التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر

المؤلف:

الأسعد بن علي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-427-2
الصفحات: ١٧٢

عالم الحس بقتلها وقهرها ) (١) ، فالتحدي الكبير امام الفكر التوحيدي هو إيجاد الإطار المناسب والفهم الصحيح للتفاعل بين الغيب والشهادة ... إن باقر الصدر يقر بأنشداد الإنسان الشرقي للغيب وافتتانه به وإنه يختلف عن الإنسان الأوروبي الذي ينظر بطبيعته دائماً إلى الأرض لا إلى السماء حتى ان نظرتهم الدينية تأثرت بهذا الافتتان الأرضي فأنزلوا الإله من السماء إلى الأرض ... وكان المسيح عندهم ابن الله ( نعم لقد استطاع الأوربي من خلال النظر إلى الأرض أن يفجر طاقات هائلة في الدنيا ولكن أدت به أيضاً إلى التنافس المحموم على الأرض وخيراتها ونشأت أشكال من استغلال الإنسان لاخيه الإنسان لأن تعلق هذا الكائن بالأرض وثرواتها جعله يضحي بأخيه ويحوله من شريك إلى أداة ) (٢) ، ولكن لا يقر بأن هذا الانشداد إلى الغيب ، يحتّم الجمود أو الانسحاق و ( انما يكن ان تؤدي نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض إلى موقف من هذه المواقف السلبية إذا فصلت الأرض عن السماء أما إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكثر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة وهذا بالضبط ما تصنعه الدولة الإسلامية فإنها لا تنزع من الإنسان نظرته

__________________

١ ـ م. ن ، ص ١٠٨.

٢ ـ محمد باقر الصدر ، الإسلام يقود الحياة ، م. س ، ص ٢٢٨.

١٢١

العميقة إلى السماء وانما تعطي له المعنى الصحيح إلى السماء وتسبغ طابع الشريعة والواجب على العمل في الأرض بوصفه مظهراً من مظاهر خلافة الإنسان لله على الكون وبهذا نجعل من هذه النظرية طاقة بناء وفي نفس الوقت نحتفظ بها كضمان لعدم تحول هذه الطاقة من طاقة بناء إلى طاقة استغلال ) (١). ولا يكتفي باقر الصدر بإبراز أهميته الإيمان بالغيب في التوحد مع الطبيعة والاندماج في العمل الحضاري من أجل مجتمع تقدمي كادح نحو السماء بل يحلل أكثر هذه العلاقة في إطار الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية كما شرحناها سابقاً : وبين ان علاقة الله بالإنسان والتاريخ : تتفاعل في الابعاد الآتية :

أ ) الله مؤثر بما هو خالق : للإنسان والطبيعة فهو واهب كل ما يملكه الإنسان وكل ما توفره الطبيعة من فيوضات والإنسان خليفة الله على الأرض ومستأمن على ما فيها ومن فيها وهذا يعني مسؤولية الإنسان في تمثل صفات الله في حركته ومسيرته ( سنفصل هذا التمثل وأبعاده في الاصل الثاني من أصول الدين العدل ) ..

ب ) الله مؤثر في التاريخ بما هو العلة الغائية للمسيرة الانسانية والمثل الأعلى لها : وبالتالي فهو يؤثر على طبيعة الاعمال والانشطة والأدوار التي يقوم بها الإنسان فرداً ومجتمعاً ، ويتحدث الصدر على مستوى الدولة فيقول ( وهنا يأتي دور الدولة الإسلامية لتضع الله هدفاً للمسيرة الإنسانية

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٢٢٩.

١٢٢

وتطرح صفات الله واخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة ، وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه انفتحت امامها آفاق أرحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق لأن الإنسان المحدود لا يمكن أن يصل إلى الله المطلق ) (١).

ولقد شرحنا مفصلا في عنصر سابق ما للمثل الأعلى المطلق من آثار كمية ونوعية على المسيرة الإنسانية فلا حاجة للإعادة.

ج ) الله مؤثر بِمَا هو المشرّع والمقنن : ليس المقصود هنا التشريع والتقنين بالمعنى الفقهي الضيق وإنما بالمعنى الأعم الذي يتسع لتحديد الغايات وتأطير المسار وتقنين المسيرة فالله هو الذي حدد الغاية من الخلق ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) (١) ، وهو الذي قنن حركة الإنسان إلى الله ، أي حركته التاريخية ، وجعلها خاضعة لسنن تاريخية وقوانين ونواميس الهية لا تتغير ولا تتبدل ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) وقد حلل هذه السنن التاريخية وارجعها إلى ثلاثة أشكال من السنن صوناً للحرية الإنسانية وحفاظاً على إرادة الإنسان التي دونها لا يصبح للمسؤولية الاستخلافية الاستئمانية أي معنى :

الشكل الأول للسنن التاريخية هو شكل القضية الشرطية.

الشكل الثاني : القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة.

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٢٠١.

١٢٣

الشكل الثالث : السنة التاريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي.

هذا التنوع في سنن التاريخ وعدم كونها جميعاً من الشكل الثاني من شأنه أن يحفظ هامشاً كبيراً للإرادة الإنسانية واختيارها (١) ان الله عزوجل ... هو المهيمن والمدير والمسيّر للكون ... والتاريخ .. وما حركة الإنسان الارادية إلاّ جزء من هذه الهيمنة الالهية .. وجزء من إرادته .. فالغيب يحوط عالم الشهادة وليس للأخير أصالة أو استقلالية إلاّ بالمقدار الذي يمنحه الله .. لمفرداته .. بل حتى في عالم الإنسان حيث انفرد هذا الكائن بالاختيار وحرية الارادة .. فان هذه الحرية مهما سيء استخدامها ومهما وظفت في التمرد على الخالق وارادته .. فانه لن يخرج من هيمنة الغيب .. لأن الكافر لا يكفر إلاّ بتمكين من الله ... والظالم بظلمه لا يخرج عن سلطانه عزوجل ... وان الله ليس نهاية جغرافية ... وانما حقيقة موضوعية ... والكدح نحوه ... ليس طلباً تشريعياً وانما هو حقيقة تكوينية مغروسة في كل مفردة من مفردة الكون ... فقط المطلوب من الانسان الاندماج الإرادي التشريعي في الكدح نحو الله مع الكدح التكويني ... وهذا ما ذكرناه في تفسير الصدر لقوله تعالى ( والذي كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) (النور : ٣٩).

__________________

١ ـ للتفصيل أكثر يراجع : المحاضرة السابعة من محاضرات المدرسة القرآنية ، للسيد باقر الصدر.

١٢٤

سادساً : الارتباط بالله :

مسألة أخرى من مسائل التوحيد ، الأصل الديني الأول ، أهملت في البحوث الكلامية القديمة. الا وهي ( الارتباط بالله والشعور النفسي بهذه العلاقة ) نعم التفت بعض الباحثين المعاصرين إلى هذه المسألة وأدرك ان مشكلة المسلمين اليوم لا تكمن في اقامة الأدلة على وجود الله تعالى بقدر ما تكمن في بعث الحيوية في هذه العلاقة وتعزيزها وتنميتها ويتفق باقر الصدر مع هؤلاء على ضرورة تعزيز هذه العلاقة وتقوية الارتباط بالله لتمنح الإنسان الطاقة الكفيلة بانبعاثه في الحياة فاعلا مؤثراً بانياً معمّراً فهو يقول في تفسير قوله تعالى ( كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (١) ( قد جعل الإيمان بالله الخصيصة الثالثة للأمة الإسلامية بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأكيداً على أن المعنى الحقيقي للإيمان ليس هو العقيدة المحنطة في القلب بل الشعلة التي تتقد وتشع بضوئها على الآخرين ) (٢) ، سعى باقر الصدر في دراسات عديدة أن يؤصل هذا الارتباط ويعمق كقيمة حضارية وإيمانية أساسية ويمكن أن نتوقف عند محاولة الصدر للتأصيل النظري في عنصر الارتباط بالله في مستويين اثنين :

المستوى الأول : نظام العبادات وتغذية هذه الارتباط.

المستوى الثاني : الارتباط بالله في نفسية العاملين.

__________________

١ ـ آل عمران : ١١٠.

٣ ـ م. ن ، ص ٢١٦.

١٢٥

أما المستوى الأول فقد فصل الكلام فيه في بحثه نظام العبادات ( الجزء الاخير من الفتاوى الواضحة ) أين ذهب إلى أن الارتباط بالمطلق بمثل حاجة ثابتة في حياة الإنسان ولكن المشكلة الأساسية كيف يتم إشباع هذه الحاجة دون السقوط فيما سقطت الصيغ البشرية لهذا الارتباط حيث عانى الإنسان على مر تاريخه الحضاري في هذا المضمار من خطرين خطر الضياع واللاانتماء ( الالحاد ) من جهة وخطر الغلو في الانتماء ( الشرك ) من جهة أخرى و ( تلتقي المشكلتان في نقطة واحدة اساسية وهي إعاقة حركة الإنسان في تطوره عن الإستمرار الخلاق المبدع الصالح ) (١). إن الايمان بالله يعالج الجانب السلبي من المشكلة لانه يرفض الضياع واللاانتماء فهو يجعل الإنسان خليفة لله في الأرض ويتخطّى الإيمان بالله الجانب الايجابي من المشكلة مشكلة الغلو في الانتماء لأن هذه المشكلة ناشئة من تحويل النسبي إلى مطلق خلال عملية تصعيد ذهني ، وأما المطلق الذي يقدمه الإيمان بالله فهو ليس صنيعة مرحلة ذهنية ليصبح عائقاً في مرحلة لاحقة.

ولكن إشباع هذه الحاجة كأي غريزة أخرى لابدَّ أن يكون منسجماً مع المصلحة النهائية للإنسان من هنا كان لابدَّ للإيمان بالله والشعور العميق بالتطلع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق لابدَّ لذلك من توجيه يحدد طريقة اشباع هذا الشعور ومن سلوك يعمقه ويرسخه على نحو

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، الفتاوى الواضحة ، م. س ، ص ٧٠٧.

١٢٦

يتناسب مع سائر المشاعر الأصيلة في الإنسان وبدون توجيه قد ينتكس هذا الشعور ويمنى بألوان الانحراف كما وقع بالنسبة إلى الشعور الديني غير الموجه في أكثر مراحل التاريخ (١) ، وهنا يأتي دور العبادات التي تلعب الدور الكبير في تعميق الشعور وتعزيز الارتباط بالله عزوجل.

وبِطَرْح باقر الصدر الملامح العامة للعبادة :

أ ) الغيبية.

ب ) الشمولية.

ج ) الجانب الحسي في العبادة.

د ) الجانب الاجتماعي للعبادة.

يكون قد أعطى لهذا الدور امتداده في تفاصيل العبادة لأن من شأن هذه الملامح أن تعمق مدلولات العبادة في نفس المسلم وتجذّر آثارها في حياة الفرد والمجتمع.

أما المستوى الثاني : الارتباط بالله في الأرضية النفسية للعاملين :

من تحاليله المتميزة حديثه عن المحنة وجذورها النفسية حيث لا يلقي باللائمة على ( الغير ) ولا يفسر المحنة تفسيراً غيبياً يقترب من الجبرية ... ( ان المحنة هي في الواقع تجسيد بشكل مرير للاعمال المسبقة التي قامت بها الجماعة الممتحنة ( وما اصابكم من مصيبة فيما كسبت ايديكم ) (الشورى : ٣٠) هي تجسيد للاعمال التي قدّمها الناس أنفسهم هي في

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٧١٣.

١٢٧

نفس الوقت موعظة ونذير من الله ) (٢) ، وهو يرجع المحنة اساساً إلى الأرضية النفسية لاساليب العمل ( فان منطلق المصيبة المحنة هو تلك الأرضية النفسية لم تكن صالحة لكي تنشأ ضمنها أساليب العمل الصالحة ولكي تؤتي هذه الاساليب ثمارها ) (٣) ... هذه الأرضية النفسية تعود إلى عاملين نفسيين أساسيين :

أحدهما : عدم الشعور التفصيلي بالله.

الثاني : أن الأخلاقية التي كان الناس يعيشونها لم تكن اخلاقية الإنسان العامل بل أخلاقية انسان لا يصلح للعمل الحقيقي ، وما يهمنا في المقام : هو ( العامل الأول ).

ورغم أن حديث باقر الصدر كان يحوم حول الطالب الحوزوي وينطلق من أجواء المحنة التي عاشتها حوزة النجف الأشرف لما قررت السلطات طرد الطلاب الأجانب إلاّ أن هذه الرؤية صالحة للتعميم لكل العاملين ، إن أحد أسباب المحنة عدم الشعور التفصيلي بالله ... رغم أن الطالب عندما ينتمي للحوزة ويقرّر ترك الأهل والوطن ويحمل آلام الغربة وآلام الوحشة يعيش أحلى لحظات شعور يجذبه إلى الله ...

لكن سرعان ما يخبو هذا الشعور عوضاً أن ينمو ( وذلك لأنه حينما يأتي إلى الحوزة لا يعيش تطبيقياً حياً لهذا الاتصال بالله تعالى وإنما يعيش على أفضل تقدير دروساً معينة ومناهج معينة هي في حدود كونها

__________________

(١) و (٢) محمد باقر الصدر : المحاضرة الثانية من محاضرات ( المحنة ).

١٢٨

مفاهيم وأفكار لا تغذي هذا الشعور فيبقى فراغ كبير في قلبه في وجدانه ) (١) ، وهكذا يتميّع الشعور بالارتباط بالله ... ( ويتحول هذا الشعور في بداية الأمر إلى شعور مبهم غامض ثم في مرحلة ثانية يختفي في الأعماق وتتراكم عليه مشاعر أخرى لا ترتبط بالله فتعود تلك التصورات الروحية الضخمة في البداية تعود خواء تعود كلها فراغاً لأنها بعد أن جمدت وأصبحت شعوراً إجمالياً بعد هذا فقدت أي غذاء وإمداد متصل حتى تمزقت وهذا هو معنى نسيان الله تعالى وأنتم كلكم تعرفون أن من ينسى الله ينساه الله ومن ينقطع عن الله ينقطع عَنْهُ الله سبحانه وتعالى ... ) (٢).

إن تنمية الشعور التفصيلي بالله وتجسيد حالة الاتصال الدائم بالله ... هي أحد العوامل الأساسية لنجاح العامل واستمرارية عمله وصحواه أيام المحن وتجاوزه الصعوبات التي تعترض طريقه مما يمنح لهذا المفهوم التوحيدي الارتباط بالله بعداً نفسياً حركياً ... يلتقي مع العبادة في تأصيلها لهذا الحس العميق والانفتاح الروحي على الله عزوجل ويتكامل مع توفر الشرائط اللازمة الاخلاقية للإنسان العامل ( في امتلاك وعي تغييري تجديدي والتخلص من النزعة الاستصحابية المحافظة وامتلاك عقلية اجتماعية مرنة ) ... لنجاح أي مشروع في الحياة ... وتخطى العقبات مهما عظمت.

__________________

١ ـ م. ن.

٢ ـ م. ن.

١٢٩

الاصل الثاني : العدل

بحث الصفات لا ينفك في الحقيقة عن الذات ( إلاّ لضرورة منهجية ) حتى ان الدليل الاستقرائي في مقام إثبات الصانع بالنتيجة لا يسعه إلاّ أن يتجه للترجيح فاليقين بفرضيته وجود ذات حكيمة (١) وهذا الاتحاد بين الذات والصفات ليس غريباً على العدلية عموماً والإمامية خاصة الذين آمنوا إن صفاته عين ذاته.

اتجه البحث الكلامي القديم إلى تقسيم الصفات ( صفات ذات ، صفات افعال ) ( صفات ثبوتية / صفات سلبية ) ... ( صفات اضافية / صفات نفسية ) ... الخ ... وإلى تعداد هذه الصفات وكيفية اجرائها على المولى بطريقة لا يلزم منها نسبة النقص إليه ... وفي ضوء هذه المطالب الأساسية للبحوث القديمة ... انقلب الأمر رأساً على عقب ... وصار التوحيد مثار جدل وفُرقة وتَمذهُبْ وصفات الله طريق للتكفير ... والتفريق ... عوضاً أن تكون قاعدة للتقريب والتوحيد النفسي والاجتماعي ... لقد غفل البحث القديم عن مسألة مركزية وهي قيمة البحث عن الصفات ولماذا نريد معرفتها؟ وهل علاقتنا بصفات الله كعلاقة اليونان باسماء آلهتهم؟ يؤكد باقر الصدر : ( إن عقيدة التوحيد تعلمنا أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله لا بوصفها حقائق غيبية

__________________

١ ـ انظر الاسس المنطقية للاستقراء ، ص ٤٤١ ـ ٤٥١.

١٣٠

منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الإغريق وإنما نتعامل مع هذه الصفات بوصفها رائداً عملياً بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه وتعالى ) (١) ... لقد حول الجدل الكلامي البحث في الصفات إلى تجريد ذهني صرف ... وتكريس لاهوتي للاله ... بعيداً عن الإنسان وهمومه ومشاكله.

ان باقر الصدر في مجال نظريته حول المثل الأعلى المطلق والارتباط بالله شرح العلاقة بالصفات بأنها تكريس وجهاد من أجل الانسان لمّا كانت الصفات تمثّل هدفاً للمسيرة وغاية يتحرك نحوها الإنسان لا على المستوى الفردي بل على مستوى الأمة أيضاً ( وهنا يأتي دور الدولة الإسلامية لتضع الله هدف للمسيرة الإنسانية وتطرح صفات الله وخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه انفتحت أمامها آفاق أرحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق ) (٢) ...

إن التخلق باخلاق الله وتكريس صفاته في الحياة ومسيرة الفرد والمجتمع تعني إرساء نظم اجتماعية وعلاقات بعيدة عن الظلم والعجز والجهل ( فالسير نحو مطلق كله علم ، كله قدرة ، كله عدل ، وكله غنى

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، المدرسة القرآنية ، م. س ، ص ١٩٣.

٢ ـ محمد باقر الصدر ، الإسلام يقود الحياة ، م. س ، ص ٢٠٠.

١٣١

يعني ان تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلا باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر ) (١) ، ولكن كيف يكون السير والكدح نحو الله لمصلحة الإنسان وفي خدمته؟ السرّ في ذلك أن الله كما رأينا سابقاً هو المطلق وهو المثل الأعلى للبشرية لذلك كان سبيله وطريقه هو الطريق لخدمة الإنسان ( وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان لأن كل عمل من أجل الله فإنه من أجل عباد الله لأن الله هو الغني عن عباده ولما كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيز له إلى جهة كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك ) (٢) ، بعد أن بينا طبيعة علاقة الإنسان بصفات الله في المنظور الصدري يطرح سؤال هام : لماذا خص ( العدل ) بالذات من بين الصفات الإلهية الأخرى ليكون أصلا من أصول الدين؟ وما هي ميزته في ذلك؟

الجواب : ( لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا اجتماعية ميزة القدوة لأن العدل هو الصفة التي توحي للمسيرة الاجتماعية التي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أي صفة أخرى .. إذن من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، الفتاوى الواضحة ، م. س ، ص ٧١٠.

٢ ـ م. ن ، ص ٧١٦.

١٣٢

بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية ولأجل ذلك أفرز ) (١) .. فالكَوْنُ قائم على أساس العدل والإسلام أراد للعلاقات الاجتماعية أن تؤسس على موازين العدل وحينما يحصل هذا التوافق والانسجام التكويني مع النظم التشريعية يسود الرفاه وتنزل البركات ( ولو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقاً ) (الجن : ١٦) ، عندما أحاط الصدر بالعمق الدلالي للعدل في بعده الاجتماعي والسياسي لمْ يصرف جهوداً كبيرة في بحوثه في إثبات أصل العدل بقدر ما تحدث عن أبعاده وآثاره ، فهو اكتفى بالاشارة إلى دليلين عابرين على صفة العدل في بحثه : ( موجز اصول الدين ) :

الأول : ان حسن العدل وقبح الظلم من أحكام العقل النظري وهذا العقل النظري هو من الله وبالتالي فهو محيط بهذه الأحكام والقيم.

والثاني : أنه من بحكم قدرته الهائلة وسيطرته الشاملة على الكون ليس بحاجة إلى أي مساومة ولف ودوران ومن هنا نؤمن بأن الله عادل لا يظلم أحداً (٢) ، ولما كان الصدر يولي العدل أهمية بالغة على مستوى العلاقات الاجتماعية أرجع جملة من الظواهر إلى العدل وفسر عدة قضايا في منظور العدل وأسس جملة من الرؤى استناداً إلى هذا الاصل ونكتفي هنا بثلاث نماذج نقتبسها من فكر باقر الصدر :

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، المدرسة القرآنية ، م. س ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

٢ ـ محمد باقر الصدر ، الفتاوى الواضحة ، م. س ، ص ٥٤.

١٣٣

ـ النموذج الأول : ايمانه بأن العدل الاجتماعي هو الركن الثالث للهيكل العام للاقتصاد الإسلامي هذه العدالة التي جسّدها الإسلام فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق التوازن المنشود فهذا العدل الاجتماعي هو الوجه الآخر للعدل للإلهي يقول باقر الصدر : ( ان العدل الاجتماعي الذي تقوم على أساسه مسؤوليات الجماعة في خلافتها العامة هو الوجه الاجتماعي للعدل الالهي الذي نادى به الأنبياء وأكدت عليه السماء كأصل من أصول الدين يتلو التوحيد مباشرة ) (١).

ـ النموذج الثاني : تصنيفه لطبقات المجتمع الفرعوني على أساس قيمة العدل حيث قسم هذا المجتمع إلى فئات مختلفة يحدّدها موقفها من الظلم والفئات الستة هي أ ) ظالمون مستضعفون ( اعوان الظلمة ). ب ) الحاشية المتملقون. ج ) الهمج الرعاع. د ) المهادنون. هـ ) الرهبانيون. و ) المستضعفون (٢).

ـ النموذج الثالث : اكتشافه لقانون وسنة تاريخية تقوم على التناسب بين العدل وبين ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة وبالمقابل يتناسب مدى الظلم في المجتمع تناسباً عكسياً مع علاقات الإنسان بالطبيعة ( فمجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، الإسلام يقود الحياة ، م. س ، ص ٤٧.

٢ ـ تفصيلات هذا القسم ، انظر المدرسة القرآنية ، من ص ٢٣٠ إلى ص ٢٣٦.

١٣٤

والإمكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها وتمنع الأرض بركاتها واما مجتمع العدل فهو على العكس تماماً هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والإمكانيات هذا المجتمع الذي تحدّثنا الروايات عنه تحدثنا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي ( عليه السلام ) تحدثنا بما تحفل به الأرض والسماء في ظل الإمام المهدي ( عليه السلام ) من بركات وخيرات وليس ذلك إلا لأن العدالة دائماً وأبداً تتناسب طرداً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة ... ) (١).

العدل الإلهي والفعل الإنساني :

من المطالب الأساسية التي طرقت في هذا الباب قضية الجبر والاختيار ولقد عكس لنا تاريخ الجدل الكلامي اتجاهين ضحى احدهما بحرية الإنسان لمصلحة التوحيد الافعالي ( الأشاعرة ) وضحى الآخر بالتوحيد الأفعالي لمصلحة إرادة الإنسان ( المعتزلة ) ووقفت مدرسة الإمامية موقفاً وسطاً ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ).

ومسألة الجبر والاختيار تنحل إلى مسألتين مسألة كلامية : كما بينا في أصل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة. ومسألة فلسفية وروح البحث فيها يرجع إلى أن فاعل هذه الأفعال سواء فرضناه في المسألة الأولى الإنسان أو الله أو هما معاً هل تصدر منه اختياراً أو بلا اختيار ومن هنا يعرف أن المسألة الكلامية لا تكفي وحدها لحسم النزاع في بحث الجبر والاختيار (٢). وَفي بحث الطلب والإرادة في علم الأصول استعرض

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، المدرسة القرآنية ، م. س ، ص ٢٣٨.

١٣٥

الشهيد الصدر في المستوى الكلامي من البحث خمسة احتمالات :

الاحتمال الأول : أن يكون الفاعل محضاً هو الإنسان ولا نصيب لرب العباد في الفاعلية وهذا مذهب التفويض وهو مذهب المعتزلة الذين اعتقدوا امكانية استقلال المعلول بقاء عن علته وانه بحاجة إلى هذه العلة أو إلى سببه حدوثاً لا بقاء.

الاحتمال الثاني : أن يكون الفاعل محضاً هو الله وأن الانسان له القابلية فقط كقابلية الخشب أن يكون مقعداً وهذا الاحتمال قريب من نظرية الكسب الاشعري ولكنه باطل بالوجدان.

الاحتمال الثالث : أن يكون لكل من الله والإنسان نصيب في الفاعلية فالانسان هو الفاعل المباشر بما اوتي من قدرة وسلطان وعضلات والله هو الفاعل غير المباشر من باب أن هذه القوى مخلوقة حدوثاً وبقاء له ومفاضة آنا فآنا ومعطاة من قبل الله.

الاحتمال الرابع : أن يكون الله هو الفاعل المباشر لكن الارادة ومبادئها مقدمات إعدادية.

الاحتمال الخامس : فاعلية واحدة تنسب إلى الله بنظر وإلى العبد بنظر آخر بناء على قوله إن نسبة العبد إلى الله نسبة الربط والفناء ونسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ويرى باقر الصدر أن هذا الاحتمال الأخير مبني على تصور صوفي لا يفهمه وبالتالي لا يبقى سوى احتمالين

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، المدرسة القرآنية ، م. س ، ص ٢٣٨.

١٣٦

الثالث والرابع ويكون كلاهما صورة معقولة لمبدأ ( الأمر بين الأمرين ) ، ولكنه في الأخير يبطل الرابع ( لكن مجرد اختيار المذهب الشيعي في المسألة الأولى ( المستوى الكلامي من البحث ) القائل بأن للإنسان دخلا في الفاعلية كما أن لله دخلا فيها أو اختيار المذهب المعتزلي القائل بأن الانسان هو الفاعل محضاً لا يحتم كون الإنسان مختاراً غير مجبور في فعله فلعل صدور الفعل من الإنسان كصدور الإحراق من النار بناء على فاعلية النار للاحراق ) (١).

ولذلك فالمشكلة لا تنحل إلاّ ببحث ( المسألة الثانية الفلسفية ) : وهي ناشئة من ( شبهة فلسفية تنفي الاختيار حتى بعد الاعتراف بأن الفعل فعل الإنسان وهذه الشبهة مركبة من مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان الاختيار ينافي الضرورة فان الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضرورية.

المقدمة الثانية : أن صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة لأن الفعل صادر منه ممكن من الممكنات فتحكمه القوانين السائدة في كل عالم الإمكان القائلة ( بأن الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد ) فالجمع بين هاتين المقدمتين تثبت ان الإنسان غير مختار في أفعاله إذ لا يصدر منه فعل إلاّ بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار ) (٢). بلغة أخرى أن الشبهة ناشئة من التلازم بين الضرورة التي تفرضها عموم قانون العلية لعالم

__________________

(١) و (٢) م. ن ، ص ٣٠.

١٣٧

الممكنات وبين الحرية التي تتنافى مع الضرورة ... فكيف نوفق بين العلية والحرية؟ هذه هي المعضلة التي أرهقت عقول الفلاسفة والاصوليين! ... لقد طرحت عدة مسالك لحل المعضلة استعرضها الشهيد الصدر في بحثه الأصولي (١) وناقشها ... هذه المسالك تتراوح بين انكار المقدمة الأولى ... ( الضرورة تنافي الاختيار ) وبين انكار المقدمة الثانية : ( قوانين العلية ) ، أو انكار عموم قوانين العلية وأنها لا تشمل الافعال الإنسانية الاختيارية ( محاولة المحقق النائيني ) وبين مسلك آخر يرى ان الطبيعة جهزت الإنسان بقابليات يصعب معها التنبؤ بتصرفه والاختيار ينتزع مِنْ هذه الفرصة .. ان كل هذه المحاولات قاصرة عن اثبات الاختيار .. وانما حلت المشكلة صورياً .. وهنا يظهر ابداع الصدر لنظريته المشهورة التي تعتبر الحل الجذري الوحيد لهذه المعضلة الا وهي ( نظرية السلطنة ) : فالسلطنة مفهوم قبالة مفهومي الوجوب والإمكان ، وخروج الممكن من حد الاستواء يتحقق بأحد أمرين : إما الوجوب بالغير وإما السلطنة يقول باقر الصدر : ( فلو وجدت ذات في العالم تمتلك السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة ان هذه السلطنة تكفي للوجود ) (٢). والسلطنة تشترك مع الإمكان من حيث تساوي نسبتها إلى الوجود والعدم ولكنها تختلف عنه في كون الإمكان لا يكفي لتحقيق أحد الطرفين بل يحتاج تحقيقه إلى مؤونة زائدة وأما السلطنة فيستحيل

__________________

١ ـ انظر مباحث الدليل اللفظي ، ج٢ ، للسيد محمود الهاشمي ، ص ٣٠ إلى ٣٥.

٢ ـ م. ن ، ص ٣٧.

١٣٨

فرض الحاجة معها إلى ضم شيء آخر إليها لتحقيق أحد الطرفين إذ بذلك تخرج عن كونها سلطنة وهي كالوجوب لانها كافية لتحقيق الشيء وتمتاز عنه أن صدور الفعل من الوجوب ضروري ومن السلطنة ليس ضرورياً فالبون شاسع بين ( له ان يفعل ) و ( عليه أن يفعل ).

ويرى باقر الصدر ان السلطنة موجودة في الإنسان والدليل على ذلك منحصر في الشرع والوجدان.

الأصل الثالث : النبوة

ترتبط ظاهرة النبوة بقانون الهداية العامة الذي ينص أن ( كل شيء في هذا الكون الواسع يحمل معه قانونه الرباني الصارم الذي يوجهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطور فالبذرة يتحكم فيها قانونها الذي يحولها ضمن شروط معينة إلى شجرة والنطفة يتحكم فيها قانونها الذي يطورها إلى إنسان وكل شيء من الشمس إلى البروتون ومن الكواكب السيارة في مدار الشمس إلى الالكترونات السيارة في مدار البروتون يسير وفق خطة ويتطور وفق امكاناته الخاصة ) (١) ، والإنسان ليس استثناء من هذا القانون فهو كغيره من مفردات الكون خاضع لقانون الهداية العامة : ( الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) ( الاعلى : ٣ ) ولكن خصوصية الاختيار وحرية الارادة الذي يتمتع بها تجعل لتطبيق هذا

__________________

١ ـ محمد باقر الصدر ، الفتاوى الواضحة ، م. س ، ص ٥٩.

١٣٩

القانون ظروفه الخاصة فبينما تَعْملُ الكائنات الطبيعية البحتة من أجل أهداف مرسومة من قبل واضع الخطة لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخى تحقيقها فإن الإنسان كائن هادف يعمل من أجل هدف يريد هو تحقيقه. من الطبيعي أن تكون هذه الأهداف التي يحددها الإنسان وفقاً لمصلحته وحاجاته ، ولكن من جهة اخرى إن خلق الإطار الموضوعي لضمان عمل الإنسان وسعيه لمصالح الجماعة شرط لابدَّ منه لاستقرار الحياة الاجتماعية وديمومتها فينشأ التعارض بين ما تفرضه طبيعة الحياة المدنية من مصالح جماعية وما تدعو إليه توازع الفرد إلى مصالح شخصية وكان لابدَّ من صيغة تحل هذا التناقض : ( والنبوة بوصفها ظاهرة ربانية في حياة الإنسان هي القانون الذي وضع صيغة الحل هذه بتحويل مصالح الجماعة وكل المصالح الكبرى التي تتجاوز الخط القصير لحياة الإنسان إلى مصالح للفرد على خطه الطويل وذلك عن طريق اشعاره بالامتداد بعد الموت والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التي يحشر الناس فيها ليروا اعمالهم ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) (الزلزلة : ٧ ـ ٨) وبذلك تعود مصالح الجماعة مصالح للفرد نفسه على هذا الخط الطويل ) (١) ، وتتألف هذه الصيغة من جانب نظري وجانب تطبيقي : الاول يتمثل في النظرية التي تستند إليها الصيغة وهي عقيدة المعاد : أما الجنبة التطبيقية فهي الممارسة التربوية للإنسان على هذه النظرية وهي عملية قيادية

__________________

١ ـ م. ن ، ص ٦١.

١٤٠