التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر

المؤلف:

الأسعد بن علي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-427-2
الصفحات: ١٧٢

هذه الاطروحة للدين في قاعدته العقائدية والمفاهيمية وكيف تمثل حلا للمشكلة الاجتماعية يرتقي بها باقر الصدر ويطورها أكثر في ( المدرسة القرآنية ) حيث يؤصل أكثر فأكثر هذه النظرية في بحث مقارن بين النظرية الاجتماعية الإسلامية والنظريات الوضعية الأخرى حيث تستند الثانية إلى صيغة اجتماعية ثلاثية مقابل الصيغة الاجتماعية الرباعية التي تؤمن بها النظرية الاسلامية : ان كل المجتمعات تؤمن بوجود عصرين اساسيين : الإنسان والطبيعة ففي كل مجتمع لابدَّ من انسان ولابدَّ من ارض وموارد طبيعية ليمارس في ظلها الإنسان دوره الاجتماعي.

لكن العنصر المرن والمختلف من نظام اجتماعي إلى نظام آخر هو العلاقة الاجتماعية فلكل مجتمع خصوصيات في نسج هذه العلاقة المعنوية بين الإنسان واخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة.

هذا العنصر المرن له صيغتان :

ـ صيغة ثلاثية : لأنها تحدد الأطراف في ثلاثة ( الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان ).

ـ صيغة رباعية لأنها تؤمن باربعة أطراف ( والله ـ الإنسان ـ الطبيعة ـ الإنسان ).

ولا يتوهم أن الصيغة الرباعية تمتاز باضافة عددية لعنصر جديد فحسب بل ( إن هذه الإضافة تحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيبة الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها من هنا ليس هذا

٨١

مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد بل هذا الواحد الذي يضاف إلى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحاً اخرى ومفهوماً آخر سوف يحدث تغييراً أساسياً في بنية هذه العلاقة ... إذ يعود الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد شريك في حمل هذه الامانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل من عليها وما عليها مجرد امانة لابدَّ من رعاية واجبها وأداء حقها ) (١).

ان الطرف الرابع مغيّر نوعي لتركيب العلاقة : فتنقلب العلاقة مع الطبيعة من هيمنة واستئثار إلى استخلاف واستئمان وعلاقة الإنسان باخيه الإنسان من تجاذب استغلالي إلى تكامل وشراكة في المسؤولية والخلافة هذه الصيغة الرباعية هي المدلول الاجتماعي العام للتوحيد والقرآن يقدّمها بما هي سنة تاريخية وقانون عام والعرض القرآني لهذه السنة يتخذ شكلين اثنين تارة يعرضها من زاوية دور الله في الكون بما هي عملية ربانية ( إني جاعل في الأرض خليفة ) فتتخذ مفهوم الخلافة وتارة أخرى يعرضها من جهة تقبل الإنسان لها ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان ) ( الاحزاب / ٧٢ ).

( إن هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الأربعة لم تكن لتصبح قانوناً تاريخياً إلاّ لأنها داخلة في تكوين الإنسان في تركيب مسار

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، المدرسة القرآنية ( م. س ) ، ص ١٣١.

٨٢

الإنسان الطبيعي والتاريخي ) (١) فالله قد صاغ هذا الإنسان باستعدادات وقابليات وميول منسجمة تماماً مع العلاقة الاجتماعية الرباعية.

وبالتفاتة ذكية رائعة يطابق بين مدلول الآيتين اللتين تحدثنا عن الصيغة الرباعية ( الآية : ٣٠ البقرة ) و ( الآية : ٧٢ الأحزاب ) ، وبين الآية : ( .. فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ( الروم : ٣٠ ).

فالتعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما داخل في تكون الإنسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم يعني أن يكون هذا الدين قيماً على الحياة أن يكون مهيمناً على الحياة هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين في آية : ( اني جاعل في الأرض خليفة ) وآية : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض ) اذن فالدين سنة الحياة والتاريخ والدين هو الدين القيم والدين القيم هو العلاقة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي يدخل فيها الله بعداً رابعاً ) (٢).

ولكننا بحاجة ماسة في اطار النظرية الإسلامية للصيغة الرباعية ان نوضح أكثر فعالية الله في المجتمع والتاريخ حتى ندفع توهّم قد يثيره الخصوم وهو ان هذه الصيغة بإدخالها العنصر الرابع ( الله ) جل جلاله تلغي دور الإنسان وتفسر

__________________

١ ـ م. س ، ص ١٣٤.

٢ ـ م. ن ، ص ١٣٦.

٨٣

كل الظواهر الاجتماعية تفسيراً غيبياً لاهوتياً يعزل هذه الظواهر عن أسبابها وعن القوانين التي تحكمها لتربطها مباشرة بالإرادة الإلهية .. وتقصي نهائياً إرادة الإنسان في التاريخ .. وتسقطنا في حبائل الجبر والصرف .. ان هذا التوهم مدفوع بحزم وقوة ... لأن فعالية ( الله ) في المجتمع والطبيعة والتاريخ لا تعني البتة تحنيط الإنسان وتجميد إرادته ... ( وسنبيّن في الفصل الثالث ذلك من خلال شرح مفصل لهذا الدور الإلهي .. في حياة الإنسان ... ).

وعلى مستوى ( الدولة ) لا تخلو العقيدة من مدلولات هامة ... ففي رسالة ( منابع القدرة في الدولة الإسلامية ) تحدث باقر الصدر عن عطاءات العقيدة في هذا المضمار واعتبر الدولة الإسلامية نموذجاً فريداً لما تمتاز به من خصائص تجعل حركتها الحضارية حركة مستمرة لاستنادها إلى عقيدة توحيدية صلبة. فالتركيب العقائدي للدولة الإسلامية الذي يقوم على أساس الإيمان بالله وصفاته وتجعل من الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الأرض هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفذ (١).

ان العقيدة الإسلامية تحول عمل المسلم وحركته في ظل المجتمع المسلم والدولة المسلمة إلى عبادة تتهاوى معها الحواجز بين السماء والأرض .. والحياة والغيب ويندمج الإنسان في مسيرة متوازنة بالله نَحوَهُ سبحانه وتعالى.

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، الإسلام يقود الحياة ، ( م. س ) ص ٢٠٢.

٨٤

النقلة المنهجية الخامسة :

من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية

قدم ( علم الكلام ) في تاريخه الطويل خدمات جليلة للعقيدة الإسلامية في نصرة الدين ودحض الشبهات وتبكيت الخصوم إلاّ انه بقي قاصراً إلى مراحل تاريخية متقدمة ان يتجاوز طابع الجدل الذي انعكس بقوة على مطالب العلم وموضوعاته ومناهجه وآلياته.

إن السمة الجدلية لهذا العلم خاصة في المرحلة الثالثة من تاريخه افرزت عدة عوائق ساهمت في تعطيل نمو هذا العلم بالشكل المطلوب وحبسته في دائرة ضيقة فأفتقد الحس الموضوعي في عرض آراء الخصوم ومناقشة المذاهب الأخرى وكتب الملل والنحل شاهدة على ذلك بما تعج به من افتراءات واختلاق فرق لا وجود لها إلاّ في مخيلة بعض المصنفين بغية ان تأتي تصنيفاتهم مطابقة لحديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( تنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ... ).

لقد بلغ التعصب المذهبي الذي غذاه المنحى الجدلي أن تتوسل بعض الفرق بالسلطان للتنكيل بالفرق الأخرى والشواهد التاريخية على ذلك عديدة.

النقلة الهامة والخروج عن دائرة الجدل إلى الصبغة البرهانية كانت اساساً على يد الخواجة ( نصير الدين الطوسي ) كما اشرنا في الفصل

٨٥

الاول من هذه الدراسة فاتحدت مطالب هذا العلم بالفلسفة والتفكير الفلسفي ، ( ويكفي الاشارة هنا إلى أن بدء محاولة شرح موضوعات علم الكلام بالموضوعات الفلسفية كانت على يد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ... ولكن الرائد الحقيقي لهذا التطبيق هو نصير الدين الطوسي في كتبه الفلسفية والكلامية خاصة في كتابه ( التجريد ) وليس من الإنصاف العلمي ان نجعل هذه المحاولة بدأت مع عضد الدين الايجبي ونغفل عن الإشارة إلى الرائد الاول لها كما فعل الدكتور ابراهيم مدكور في الفلسفة الإسلامية ) (١).

إن الحقبات المظلمة لتاريخ هذا العلم من التحجر والجمود هو مظهر من مظاهر تاريخ المذهبية المغلقة والتعصب المقيت في تراثنا الفكري حيث لا يرى الباحث الحق إلاّ من خلال معتقده ومذهبه ولا يشاهد في الآخر سوى معالم الكفر والزندقة والانحراف فينبري طاعناً في المذاهب الأخرى رافعاً سيف التشهير والتبري. حتى اشتهر عن الغزالي قوله : ( اعلم ان للفرق في هذا مبالغات وتعصبات انتهى بعض الطوائف إلى تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي يعزى إليها ) فكلامه ليس بعيداً عن الواقع التاريخي الذي غابت عنه الموضوعية في عرض المذاهب ودراسته الاديان والمدارس الاخرى وبتأمل متفحص في كتب الملل والنحل نلمح بجلاء هذا الجنوح إلى تزكية ( مذهب الأنا ) وإلغاء الآخر ورميه في قاع جهنم

__________________

١ ـ جعفر آل ياسين ، الفكر الإسلامي عند العرب ، دار المناهل ، ١٩٩٣ ص ٩٨.

٨٦

موصوفاً بكل النعوت المنفرة : فهذا ( عبد القاهر البغدادي ( ت ٤٢٩ هـ ) ) لا يكاد يعرض مذهباً من مذاهب الخصوم على وجهه الصحيح ، و ( الشهرستاني نفسه ( ت ٥٤٨ هـ ) ) صاحب الملل والنحل رغم ما شرطه على نفسه في مقدمة كتابه ( وشرطت على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم ولا كسر عليهم دون أن أبين صحيحه من فاسده واعين حقه من باطله وان كان لا يخفى على الافهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل وبالله التوفيق ) (١) ، ولكنه لم يلتزم بما شرطه على نفسه وجاوز حد الموضوعية في كثير من المسائل يقوم عن ذلك أحمد أمين ( ورأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني والقفطي وامثالهما قد خلطوا حقاً وباطلا فكثيراً ما نسبوا القول إلى غير قائله ... ) ، لقد بحث كل من ممثلي العلم المللي النحلي الإسلامي ضمن اطار انتمائه الفكري والعقائدي عن الفرقة التي كان بإمكانه أن يقول هنا الحقيقة وان كانت هذه الصياغة ظاهرة مميزة للكتابات الأولى على الأقل في مفاهيمها المباشرة فإنها تعمقت في وقت لاحق إلى الدرجة التي لم يعد الحاسم فيها مفهوم الانتماء المباشر للإسلام فقط بل ومضمون العقائد الإسلامية ذاتها ( فالنوبختي ) الذي لم يشر إلى الحديث ( حديث الفرقة الناجية ) لم يُفته ان يحقق واقع الانقسام القائم في صراع الفرق ودعوى التمثل الانتمائي للفرق الناجية ( أو أهل السنة والجماعة ) بعبارة ( كل منهم

__________________

١ ـ الشهرستاني ، الملل والنحل ، تحقيق محمد سيد كيلاني ، ص ١٦.

٨٧

يدعي نفسه جماعة رغم أن واقعهم أو ما ينطبق عليهم ليس معنى الاجتماع بل معنى الافتراق ) (١).

ولم يفلت كذلك ( ابن حزم ( ت ٤٥٦ هـ ) ) و ( الرازي ( ت ٦٠٦ هـ ) ) و ( الملطي ( ت٣٧٧ هـ ) ) من هذه الضوابط الصارمة الموغلة في التمذهب والإصرار على تمثيل الجماعة ونصرة اعتقاد أهل السنة والجماعة.

لقد كسرت النقلة من الجدل إلى التفلسف على يد الخواجة إلى حد كبير هذا الطوق ولكنَّ .. النقلة الهامة التي حدثت في تاريخنا المعاصر هي الانتقال من البرهان إلى اليقين هذه النقلة أبدعها باقر الصدر من خلال المذهب الذاتي في المعرفة حيث جعل التوالد الذاتي هو الأساس القائم على اساس تراكم الاحتمالات ( راجع النقلة الأولى من هذا الفصل ) كما جعل اليقين الذاتي هو الأساس في التوالد المعرفي وقنّن هذا التوالد واليقين الذاتي كما شرحنا سابقاً.

إنه اليقين الذي يحصل بتراكم القيم الاحتمالية .. والذي يوجب الاقتناع وفناء القيم الاحتمالية الضعيفة .. هو الطريق الاوسع لاكثر معارفنا .. ولذلك ينفتح الباب واسعاً لأي كان .. للوصول إلى معرفة الله .. وبقية الاصول الاعتقادية .. لن ينغلق الباب تحت أي عنوان فئوي أو مذهبي أو طبقي أنها طريقة معهودة لدى الناس جميعاً فالنهج الاستقرائي قريب إلى اذهان الناس لانهم عهدوه في تجاربهم الحسية اليومية وعهدته

__________________

١ ـ ميثم الجنابي ، علم الملل والنحل ، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر ، ص ٥٣.

٨٨

الحضارة الغربية وشادت عليه بنيانها وصرحها العلمي والحضاري ولذلك فانه قريب لروح هذه الحضارة .. التي بلغت ما بلغته من اوج التقدم التقني والقوة المادية والصناعية عبر المنهج العلمي الاستقرائي ، ان هذه الحضارة كما سلمت به ( المنهج الاستقرائي ) في مجال العلم والتكنولوجيا عليها ان تسلم به في مجال الاعتقاد والايمان بالله .. ان المنهج الذي قاد إلى كل هذا الزخم العلمي والتقني يقود .. بنفس الخطوات إلى الايمان بالله عزوجل إنه التحدي الكبير الذي يُجابِهُ بِهِ باقر الصدر أرباب الحضارة الغربية والاختبار الصعب للضمير الإنساني الغربي ومصداقيته .. لانه ان كان حقاً صادقاً لا تمزقه ازوداجية مريضة لماذا لا يسلم بالنتائج على الصعيد الثاني ويلتقي بالغاية المقصودة؟

إن باقر الصدر .. بنى بنظريته هذه القاعدة المنهجية المعرفية الصلبة للحوار مع الغرب .. وهذه القاعدة تمثّل حاجة ماسة خاصة في ظل الدعوات الملحة والمتكررة لحوار الحضارات .. ليكون حواراً مرتكزاً على اسس علمية ولا يتحرك في فراغ .. ان المذهب الذاتي للمعرفة يمكن أن يشكّل الاطار المعرفي لهذا الحوار وبالتالي يقرب الهوّة بين الشرق والغرب ليلتقيا على كلمة سواء ( معرفة الله ).

وفي الوقت الذي يعلن الغرب فيه موت الإنسان يعمّق ويؤصل مفكرنا العظيم ( نظرية الإنسان ) ويقدّم بحوث العقيدة على أنها نظرية للإنسان والحياة .. وطريق الخلاص .. في الوقت الذي ينظر فيه الغرب لموت الإنسان وضياع

٨٩

المعنى .. وتلاشي القيم يعلن باقر الصدر قيام الإنسان وانتصار القيم وحتمية الخلاص .. الخلاص للارض وللبشرية جمعاء .. لان الإسلام في حله للمشكلة الاجتماعية وفي أطروحاته العقائدية والفكرية لا يفرق بين إنسان وإنسان .. إنه يحمل حلم البشرية وهمومها .. بدون انغلاق على فئة أو عرق أو مذهب : وهذا ديدن الصدر في مسيرته العلمية وجهوده الجبارة في صياغة النظرية الإسلامية.

انه يحمل هموم الإنسان .. ويقترح حلا اجتماعياً للإنسان .. ويقدم منهجاً معرفياً لكل انسان .. يمكن أن يوصله إلى الرؤية الكونية التوحيدية وهو عندما يناقش المدارس والمذاهب الأخرى ، ولقد بارز أهم التيارات الفكرية المعاصرة يناقشها بكل موضوعية وتجرد .. متنزهاً عن كل تعصب أو افتراء حتى ان اصحاب هذه الاتجاهات يقرون بأن عَرْضَهُ لاطروحاتهم بلغت من النزاهة ما يفوق التصور.

لقد تجاوز باقر الصدر أطر التاريخ الغارقة في الجدل .. ليدخل في حوار إنساني مفتوح يستهدف بناء المنهج الصحيح والاقتناع بالحل الامثل.

ومن الغريب حقاً أن يرمي ( فهمي جدعان ) رموز الفكر الإسلامي المعاصر بأنهم لم يرصدوا التحولات العلمية والفلسفية الحديثة في معرض إثبات التوحيد يقول : ( لكن مشكلة رواد هذا التطور انهم لم يتابعوا بالجدية الكافية سير العلم الحديث والفلسفة الحديثة وتطوراتهما من أجل تأسيس المبدأ نفسه مبدأ التوحيد فهم قد ظلوا في الغالب الأعم يدورون

٩٠

حول حلقة الأدلة القديمة التي لم تعد تعني في الواقع شيئاً ذا بال في عالم بات يلزم أهله بإعادة النظر في أنماط المعرفة والعقل الموروث كله ) (١) ... ان تغييب باقر الصدر وأمثاله كمطهري والسيد الطباطبائي .. هو الذي أوقع الجدعان في الوهم .. وإلاّ فان إطلاله على إنتاج هؤلاء الفلاسفة وعلى نتاج الصدر خاصة ( فلسفتنا واقتصادنا والأسس المنطقية ) كافية للكشف عن باع هؤلاء عامة والصدر خاصة في مقارعة الفلسفة الحديثة والنظريات العلمية الجديدة واستفادتهم من هذه الثقافة المعاصرة في تأصيل النظرية الإسلامية وتشييد أركانها.

هذه هي النزعة الموضوعية الانسانية .. التي تستهدف اليقين والاقناع وتتعالى عن الجدل والتمذهب يكرّسها باقر الصدر أيضاً في حواره مع الاتجاهات الأخرى داخل الفكر الإسلامي .. فرغم تعاطيه مع أكثر المسائل حساسية في تاريخنا الإسلامي ( خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومسألة ولاية الإمام علي ( عليه السلام ) وقضية فدك .. ودور الأئمة ( عليهم السلام ) في التاريخ ومسألة الإمام المهدي ( عليه السلام ) ) .. ورغم النفس المذهبي الطاغي في التعامل مع مثل هذه القضايا .. إلاّ أن باقر الصدر استطاع أن يبحث هذه المسائل باسلوب علمي رصين استفاد فيه من الآليات والتحولات المنهجية التي ابتكرها .. وادرك نتائج هامة .. لا تزال مثار بحث وتحليل العديد من الدراسات.

__________________

١ ـ فهمي جدعان : اسس التقدم ، ( م. س ) ، ص ٥٤٤.

٩١

لقد انطبع خطابه السياسي أيضاً بهذه السمة حيث حرص أن يكون رمزاً .. لكل المسلمين في العراق (١) .. بل لكل العراقيين حتى وصفته الصحافة البرطانية في السنوات الأخرة بأنه كان مؤهلا ليجسد مانديلا العراق (٢).

__________________

١ ـ انظر النداءات الثلاثة الأخيرة.

٢ ـ الفينانشال تايمس : ١٢ آذار ١٩٩٧ مقالة للصحفي الشهير ادورد مورنمر عن محمد باقر الصدر ( الرجل الذي كان من الممكن أن يكون مانديلا العراق ) ( نقلا عن تجديد الفقه الإسلامي لشبلي ملاط ص ١١ ).

٩٢

الفصل الثالث

المضامين الجديدة في ضوء المنهج الجديد

٩٣
٩٤

مع تحقق هذه النقلات المنهجية الهامة التي فصلناها في الفصل السابق كان لابد لعلم الكلام أن يتجدد لا في آليات البحث فقط وانما في المضامين والمفاهيم حتى انه يمكن القول أن ( العقيدة ) اضحت في تعريفها كنظرية للإنسان والحياة والثورة أقرب ما تكون من قاعدة للنهضة والتقدم والتغيير.

ولكن كيف أن ندرس المضامين الجدية والمفاهيم الناتجة عن المنهج المبتكر؟ خاصة وأن العقيدة في ضوء هذا المنظور الجديد تتقاطع مع الرؤية الكونية وفلسفة الدين وفلسفة التاريخ والنظام الاجتماعي.

إن دراسة هذه المضامين خارج الاطار الكلاسيكي ( التقسيم الخماسي ) يجعلنا نواجه صعوبات ما .. أدناها انه لن تتضح العلاقات بين المطالب العقائدية والمجالات الأخرى ..

خاصة في ظل العقلية القديمة التي تشكّلت عبر قرون عديدة ورؤيتها المسبقة لأصول الدين في تعيناتها الثابتة ، في حين أن المشروع الفكري العام لباقر الصدر يستند إلى حلقات متلاحقة ومتراصة تحتل فيها العقيدة ( الرؤية الكونية ) إلى جانب نظرية المعرفة الأسس الجذرية للبناء الفكري

٩٥

العام في شتى ميادين الحياة ( اجتماع ، سياسة ، اقتصاد ... الخ ... ).

لأجل ذلك حافظنا على الاطار القديم للتصنيف المعروف في أصول الدين ( اللوحة الخماسية ) وهذا سيساعد على تلمس معالم التجديد العميق الذي أحدثه باقر الصدر في مستوى المفاهيم والمضامين والتي لا تقل أهمية التجديد في مجالها عن التجديد في المناهج والآليات. لأن السيد باقر الصدر يولي دائماً المفاهيم أهمية خاصة .. ويعتبرها قاعدة السلوك والخط الذي يختاره ويشقه الإنسان في الحياة.

لقد ضح هذا الأمر في معرض بحثه عن ( الاقتصاد الإسلامي جزء من كل ) وتحليله لعناصر الأرضية للمجتمع الإسلامي وهي :

( أولا : العقيدة : وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.

ثانياً : المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

ثالثاً : العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها إلى جانب تلك المفاهيم لأن المفهوم بصفته فكرة اسلامية عن واقع معين يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع ويحدّد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الإسلامية بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية ) (١).

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، اقتصادنا ، ( م. س ) ص ٣١٠.

٩٦

فَمَا هي المفايهم والمضامين الفكرية والحضارية لأصول الدين؟

الأصل الأول : التوحيد

أدرك القدماء أهمية التوحيد ومحوريته لكل الأصول الأخرى فسمّوه : أصل الأصول. واطلق على العقائد اسم ( علم التوحيد ) لأن الأصول الأخرى متوقفة عليه. وعرّف بعضهم علم الكلام بأنه العلم الذي يبحث عن ذات الله وصفاته وأفعاله. ويندرج تحت أفعاله : النبوة والإمامة والمعاد لأنها تمثّل تجليات الفعل الإلهي في الكون والحياة وما بعد الحياة.

يلتقي باقر الصدر مع رؤية القدماء حول مركزية التوحيد ويفجر في كتاباته مفاهيم عديدة وتصورات مستجدة تواكب المعركة التي يعيشها الإسلام في عصره الحالي ولحظته التاريخية كما أنه استدل على هذا الأصل بأدلة مبتكرة .. أسست أو على الأقل ساهمت في تأسيس أسلوب جديد في اثبات الصانع :

ويمكن أن نختار القضايا التالية كعنوان للتجديد في مستوى هذا الأصل وكميزان للوعي التوحيدي ومداه الذي بلغه في هذه البحوث :

أولا : الايمان بالله وأدلة اثبات الصانع :

يعتبر باقر الصدر الايمان بالله ترجمان لنزوع أصيل في الانسان إلى التعلق بخالقه ولسان وجدان راسخ يدرك فطرته علاقة الانسان بربه وكونه ، فالتدين والاعتقاد بالخالق توصل إليه الإنسان منذ أمد قبل أن

٩٧

يصل إلى مرحلة التجريد الفكري ( فقد توصل الإنسان إلى الإيمان بالله منذ أبعد الأزمان وعبده وأخلص له وأحس بارتباط عميق به قبل أن يصل إلى أي مرحلة من التجريد الفكري الفلسفي أو الفهم المكتمل لاساليب الاستدلال ) (١).

إن هذا الإيمان لم يكن وليد التناقض الطبقي ونابع من مستغلين ظالمين كرّسوا الدين حفاظاً على مصالحهم ومناصبهم في المجتمع. ولم يكن هذا الايمان وليد خوف أو شعور بالرعب تجاه الظواهر الطبيعية أو كوارثها المدمرة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان أكثر المتدينين هم اشد الناس خوفاً وأسرعهم هلعاً ولكن تاريخ الاديان يعكس أن الذين حملوا مشعل مسؤوليته على مر التاريخ من أقوى الناس وأصلبهم عوداً ، لقد ناقش الصدر في كتابه اقتصادنا النظرية الماركسية في تفسيرها لظاهر الدين وحلل جذور هذه التفسيرات المادية حيث ان الماركسة ( وقد استبعدت عن تصميمها المذهبي كل حقائق الدين الموضوعية من الوحي والنبوة والصانع فكان لابدّ أن تصطنع للدين وتطوراته تفسيراً مادياً ) (١). لقد بحثت الماركسية عن الظاهرة الدينية في الوضع الاقتصادي للمجتمع ولكن السيد باقر الصدر يناقش كل الفروض التي تتمسك بها الماركسية في هذا المجال (٢) ويؤكّد بالمقابل على سننية الدين وانه قانون في التاريخ

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر : الفتاوى الواضحة ، دار التعارف ، الطبعة الثامنة ، ص ١١.

٢ ـ محمد باقر الصدر : اقتصادنا ، ( م. س ) ص ١١٢.

٣ ـ انظر اقتصادنا ص ١١٢ و ص ١١٦ ـ ١١٧.

٩٨

( فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله الذي الذي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ( الروم ٣٠ ). ويصف هذا القانون أو هذه السنة في القسم الثابت من سنن التاريخ التي تقبل التحدي ، السنن ذات الاتجاه العام التي تقبل التحدي يتحداها الإنسان لكنه يدافع في النهاية ثمن هذا التحدي ويتحمّل تبعات هذا التمرد حيث تنقلب عليه النتائج الوخيمة ( سنفصّل الحديث عن السنن واقسامها كما نحلل فعالية الله في التاريخ في فقرة لاحقة من أصل التوحيد ).

فالدين نداء فطري لامس وجدان الإنسان الأول فانقاد إليه بعيداً عن التعقيدات والجدال ولكن مع بلوغ الإنسان مرحلة التجريد الذهني بسبب تطور الفكر الفلسفي وظهور اتجاهات فلسفية مادية ووضعية وتجريبية تعقدت أكثر المسائل واحتجنا إلى دليل يثبت وجود الله تعالى وصار الايمان بالله في ضوء هذا التنوع الفكري والثقافي مسألة نظرية تحتاج إلى عمق فكر وتأمل وبحث بل تصبح قضية لا معنى لها في مفهوم المدرسة الوضعية وقضية خارج نطاق البحث التجريبي في منظور المذهب التجريبي.

والعقيدة الإسلامية في تاريخها الطويل أسست لادلة متنوعة وبراهين عديدة ، لكن المشكلة أن المصطلحات الموروثة والاثباتات القديمة لم تعد كافية لإشباع الحاجة الثقافية للناس في هذا العصر وغير كفيلة بالرد عن شبهات وإشكالات المدارس الأخرى. فلم يعد برهان الحدوث والامكان واستحالة التسلسل .. رغم قيمتها .. تقنع انسان العصر .. وتمثّل مضموناً عقائدياً ..

٩٩

قادراً على المواجهة والتحدي في هذه المرحلة.

في مثل هذا الجو استفاد باقر الصدر من منجزات العصر العلمية والمعرفية ليؤسس لنوع جديد من الادلة الصالحة لاثبات المطلوب فقدّ نوعين من الأدلة :

أ ) الدليل الاستقرائي.

ب ) الدليل الفلسفي.

وكأن بنية الأدلة عند باقر الصدر تعكس استجابة متفاعلة حية للتحولين الكبيرين تاريخ الفكر البشري ( مرحلة التفلسف ، ثم مرحلة بروز التجربة على صعيد البحث العلمي كأداة للمعرفة ).

وكلا الدليلين مما يمكن للذهنية المعاصرة ان تتفاعل معه حتى تلك التي تتحرك في إطار منهج معرفي مختلف لأن الدليل الاستقرائي يستند إلى نظرية باقر الصدر في المذهب الذاتي للمعرفة ( فصلنا الكلام حوله في النقلة المنهجية الأولى انظر الفصل الثاني ).

الدليل الأول : فقد صاغه باقر الصدر في موجز اصول الدين ( مقدمة الفتاوى الواضحة ) على مراحل خمس :

ـ أولا : مواجهة جملة من الظواهر الحسية.

ـ ثانياً : إيجاد فرضية لتفسير هذه الظواهر.

ـ ثالثاً : ملاحظة انه في حال كذب الفرضية وعدم ثبوتها في الواقع فإن احتمال وجود هذه الظواهر كلها مجتمعة ضئيل جداً.

١٠٠