التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر

المؤلف:

الأسعد بن علي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-427-2
الصفحات: ١٧٢

إلى التوحيد في الأفعال ثم التوحيد في الصفات ثم تشعّبت بعد ذلك أكثر فأكثر المسائل الكلامية (١).

ولقد ساهم في هذا التطور اختلاط المسلمين نتيجة للفتوحات مع غيرهم من الأمم وارباب الملل والنحل وتعرفهم على معتقدات هؤلاء ومناظرتهم لأحبارهم وكهنتهم وممثّلي دياناتهم.

وفي هذه المرحلة ظهرت الفرق الكلامية كالاشعرية المرجئة والمعتزلة ويعتقد العديد من الباحثين ان هذه المرحلة شهدت أيضاً انتقال علم الكلام من الشفوية إلى ( الكتابية ) فيذكرون كشاهد على ذلك رسالة محمد بن الحنفية ( ت ١٠٠ هـ ) ورسالة الحسن البصري ( ت ١١٠ هـ ) رسالة عمر بن عبدالعزيز ( ت سنة ١٠١ هـ ).

ولقد سجّل ابن النديم صاحب الفهرست بعض أصحاب أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ممّن دونوا في علم الكلام فذكر في هذا المضمار علي بن إسماعيل بن ميثم التمار وله كتاب الامامة وكتاب الاستحقاق كما صنّف هشام بن الحكم من اصحاب الامام الصادق ( عليه السلام ) كتاب الإمامة ، كتاب الدلالة على حدوث الأشياء ، كتاب الردّ على الزنادقة .. الخ (٢).

وهكذا تؤكّد لنا مرحلة الارهاصات وهذه المرحلة تأصل علم الكلام في بيئته الإسلامية وتتهاوى مزاعم بعض المستشرقين ممن حاولوا إرجاع علم الكلام

__________________

١ ـ انظر المصدر السابق.

٢ ـ انظر الفهرست لابن النديم.

٢١

إلى مرحلة ما بعد دخول الفلسفة اليونانية أثر عصر الترجمة حيث شق عليهم نسبة هذا السبق الإبداعي للمسلمين والمكسب الحضاري في تاريخهم. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي ( قدس سره ) : ( وليس الأمر على ما ذكره بعضهم ان التكلم ظهر وانشعب في الإسلام إلى الاعتزال والأشعرية بعد انتقال الفلسفة إلى العرب ، يدلّ على ذلك وجود معظم مسائلهم وآرائهم في الرويات قبل ذلك ) (١).

ولا ينقضي العجب من الشيخ المظفر على جليل قدره وعظيم شأنه حِينَ يسقط في نفس الشبهة التي أثارها هؤلاء المستشرقين فيقول ( أما علم الكلام فلا يشبه الفلسفة لأنه إنما نشأ عند المسلمين لردّ عادية الفلسفة المهاجمة خوفاً من أن تؤثر على العقيدة الإسلامية أو ما يرونه عقيدة إسلامية ) (٢) ويقول في موضع آخر ( لما هاجمت الفلسفة أفكار المسلمين وأوجبت اضطرابهم وتبلبلهم وقد كان الناس في السابق يقدّسون الفلسفة ويتلقّون أفكارها كوحي منزل نشأ من ذلك حالة من الازدواجية تدعو إلى التوفيق مهما كلّف الأمر بين ما جاء به الإسلام وما جاءت به الفلسفة ولو بتأويل ما جاء به الإسلام لصالح ما جاءت به الفلسفة في الحالة التي يوجب فيها تعارض وتغاير بين الاثنين فنشأت مذاهب ومدارس فكرية مختلفة متناحرة نتج عنها فتن كثيرة سالت فيها دماء كثيرة ) (٣).

__________________

١ ـ محمد حسين الطباطبائي ، الميزان ، مؤسسة الأعلمي ١٩٩٧ ، ج٥ ، ص ٢٨٤.

٢ ـ محمد رضا المظفر ، الفلسفة الاسلامية ، ص ٧٦.

٣ ـ م. ن ، ص ٧٧.

٢٢

المرحلة الثالثة : مرحلة اكتمال النمو

هي التي أعقبت عصر الترجمة الذي بدأ مع المنصور العباسي ( ١٣٧ ـ ١٥٨ هـ ) وبلغ ذروته مع المأمون العباسي ( ١٩٨ ـ ٢١٨ هـ ). لقد استفاد المتكلمون من ترجمة الفلسفة وإشكالات الفلاسفة وآرائهم فقد ( كانت العرب بعيدة عن التفكير الفلسفي حتى شاهدت نموذجاً منها في ترجمة بعض الكتب الفلسفة اليونانية المترجمة إلى العربية في أوائل القرن الثاني للهجرة وبعدها ترجمت كتب متعددة في أوائل القرن الثالث الهجري من اليونانية والسريانية وغيرها إلى العربية وآنذاك اصبحت طريقة التفكير الفلسفي في متناول أيدي العموم ) (١).

وساهمت حركة الترجمة في انتشار الفلسفة مما دفع التفكير الديني عند المسلمين لمحاولة التوفيق بين معطيات الفلسفة والمضامين الاعتقادية كما دفعهم للذب عن العقيدة ودفع شبهات المنكرين وإشكالات المعاندين فكان عصراً ذهبياً للكلام رغم كل ما شابه من صراعات خرجت عن حدّها المعقول من الجدال الفكري والمذهبي الصرف بل اتخذت أبعاداً سياسية خطيرة أضفت على الصراع حالة من التعصّب المقيت لا تتحمّل التعدد والتنوع وترنو لإقصاء الطرف الآخر ولو بقوة السلاح.

__________________

١ ـ محمد حسين الطباطبائي ، الشيعة في الإسلام ، دار التعارف ، ص ١٢٧.

٢٣

المرحلة الرابعة : مرحلة الجمود النسبي

بعد التطور والازدهار الذي شهده علم الكلام في العصر السابق حلّ دور الجمود مع حلول القرن الرابع للهجرة حيث جمد الناس على الأساليب الموروثة جموداً أخرجه عن كونه علماً. وانفصل بذلك علم الكلام عن التفكير العميق. وفي هذه الفترة مات الاعتزال ولكن ظهور أسماء لامعة في القرن السابع للهجرة أعاد لعلم الكلام تألقه واشعاعه فكان الخواجة نصير الدين الطوسي ( ت ٦٧٢ هـ ) والعلامة الحسن بن يوسف بن المطهر ( ت ٧٢٦ هـ ) اللذان أعادا التزواج بين الفلسفة وعلم الكلام بعدما انفصلا في فترة الجمود ممّا أثر على الاتجاه الكلامي في المذاهب الأخرى أيضاً ، واضحت منهجية الطوسي في التجريد هي أساس البحوث الكلامية. حتى أن عضد الدين الايحي وتلميذه التفتزاني في كتابيهما المواقف والمقاصد نظراً إلى التجريد يقول الشهيد مطهري ( وقد أبدع الخواجة نصير الدين الطوسي الحكيم والفيلسوف المتبحر بكتابه ( تجريد الاعتقاد ) النص الكلامي الاكثر إحكاماً وكل متكلم أتى بعده شيعياً كان أم سنياً قد اعتمد هذا المتن. والخواجة نصير الدين قرّب الكلام إلى حدّ كبير من أسلوب الحكمة الجدلية إلى أسلوب الحكمة البرهانية وفي فترات لاحقة فقد الكلام أسلوبه الجدلي كلياً وانضوى تحت لواء الحكمة البرهانية.

٢٤

والفلاسفة الشيعة المتأخرون عن الخواجة طرحوا المسائل الكلامية الضرورية في الفلسفة وبحثوا فيها وحللوها بالاسلوب والمنهج الفلسفي فوقفوا أكثر من المتكلمين الذين اعتمدوا الأسلوب القديم فصدر المتألهين أو الحاج السبزواري مثلا ولو أنهما لم يعدّا في زمرة المتكلمين فإن لهما أثراً حضورياً يفوق أي أثر حضوري لأي متكلم ) (١).

المرحلة الخامسة : مرحلة الجمود والتقليد

مع ضعف الأمة الإسلامية وتخليها عن روح البحث والإبداع إلى التقليد والاكتفاء بأتباع السلف واجترار تراثهم وإنشاء الشروح والحواشي على مؤلفات الأولين ومصنفاتهم كان لابدّ أن تتجمد الذهنية الإسلامية عموماً والكلامية خصوصاً رغم الرفض القرآني الحاسم لنزعة التقليد الأعمى والتحجّر على أمجاد الآباء .. ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ) (البقرة : ١٧٠). وقوله تعالى : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباؤكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) (الزخرف : ٢٣ ـ ٢٤).

لقد امتدت هذه الحقبة قروناً طويلة استمرت إلى نهاية القرن التاسع عشر ميلادي ومطلع القرن العشرين ( لقد انقضت قرون عديدة

__________________

١ ـ مرتضى مطهري ، الكلام والعرفان ، ص ٥٢.

٢٥

قبل أن يظهر في الإسلام كتاب جديد في علم الكلام ذلك ان المؤلفات في هذا العلم ترجع إلى القرنين الثالث والرابع الهجري وما صنف بعد ذلك لم يكن إلاّ استئنافاً للتي وردت في تلك المؤلفات السابقة ) (١).

المرحلة السادسة : مرحلة الانبعاث وعودة الوعي

لقد اقترنت دعوات الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بنداء لإحياء الفكر الديني فزعماء الاصلاح أدركوا جيداً أن الجمود العقائدي والتقليد الفكري أحد الأسباب الأساسية لتخلي الأمة عن ريادتها الحضارية للعالم وتخلفها عن ركب الأمم الأخرى. ويمكن اعتبار الافغاني وعبده وأمثالهما من رواد هذه المرحلة لأنهم حاولوا نقد الفكر الديني من الداخل وتحليل أبعاد الأزمة. متجاوزين الأطر التقليدية الضيقة في التعاطي مع العقيدة.

وجمال الدين الافغاني في رسالته ( الردّ على الدهريين ) يقدم الدين في عقائده الأساسية والخصال التي كرّسها كسبيل وحيد لحياة اجتماعية تستند إلى بناء وأساس مدني محكم وأن إنكار الدين لا يقود المجتمع إلاّ إلى الانحلال والضعف ويستقرىء جملة من المجتمعات التي شهدت صعوداً في مرحلة من حياتها لكنها شهدت تقهقراً يرى الأفغاني أن سببه

__________________

١ ـ فهمي جدعان ، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ١٩٧٩ ص ١٩٧.

٢٦

تأثر هذه المجتمعات بالأفكار الدهرية مما هدّ الأسس الاعتقادية التي يبثها الدين في المجتمع وهي الايمان بان ( الانسان ملك على الأرض وأن الأمة التي ينتمي إليها أشرف الأمم ، وثالثاً : الايمان بالآخرة وأن هذه الدنيا ليست إلاّ لاستحصال كمالات إلهية أرفع للروح إلى عالم أرفع وأوسع ) (١).

وفي رسالة التوحيد أبرز محمد عبده أبعاداً جديدة للتوحيد سواء على مستوى تطهير العقول من الأوهام والخرافات أو ضمان حرية الانسان وتحريره من كل سلطة قائمة. كما أنه رأى في التوحيد حرباً على التقاليد واقتلاعاً لاصول التقليد كما قرأ فيه معاني التوحيد لصفوف الأمة ولمّ شملها مقابل الشرك الذين يختزن كل معاني التمزق والتفرقة الاجتماعية كما أنه بحث في الرسالة قضايا لها مساس بحياة الفرد والناس فأشار إلى الحاجة إلى الدين ودَفَع شبهات في المقام وتحدث عن إمكان الوحي ووقوعه ورسالة النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) وخصائصها وسرّ انتشارها السريع واجاب عن إشكالية : النهضة الإسلامية في ضوء امتلاك كل مقومات النهوض المتمثلة في الرسالة الإسلامية (٢).

من بين الأعمال التي اعتبرت رائدة في هذه المرحلة الأخيرة إحياء

__________________

١ ـ جمال الدين الأفغاني ، الردّ على الدهرين ، ترجمة الامام محمد عبده ، إسلام العالمية ، ص ٣١.

٢ ـ محمد عبده ، رسالة التوحيد ، دار احياء التراث ، بيروت.

٢٧

الفكر الديني لمحمد إقبال الذي رفع في مقدمته لواء التجديد حيث يقول ( حاولت في هذه المحاضرات .. بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً آخر يعني الاعتبار المأخوذ في فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة ) (١).

لكن يبدو انه ركز على جانب واحد وهو ما يسميه بالتجربة الدينية والأبعاد النفسية للتدين. ويكون العنوان ( احياء الفكر الديني ) شعاراً يفتقد إلى مضمون وبرنامج حقيقي شامل للتجدد.

رغم عمق هذه المحاولات وغيرها في قراءة العقيدة الإسلامية في ضوء ثقافة العصر والمستوى الفكري للمرحلة ونتاجها العلمي والنفسي والفلسفي والخروج من طوق الجمود والتخلف الذي حاصر الفكر الإسلامي قروناً طويلة مكرساً فهم الآباء الذي اكتسب اطلاقاً زمانياً ، إلاّ أن هذه المحاولات بقيت قاصرة عن إحداث نقلة حقيقة في منهج علم الكلام إلى أن ظهرت محاولات أخرى تعد حقاً خطوات جبارة على طريق النهضة والتجديد وبرز في هذا الاتجاه أسماء لامعة لعبت دوراً بارزاً على هذا الصعيد منها : السيد محمد حسين الطباطبائي ( قدس سره ) والشهيد مرتضى مطهري ( قدس سره ) كرائدين مهمين من رواد مرحلة الانبعاث وعودة الوعي.

وبين هؤلاء الرواد يبرز محمد باقر الصدر الذي يلتقي معهم في هذا

__________________

١ ـ محمد اقبال ، تجديد الفكر الديني في الإسلام ، ترجمة عباس محمود ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، مصر ، ١٩٥٥ ص ٢.

٢٨

المضمار لكنه يمتاز بأنه أسس لنقلات منهجية خطيرة خاصة على مستوى نظرية المعرفة حيث أنّه بنى لنفسه نظرية خاصة في المعرفة ( المذهب الذاتي ) طبقها على العديد من المسائل في علم الكلام في بحوثه المتفرقة وهي مميزة يفتقدها غيره من المجددين.

إن باقر الصدر رغم عدم امتلاكه أثراً متكاملا لتجديد المنهج الكلامي وطرق مسائله وفق منظوره الجديد لكن ما تركه من نتاج عقائدي متناثر في مؤلفاته المختلفة ومحاضراته العديدة يشكل أرضية صلبة لنقد المنهج القديم وصياغة النهج الجديد وقراءة لاصول الدين من وجهة نظر مبتكرة بلحاظ ثقافة العصر وحاجاته وأسئلته واستفساراته.

لقد تحولت لوحة أصول الدين في منهج الصدر إلى نظريات متكاملة في الثورة والتغيير الاجتماعي والقيادة والخلافة والحياة ..

ولكن ما هي أهم النقلات المنهجية التي أسسها باقر الصدر؟

وما هي المضامين الجديدة لأصول الدين في ضوء هذه المنهجية الجديدة؟

هذا ما سيحاول الفصل الثاني والثالث الاجابة عنه ان شاء الله تعالى.

٢٩
٣٠

الفصل الثاني

معالم التجديد الكلامي

٣١
٣٢

لا يكتفي المجددون الحقيقيون عادة بطرح مفاهيم جديدة وتصورات غير مسبوقة ومضامين مستحدثة وفق ما تحتاجه الساحة الفكرية أو على أساس عملية استشرافية لمعالم المستقبل وتحديات التقدم الانساني.

بل إن هؤلاء المجددين يحدثون نقلات منهجية تحقق قفزة نوعية وربما تحدث تحولات معرفية كبرى تمكن الاجيال من النظر إلى المسألة من منظور جديد مختلف عن كل الاساليب التي سلكها الأولون.

إن كبار المجددين من العلماء والفلاسفة في كل ميدان هم الذين استطاعوا فعلا إحداث مناهج جديدة لا الذين أتوا بمعارف مبتكرة فقط.

ففي مجال الفلك ما كان ( لكوبرنيك ) أن يعرف هذه الشهرة لولا القطعية المعرفية التي أحدثها مع النظرية الفلكية القديمة وطرحه رؤية جديدة ... و ( ديكارت ) في مجال الفلسفة ما كان ليصبح علماً بارزاً وعلامة لمرحلة جديدة في تاريخ التفكير الفلسفي لو لم يكن صاحب منهج جديد .. وكذلك ( انشتاين ) في الفيزياء لولا ثورته الكبرى على فيزياء نيوتن وتأسيسيه لنظريته النسبية التي قلبت الفيزياء رأساً على عقب ...

٣٣

وفي هذا السياق وفي مجال البحث العقائدي يتجلى إبداع ( محمد باقر الصدر ) في القدرة على الانتقال بعلم الكلام نقلات منهجية كبرى من شأنها ان تسهم في أرساء أسس جديدة لعلم عقائدي جديد.

لقد التفت إلى هذه القدرة الإبداعية للصدر ( شبلي ملاط ) في دراسته تجديد الفقه الإسلامي حيث يقول ( لقد اكتشفنا في كتابات باقر الصدر وأقواله نظاماً يستمد قوته كما كل النظم لا من الاجابات المحددة القادرة على توفرها وانما من المجالات التي يفتحها ) (١).

وباستقراء الانتاج الكلامي والعقائدي للسيد محمد باقر الصدر المبثوث هنا وهناك في أكثر كتبه يمكن ان نستكشف : خمس نقلات منهجية أساسية :

أولا : من المنطق الأرسطي إلى المذهب الذاتي.

ثانياً : من الاتجاه التجزيئي إلى المنهج الترابطي الموضوعي.

ثالثاً : من النزعة الثبوتية إلى المنهج التكاملي.

رابعاً : من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع.

خامساً : من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية.

__________________

١ ـ شبلي ملاط ، تجديد الفقه الإسلامي : محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم ، ص ٢٥٠.

٣٤

النقلة المنهجية الأولى :

من منطق أرسطو إلى المذهب الذاتي

في كتاب فلسفتنا تبنى باقر الصدر النظرية الارسطية في المعرفة حيث سلّم بالبديهيات الست وضرورة مبدأ العلية ومسألة : بداهة الواقع الخارجي لكنه لم يكن ليقف في حدود منطق أرسطو الذي حكم إلى حد ما تراثنا الفكري وخاصة الكلامي الذي تأثّر بالمباحث المنطقية والفلسفية إثر ترجمة التراث اليوناني. واتخذ طابعاً جدلياً وتطرف أحياناً كثيرة في ملاحقة إشكالات الفلسفة والمنطق الارسطي حتى سقط في التجريد المطلق والبحث عن شبهات افتراضية أكثر منها واقعية لا ثمرة عملية من ورائها.

لكن باقر الصدر لم يستسلم للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي رغم كل التعديلات التي أدخلها عليه المفكّرون الإسلاميون وقطع مع هذا التراث الطويل بأطروحته المتميزة : الأسس المنطقية للاستقراء والذي قال عنها باقر الصدر نفسه .. أنها استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال الفي سنة (١).

ليس كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، كما قد يوحي عنوانه دراسة

__________________

١ ـ محمود الهاشمي ، بحوث في علم الأصول ، المجمع العالمي للشهيد الصدر ، مج٤ ، ص ١٤٠.

٣٥

لمشكلة الاستقراء فحسب وحل لقضية التعميم الاستقرائي وانما هو أطروحة لنظرية معرفية جديدة أسماها باقر الصدر : المذهب الذاتي في المعرفة : إنه مذهب ثالث مقابل المذهب التجريبي والمذهب العقلي ولمعرفة تمايز هذا المذهب لا بأس أن نقارن بين هذا الاتجاه الجديدة وبين هذين المذهبين الكبيرين. وسنحرّر هذه المقارنة في النقاط التالية :

أولا : تحديد مصدر المعرفة : فالمذهب الذاتي يتفق مع المذهب العقلي حول وجود قضايا وإدراكات قبلية التي تمثّل أساساً يقوم عليه البناء الفوقي للمعرفة.

ثانياً : يختلف مع المذهب العقلي في الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي. فالمذهب العقلي يستند في هذا التعميم إلى مبادىء ثلاثة : مبدأ السببية ومبدأ عدم تكرّر الصدفة باستمرار ومبدأ : ان الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة ويعتقد هؤلاء أن هذا المبدأ مستقل عن التجربة ومستقل برهانياً عن مبدأ السببية ومن نقطة الخلاف هذه حول رجوع الاستقراء إلى القياس حسب المنطق العقلي ينطلق باقر الصدر ليشيد نظريته في المعرفة.

ثالثاً : إن المذهب العقلي يؤمن أساساً بالتوالد الموضوعي في المعرفة والقياس هو العمدة في الاستدلال وحتى الاستقراء يرجع في الأخير إلى قياس صغراه الملازمة بين ظاهرتين كما تعكسها ملاحظاتنا وكبراه ان الصدفة لا تتكرر باستمرار.

٣٦

والتلازم الموضوعي يعني أنه اعتماداً على التلازم بين قضية واخرى. أو بين قضية ومجموعة قضايا أخرى يمكن أن تحصل معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضية أو القضايا التي تستلزمها. مثال ذلك من قولنا : ( سقراط إنسان ) و ( كل إنسان فان ) نستنتج ان ( سقراط فان ) فهذا توالد موضوعي لأنه ناشىء عن التلازم بين الجانب الموضوعي للمقدمات والجانب الموضوعي للنتيجة. ( فالتوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الارسطي لان النتيجة دائماً ملازمة للمقدمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل بعضها على البعض الآخر بصورة قياسية ) (١).

أما التوالد الذاتي الذي يعتقد المذهب الذاتي أنها الطريقة التي تحصل بها أكثر معارفنا فهي تؤمن بأنه يمكن أن تنشأ معرفة جديدة انطلاقاً من التلازم بين الجانبين الذاتيين للمقدمات والنتائج دون تلازم في الجانبين الموضوعيين والمقصود من الجانب الذاتي الادراك. في حين ان المنطق الأرسطي يعتبر أن هذا التلازم الذاتي دون تلازم في الجانب الموضوعي غير كاف للانتقال إلى النتيجة وهكذا حاول المنطق الأرسطي أن يفسّر كل معارفنا بأنها إما أن تكون أولية أو أنها مستنتجة على أساس التوالد الموضوعي. أما المذهب الذاتي فيؤمن : بوجود معارف أولية تمثل الجزء العقلي

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، الأسس المنطقية للاستقراء ، دار التعارف للمطبوعات ، لبنان ، ١٩٨١ ، ص ١٣٥.

٣٧

القبلي من المعرفة ( مبدأ عدم التناقض ). وأن هناك معارف ثانوية مستنتجة على طريقة التوالد الموضوعي ( مثال ذلك نظريات الهندسة التقليدية والمستنتجة من بديهيات تلك الهندسة ) وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي ( التعميمات الاستقرائية ) وهي تهم أكثر معارفنا.

ولا يتوهم أن المذهب الذاتي يتفق كلياً مع المذهب الارسطي في المعارف القبلية.

إنهما يتفقان من حيث المبدأ والاقرار بوجود هذه المعارف القبلية ولكنهما يختلفان من جهتين :

أ ـ طبيعة المعارف الأولية.

ب ـ ضرورة كونها يقينية.

في الجهة الأولى يناقش باقر الصدر في أطروحته الرائدة ( الاسس المنطقية للاستقراء ) البديهيات التي آمن بها المنطق الارسطي والتي أرجعها إلى ست : يقول الصدر ( ان القضايا التجريبية والحدسية والمتواترة والمحسوسة كلها قضايا استقرائية تقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد وتبعاً للمرحلتين التي حددتهما للدليل الاستقرائي ) (١) ولابدّ من الاشارة هنا أن باقر الصدر يفرق بين الحس الظاهر والحس الباطن ويرى أن قضايا القسم الأخير أولية وما نفى بداهته هو الحس الظاهر : ( ولا شك في أن القضايا المطلوب اثباتها بالحس الباطن أولية لأن الإنسان في هذا القسم من الإدراك الحسي يتصل بصورة مؤكدة بمدلول

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٤٧٠.

٣٨

القضية المطلوب إثباتها بهذا الحس مباشرة وأما القضايا المطلوب اثباتها بالحس الظاهر فهي تختلف عن قضايا الحس الباطن لأننا بالحس الظاهر نريد أن نثبت الواقع الموضوعي أي أن هناك حينما أرى البرق برقاً موضوعياً موجوداً بصورة مستقلة عن إدراكي وهذا لا يكفي فيه الاتصال المباشر بالمحسوس في حالات الحس الظاهر ) (١).

أما القضايا الأولية والفطرية التي تمثّل البقية الباقية على لائحة البديهيات الارسطية التي يدركها العقل مستقلا عن الحس والتجربة. فإن باقر الصدر وإن كان لا ينكر قبليتها لكنه يثبت أنه بالامكان الاستدلال عليها بطريقة الاستقراء.

إن باقر الصدر لا يستثني في إمكان الاستدلال استقرائياً على ( البديهيات ) إلاّ مبدأ عدم التناقض وبديهيات نظرية الاحتمال ( وفيما نؤكد أن بالامكان تنطبيق الاستدلال الاستقرائي على كل الاوليات الارسطية إلاّ في حدود هذين الاستثنائين ( ما سبق الاشارة إليهما ) لا نعني بذلك ان تلك القضايا استقرائية فعلا وليست قبلية وإنما نعني ان بالامكان نظرياً أن نفسرها على أساس الطريقة التي حدّدناها للاستدلال الاستقرائي ولا ينفي هذا ان تكون قضايا أولية قبلية ) (٢) ، وتعليل هذا الاستثناء للمبدأين المشار إليهما يرجع إلى أن مبدأ عدم التناقض لابدّ ان يفترض ثابتاً وإلاّ لما أمكن

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٤٥٢.

٢ ـ م. ن ، ص ٤٧٢.

٣٩

للطريقة الاستقرائية ان تقوم لها قائمة لأنه لا يمكن حينئذ ان تجمع القيم الاحتمالية على محور واحد لأن هذا المجتمع على محور واحد يعني نفي نقيض كل قيمة احتمالية وهذا لا يتحقق إلاّ إذا قبلنا باستحالة اجتماع النقيضين أما إذا قبلنا باجتماع النقيضين وأنكرنا مبدأ عدم التناقض فلا يمكن تجميع القيم الاحتمالية على محور واحد. وأما استثناء كل المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي بما فيها بديهيات نظرية الاحتمال فواضح .. أما الجهة الثانية فنبحثها في النقطة الرابعة الآتية.

رابعاً : إن المذهب الذاتي لا يشترط أن تكون المعرفة الأولية يقينية : فهو يُرجع بداية المعرفة إلى قسمين : أحدهما : المعرفة التي تفرضها بديهيات نظرية الاحتمال. والآخر : نفس الخبرة الحسية بالموضوعات فنحن حين نشاهد سحاباً في السماء تعتبر مشاهدتنا خبرة حسية والسحاب في السماء هو موضوع هذه المشاهدة ومعرفتنا بالمشاهدة نفسها معرفة ابتدائية أولية وليست مستدلة وأما معرفتنا بوجود سحاب في السماء فهي معرفة مستدلة بطريقة استقرائية ومع تمسّك المذهب الذاتي بوجود بداية للمعرفة حتى لا يلزم التراجع إلى ما لا نهاية. لا يقر بأن تكون هذه البدايات ضرورية ويتصور المذهب الذاتي المعرفة الأولية احتمالية في مجالين : المجال الأول : مجال الخبرة الحسية والثاني مجال القضايا العقلية الأولية التي يكون ثبوت المحمول فيها للموضوع ثبوتاً مباشراً دون حدّ أوسط. هذه القضايا التي لا يمكن اثباتها باستنباط عقلي قد تكون متقدمة بدرجة

٤٠