مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥

تعارفتم عليه.

______________________________________________________

الأول : ما أفاده الوالد قدس‌سره وهو أن التآخي بينكم لم يقع على التشيع ولا في هذه النشأة بل كانت أخوتكم في عالم الأرواح قبل الانتقال إلى الأجساد ، وإنما حصل تعارفكم في هذا العالم بسبب الدين ، فكشف ذلك عن الأخوة في العليين ، وذلك مثل رجلين كانت بينهما مصاحبة قديمة فافترقا زمانا طويلا ثم تلاقيا فعرف كل منهما صاحبه ، ويؤيده الحديث المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ، وهذا الخبر وإن كان عاميا لكن ورد مثله في أخبارنا بأسانيد جمة أوردتها في الكتاب الكبير.

منها : ما روى الصفار في البصائر بأسانيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : والله يا أمير المؤمنين عليه‌السلام إني لأحبك ، فقال : كذبت ، فقال الرجل : سبحان الله كأنك تعرف ما في قلبي؟ فقال علي عليه‌السلام : إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ، ثم عرضهم علينا فأين كنت لم أرك.

وعن عمارة قال : كنت جالسا عند أمير المؤمنين إذ أقبل رجل فسلم عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين والله إني لأحبك فسأله ثم قال له : إن الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام ، ثم أسكنت الهواء فما تعارف منها ثم ائتلف هيهنا ، وما تناكر منها ثم اختلف هيهنا ، وإن روحي أنكر روحك.

وبسنده أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله ، إلا أنه قال : إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فأسكنها الهواء ثم عرضها علينا أهل البيت ، فو الله ما منها روح إلا وقد عرفنا بدنه ، فو الله ما رأيتك فيها فأين كنت.

وروى الصدوق في العلل بسند موثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف هيهنا وما تناكر منها في الميثاق اختلف هيهنا.

وروي بسند آخر عنه عليه‌السلام أنه قال لرجل من أصحابه : ما تقول في الأرواح

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

أنها جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف؟ قال : فقلت : إنا نقول ذلك ، قال : فإنه كذلك إن الله تعالى أخذ على العباد ميثاقهم وهم أظلة قبل الميلاد ، وهو قوله عز وجل « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ » (١) الآية قال : فمن أقر له يومئذ جاءت ألفته هيهنا ، ومن أنكره يومئذ جاء خلافه هيهنا.

وقال ابن الأثير في النهاية : فيه الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف « مجندة » أي مجموعة كما يقال ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة ، ومعناه الإخبار عن مبدء كون الأرواح وتقدمها على الأجساد أي أنها خلقت أول خلقها على قسمين ، من ائتلاف واختلاف كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت ، ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة والأخلاق في مبدء الخلق ، يقول : إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما خلقت عليه ، ولهذا ترى الخير يحب الأخيار ويميل إليهم ، والشرير يحب الأشرار ويميل إليهم ، انتهى.

وقال الخطابي : خلقت قبلها تلتقي فلما التبست بالأبدان تعارفت بالذكر الأول ، انتهى.

وأقول : استدل بهذا الحديث على أمرين « الأول » خلق الأرواح قبل الأبدان وقد اختلف المتكلمون والمحدثون من العامة والخاصة في ذلك فذهب أكثر المتكلمين إلى أن الأرواح بعد تمام خلقة البدن ، قال شارح المقاصد : النفوس الإنسانية سواء جعلناها مجردة أو مادية حادثة عندنا لكونها أثر القادر المختار ، وإنما الكلام في أن حدوثها قبل البدن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ،

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٢.

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أو بعده لقوله تعالى بعد ذكر أطوار البدن : « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » (١) إشارة إلى إفاضة النفس ، ولا دلالة في الحديث مع كونه خبر واحد على أن المراد بالأرواح النفوس البشرية أو الجوهرية العلوية ولا في الآية على أن المراد إحداث النفس أو إحداث تعلقها بالبدن ، وأما الفلاسفة فمنهم من جعلها قديمة وذهب أرسطو وشيعته إلى أنها حادثة ، ثم ذكر دلائل الطرفين واعترض عليها بوجوه.

وأما أصحابنا رضوان الله عليهم فظاهر أكثر المحدثين أنهم قالوا بظواهر تلك الأخبار ، قال الصدوق رضي‌الله‌عنه في رسالة الاعتقادات : اعتقادنا في النفوس أنها الأرواح التي بها الحياة وأنها الخلق الأول ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أول ما أبدع الله سبحانه هي النفوس المقدسة المطهرة فأنطقها بتوحيده ، ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه ، واعتقادنا فيها أنها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء ، وساق الكلام إلى قوله : وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، وقال الصادق عليه‌السلام : إن الله تعالى آخى بين الأرواح في الأظلة قبل أن يخلق الأبدان بألفي عام ، فلو قد قام قائمنا أهل البيت لورث الأخ الذي آخى بينهما في الأظلة ، ولم يورث الأخ من الولادة.

وأما المتكلمون منا فأكثرهم قالوا بحدوثها بعد تصوير البدن في الرحم وأولوا هذه الأخبار بتأويلات بعيدة ، قال الشيخ المفيد (ره) في أجوبة المسائل السروية : فأما الخبر بأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فهو من أخبار الآحاد ، وقد روته العامة كما روته الخاصة ، وليس هو مع ذلك مما يقطع على الله بصحته ، وإن ثبت القول فالمعنى فيه أن الله تعالى قدر الأرواح في علمه قبل اختراع الأجساد ، واخترع الأجساد واخترع لها الأرواح ، فالخلق للأرواح قبل

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١٤.

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الأجساد خلق تقدير في العلم كما قدمناه ، وليس بخلق لذواتها كما وصفناه ، والخلق لها بالإحداث والاختراع بعد خلق الأجسام والصور التي تدبرها الأرواح ، ولو لا أن ذلك كذلك لكانت الأرواح تقوم بأنفسها ، ولا تحتاج إلى آلة تعتملها ولكنا نعرف ما سلف لنا من الأحوال قبل خلق الأجساد كما نعلم أحوالنا بعد خلق الأجساد ، وهذا محال لا خفاء بفساده ، وأما الحديث بأن الأرواح جنود مجندة فالمعنى فيه أن الأرواح التي هي الجواهر البسائط تتناصر بالجنس وتتخاذل بالعوارض فما تعارف منها باتفاق الرأي والهوى ائتلف ، وما تناكر منها بمباينة في الرأي والهوى اختلف ، وهذا موجود حسا ومشاهد وليس المراد بذلك أن ما تعارف منها في الذر ائتلف كما تذهب إليه الحشوية كما بيناه من أنه لا علم للإنسان بحال كان عليها قبل ظهوره في هذا العالم ، ولو ذكر بكل شيء مما ذكر ذلك ، فوضح بما ذكرناه أن المراد بالخبر ما شرحناه والله الموفق للصواب ، انتهى.

وقال الراوندي (ره) في كتاب ضوء الشهاب : في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأرواح جنود مجندة قال بعض من تكلم في هذا الحديث : أنه على حذف المضاف ، والتقدير ذوا الأرواح ، وهذا قريب المأخذ ، وعند جماعة من محققي أصحاب الأصول أنه يجوز عقلا أن يكون الله تعالى إذا استشهد الشهيد أو توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الصالح من بني آدم ينتزع من جسده أجزاء بقدر ما تحل الحياة التي كانت الجملة بها حية ، فيردها إلى تلك الأجزاء فتصير حيا وإن كان جثته صغيرة ، فيرفعه إلى حيث شاء فإنه لا اعتبار في الحي بالجثة ، وظاهر الكتاب يشهد بصحة ذلك وكذا الحديث ، وهذا الحديث أيضا مما يعضده ، فعلى هذا تتعارف هذه الأجساد اللطيفة بعد موت صاحبها كما كانت في دار الدنيا ، يعرف بعضها بعضا ، وتتباشر فتأتلف وبالعكس ، انتهى.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأقول : قيام الأرواح بأنفسها أو تعلقها بالأجساد المثالية ثم تعلقها بالأجساد العنصرية مما لا دليل على امتناعه ، وأما عدم تذكر الأحوال السابقة فلعله لتقلبها في الأطوار المختلفة أو لعدم القوي البدنية أو كون تلك القوي قائمة بما فارقته من الأجساد المثالية ، أو لا ذهاب الله تعالى عنها تذكر هذه الأمور لنوع من المصلحة ، كما ورد أن التذكر والنسيان منه تعالى ، مع أن الإنسان لا يتذكر كثيرا من أحوال الطفولية والولادة ، والتأويلات المذكورة يأبى عنها صريح كثير من الأخبار التي مر بعضها.

الثاني (١) : أن الأرواح الإنسانية مختلفة في الحقيقة ، قال العلامة نور الله مرقده في شرح التجريد : ذهب الأكثر إلى أن النفوس البشرية متحدة في النوع متكثرة بالشخص ، وهو مذهب أرسطو ، وذهب جماعة من القدماء إلى أنها مختلفة بالنوع.

وقال شارح المقاصد : ذهب جمع من قدماء الفلاسفة إلى أن النفوس الحيوانية والإنسانية متماثلة متحدة المهية ، واختلاف الأحوال والإدراكات عائد إلى اختلاف الآلات ، وهذا لازم على القائلين بأنها أجسام والأجسام متماثلة إذ لا تختلف إلا بالعوارض ، وأما القائلون بأن النفوس الإنسانية مجردة فذهب الجمهور منهم إلى أنها متحدة المهية وإنما تختلف في الصفات والملكات ، واختلاف الأمزجة والأدوات ، وذهب بعضهم إلى أنها مختلفة بالمهية بمعنى أنها جنس تحته أنواع مختلفة ، تحت كل نوع منها أفراد متحدة المهية متناسبة الأحوال بحسب ما يقتضيه الروح العلوي المسمى بالطباع التام لذلك النوع ، ويشبه أن يكون قوله عليه‌السلام : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأرواح جنود مجندة « الحديث »

__________________

(١) أي من الأمرين الذي استدلوا لإثباته بهذا الحديث.

٢٥

٢ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن عثمان بن عيسى ، عن ابن مسكان وسماعة جميعا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لم تتواخوا على هذا الأمر [ و ] إنما تعارفتم عليه.

______________________________________________________

إشارة إلى هذا ، وذكر الإمام في المطالب العالية أن هذا المذهب هو المختار عندنا ، وأما بمعنى أن يكون كل فرد منها مخالفا بالمهية لسائر الأفراد حتى لا يشترك منهم اثنان في الحقيقة ، فلم يقل به قائل تصريحا ، كذا ذكره أبو البركات في المعتبر ، انتهى.

وأقول : دلالة الحديث على هذا المدعى ضعيفة وأصل المدعى ليس مما في تحقيقه طائل.

الثاني (١) : ما قيل : أن المعنى أنكم لم تتواخوا على التشيع إذ لو كان كذلك لجرت بينكم جميعا المؤاخاة وأداء الحقوق ، وليس كذلك بل إنما أنتم متعارفون على التشيع ، يعرف بعضكم بعضا عليه من دون مؤاخاة ، وعلى هذا يجوز أن يكون الحديث واردا مورد الإنكار وأن يكون واقعا موقع الأخبار ، أو المعنى أن مجرد القول بالتشيع لا يوجب التآخي بينكم ، وإنما يوجب التعارف بينكم ، وأما التآخي فإنه يوجبه أمور أخر غير ذلك لا يجب بدونها.

الثالث : أن المعنى أنه لم تكن مؤاخاتكم بعد حدوث هذا المذهب واتصافكم به ، ولكن كانت في حال الولادة وقبلها وبعدها ، فإن المؤاخاة بسبب اتحاد منشإ الطين والأرواح كما مر ، وهذا يرجع إلى الوجه الأول أو قريب منه.

الحديث الثاني : موثق وقد مر مضمونه.

__________________

(١) من معاني الحديث.

٢٦

(باب)

(حق المؤمن على أخيه وأداء حقه)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يشبع جوعته ويواري عورته ويفرج عنه كربته ويقضي دينه فإذا مات خلفه في أهله وولده.

______________________________________________________

باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه

الحديث الأول : ضعيف.

« أن يشبع جوعته » إسناد الشبع إلى الجوعة مجاز ، يقال : أشبعته أي أطعمته حتى شبع ، وفي المصباح جاع الرجل جوعا ، والاسم الجوع بالفتح « ويواري » أي يستر « عورته » وهي كلما يستحيي منه إذا ظهر وما يجب ستره من الرجل القبل والدبر ، ومن المرأة جميع الجسد إلا ما استثني ، والأمة كالحرة إلا في الرأس ، والظاهر أن المراد هنا أعم من ذلك بل المراد إلباسه باللباس المتعارف ، بما هو عادة أمثاله وفسر في بعض الروايات قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عورة المؤمن على المؤمن حرام أن المراد بها عيوبه ، ويحتمل هنا ذلك لكنه بعيد ، والكربة بالضم اسم من كربة الأمر فهو مكروب أي أهمه وأحزنه ، وقضاء الدين أعم من أن يكون في حال الحياة أو بعد الموت.

قوله عليه‌السلام : خلقه كنصره أي كان عوضه وخليفته في قضاء حوائج أهله وولده ورعايتهم ، قال في النهاية : خلفت الرجل في أهله إذا قمت بعده فيهم ، وقمت عنه بما كان يفعله ، وفي الدعاء للميت : أخلفه في عقبه أي كن لهم بعده.

٢٧

٢ ـ عنه ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن بكير الهجري ، عن معلى بن خنيس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له ما حق المسلم على المسلم قال له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واجب إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب قلت له جعلت فداك وما هي قال

______________________________________________________

الحديث الثاني : مجهول.

والضمير في عنه راجع إلى أحمد « واجبات » بالجر صفة للحقوق ، وقيل : أو بالرفع خبر للسبع ، ويمكن حمل الوجوب على الأعم من المعنى المصطلح والاستحباب المؤكد إذ لا أظن أحدا قال بوجوب أكثر ما ذكر « من ولاية الله » أي محبته سبحانه أو نصرته ، والإضافة إما إلى الفاعل أو المفعول ، وفي النهاية : الولاية بالفتح في النسب والنصرة والمعتق ، والولاية بالكسر في الإمارة والولاء في المعتق ، والموالاة من والى القوم ، وفي القاموس الولي القرب والدنو والولي الاسم منه والمحب والصديق والنصير ، وولي الشيء وعليه ولاية وولاية ، أو هي المصدر ، وبالكسر الحظة والإمارة والسلطان ، وتولاه اتخذه وليا والأمر تقلده وأنه لبين الولاءة والولية والتولي والولاء والولاية وتكسر ، والقوم على ولاية واحدة وتكسر أي يد ، انتهى.

قوله : ولم يكن لله فيه من نصيب ، أي لا يصل شيء من أعماله إلى الله ولا يقبلها ، أو ليس هو من السعداء الذين هم حزب الله بل هو من الأشقياء الذين هم حزب الشيطان ، وحمل جميع ذلك على المبالغة ، وأنه ليس من خلص أولياء الله.

ثم الظاهر أن هذه الحقوق بالنسبة إلى المؤمنين الكاملين أو الأخ الذي وأخاه في الله وإلا فرعاية جميع ذلك بالنسبة إلى جميع الشيعة حرج عظيم بل ممتنع ، إلا أن يقال أن ذلك مقيد بالإمكان بل السهولة ، بحيث لا يضر بحاله ، وبالجملة هذا أمر عظيم يشكل الإتيان به والإطاعة فيه إلا بتأييده سبحانه.

٢٨

يا معلى إني عليك شفيق أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل قال قلت له

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : إني عليك شفيق ، أي خائف أي إن لا تعمل أو متعطف محب من أشفقت على الصغير أي حنوت وعطفت ، ولذا لا أذكرها لك لأني أخاف أن تضيع ولا تعتني بشأنه ولا تحفظه وتنساه ، أو لا ترويه أو لا تعمل به ، فالفقرة الآتية مؤكدة.

وعلى التقادير يدل على أن الجاهل معذور ، ولا ريب فيه إن لم يكن له طريق إلى العلم ، لكن يشكل توجيه عدم ذكره عليه‌السلام ذلك وإبطائه فيه للخوف من عدم عمله به ، وتجويز مثل ذلك مشكل وإن ورد مثله في بيان وجوب الغسل على النساء في احتلامهن ، حيث ورد النهي عن تعليمهن هذا الحكم لئلا يتخذنه علة مع أن ظاهر أكثر الآيات والأخبار وجوب التعليم والهداية وإرشاد الضال لا سيما بالنسبة إليهم عليهم‌السلام ، مع عدم خوف وتقية ، كما هو ظاهر هذا المقام ، وقد قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ » (١) وأمثالها كثيرة.

ويمكن الجواب عنه بوجهين « الأول » أن الظاهر أن غرضه عليه‌السلام من هذا الامتناع لم يكن ترك ذكره والإعراض عنه ، بل كان الغرض تشويق المخاطب إلى استماعه وتفخيم الأمر عليه ، وأنه أمر شديد أخاف أن لا تعمل به ، فتستحق العقاب ولم يصرح عليه‌السلام بأني لا أذكره لك لذلك ، ولا أنك مع عدم العلم معذور ، بل إنما أكد الأمر الذي أراد بقائه عليه بتأكيدات لتكون ادعى له على العمل به ، كما إذا أراد الأمير أن يأخذ بعض عبيده وخدمه بأمر صعب فيقول قبل أن يأمره به : أريد أن أولئك أمرا صعبا عظيما وأخاف أن لا تعمل به لصعوبته ، وليس غرضه الامتناع عن الذكر بل التأكيد في الفعل.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

٢٩

« لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ » قال أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك والحق الثاني أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره والحق الثالث أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك والحق الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته والحق الخامس [ أن ] لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى والحق السادس أن يكون لك خادم وليس لأخيك

______________________________________________________

والثاني أن يكون هذا مؤيدا لاستحباب هذه الأمور ، ووجوب بيان المستحبات لجميع الناس لا سيما لمن يخاف عليه عدم العمل به غير معلوم ، خصوصا إذا ذكره عليه‌السلام لبعض الناس ، بحيث يكفي لشيوع الحكم وروايته وعدم صيرورته متروكا بين الناس ، بل يمكن أن يكون عدم ذكره إذا خيف استهانته بالحكم واستخفافه به أفضل وأصلح بالنسبة إلى السامع ، إذ ترك المستحب مع عدم العلم به أولى بالنسبة إليه من استماعه وعدم الاعتناء بشأنه.

وكلا الوجهين الذين خطرا بالبال حسن ، ولعل الأول أظهر وأحسن وأمتن.

وقوله : لا قوة إلا بالله ، إظهار للعجز عن الإتيان بطاعة الله كما يستحقه ، وطلب للتوفيق منه تعالى ضمنا « أن تجتنب سخطه » أي في غير ما يسخط الله « وتتبع مرضاته » مصدر أي رضاه فيما لم يكن موجبا لسخط الله ، وكذا إطاعة الأمر مقيد بذلك ، وكان عدم التقييد في تلك الفقرات يؤيد كون المراد بالأخ الصالح الذي يؤمن من ارتكاب غير ما يرضى الله غالبا « بنفسك » بأن تسعى في حوائجه بنفسك « وبمالك » بالمواساة والإيثار والإنفاق وقضاء الدين ونحو ذلك قبل السؤال وبعده ، والأول أفضل « ولسانك » بأن تعينه بالشفاعة عند الناس وعند الله والدعاء له ، ودفع الغيبة عنه ، وذكر محاسنه في المجالس ، وإرشاده إلى مصالحه الدينية والدنيوية ، وهدايته وتعليمه « ويدك ورجلك » باستعمالهما في جلب كل خير ودفع

٣٠

خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه والحق السابع أن تبر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته وإذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة فإذا

______________________________________________________

كل شر يتوقفان عليهما ، وجملة : ويجوع ، ويظمأ ، ويعرى ، حالية.

وفي المصباح : خدمه يخدمه فهو خادم غلاما كان أو جارية والخادمة بالهاء في المؤنث قليل ، وفي القاموس : مهده كمنعه بسطة كمهده « وأن تبر قسمه » من باب الأفعال ، وبر اليمين من باب علم وضرب صدق ، وإبرار القسم العمل بما ناشده عليه أو تصديقه فيما أقسم عليه ، كما في الحديث لو أقسم على الله لأبره فقيل : أي لو أقسم على وقوع أمر أوقعه الله إكراما له ، وقيل : لو دعا الله على البت لإجابة ، وفي النهاية بر قسمه وإبرة أي صدقه ، ومنه الحديث أمرنا بسبع منها إبرار المقسم.

وقال الجوهري : بررت والدي بالكسر أبره برا ، وفلان يبر خالقه أي يطيعه ، وبر فلان في يمينه صدق ، وفي القاموس : البر الصلة وضد العقوق ، بررته أبره كعلمته وضربته ، والصدق في اليمين ، وقد بررت وبررت ، وبرت اليمين تبر وتبر كيمل ويحل برا وبرا وبرورا ، وأبرها أمضاها على الصدق ، انتهى.

والمشهور بين الأصحاب استحباب العمل بما أقسمه عليه غيره إذا كان مباحا استحبابا مؤكدا ، ولا كفارة بالمخالفة على أحدهما ، وفي مرسلة ابن سنان عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : إذا أقسم الرجل على أخيه فلم يبر قسمه فعلى المقسم كفارة يمين ، وهو قول لبعض العامة وحملها الشيخ على الاستحباب ، وقيل : المراد بإبرار القسم أن يعمل بما وعد الأخ لغيره من قبله بأن يقضي حاجته فيفي بذلك ، ولا يخفى ما فيه.

٣١

فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك.

٣ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن سيف ، عن أبيه سيف ، عن عبد الأعلى بن أعين قال كتب [ بعض ] أصحابنا يسألون أبا عبد الله عليه‌السلام عن أشياء وأمروني أن أسأله عن حق المسلم على أخيه فسألته فلم يجبني فلما جئت لأودعه فقلت سألتك فلم تجبني فقال إني أخاف أن تكفروا إن من أشد ما افترض

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : وصلت ولايتك بولايته ، أي محبته لك بمحبتك له وبالعكس ، أي صارت المحبة ثابتة مستقرة بينك وبينه وصرت سببا لذلك أو عملت بمقتضى ولايتك له وولايته لك عملا بقوله تعالى : « الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » (١) كما يقال وصل الرحم وقطعها ، ويحتمل أن يكون المراد بولايتهما موالاتهما للأئمة عليهم‌السلام ، أي أحكمت الأخوة الحاصلة بينكما من جهة الولاية ، وفي الخصال وصلت ولايتك بولايته وولايته بولاية الله عز وجل.

الحديث الثالث : مجهول أيضا.

وضمير عنه راجع إلى محمد بن يحيى وهذا التشويش من المصنف غريب.

قوله : فلم تجبني يدل على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال لمصلحة كالمصلحة التي ذكرناها في الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرناهما في الحديث الأول ، على أنه يمكن أن يقال لما كان السؤال من أهل الكوفة وكان وصول السؤال إليهم بعد ذهاب الرسول ، فليس فيه تأخير البيان عن وقت السؤال أيضا.

قوله عليه‌السلام : أن تكفروا ، قيل : أي تخالفوا بعد العلم وهو أحد معاني الكفر ، وأقول : لعل المراد به أن تشكوا في الحكم أو فينا لعظمته وصعوبته ، أو تستخفوا به وهو مظنة الكفر ، أو موجب لصدقه بأحد معانيه ، فهو مؤيد للوجه الثاني من

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١٤.

٣٢

الله على خلقه ثلاثا إنصاف المرء من نفسه حتى لا يرضى لأخيه من نفسه إلا بما يرضى لنفسه منه ومواساة الأخ في المال وذكر الله على كل حال ليس سبحان الله والحمد لله ولكن عند ما حرم الله عليه فيدعه.

٤ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل ، عن مرازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما عبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال حق المسلم على المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه ولا يروى ويعطش أخوه ولا يكتسي ويعرى أخوه فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم وقال أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك وإذا احتجت فسله وإن سألك فأعطه

______________________________________________________

الوجهين السابقين ، وأما تتمة الخبر فقد مر مثلها بأسانيد في باب الإنصاف والعدل ، وذكر الله تعالى وإن لم يكن من حقوق المؤمن ، لكن ذكره استطرادا فإنه لما ذكر حقين من حقوق المؤمن وكان حق الله أعظم الحقوق ذكر حقا من حقوقه تعالى ، ويمكن أن يكون إيماء إلى أن حق المؤمن من حقوقه تعالى أيضا مع أن ذكر الله على كل حال مؤيد لأداء حقوق المؤمن أيضا.

الحديث الرابع : صحيح.

وكان أداء حق الأئمة عليهم‌السلام داخل في أداء حقوق المؤمنين ، فإنهم أفضلهم وأكملهم بل هم المؤمنون حقا.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح.

والضمائر في يشبع وأخوه ونظائرهما راجعة إلى المسلم في قوله على المسلم ، وأخوه عبارة عن المسلم « وإذا احتجت فسله » يدل على عدم مرجوحية السؤال عن الأخ المؤمن ، ويشمل القرض والهبة ونحوهما « ولا تمله خيرا » هي من باب علم ، والضمير المنصوب للأخ ، وخيرا تميز عن النسبة في لا تمله ولا يمله المستتر فيه للأخ ،

٣٣

لا تمله خيرا ولا يمله لك كن له ظهرا فإنه لك ظهر إذا غاب فاحفظه في غيبته وإذا شهد فزره وأجله وأكرمه فإنه منك وأنت منه فإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتى تسأل سميحته وإن أصابه خير فاحمد الله وإن ابتلي فاعضده وإن تمحل

______________________________________________________

والبارز للخير ، ويحتمل النفي والنهي ، والأول أوفق بقوله عليه‌السلام : فإنه لك ظهر ، ولو كان نهيا كان الأنسب وليكن لك ظهرا ، ويؤيده أن في مجالس الشيخ لا تمله خيرا فإنه لا يملك وكن له عضدا فإنه لك عضد ، وقد يقرأ الثاني من باب الأفعال بأن يكون المستتر راجعا إلى الخير ، والبارز إلى الأخ أي لا يورث الخير إياه ملالا لأجلك.

وقيل : هما من الإملاء بمعنى التأخير أي لا تؤخره خيرا ، ولا يخفى ما فيه والأول أصوب ، قال في القاموس : مللته ومنه بالكسر مللا وملة وملالة وملالا سئمته كاستمللته ، وأملني وأمل علي أبرمني ، والظهر والظهير المعين قال الراغب : الظهر يستعار لمن يتقوى منه « وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ » (١) أي معين.

« إذا غاب » بالسفر أو الأعم « فاحفظه » في ماله وأهله وعرضه « فإنه منك وأنت منه » أي خلقتما من طينة واحدة كما مر أو مبالغة في الموافقة في السيرة والمذهب والمشرب كما قيل في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي مني وأنا من علي ، وفي النهاية فيه : من غشنا فليس منا ، أي ليس على سيرتنا ومذهبنا ، والتمسك بسنتنا كما يقول الرجل : أنا منك وإليك ، يريد المتابعة والمرافقة ، وفي الصحاح عتب عليه أي وجد عليه « حتى تسل سخيمته » (٢) أي تستخرج حقده وغضبه برفق ولطف تدبير ، قال الفيروزآبادي : السل انتزاعك الشيء وإخراجه في رفق كالاستلال ، وقال : السخيمة : الحقد.

وفي بعض النسخ : حتى تسأل سميحته ، أي حتى تطلب منه السماحة والكرم والعفو ، ولم أر مصدره على وزن فعيلة إلا أن يقرأ على بناء التصغير ، فيكون

__________________

(١) سورة سبأ : ٢٢.

(٢) وفي المتن « حتى تسئل سميحته » ويأتي ذكره في كلام الشارح.

٣٤

له فأعنه وإذا قال الرجل لأخيه أف انقطع ما بينهما من الولاية وإذا قال : أنت

______________________________________________________

مصغر السمح أو السماحة ، والظاهر أنه تصحيف للنسخة الأولى ، فإنها موافقة لما في مجالس الصدوق ومجالس الشيخ وكتاب الحسين بن سعيد وغيرهما ، وفي مجالس الصدوق سخيمته وما في نفسه ، وفي القاموس : عضده كنصره أعانه ونصره.

« وإذا تمحل (١) له فأعنه » أي إذا كاده إنسان واحتال لضرره فأعنه على دفعه عنه ، أو إذا احتال له رجل فلا تكله إليه وأعنه أيضا ، وقرأ بعضهم يمحل بالياء على بناء المجرد المجهول بالمعنى الأول وهو أوفق باللغة ، لكن لا تساعده النسخ ، وفي القاموس : المحل المكر والكيد ، وتمحل له احتال ، وحقه تكلفه له ، والمحال ككتاب الكيد ، وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والعداوة والمعاداة والإهلاك ، ومحل به مثلثة الحاء محلا ومحالا كاده بسعاية إلى السلطان ، انتهى.

وقيل : أي إن احتال لدفع البلاء عن نفسه بحيلة نافعة فأعنه في إمضائه ، ولا يخفى بعده ، وفي مجالس الصدوق وإن ابتلي فاعضده وتمحل له ، وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله فرض التمحل في القرآن ، قلت : وما التمحل جعلت فداك؟ قال : أن يكون وجهك أعرض عن وجه أخيك فتمحل له وهو قوله : « لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ » الآية (٢).

وفي كتاب المؤمن للحسين بن سعيد فيما نقله عنه بعض أصحابنا : وإن ابتلي فأعطه وتحمل عنه وأعنه.

« انقطع ما بينهما من الولاية » أي المحبة التي أمروا بها « كفر أحدهما » لأنه إن صدق فقد خرج المخاطب عن الإيمان بعداوته لأخيه ، وإن كذب فقد خرج القائل عنه بافترائه على أخيه ، وهذا أحد معاني الكفر المقابل للإيمان الكامل كما مر شرحه وسيأتي إن شاء الله.

__________________

(١) وفي المتن « وإن تمحّل ».

(٢) سورة النساء : ١١٤.

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

قال في النهاية : فيه من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما لأنه إما أن يصدق عليه أو يكذب ، فإن صدق فهو كافر وإن كذب عاد الكفر إليه بتكفيره أخاه المسلم ، والكفر صنفان أحدهما الكفر بأصل الإيمان وهو ضده والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام ، فلا يخرج به عن أصل الإيمان ، وقيل : الكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به ، وكفر جحود ككفر إبليس يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ، وكفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به حسدا وبغيا ككفر أبي جهل وأضرابه ، وكفر نفاق وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه ، قال الهروي : سئل الأزهري عمن يقول بخلق القرآن أتسميه كافرا؟ فقال : الذي يقوله كفر ، فأعيد عليه السؤال ثلاثا ويقول مثل ما قال ، ثم قال في الآخر : قد يقول المسلم كفرا ، ومنه حديث ابن عباس قيل له : « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » (١) قال : هم كفرة وليسوا كمن كفر بالله واليوم الآخر ، ومنه الحديث الآخر : أن الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية فثار بعضهم إلى بعض بالسيوف ، فأنزل الله تعالى : « وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ » (٢) ولم يكن ذلك على الكفر بالله ولكن على تغطيتهم ما كانوا عليه من الألفة والمودة ، ومنه حديث ابن مسعود : إذا قال الرجل للرجل أنت لي عدو فقد كفر أحدهما بالإسلام أراد كفر نعمته لأن الله ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ، فمن لم يعرفها فقد كفرها ومنه الحديث : من ترك قتل الحيات خشية النار فقد كفر ، أي كفر النعمة ، ومنه الحديث : فرأيت أكثر أهلها النساء لكفرهن ، قيل : أيكفرن بالله؟ قال : لا ولكن يكفرن الإحسان ، ويكفرن العشير ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة آل عمران : ١٠١.

٣٦

عدوي كفر أحدهما فإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء وقال بلغني أنه قال إن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء كما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض وقال إن المؤمن ولي الله يعينه ويصنع له ولا يقول عليه إلا الحق ولا يخاف غيره.

٦ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن علي بن

______________________________________________________

أي يجحدن إحسان أزواجهن ، والحديث الآخر : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ، ومن رغب عن أبيه فقد كفر ، ومن ترك الرمي فنعمة كفرها ، وأحاديث من هذا النوع كثيرة ، وأصل الكفر تغطية الشيء تستهلكه.

وقال : مثت الشيء أميثه وأموثه فانماث إذا دفته في الماء ، ومنه حديث علي عليه‌السلام : اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء.

« وقال » أي اليماني أو علي بن إبراهيم وغيره من أصحاب الكتب ، وفي القاموس : زهر السراج والقمر والوجه كمنع زهورا تلألأ والنار أضاءت « ولي الله » أي محبة أو محبوبة أو ناصر دينه ، قال في المصباح : الولي فعيل بمعنى فاعل من وليه إذ أقام به ، ومنه « اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا » (١) ويكون الولي بمعنى مفعول في حق المطيع ، فيقال : المؤمن ولي الله ، انتهى.

قوله : يعينه ، أي الله يعين المؤمن « ويصنع له » أي يكفي مهماته « ولا يقول » أي المؤمن « عليه » أي على الله « إلا الحق » أي إلا ما علم أنه حق « ولا يخاف غيره » وفيه تفكيك بعض الضمائر ، أو المعنى يعين المؤمن دين الله وأولياءه ، ويصنع له أي من أعماله خالصة لله ، قال في القاموس : صنع إليه معروفا كمنع صنعا بالضم ، وما أحسن صنع الله بالضم وصنيع الله عندك.

الحديث السادس : موثق بسنديه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٧.

٣٧

عقبة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال للمسلم على أخيه المسلم من الحق أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض وينصح له إذا غاب ويسمته إذا عطس ويجيبه إذا دعاه ويتبعه إذا مات.

عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة مثله.

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونس ، عن

______________________________________________________

« أن يسلم عليه » أي ابتداء « وينصح له إذا غاب » أي يكون خالصا له طالبا لخيره دافعا عنه الغيبة وسائر الشرور ، وفي المصباح التسميت ذكر الله على الشيء وتسميت العاطس الدعاء له ، والشين المعجمة مثله ، وقال في التهذيب : سمته بالسين والشين إذا دعا له ، وقال أبو عبيد : الشين المعجمة أعلى وأفشى ، وقال ثعلب : المهملة هي الأصل أخذا من السمت وهو القصد والهدى والاستقامة ، وكل داع بخير فهو مسمت أي داع بالعود والبقاء إلى سمته ، وقال في النهاية : التسميت الدعاء ومنه الحديث في تسميت العاطس لمن رواه بالسين المهملة ، وقيل : اشتقاقه من السمت وهو الهيئة الحسنة أي جعلك الله على سمت حسن ، لأن هيئته تنزعج للعطاس ، وقال أيضا : التشميت بالشين والسين الدعاء بالخير والبركة والمعجمة أعلاهما ، يقال : شمت فلانا وشمت عليه تشميتا فهو شمت واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم كأنه دعا للعاطس بالثبات على طاعة الله تعالى ، وقيل : معناه أبعدك الله عن الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك ، انتهى.

« ويجيبه إذا دعاه » أي يقبل دعوته إذا دعاه للضيافة أو الأعم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو دعيت إلى كراع (١) لأجبت ، أو يلبيه إذا ناداه « ويتبعه » أي جنازته « إذا مات ».

الحديث السابع : مجهول.

__________________

(١) الكراع من البقر والغنم : مستدق الساق. وبالفارسية « پاچه ».

٣٨

أبي المأمون الحارثي قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما حق المؤمن على المؤمن قال إن من حق المؤمن على المؤمن المودة له في صدره والمواساة له في ماله والخلف له في أهله والنصرة له على من ظلمه وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائبا أخذ له بنصيبه وإذا مات الزيارة إلى قبره وأن لا يظلمه وأن لا يغشه وأن لا يخونه وأن لا يخذله وأن لا يكذبه وأن لا يقول له أف وإذا قال له أف فليس بينهما ولاية وإذا قال له أنت عدوي فقد كفر أحدهما وإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي علي صاحب الكلل ، عن أبان بن تغلب قال كنت أطوف مع أبي عبد الله عليه‌السلام فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة فأشار إلي فكرهت أن أدع

______________________________________________________

« والخلف له » بالتحريك بمعنى الخلافة وهذا الوزن في مصادر الثلاثي المجرد المتعدي قياسي إذا كان ماضيه مفتوح العين ، أي يكون خليفته وقائما مقامه في أهل بيته ورعايتهم وتفقدهم والإنفاق عليهم وقضاء حوائجهم إذا غاب أو مات « وإذا كان (١) نافلة » أي عطية من بيت المال والزكوات وغيرهما ، قال الجوهري : النفل والنافلة عطية التطوع من حيث لا يجب ، والباء في قوله : بنصيبه زائدة للتقوية ، والزيادة معطوف على المودة ، والجملة الشرطية متوسطة بين حرف العطف والمعطوف كما قيل « وأن لا يغشه » في مودته أو في المعاملة معه ، قال في القاموس : غشه لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما أضمر ، والغش بالكسر الاسم منه « وأن لا يخونه » في ماله وعرضه « وأن لا يخذله » بترك نصرته « وأن لا يكذبه » بالتشديد ، والتخفيف بعيد.

الحديث الثامن : مجهول.

وصاحب الكلل أي كان يبيعها ، والكلل جمع كلة بالكسر فيهما ، وفي

__________________

(١) وفي المتن « وإن كان ».

٣٩

أبا عبد الله عليه‌السلام وأذهب إليه فبينا أنا أطوف إذ أشار إلي أيضا فرآه أبو عبد الله عليه‌السلام فقال يا أبان إياك يريد هذا قلت نعم قال فمن هو قلت رجل من أصحابنا قال هو على مثل ما أنت عليه قلت نعم قال فاذهب إليه قلت فأقطع الطواف قال نعم قلت وإن كان طواف الفريضة قال نعم قال فذهبت معه ثم دخلت عليه بعد فسألته فقلت أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن فقال يا أبان دعه لا ترده قلت بلى جعلت فداك فلم أزل أردد عليه فقال يا أبان تقاسمه شطر مالك ثم نظر إلي فرأى ما دخلني فقال يا أبان أما تعلم أن الله عز وجل قد

______________________________________________________

القاموس الكلة بالكسر الستر الرقيق ، وغشاء رقيق يتوقى به من البعوض ، وصوفة حمراء في رأس الهودج « على مثل ما أنت عليه » أي من التشيع ، ويدل على جواز قطع طواف الفريضة لقضاء حاجة المؤمن كما ذكره الأصحاب ، وسيأتي مع أحكامه في كتاب الحج إنشاء الله تعالى.

وقد مضى أن ممانعته ومدافعته عليه‌السلام عن بيان الحقوق للتأكيد وتفخيم الأمر عليه حثا على أدائها وعدم مساهلته فيها ، وكان الراوي كان علم ذلك فكان لا يمتنع من نهيه عليه‌السلام عن السؤال مع جلالته وإذعانه بوجوب إطاعته ، والشطر : النصف « فرأى » أي في بشرتي أثر « ما دخلني » من الخوف من عدم العمل به أو من التعجب ، فأزال عليه‌السلام تعجبه بأن قوما من الأنصار في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يؤثرون على أنفسهم إخوانهم فيما يحتاجون إليه غاية الاحتياج ، فمدحهم الله تعالى في القرآن بقوله : « وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ » (١) قيل : يقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى أن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم ، والخصاصة الحاجة فكيف تستبعد المشاطرة.

وفسر عليه‌السلام الإيثار بأن يعطيه من النصف الآخر فإنه زائد عن الحق اللازم

__________________

(١) سورة الحشر : ٩.

٤٠