري الذي حجب عن المؤمنين اكتشاف العلاقات بين هذه الاصول بل بين مفردات الأصل الواحد نفسه. تعرض الصدر لمشكلة المنهج التجزيئي وعالجها في معرض محاضراته القرآنية ( المدرسة القرآنية ) عندما نادى بتأسيس ( النهج الموضوعي التوحيدي في التفسير ) مقابل التفسير التجزيئي وهذه المعالجة وإن كانت متصلة مباشرة بميدان التفسير لكن يمكن أن يستفاد منها في المجال العقائدي لأن العقلية التجزيئية واحدة هنا وهناك والمنحى نفسه. وبالتالي فإن تجاوز هذا الاتجاه هناك يعني تجاوزه هنا بالتبع. اضافة إلى ان النصوص القرآنية تتضمن جملة من أدلة المتكلمين فتنعكس طريقة تعاملهم مع الآيات وآليات تفسيرهم على نتائج بحوثهم ولقد ضرب الصدر بالفعل أمثلة من مجال العقيدة للتدليل على اهمية المنهج الموضوعي يقول : ( فالمنهج التجزيئي في

٥٤

التفسير حيث أنه كان يستهدف فهم مدلول ( الله ) حيث أن فهم مدلول ( الله ) كان في البداية متيسراً لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم القدرات والتجارب وتطور الاحداث والأوضاع من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مفهوم ( الله ) حتى تكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير ) (١).

ولم يكن غياب المنهج التوحيدي ظاهرة تمسح كل العلوم ، حيث استفادت بعض العلوم من المنهج الموضوعي ، ( وأكثر ظني ان الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي وإثراء الدراسات العلمية في هذا المجال بقدر ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المكتمل وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى تكاد تقول ان قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي ولم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة ) (٢).

إن الاتجاه الموضوعي التوحيدي يمتاز عن نظيره التجزيئي بخصلتين اساسيتين أشار إليهما الباحث :

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، المدرسة القرآنية ، دار التعارف ، ص ١٠.

٢ ـ م. ن ، ص ١٨.

٥٥

أولا : ان الاتجاه التجزيئي دوره تجاه النص سلبي حيث يبدأ بتناول النص القرآني ويحاول أن يجد مدلول النص فيما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من قرائن متصلة ومنفصلة فدور المفسّر هنا دور المصغي والمتفهم والمتلقي فالقرآن يعطي بمقدار ما يفهم هذا المفسر من مدلول خلافاً لذلك المفسّر الموضوعي التوحيدي فإنه لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة يركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الانساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الانساني من حلول ما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع فحسب بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً ويبدأ مع النص عملية استنطاق وهو يريد من كلّ ذلك اكتشاف موقف القرآن من القضية المطروحة وصياغة النظرية القرآنية حول الموضوع.

ثانياً : إن الاتجاه الموضوعي لا يكتفي بالمدلولات التفصيلية للنص وإنما يسعى جاداً لاكتشاف الرابط الموضوعي التي تشد النص إلى مركب نظري تحتل في حدوده كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعها المناسب وهذا ما يُسمى بالنظرية. فالاتجاه الموضوعي هو السبيل للوصول إلى نظريات الإسلام في النبوة وسنن التاريخ والتغير الاجتماعي .. الخ.

وقد يثار في المقام تساؤلٌ حول اهمية هذا المنحى بلحاظ أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسه لم يعط هذه النظريات تفصيلياً وإنما منح للمسلمين

٥٦

نصوصاً وأحكاماً كما هي متناثرة بين أيدينا ويرد باقر الصدر عن هذا السؤال بأن الصحابة وان كانوا لم يتعلموا هذه النظريات تفصيلا ولم يتلقوها كذلك ولكنهم تلقوها إجمالياً وارتكازياً ورسخت في أفكارهم ووجدانهم ( كان المناخ العام الاطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعتبرونه مساعداً على تفهّم هذه النظريات ولو تفهماً إجمالياً وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقسيم. أما حين لا يوجد ذلك المناخ ، أما حيث لا يوجد ذلك الإطار إذن تكون الحاجة إلى النظريات يعني الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام .. خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين انسان العالم الإسلامي وانسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية ) (١).

إن هذا التفاعل بين الإنسان المسلم والإنسان الغربي جعل المسلمين وجهاً لوجه مع نظريات كثيرة ولكي نحدد موقف الإسلام من هذه النظريات ( كان لابد أن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقية ) (٢).

وكتطبيق لهذا المنهج الموضوعي في بحوثه العقائدية يمكن أن نتلمس موارد عديدة لكننا نكتفي بمثالين لهذا التطبيق يتضح من خلالهما

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٣٦.

٢ ـ م. ن ، ص ٣٧.

٥٧

الثمرات العلمية والمنهجية الهامة لهذا الطبيق.

المورد الأول : التحليل الموضوعي والقراءة التوحيدية الترابطية لمفردات اللوحة الخماسية لأصول الدين.

المورد الثاني : التحليل الموضوعي الترابطي لحياة الأئمة الاثني عشر.

المورد الأول :

عندما طبق الصدر هذا المنهج الموضوعي تبين أن اصول الدين في وحدتها الترابطية تمثّل رؤية في فلسفة التاريخ وقاعدة لنظام اجتماعي مميز يعتمد صيغة رباعية في العلاقات الاجتماعية عكس كل النظريات الوضعية التي تستند إلى صيغة ثلاثية لقد كشف باقر الصدر عن اللوحة الخماسية ( التوحيد ـ العدل ـ النبوة ـ الإمامة ـ المعاد ) رؤية حضارية تقدمية تختزن داخلها كل مقدّمات الدفع والتحريك والتغيير ( فالتوحيد ) يقدم مثلا أعلى مطلقاً هو الله عزوجل وهو اللامتناهي من جميع الجهات وهذا ما يجعل المسيرة البشرية تصاعداً لا يهدأ ولا يفتر : ( يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كَدْحاً فملاقيه ) إن عقيدة التوحيد تؤمن بمثل أعلى خارج الساحة التاريخية مما يجعل المسيرة .. في دفع متواصل مستمر وكلما قطعت شوطاً انفتحت امامها اشواطاً جديدة وهذا هو التغيير الكمي الذي يطرأ على مسيرة البشر باعتناقها التوحيد واتخذها ( الله ) مثلا أعلى مطلقاً. وهناك أثر آخر هام وهو الأثر الكيفي للتوحيد والمتمثل في حل الجدل الداخلي

٥٨

للإنسان والصراع بين متطلبات ذاته وشهواته وغرائزه وبين ما تستوجبه القيم والتعاليم الدينية فالتوحيد يعطي الرؤية الفكرية والايديولوجية الواضحة التي تلبّي كل الطموحات وكل الغايات في مثل أعلى.

( والعدل ) كصفة من صفات الله .. لها ميزتها الاجتماعية حَيْثُ تساهم بفعالية في توجيه البشرية وحمايتها من السقوط في متاهة الظلم والنبوة توفر قاعدة الاتصال والرابطة الموضوعية بين الانسان والمثل الاعلى : هذه الصلة التي توجه فيها هذا المثل الأعلى البشرية من خلال انبيائه ويهديهم إلى سبيل السعادة والرفاه. ( والامامة ) هي الامتداد القيادي للأنبياء في حياة الناس ، والحاجة إليهم تنبع من الحاجة في استمرارية رسالة الثورة التي يقوم بها الأنبياء في مجتمعاتهم ولا يستكملونها أما ( المعاد ) فهو الركيزة التي تمنح الإنسان الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية ( اذن اصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلى وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصيغها القرآنية الرباعية ) (١).

المورد الثاني :

في هذا المجال يطبق باقر الصدر المنهج الموضوعي على حياة أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) فيتجاوز التقليد السائد في دراسة سيرة الأئمة ويسعى

__________________

١ ـ م. ن ، ص ١٩٩.

٥٩

لاكتشاف الخيط الرفيع الذي يشدّ حلقات هذا الخط الإلهي الممتد والمستمر في التاريخ لأن المدارس الكلاسيكية تدرس عادة الأئمة بشكل تجزيئي وتفصل مرحلة كل إمام عن الإمام الذي يسبقه والذي يليه ولا تهتم بالأهداف التخطيطية المشتركة التي يلتقي حولها أكثر من إمام ولا تحاول أن تعطي تفسيراً مَنْطقياً لهذا الاختلاف في الأدوار بين الأئمة ( عليهم السلام ) ولذلك توحي هذه الدراسات بصورة يمزقها التناقض بين الأئمة أنفسهم فلا نفهم كيف يصالح الحسن ( عليه السلام ) بينما يثور الحسين ويلجأ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى الدعاء بينما يتجه الباقر ( عليه السلام ) والصادق ( عليه السلام ) إلى الفقه والحديث ... ( فإذا قمنا بدراسة أحوال الأئمة ، على المستويين ( التجزيئي والترابطي ) فسوف نواجه على المستوى الأول اختلافاً وتبايناً في السلوك وتناقضاً من الناحية الشخصية في الأدوار التي مارسها الأئمة ( عليهم السلام ) ) (١) وأما على المستوى الثاني وباعتماد النهج الترابطي فانه ستزول كل هذه الاختلافات لانها تبدو حينئذ مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة تنوعت تمثلاتها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل إمام ( عليه السلام ) ويستدل باقر الصدر على الدور المشترك بأمرين أساسيين :

أ ـ تكرر ظواهر في حياة الأئمة : يذكر الصدر منها : استشهاد الإمام علي بنصوص الإمامة وتكرر الموقف نفسه من قبل الإمام الحسن والحسين ، والباقر ( عليهم السلام ) الخ ...

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، أهل البيت : تنوع أدوار ووحدة هدف ، دار التعارف ، ص ١٤١.

٦٠