التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر

المؤلف:

الأسعد بن علي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-427-2
الصفحات: ١٧٢

١
٢

مقدمة المركز

إنّ « مركز الأبحاث العقائدية » سعى أن تكون « سلسلة الرحلة إلى الثقلين » التي خصّصها لنشر كتب المستبصرين مصداقاً عملياً لحرية الرأي والمعتقد ، وأن تكون منبراً حراً يعبّر من خلالها معتنق مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) بكل رحية وجرأة عن حصيلة جهوده العملية التي بذلها خلال البحث وعن الأدلة والبراهين التي دفعته للتخلّي عن مذهبه السابق والتي أخذت بيده إلى الالتحاق بركب مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ).

وهذا الكتاب : « التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر ( قدس سره ) » هو واحد من مصاديق هذا المدّعى ، حيث أبدى فيه مؤلّفه ما توصّل إليه عبر بحثه الموضوعي حول علم الكلام عند التشيّع ، ثم بيّن رأيه الذي توصّل إليه بعد قيامه بالدراسة التحليلية التي استهدفت الكشف عن أوجه التجديد والابداع منهجياً ومفاهيمياً في دراسة أصول الدين عند الشهيد الصدر ( قدس سره ).

ومن هذا المنطلق ذكر المؤلف بكل صراحة ومن دون تهيّب أنه توصل إلى هذه النتيجة بأنّ ما ذهب إليه الشهيد الصدر في علم الكلام يعتبر فكراً يتّسم بالقوّة والمتانة والشمولية ، وأن آراءه في علم الكلام أفضل بكثير من سائر المدارس والمذاهب الكلامية.

وقد حاول المؤلّف في دراسته هذه أيضاً أن يبيّن بصورة غير مباشرة عن أسباب رحلته إلى مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وذلك ببيانه العذب ودراسته المعمّقة في تسليط الضوء على واحد من مراجع مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ).

والمؤلّف القدير حاول أن تكون دراسته هذه تحليلية متينة مستوفاة ، ونحن بدورنا إذ نبارك له هذا الجهد العلمي الرصين ، نشير إلى أن عدّة نقاط من كتابه هذا قابلة للبحث والنظر ، منها :

٣

(١) ما ذكره في الصفحة (٨) : من أن الدراسات والبحوث التي أُلّفت حول الشهيد الصدر ( قدس سره ) تعاني من نقائص.

وهذا يبيّن وجهة نظر المؤلّف حول هذه الدراسات وتقييمه لها ، مع احترامنا الكامل لكل من كتب من بحوث ودراسات حول فكر الشهيد الصدر ( قدس سره ).

(٢) ما ذكره في الصفحة (٢٤) : من أنّ الجمود في علم الكلام حلّ مع حلول القرن الرابع للهجرة ...

إذ ربما تكون في عبارته هذه بعض المسامحة.

(٣) ما ذكره في الصفحة ( ٦٧ ـ ٦٨ ) : من أنّ التفكير العقائدي القديم حاول أن يدرس التراث العقائدي والمسائل الكلامية بمنأى عن قانون الحركة والتكامل ، لذلك فاتته دلالات مركزية هامة ...

وهذا الكلام على إطلاقه لا يخلو من إشكال.

(٤) ما ذكره في الصفحة (١٦٥) من أنّ الفكر الإسلامي لا يزال يتحرك في حدود الآفاق التي رسمها باقر الصدر ...

وكما تشاهد ، فان هذا الكلام على إطلاقه يجعلنا نتجاهل آراء المفكّرين العظام وإبداعاتهم ، كالعلامة الطباطبائي ( قدس سره ) ، والشهيد مطهري ( قدس سره ) ، وغيرهما من المعاصرين.

وربما يكون المؤلّف قد أشار في الصفحة (٩) من كتابه إلى رفع هذا الاشكال ، حيث قال : « ولم تركز الدراسة على المقارنة بين أفكار باقر الصدر وغيره من المفكّرين الطليعيين الذين يلتقي معهم في كثير من النقاط ، خاصة محمد حسين الطباطبائي والشهيد مطهري ، إلاّ في مواضع قليلة ، لأن الهمّ الأول كان الكشف عن نقاط خفية في فكر الرجل ومكامن التجديد والإبداع لديه في الطرح الكلامي ، فلم نلتفت إلى المقارنات إلاّ قليلا ... حتّى لا نشوش على الهدف المركزي ».

مركز الأبحاث العقائدية

فارس الحسّون

 

٤

مقدمة

في السنوات الأخيرة وبشكل غير متوقع ظهر من ينتصر لليبرالية الرأسمالية ويدّعي أنها أرقى مراحل الصراع الأيديولوجي : لقد حدث ذلك سنة ١٩٨٩ حين كتب فوكاياما فرنسيس مقالاته حول ( نهاية التاريخ نهاية العالم ) (*) وهو لا يقصد نهاية الأحداث بل يقصد أن منتهى التطور الايديولوجي هي الليبرالية وأن البشرية بلغت أوج الأنظمة السياسية : الرأسمالية ( فعدد الخيارات التي تواجهها البلدان في تحديد كيفية تنظيمها السياسي والإقتصادي قد قلّ كثيراً مع الزمن ومن بين النماذج المختلفة التي ظهرت في تاريخ الانسان بدءاً بالأنظمة الملكية والارستقراطية وصولا إلى الانظمة الثيوقراطية والدكتاتورية الفاشية والشيوعية في عصرنا فان الشكل الوحيد الذي استمر صامداً حتى نهاية القرن العشرين كان الديمقراطية الليبرالية .. وبعبارة أخرى ( ليست المحاولة الليبرالية هي التي تبدو منتصرة بقدر ما هي الفكرة الليبرالية أي أنه بالنسبة

__________________

* ـ ظهر كتابه ( نهاية التاريخ ) فيما بعد سنة ١٩٩٢.

٥

لقسم كبير جداً من العالم ليست هناك ايديولوجيا تدعي الشمولية حالياً تكون في موقع يمكنها من منافسة الديمقراطية الليبرالية ) (١) حتى الإسلام الذي يقرّ بأنه نظاماً ايديولوجياً متماسكاً ولكنه لا يعترف له بالقدرة على المنافسة خارج الحدود الجغرافية والتاريخية للعالم الإسلامي يقول : ( صحيح ان الإسلام يشكل ايديولوجية متماسكة شأن الليبرالية والشيوعية وله نظامه الأخلاقي الخاص وعقيدته الخاصة في العدالة السياسية والاجتماعية فدعوة الإسلام هي ذات طابع شمولي وهي تتوجه إلى جميع الناس .. وبالرغم من القوة التي أبداها الإسلام في تجدده الحالي إلاّ أن هذا الدين لا يبدو أنه يمارس أية جاذبية خارج الأصقاع التي كانت إسلامية ثقافياً منذ بداياتها فقد ولّى زمن الغزو الثقافي للإسلام كما يبدو انه يستطيع استعادة بلدان فلتت منه لفترة لكنه لا يقدم أبداً الاغراءات لشبيبة برلين وطوكيو وموسكو إذا كان هناك مليار من الناس تقريباً ينتمون للثقافة الإسلامية ( أي خمس سكان العالم ) فانهم لن يتمكّنوا من منافسة الديمقراطية الليبرالية في عقر دارها في مجال الافكار ) (٢) .. لقد غاب عن فوكاياما .. وهو يعلن عن نهاية ( تاريخهم ) ويناقش النظرية الإسلامية من منظور وضعي أنّه غير قادر على تفهّم ما لهذه المدرسة من عمق وامتداد وتأصل في النفوس والآفاق .. غاب عنه إن وفي نفس

__________________

١ و ٢ ـ فرنسيس فوكايا : نهاية التاريخ والانسان الأخير ، مركز الانماء القومي ١٩٩٣ ص ٧١.

٦

اللحظة التاريخية ذاتها ( مع مطلع القرن الخامس عشر للهجرة ) يولد التاريخ ويبدأ من المنظور الإسلامي في دورة حضارية جديدة مع قيام الثورة الإسلامية المباركة في إيران وبلوغ الفكر الإسلامي مرحلة متقدّمة من النضج والتكامل. لقد غاب عن فوكاياما ان ( المدرسة الإسلامية ) لا تنطلق كالليبرالية من معطيات ظرفية ولا تضخع في أصولها الفكرية الاعتقادية إلى التاريخ ... بل هي تستوعب التاريخ لأنها تستند إلى مرجعية خارج التاريخ ( الوحي الإلهي ) وإن كانت في نضالها اليومي وصراعها الاجتماعي تخضع لنواميس التاريخ وقوانين الحركة ... ان مضامين المدرسة الإسلامية فوق التاريخ لكنها تاريخية في حركتها ومسيرتها ... لقد غاب عنه ان الارتباط بالمطلق يعطي لهذه المدرسة قدرة على التجديد والتكيف في كل لحظة زمنية وفي كل فضاء تاريخي وفي كل موقع جغرافي فلا ... تأخذه الطمأنينة .. ولا يغرّنه ... واقع المسلمين الراكد ...

إن نهاية التاريخ التي يتنبأ بها ( مسيلمة ) الليبرالية الجديدة ... هي نهاية التاريخ المنقطع عن الله عزوجل ولكنها بداية للتاريخ الذي يندمج فيه الإنسان من جديد في الكون مع الله وبالله جل جلاله ...

بدأ التاريخ في المشرق ... وأذن التاريخ بنهايته في الغرب نهاية تمخّضت في تحولات سياسية خطيرة عرفها المعسكر الاشتراكي ... ولا نزال نترقّب تمثلاتها في المعسكر الرأسمالي ... بدأ التاريخ في المشرق

٧

بعودة الوعي وعودة الإسلام يقود الحياة إلى آفاق مستقبلية رحبة ... ويؤسس لنظم فكرية وثقافية وحضارية شاملة ... تخلّص الإنسان والمجتمع ... وتبشّر بحياة سعيدة عادلة.

لقد ساهم في صنع هذه اللحظة التاريخية العظيمة من فجر هذه الأمة رجالات كثر ... يشمخ على رأس قائمتهم ... ( محمد باقر الصدر ( قدس سره ) ) الذي استشهد ليمْنَحَ كيان الأمة الإسلامية نفخة من روحه الطاهرة .. فيشارك إلى جانب آخرين في بعث الحياة في هذا الكيان.

لقد مثّل باقر الصدر نموذجاً متميزاً من منظري الساحة وعلماً بارزاً في سماء نهضتها الفكرية وانبعاثها الحضاري.

وبعد عقدين من رحيله لا يزال انتاج باقر الصدر يشكّل نسيجاً متماسكاً مدرسة إسلامية متكاملة الابعاد .. وبالرغم من التطورات الثقافية والفكرية التي عرفها العالم منذ استشهاده إلاّ أن مشروعه الفكري لا يزال يمثّل من عناصر القوة والجدية ما يبقيه حاجة مستمرة إلى قراءة جديدة ... حتى نحسن تمثله وتشييد البناء التام لهذه الدراسة استناداً إلى الاسس التي ارساها ...

وقع فكر باقر الصدر موضوعاً للعديد من البحوث والدراسات التي حاولت استكشاف مناحي التجديد ونقاط القوة والإبداع في هذا العطاء ... إلاّ أن هذه الدراسات بقيت تعاني من نقائص عدة أهمها :

أ ) تمركزها حول بعض القضايا والمسائل دون غيرها.

ب ) انشداد هذه البحوث منهجياً إلى اليات ومناهج تجاوزها باقر

٨

الصدر وطرح آليات بديلة لها فإلى متى ندرس فكر باقر الصدر تجزيئياً في الوقت الذي اكتشف هو المنهج الترابطي الموضوعي؟ وإلى متى نبقى مشدودين إلى المنطق الأرسطي في تحليل افكاره .. متغافلين عن نظريته في المعرفة والمذهب الذاتي؟ ...

وفي دراستنا هذه نحاول تخطي هذين القصورين فاخترت موضوع التجديد الكلامي عند باقر الصدر لأنه في حدود اطلاعي القاصر لا توجد دراسة مستوفية تستوعب البحث العقائدي عند الشهيد الصدر وان تعرّضت بعض البحوث لبعض كتابات الصدر العقائدية .. لكن التجديد الكلامي بهذا العنوان لا يمكن الإحاطة به إلاّ من خلال دراسة موضوعية لجميع اصول الدين.

ولابدَّ من الإشارة إلى أن الدراسة تطغى عليها الصبغة التحليلية وهذا ما يبرّر التصاقها الشديد بكلمات باقر الصدر حتى نقترّب أكثر فأكثر من الموضوعية التي نقل افكاره وابداعاته.

ولم تركّز الدراسة على المقارنة بين أفكار باقر الصدر وغيره من المفكّرين الطليعيين الذين يلتقي معهم في كثير من النقاط ( خاصة محمد حسين الطباطبائي والشهيد مطهري ) إلاّ في مواضع قليلة لأن الهم الأول كان الكشف عن نقاط خفية في فكر الرجل ومكامن التجديد والإبداع لديه في الطرح الكلامي فلم نلتفت إلى المقارنات إلاّ قليلا .. حتى لا نشوّش على الهدف المركزي.

٩

أما البعد النقدي فهو غائب تماماً عن الدراسة. وإن كنت أعتقد بضرورة قراءة مشروع الصدر قراءة نقدية تساهم في استكمال بناء المشروع وتدارك أوجه النقص فيه ... إلاّ أن أمرين اثنين حالا دون ذلك :

أولا : ان القراءة النقدية العلمية السليمة هي التي تقع في مرحلة تم فيها تحليل المشروع فالنقد مرقى فكري أعلى من التحليل والتمثّل وانا اعتقد ان هذا المرقى الاخير لم نبلغه أو لم نتجاوزه على الأقل خاصة في مستوى المجال الذي تم اختياره ( التجديد الكلامي ).

أما ثانياً : فان القراءة النقدية تستوجب مستوى علمياً واحاطة تفصيلية دقيقة بكامل المشروع الفكري لباقر الصدر.

في ضوء هذه الأهداف والأسس تتكون بنية البحث اضافة إلى هذه المقدمة في ثلاثة فصول :

الفصل الأول : يقدم نبذة عن تاريخ علم الكلام والمرحلة التاريخية التي ينتمي إليها باقر الصدر.

الفصل الثاني : التجديد المنهجي والنقلات التي أحدثها باقر الصدر.

الفصل الثالث : المضامين والأفكار الاعتقادية في ضوء المنهج الجديد ...

١٠

الفصل الأول

مراحل علم الكلام

١١
١٢

تزداد البحوث والدراسات حول المعرفة ، أدواتها ، مصادرها ، وتطورها اهمية يوماً بعد آخر. ولا يزال الفكر الإسلامي يتلمس طريقه في اتجاه طرح نظريات شتى في مختلف مجالات الفكر قصد اسلمة المعرفة وصياغة التصور الإسلامي الأصيل ، ولا يخفى ما تمتاز به المدرسة الإسلامية من تنوع وثراء يؤهلها للعب هذا الدور ولعل منشأ هذا التنوع يعود إلى أمرين أسايين :

أولا : تعدد مصادر المعرفة في المنظور الإسلامي.

ثانياً : ظهور اتجاهات معرفية متنوعة في تاريخنا الفكري.

فالرؤية الإسلامية العامة لا تلغي دور العقل كما أنها تقر بدور الحس والتجربة فهي تزاوج بين المحسوسات والمعقولات وإن كانت تختلف مع التجريبيين والحسيين في حدود الحس والتجربة كما تفترق عن الاتجاهات العقلية في مدى دور العقل وطبيعة البديهيات التي يختزنها.

ومن جهة أخرى تؤمن المعرفة الإسلامية بالوحي كمصدر إلهي فوق بشري يهدينا لمعرفة معصومة في جذورها بشرية في فهمها والتعاطي معها وهذا نبع يثري التراث الإسلامي ويمنحه دفعة تفتقدها كل الاتجاهات

١٣

الوضعية. ومن سنخ الوحي يقوم الإلهام كأداة معرفية تستند إلى تزكية النفس ومجاهدتها في الإعراض عن دواعي الطبيعة ومتطلبات الهوى لبلوغ مراتب عالية في السير والسلوك.

إن هذا التنوع في أدوات المعرفة ووسائلها ساهم بفعالية في الثراء الفكري والمذهبي للتراث الإسلامي. ومن صميم هذا التنوع المعرفي انبثقت كل العلوم الإسلامية. فالحديث كان تدويناً للنص النبوي الذي يمثّل التفسير والتحليل الوافي للوحي وهو الوجه الآخر للنص القرآني التي تحوم حوله كل علوم القرآن في احضان الحديث نشأ الفقه وتكامل وتطور وكذا علم اصول الفقه الذي انبثق بدوره عن الفقه كمجال لدراسة القواعد العامة والمشتركة في استنباط الأحكام الشرعية .. الخ ..

هذا التنوع في مصادر المعرفة كان عاملا مهماً في تعدد المناهج المعرفية في فكرنا الإسلامي والتي يرجعها البعض إلى ثلاثة اتجاهات أساسية :

أ ـ المنهج الفلسفي بشقيه الإشراقي والمشائي.

ب ـ المنهج الكلامي.

ج ـ المنهج العرفاني.

ويضيف البعض منهجاً رابعاً معتبراً اياه مكمّلا للثلاثة السابقة : مدرسة الحكمة المتعالية التي توحد بين ( القرآن والعرفان والبرهان ) في الوصول للمعرفة (١). فالمنهج الكلامي قسيم للمنهج الفلسفي المشائي

__________________

١ ـ مرتضى مطهري ، الفلسفة ، دار التيار الجديد ، ص ٥٧.

١٤

والمنهج العرفاني وهذا النهج يستند إلى جملة من الضوابط التي حدّدها تراث هذا العلم فالكلام هو العلم الذي يبحث عن أصول دين الإسلام على النحو الذي يحدّد ما هو من أصول الدين وكيف وبأي دليل يتم إثباتها مع الردود على الشكوك والشبهات التي تردّ عليه ) (١). فالتعريف السابق يحدّد المهمات الأساسية لعلم الكلام :

أولا : تحديد اصول الدين.

ثانياً : اثباتها بالدليل.

ثالثاً : دفع الشبهات التي تثار حولها.

ولما كان المتكلّم لا ينطلق في بحثه مجرّداً عن أي معتقد أو خلفية مسبقه بل هو يبدأ متسلّحاً بمعتقداته ومتبنياته ، اتسم النهج الكلامي بالنزعة الجدلية التي تسعى لاثبات المعتقد الديني بالدليل مقابل الاتجاه الفلسفي الذي يتحرّك عبره الفيلسوف حراً من كل التزام مسبق بأية فكرة أو مضمون ( فالمتكلم بعكس الفيلسوف يعتبر نفسه متعهّداً بالدفاع عن حريم الإسلام والبحث الفلسفي بحث حرّ أي ان هدف الفيلسوف ليس معيّناً سلفاً بأن يدافع عن عقيدة ما ولكن هدف المتكلم محدد سابقاً ) (٢) ، ولكن رغم ذلك تأثر علم الكلام وتفاعل مع الاتجاهات المعرفية الأخرى فاكتسب البحث العقائدي أحياناً نزعة عرفانية ( الغزالي مثلا ) وفلسفية أحياناً أخرى

__________________

١ ـ مرتضى مطهري ، الكلام والعرفان ، الدار الإسلامية ، ص ١٥.

٢ ـ مرتضى مطهري ، الفلسفة ( مصدر سابق ) ، ص ٥٥.

١٥

 ( الخواجة الطوسي ). وأوغلت بعض الاتجاهات الحرفية فحاربت علم الكلام واعتبرته بدعة كالحشوية والسلفية وبعض أئمة مذاهب الفقه.

إن موضوع علم الكلام وخطورته هما اللذان بوَّآه المكانة السامية في تاريخنا الثقافي. فان كان شرف العلم كما يقول القدماء بشرف المعلوم فلا علم فوق الكلام لأنه يتعلّق بالذات الالهية المقدّسة وصفاتها وافعالها بالمعنى العام للفعل الذي يتضمّن النبوة والمعاد كتجليات للفعل الإلهي.

وان كان جل العلوم الإسلامية الأخرى تقوم على النص القرآني والنبوي وكلمات المعصومين فان علم الكلام هو الذي يتكفّل اثبات هذا النص بإثبات أصل التوحيد وأصل النبوة.

وفي زماننا الحاضر لم يفتقد ( علم العقائد ) أهميته البتة. بل عززتها الحاجة الفطرية المتأججة لدى الإنسان لامتلاك رؤية كونية عامة تضيء له الدرب وتفتح أمامه الآفاق بالاجابة عن أهم الأسئلة الكبرى التي تقلقه من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟

لقد تعمّقت هذه الحاجة عبر التاريخ ... خاصة بعد احتكاك المسلمين مع الشعوب الأخرى ودياناتها وبعدما انخرطوا في الصراع المذهبي والديني سواء داخلياً أو مع المعتقدات الأخرى.

ولكن هلم بلغ علم الكلام من النضج ما يؤهّله لمواكبة تحديات العصر ومتطلبات الزمان؟ وهل كان في تاريخه دوماً في مستوى هذه المسؤولية التي تعهد بادائها والذب عنها؟

١٦

إن استقراء تاريخ هذا العلم يعكس مداً وجزراً ، إقبالا وإدباراً ... حَيْثُ لم يكن دائماً في مستوى الحاجة الماسة للمسلمين في الذبّ عن الدين والمبدأ والوحي والمعاد ... لقد شهد تاريخ هذا العلم فترات ازدهار وتقدّم كما عرف انتكاسات موضعية لم تفقده على ( كل حال ) ... تكامله في اتجاه عام تصاعدي ...

وإن محاولة تحقيب هذا التاريخ تواجه صعوبات جمة لأن خصوصيات المذاهب والمدارس الكلامية المختلفة تحول دون ان نرسم تاريخاً واحداً حيث اختلفت مراحل كل تيار عن بقية المدارس واكتسبت كل مدرسة طابعاً وتكاملا يميّزها عن المدارس الأخرى.

ولذلك سنحاول ان نحدّد الملامح الكبرى العامة لتاريخ هذا العلم والتي تشترك فيها تقريباً كلّ الاتجاهات الكلامية من اشاعرة ومعتزلة وامامية ... الخ ... وإذ نحن نحاول ان نُعطي منحى عاماً لكل المدارس الكلامية لابدَّ أن نشير أن ازدهار هذا العلم بتعدّد فرقه ومذاهبه كان مصاحباً لازدهار الإسلام ( وانحط علم الكلام حين جمد فكر المسلمين ... وحين اغلق باب الاجتهاد ) (١).

وأهم المراحل هي :

__________________

١ ـ أحمد محمود صبحي ، علم الكلام ، مج١ ص ٣٨.

١٧

أولا : مرحلة الجذور التأسيسية الأولى

إن نزول الوحي الإلهي على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان إيذاناً ببدء الرسالة الخاتمة وكذلك إيذاناً بتحول كبير في التصور العام للإنسان والحياة والعالم. لقد رسمت الآيات الأولى من سورة العلق منهجاً جديداً في رؤية الكون ورسالة الإنسان إنها تؤسس لقراءة مزدوجة قراءة في عالم الطبيعة : والاستفادة مما تزخر به من قدرات وامكانات وقراءة باسم الله بمعنى منفتحة على ما يزخر به الغيب من مواهب وعطاءات ... إنه التوازن الدقيق بين مستلزمات عالم الطبيعة وعالم الغيب (١).

إن النص القرآني هو الذي أسّس لنشوء علم الكلام لأنه بما تضمّنه من حقائق عن علم الله وقدرته وحياته عنن النبوة والمعاد والإمامة وجه الأنظار إلى مثل هذه القضايا إضافة إلى إلحاحه الشديد على وجوب النظر والفكر والتأمل وإقامة البرهان والجدل بالتي هي أحسن .. لقد احتلت هذه المطالب مساحة كثيفة فاق القرآن بها ما تضمنته الكتب السماوية الأخرى.

ولكن لما كان في تاريخ كل دين يمرّ بمرحلة تتسم بالتسليم والانقياد القلبي بعيداً عن المناقشة والجدال في تفاصيل العقيدة قبل بلوغ مرحلة

__________________

١ ـ يشار إلى أن نظرية المزج بين ( قراءتين ) فصلها أبو القاسم حاج محمد في كتابه العالمية الإسلامية الثانية فصل ( الوعي المحمدي ) فليراجع.

١٨

التدقيق والتمحيص العقليين والتخصص في المناظرة والجدل ، لم تبرز هذه المسائل فجر الرسالة في نطاق علم خاص لأن العقائد زمن الرسالة ونزول القرآن كانت تواكب المسيرة والدعوة ويعيشها الناس حياة وحركة لا جدال وفرضيات .. من هنا لم تكن الحاجة ملحة لصياغة نظرية لمسائل علم قائم بذاته.

فمرحلة التأسيس تقوم على اعتبار أن القرآن هو المنطلق لنشوء هذا العلم سواء من جهة المضمون أو من جهة المنهج. والزمخشري يقرّر هذه الحقيقة حيث يذهب أن الإغماض في القرآن وتشابه بعض معانيه هو السرّ في دفع المسلمين للبحث والنظر والتفكير والاستنباط و ( ولو كان كله ( القرآن ) محكماً لتعلق الناس بسهولة مأخذه ولأعرضوا عمّا يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصّل إلى معرفة الله وتوحيده إلاّ به. ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز من الثابت على الحق والتزلزل فيه ولما في تقادح العلماء واتباعهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمّة ونيل الدرجات عند الله ) (١).

ثمّ إن القرآن لا يخلو من آيات بديعة في مجادلة المشركين وأتباع الديانات الأخرى ونقض مزاعمهم ممّا شجّع المسلمين أكثر فأكثر على بلورة هذا العلم وتأسيسه. إضافة إلى ما نقله الحديث من محادثات

__________________

١ ـ الزمخشري ، الكشاف ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ج١ ص ٣٣٨.

١٩

الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مع اليهود والنصارى والمشركين واحتجاجاته عليهم. ولا يخفى على كل منصف الأثر البالغ للإمام علي ( عليه السلام ) يقول الشهيد مطهري ( رض ) ( إن البحث الاستدلالي بخصوص الأصول الإسلامية قد نشأ من القرآن الكريم كما في أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخطب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تعقيباً وتفسيراً وان اختلفت صياغة وأسلوب هذه المباحث عن صياغة وأسلوب المتكلمين فيما بعد ) (١).

المرحلة الثانية : مرحلة النشوء والنمو

تتجاهل الدراسات عادة مرحلة ( الارهاصات ) ، ( المرحلة السابقة ) ، وتؤرخ لعلم الكلام انطلاقاً من القرن الثاني للهجرة على يد بعض الرموز كمعبد الجهني وغيلان الدمشقي اللذين دافعا عن اختيار الانسان مقابل اتجاهات ظهرت تنظر للجبر ، ولكن التحقيق ان مسألة الجبر والاختيار التي شكّلت في فترة ما محور المباحث الكلامية هي ضمنا مسألة القضاء والقدر بمعنى أن القضية من جهة ارتباطها بالانسان عنوانها الجبر والاختيار ومن جهة علاقتها بالله عزوجل تعنون بالقضاء والقدر وعن هذه المسألة تتفرع قضية العدل وذلك لوضوح العلاقة بين الجبر والظلم والعدل والاختيار وينجر عنه بحث الحسن والقبح الذاتيين فالمستقلات العقلية ومسألة تعليل افعال المولى بالأغراض وشيئاً فشيئاً يتسلسل البحث

__________________

١ ـ مرتضى مطهري ، الكلام والعرفان ، مصدر سابق ، ص ١٨.

٢٠