موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وروى علي بن إبراهيم القمّي أيضا عن أبيه عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : إنّ إبراهيم عليه‌السلام أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية فقال : يا إبراهيم ارتو من الماء لك ولأهلك ـ ولم يكن بين مكة وعرفات ماء ـ فسمّيت التروية بذلك. فذهب به حتّى انتهى به إلى منى فصلّى به الظهر والعصر والعشاءين والفجر ، حتّى إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات فنزل بنمرة ، وهي بطن عرفة. فلمّا زالت الشمس خرج واغتسل فصلّى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين ، وصلّى في موضع المسجد الذي بعرفات ـ وقد كانت ثمّة أحجار بيض فادخلت في المسجد الذي بني ـ ثمّ مضى به إلى الموقف فقال : يا إبراهيم اعترف بذنبك ، واعرف مناسكك. ولذلك سميت عرفة. فأقام به حتّى غربت الشمس ، ثمّ أفاض به فقال : يا إبراهيم ازدلف إلى المشعر الحرام ـ فسمّيت المزدلفة ـ وأتى به المشعر الحرام ، فصلّى به المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ، ثمّ بات بها فرأى في النوم أنّه يذبح ابنه ... حتّى إذا صلّى بها صلاة الصبح أراه الموقف.

ثمّ أفاض إلى منى فأمره فرمى جمرة العقبة عند ما ظهر له إبليس لعنه الله ، وأمر أهله فسارت إلى البيت ، واحتبس الغلام ، فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى ، فاستشار ابنه وقال ـ كما حكى الله (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) فقال الغلام ـ كما حكى الله (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١).

وأقبل شيخ فقال : يا إبراهيم ما تريد من هذا الغلام؟ قال : اريد أن أذبحه! فقال : سبحان الله! تذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين!

فقال له إبراهيم : ويلك إنّ الذي بلّغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به!

__________________

(١) الصافّات : ١٠٢.

٨١

فقال : لا والله ما أمرك بهذا إلّا الشيطان!

فقال إبراهيم : لا والله لا اكلّمك ، ثمّ عزم إبراهيم على الذبح.

فقال : يا إبراهيم إنّك إمام يقتدى بك ، وإنّك إن ذبحته ذبح الناس أولادهم! فلم يكلّمه. وأقبل إلى الغلام فاستشاره في الذبح ، فقال الغلام كما حكى الله : امض كما أمرك الله به ، فلمّا أسلما جميعا لأمر الله قال الغلام : يا أبت خمّر (١) وجهي وشدّ وثاقي!

فقال إبراهيم : يا بنيّ! الوثاق مع الذبح؟ لا والله لا أجمعهما عليك اليوم ، فرمى له بقرطان الحمار (٢) ثمّ أضجعه عليه وأخذ المدية فوضعها على حلقه ، ورفع رأسه إلى السماء ثمّ انتحى عليه بالمدية فقلّب جبرئيل المدية على قفاها وأثار الغلام من تحته ، واجترّ الكبش من قبل ثبير الجبل الذي عن يمين مسجد منى وكان أملح أغبر أقرن يمشي في سواد ويأكل في سواد ، فوضعه مكان الغلام ، ونودي من (قبل) مسجد الخيف (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(٣).

ولحق ابليس بامّ الغلام بحذاء البيت في وسط الوادي فقال لها : رأيت شيخا ومعه وصيف قد أضجعه الشيخ وأخذ المدية ليذبحه!

فقالت : كذبت ، إنّ إبراهيم أرحم الناس ، كيف يذبح ابنه!

قال : فو ربّ السّماء والأرض وربّ هذا البيت ، لقد رأيته أضجعه وأخذ المدية!

__________________

(١) خمّر : استره بالخمار.

(٢) قرطان الحمار : ما يجعل على ظهره من الجلّ والقماش.

(٣) الصافّات : ١٠٤ ـ ١٠٦.

٨٢

فقالت : ولم؟ قال : زعم أنّ ربّه أمره بذلك. فوقع في نفسها أنّه قد امر في ابنها بأمر ، فقالت : فحقّ له أن يطيع ربّه. ولمّا قضت مناسكها أسرعت في الوادي راجعة إلى منى. (١).

وما جاء في خبر علي بن إبراهيم القمّي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّ الكعبة كانت قبل طوفان نوح قبّة ضربها آدم عليه‌السلام بموضع البيت ، يؤيده ما جاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة للامام علي عليه‌السلام انّه قال :

«ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ وإلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا وأقل نتائق الدنيا مدرا ، وأضيق بطون الأودية قطرا ، بين جبال خشنة ورمال دمثة ، وعيون وشلة وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خفّ ولا حافر ولا ظلف. ثمّ امر آدم وولده : أن يثنوا اعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع اسفارهم وغاية لملتقى رحالهم ، تهوى إليه الأفئدة من مفاوز سحيقة ..» (٢).

ولعلّ هذا هو معنى قوله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٣) فانّ رفع القواعد يفيد انها كانت قد وضعت قبل ذلك وإنّ إبراهيم هو الذي رفعها وشيّد على أساسها وإن لم تكن بقيت بعد طوفان نوح ، حيث قرأنا في الخبر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ جبرئيل هو الذي دلّ إبراهيم عليه‌السلام على موضع البيت.

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة : ١٩٢ ، صبحي الصالح.

(٣) البقرة : ١٢٧ و ١٢٨.

٨٣

وحيث لاحظ إبراهيم عليه‌السلام أنّ البيت قد وضع في بقعة يصعب فيها الحياة قال :

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(١). واستجيبت دعوته فاصبحت الكعبة قبلة المسلمين ومهوى افئدة المؤمنين.

شبه الجزيرة العربية مهد الحضارة الإسلامية :

هي شبه جزيرة كبيرة تقع في جهة الجنوب الغربي من آسيا ، تقدر مساحتها بثلاثة ملايين كيلومتر مربع ، وهذا يعني أنها اكبر من مساحة إيران مرتين ، واكبر من فرنسا ستّ مرّات ، وأكبر من إيطاليا عشر مرّات ، وأكبر من سويسرا ثمانين مرّة.

وهي شبه جزيرة مستطيلة غير متوازية الأضلاع تحدّها من شمالها الشام وفلسطين ، ومن شرقها أرض الرافدين من الكوفة إلى البصرة ثمّ خليج فارس ـ كما كان يسمّى ـ ومن جنوبها خليج عدن والمحيط الهندي ، ومن غربها البحر الاحمر. فهي محصورة من جنوبها وغربها وقسم من مشرقها بالبحار وفي قسم آخر من مشرقها وشمالها ببادية الشام أو الاردن والعراق.

وقد قسموها قديما إلى ثلاثة اقسام :

١ ـ القسم الشمالي والغربي وهو الحجاز.

٢ ـ القسم الشرقي والمركزي وهو المسمى بالصحراء العربية.

٣ ـ القسم الجنوبي وهو اليمن.

__________________

(١) إبراهيم : ٣٧.

٨٤

وفي شبه الجزيرة صحاري رملية حارة واسعة غير قابلة للسكنى كثيرة منها : صحراء النفوذ ، والربع الخالي الذي يمتد حتّى حواشي الخليج الفارسي. وقديما كان يسمّى قسم منه بصحراء الدهناء والقسم الآخر بالأحقاف.

وهذه الصحاري تشكل اكثر من ثلث الجزيرة غير المسكون بلا ماء ولا كلأ إلّا ما قد يوجد فيها من آثار الامطار فيرعى حولها بعض العرب ابلهم لفترة غير طويلة. والجو فيها حار جدّا ، وجاف كذلك إلّا في بعض السواحل ، وبعض النقاط المعتدلة نسبيا. ولذلك لا يتجاوز عدد نفوسها بمجموعها عن عشرين مليونا تقريبا.

وكانت جبال اليمن قديما تحتوي على الاحجار الكريمة وشيء من الذهب والفضة ، وغالبا ما كانوا يكتفون من تربية الحيوانات بالابل والخيل ، ومن الطيور كان اكثر ما عندهم النعام والحمام. وفي الجزيرة جبال تمتد من الجنوب إلى الشمال آخر حد لارتفاعها ٢٤٧٠ مترا.

ونشرح هذه الاقسام الثلاثة من الجزيرة فيما يلي :

١ ـ أمّا الحجاز ، وهو القسم الشمالي والغربي للجزيرة ، فهو يمتدّ من الاردن إلى اليمن في سواحل البحر الاحمر ، وهي اراضي جبلية صخرية تتخللها صحاري قاحلة.

ولهذه المنطقة ذكر في التأريخ اكثر من غيرها وذلك لاشتمالها على الكعبة المعظمة.

الكعبة المعظمة ومكة المكرمة :

«وقد كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة : فكان الهنود يعظمونها ويقولون : إنّ روح سيفا ـ وهو الاقنوم الثالث عندهم ـ حلت في الحجر الاسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

٨٥

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها احد البيوت السبعة المعظمة ، وربّما قيل : إنّه بيت زحل عندهم لقدم عهده وطول بقائه.

وكان سائر الفرس يحرمونها أيضا زاعمين أنّ روح هرمز قد حل فيها ، وربّما حجوا إليها زائرين.

وكان اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم ، وكان بها صور وتماثيل ، منها تمثال إبراهيم وإسماعيل وبايديهما الازلام ، ومنها صورة المسيح وأمه ، وهذا يشهد بتعظيم النصارى لها أيضا.

وكان العرب يعظمونها أيضا كلّ التعظيم ويحجون إليها على انها بيت الله بناها إبراهيم» (١).

ومدينة مكة من أشهر مدن العالم ، واكثر مدن الحجاز نفوسا. وهي ترتفع عن سطح البحر ٣٠٠ مترا تقريبا. عدد نفوسها اليوم ١٥٠ الفا تقريبا. وتربتها غير زراعية.

وللحجاز ميناءان على البحر الاحمر : احدهما : جدة (٢) ، وهي ميناء مكة والاخرى : ينبع ، وهي كانت ميناء أهل المدينة المنورة سابقا ، واليوم اصبحت جدة هي الميناء الرئيسي في الحجاز. وفي الحجاز من المدن المهمة بعد مكة : المدينة ، والطائف.

المدينة المنورة :

وهي تقع في شمال مكة على بعد خمسمائة كيلومتر تقريبا. وفي حواليها نخيل وبعض

__________________

(١) الميزان ٣ : ٣٦١ ، ٣٦٢.

(٢) جدّة : بكسر الجيم ، بمعنى الصخور الساحليّة. وفيها قبر بطول سبعة أمتار ـ خمسة عشر ذراعا منسوب إلى حوّاء أمّ البشر ، قيل : ولذلك سمّيت جدّة ـ بفتح الجيم ـ أي مرقد جدّة البشر! ولا يصحّ.

٨٦

البساتين لصلاح تربتها للزراعة نسبيا. وكان اسمها قبل الإسلام يثرب ، وبعد هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إليها سميت : مدينة الرسول ، وحذف المضاف إليه تخفيفا فقيل : المدينة.

ويقال : إنّ العمالقة أوّل من سكنوا المدينة أو يثرب ، وظلّوا بها حتّى نزلها اليهود في القرن الثاني الميلادي على اثر اضطهاد الرومان لهم في فلسطين ، والمظنون أنّهم هاجروا من موطنهم الأصلي في فلسطين إلى الجزيرة على إثر ضغوط القيصر نينوس عليهم وهدمه لهيكلهم سنة ٧٠ م وكذلك اصطدام القيصر هوريان بهم سنة ١٣٢ م ففي هذه الأثناء فرّ كثير منهم إلى الحجاز (١).

ونرى أنّ الحجاز منطقة جرداء تقريبا لا تصلح للزراعة والعمل ، فهي لا تصلح للسكنى والحياة ... وهذا قد جعل المنطقة في مأمن من فرض السيطرة عليها من قبل الدولتين العظميين آنذاك : الروم والفرس ، ولذلك لا نرى لهم أي أثر فيها ، إذ لم يكن لهم أي مغنم في تجهيز الجيوش إليها ، فهم ان فعلوا ذلك كان عليهم أن يرجعوا عنها خائبين خاسرين.

وقد نقل بعض المؤرخين اليونانيين : أنّ القائد اليوناني الكبير : دمريوس ، عزم على تسخير الجزيرة حتّى وصل إلى قرية : پترا ـ ولعلها ماء بدر ـ فقال له أهلها : أيّها القائد اليوناني! لما ذا تحاربنا؟ فنحن نعيش في صحاري ليس فيها أي شيء للعيش ، وقد اخترنا هذه الصحارى القاحلة الجرداء كي لا نذعن لأمر احد ، فاقبل هدايانا وانصرف عنا. والّا فنحن نعلمك أنّك ستصاب بمصائب عظيمة ومشاكل كثيرة : واعلم أنّ أحدنا لا ينفكّ عمّا هو عليه من الخلق والعادة ، فلو تقدمت فينا وأسرت منّا اناسا تريد أن تذهب بهم فإنّك لن ترى نفعا فيهم فإنّهم سوف يقابلونكم بسوء الأعمال والنيّات لا يغيرون شيئا ممّا هم عليه!

__________________

(١) راجع : الجزء السادس من تأريخ العرب قبل الإسلام ، لجواد علي.

٨٧

فقبل القائد اليوناني هداياهم وانصرف عن تسخير الجزيرة (١).

٢ ـ القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء العربية وفيها صحراء النجد ، وهي أراضي مرتفعة نسبيّا وفيها قرى عامرة كذلك ، منها «الرياض» التي أصبحت في سلطة آل سعود عاصمة لهم ، وهي الآن مدينة كبيرة.

٣ ـ القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمّى : اليمن ، طولها من الشمال إلى الجنوب يقرب من سبعمائة وخمسين كيلومتر ، ومن الغرب إلى الشرق يقرب من اربعمائة كيلومتر ، وتقرب مساحتها من ستين ألف ميل مربع ، في جنوبها مدينة : عدن ، وهي اكبر مدن اليمن ، ويحدها من الشمال صحراء نجد ومن المشرق صحراء الربع الخالي ، ومن المغرب البحر الاحمر ، وأكبر موانئها ميناء : الحديدة.

واليمن هي اخصب نقاط الجزيرة واكثرها بركة ونعمة ، ولها تأريخ حضاري عظيم ، فهي مملكة التبابعة الذين حكموها سنين طويلة. وكانت المركز التجاري المهم ومفترق الطرق ، وبها الاحجار الكريمة والذهب والفضة. وبها آثار حضارية ما زالت باقية حتّى اليوم. وهذا يعني أنّ عرب اليمن كانوا قد بنوا هذه الآثار المهمة بهممهم العالية في عهد لم تتوفر فيه الامكانات لهذه الاعمال الضخمة. وكانوا قد تقدموا في الزراعة والري إلى حد تقرير البرامج المقررة والمنفذة حكوميا بدقة.

فمن آثارهم التاريخية ذلك السد المعروف بسد مأرب ، والذي ما زالت آثاره باقية ، وهو الذي تهدم بالسيل الذي اطلق عليه القرآن الكريم قوله سبحانه (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وذلك حيث قال تعالى (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ

__________________

(١) بالفارسيّة ، تمدن اسلام وعرب : ٩٤.

٨٨

وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

وفي سورة قريش إشارة إلى تجارتهم في الصيف إلى اليمن (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٢).

يقول جرجي زيدان : «إنّ الآثار التي ظهرت من الحفريات الاثرية للمستشرقين تدل على الحضارة الراقية في اليمن من سد مارب وفي صنعاء ، ومدينة بلقيس. وكانت في مدينة مأرب (وهي مدينة سبأ) قصور عالية قد زينت ابوابها وسقوفها بالذهب ، ووجد بها أوان من الذهب والفضة ، وسرر معدنية كثيرة» (٣).

وروى الشيخ الطبرسي عن فروة بن مسيك قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سبأ أرجل هو أم امرأة؟ فقال هو رجل من العرب ولد عشرة ، تيامن منهم ستة وتشاءم اربعة ، فأمّا الذين تيامنوا فالازد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار وحمير. فقال رجل من القوم : ما أنمار؟ قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأمّا الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسّان (٤).

وفي «الكافي» باسناده عن سدير : قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول

__________________

(١) سبأ : ١٥ ـ ٢٠.

(٢) قريش : ١ ـ ٤.

(٣) بالفارسية : تمدن اسلام وعرب : ٩٦.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٦٠٤ ، طبعة بيروت.

٨٩

الله عزوجل : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية ، فقال : هؤلاء قوم كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم إلى بعض ، وأنهار جارية ، وأموال ظاهرة ، فكفروا نعم الله عزوجل وغيّروا ما بأنفسهم من عافية الله فغيّر الله ما بهم من نعمة ، (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١) فأرسل الله عليهم سيل العرم ، فغرّق قراهم وخرّب ديارهم وذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جنانهم (جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) ثمّ قال : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٢).

وقوم سبأ من العرب العاربة باليمن ، سمّوا باسم أبيهم سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ، كما نقل رواة التأريخ.

العرب قبل الإسلام :

١ ـ العرب البائدة :

لا ريب في أنّ جزيرة العرب كانت موطن قبائل كثيرة من العرب منذ القدم ، وقد باد بعضهم على اثر حوادث خاصة سماوية وارضية ، وذلك لاعراضهم عن ذكر الله كما قال تعالى في قوم سبأ : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) ... (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ... وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ... ، (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ)(٣) ولذلك سمّي هؤلاء بالبائدة.

ولعلّ منهم قوم عاد المعاد ذكرهم في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرّة وقوم ثمود المكرر ذكرهم في القرآن الكريم اكثر من خمس وعشرين مرّة.

__________________

(١) الرعد : ١١.

(٢) الميزان ١٦ : ٣٢٤.

(٣) سبأ : ١٦ ـ ٢٠.

٩٠

أ ـ عاد قوم هود عليه‌السلام :

أمّا عاد فإنّهم قوم من العرب من بشر ما قبل التأريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم ، ولا يحفظ التأريخ من حياتهم إلّا أقاصيص لا يطمأنّ إليها ، وليس في التوراة الموجودة ذكر لهم.

والذي يذكره القرآن الكريم من قصّتهم هو : أنّ عادا كانوا يسكنون وادي أو صحراء الأحقاف (١) وهو واد بين عمان وأرض مهرة إلى حضرموت والأحقاف هي الرمال الملتوية. وأنّهم من ذرّية من حملهم الله مع نوح عليه‌السلام وكانوا ذوي خلقة قوية عظيمة وطوالا (٢) وكان لهم تقدّم ورقيّ في المدنية والحضارة ، ولهم بلاد عامرة وأرض خصبة ذات جنّات ونخيل وزروع ومقام كريم وبعث الله فيهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحقّ ويرشدهم إلى أن يعبدوا الله ويرفضوا عبادة الاوثان ويعملوا بالعدل والرحمة (٣) ، فبالغ في وعظهم وبث النصيحة فيهم وأنار الطريق وأوضح السبيل ، وقطع عليهم العذر ، فقابلوه بالآباء والامتناع ، وواجهوه بالجحد والانكار ، ولم يؤمن به إلّا شرذمة منهم قليلون ، وأصرّ جمهورهم على البغي والعناد ، ورموه بالسفه والجنون ، وألحوا عليه بان ينزل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم ويتوعدهم به ، فأرسل الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه الّا جعلته كالرميم (٤) كانت تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر (٥) ، ريحا صرصرا في أيّام نحسات سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز

__________________

(١) الأحقاف : ٢١.

(٢) الأعراف : ٦٩ ، والسجدة : ١٥ ، والشعراء : ١٣٠.

(٣) الشعراء : ١٣٠.

(٤) الذاريات : ٤٣.

(٥) القمر : ٢٠.

٩١

نخل خاوية (١) تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلّا مساكنهم (٢). فأهلكهم الله جميعا إلّا هودا والذين آمنوا معه (٣) ولعلّه لهذا يسمّى عادا المهلكة بعاد الاولى ، والثانية هي الباقية منهم (٤).

ج ـ ثمود قوم صالح عليه‌السلام :

وأمّا ثمود فهم قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين المدينة والشام ، وهم من بشر ما قبل التأريخ أيضا لا يضبط التأريخ إلّا شيئا يسيرا من أخبارهم ، ولقد عفت الدهور آثارهم ، ولا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم.

والذي يقصّه كتاب الله من أخبارهم هو : أنّهم كانوا أمّة من العرب يدلّ عليه اسم نبيّهم صالح عليه‌السلام وهو منهم (٥) جاءوا بعد قوم عاد ، وكانت لهم حضارة ومدنية ، يعمرون الارض ويتّخذون من سهولها قصورا ويتّخذون من الجبال بيوتا آمنين (٦) ، ويفجّرون العيون ويحرثون ويغرسون جنّات النخيل (٧) ، وكان في مدينتهم شعوب وقبائل يتحكّم فيهم شيوخهم وسادتهم ، وفيهم تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون (٨) فلمّا أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي عليه‌السلام ،

__________________

(١) الحاقّة : ٧.

(٢) الأحقاف : ٢٥.

(٣) هود : ٥٨.

(٤) النجم : ٥. بل الأولى أن يقال : ان الاُولى هنا بمعنى القديمة وليست الاُولى العددية.

(٥) هود : ٦١.

(٦) الأعراف : ٧٤.

(٧) الشعراء : ١٤٨.

(٨) النمل : ٤٨.

٩٢

وكان من بيت الشرف والفخار معروفا بالعقل والكفاءة (١) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عبادة الاصنام وأن يسيروا في مجتمعهم بالعدل والاحسان وأن لا يطغوا ولا يسرفوا (٢) فقام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على الأذى في جنب الله ، فلم يؤمن به إلّا جماعة قليلة من الضعفاء (٣).

أمّا الطغاة والمستكبرون وعامة من تبعهم فقد اصرّوا على كفرهم واستذلّوا الذين آمنوا به ورموه بالسفاهة والسحر (٤) وطلبوا منه البيّنة على كلامه وسألوه آية معجزة تدلّ على صدقه في دعوى الرسالة ، واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة ، فأتاهم بناقة على ما وصفوها له ، وقال لهم : إنّ الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما وتكفّوا عنها يوما فتشربها الناقة ، فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم ، وأن تذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (٥) وكان الأمر على ذلك حينا. ثمّ إنّهم مكروا وطغوا وبعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها. وقالوا لصالح : ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح عليه‌السلام : تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب (٦).

ثمّ مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٧)(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ

__________________

(١) هود : ٦٢ ، والنمل : ٤٩.

(٢) هود والشمس.

(٣) الاعراف : ٧٥.

(٤) الاعراف : ٦٦ ، والشعراء : ١٥٣ ، والنمل : ٤٧.

(٥) الاعراف : ٧٢ ، والشعراء : ١٥٦ ، وهود : ٦٤.

(٦) هود : ٦٥.

(٧) النمل : ٤٩.

٩٣

وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(١)(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٢) (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٣).

وفي «الكافي» بسنده عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)(٤). قال : بعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه وعتوا عليه وكانت صخرة يعظّمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كلّ سنة ويجتمعون عندها. فقالوا : إن كنت تزعم نبيّا رسولا فادع لنا إلهك حتّى يخرج لنا من هذه الصخرة الصمّاء ناقة عشراء (أي ذات حمل في الشهر العاشر) فأخرجها الله كما طلبوا منه (و) أوحى الله تبارك وتعالى إليه : أن يا صالح قل لهم : إنّ الله قد جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب يوم.

فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم ، فيحبسونها فلا يبقى صغير ولا كبير إلّا شرب من لبنها يومهم ذلك ، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ إنّهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال : اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها ، لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم.

ثمّ قالوا : من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب؟! فجاءهم رجل أحمر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب ، يقال له : قدّار ، شقي من الأشقياء مشؤم عليهم فجعلوا له جعلا.

__________________

(١) الذاريات : ٤٤.

(٢) الأعراف : ٧٨.

(٣) النمل : ٥٣.

(٤) القمر : ٢٣ ، ٢٤.

٩٤

فلما توجّهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتّى شربت وأقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف فلم يعمل شيئا فضربها ضربة اخرى فقتلها ، وخرّت على الأرض على جنبها وهرب فصيلها حتّى صعد إلى الجبل ، فرغا ثلاث مرّات إلى السماء وجاء قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلّا شركه في ضربته واقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلّا أكل منها.

فلما رأى صالح أقبل إليهم وقال : يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟ أعصيتم أمر ربّكم؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالح عليه‌السلام : أنّ قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجّة عليهم ، ولم يكن لهم فيها ضرر ، وكان لهم أعظم المنفعة ، فقل لهم : إنّي مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيّام فإن هم تابوا قبلت توبتهم وصددت عنهم ، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث.

فأتاهم صالح وقال : يا قوم إنّي رسول ربّكم إليكم وهو يقول لكم : إن تبتم ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم.

فلما قال لهم ذلك كانوا أعتى وأخبث (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(١) قال : يا قوم إنّكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرّة ، واليوم الثاني وجوهكم محمرّة ، واليوم الثالث وجوهكم مسودّة.

فلمّا كان أوّل يوم أصبحوا ووجوههم مصفرّة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا قد جاءكم ما قال صالح. فقال العتاة منهم : لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلمّا كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرّة ، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا : يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم : لو أهلكنا جميعا ما

__________________

(١) الأعراف : ٧٧.

٩٥

سمعنا قول صالح ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ، ولم يتوبوا ولم يرجعوا ، فلمّا كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودّة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح.

فقال العتاة منهم : قد أتانا ما قال لنا صالح. فلمّا كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم ، فماتوا جميعا في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم ، ولم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شيء إلّا أهلكه الله ، وأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى ، وأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين (١).

٢ ـ القحطانيّون : هم ابناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يسكنون اليمن وجنوب جزيرة العرب ، ويسمّون بالعرب العاربة أيضا. واليمنيّون اليوم بصورة عامة والأوس والخزرج هم من نسل قحطان. وقد سبق أنّ قوم سبأ أيضا كانوا من نسل قحطان ، وكانت لهم حكومات ومساع عمرانية وحضارية أثرية ولهم خط يسمّى بالخطّ المسند. وكلّ ما يقال عن حضارة العرب قبل الإسلام فإنّما هو من هؤلاء في اليمن.

٣ ـ العدنانيون المضریون : وهم ابناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام الذي قد تبين لنا أنّه امر بأن يذهب بابنه إسماعيل وامّه هاجر إلى أرض مكّة ، فسار بهم إبراهيم عليه‌السلام من أرض فلسطين إلى بطن واد منخفض بلا ماء ولا كلأ باسم مكّة ، فأجرى الله لهم ماء زمزم. وكبر إسماعيل فتزوّج من قبيلة جرهم الذين استأذنوا إبراهيم أن يسكنوا مكة فأذن لهم ، فكان لإسماعيل نسل كثير ، ومن أحفاده عدنان ، وقد تفرّعت منه فروع عديدة أشهرها قبيلة قريش

__________________

(١) الميزان ١٠ : ٣١٤ ، ٣١٦.

٩٦

في الطائف ، وقيس عيلان في نجد ، وعبدالقيس في البحرين ، وبنو خيفة في اليمامة ، وضبّة وتميم في صحراء الدّهناء ، وبكر عشائر بكر في الشمال الشرق إلى البحرين ويمامة ، ومعهم تغلب ، وأسد في شمال نجد ، وكنانة وهذيل إلى مكة. وأهم عشائر قريش : هاشم واُمية ومخزوم وتيم وجمح وسهم وأسد ونوفل وزهرة وعدي.

أخلاق العرب قبل الإسلام :

ونعني بالأخلاق هنا تلك الآداب الاجتماعيّة التي كانت رائجة بينهم قبل الإسلام. وبصورة عامّة نستطيع أن نلخّص الخصال المحمودة العامة للعرب في بضعة سطور فنقول :

إنّ عرب الجاهليّة ـ ولا سيّما العرب المستعربة من نسل إسماعيل عليه‌السلام ـ كانوا بالطبع أسخياء يكرمون من استضافهم ، ولا يخونون أماناتهم إلّا قليلا ، ويرون نقض العهد ذنبا لا يغتفر ، وكانوا صريحين في أقوالهم ، أقوياء في حفظهم ، أقوياء في فنون من الشعر والخطابة ، يضرب بهم المثل في شجاعتهم وجرأتهم ، مهرة في ركض الخيل والرمي ، يرون الفرار من الزحف عارا لا يغتسل.

وفي مقابل هذه الصفات كانوا قد تلوّثوا من مساوئ الأخلاق بما يذهب بكل كمال من هذه الخصال ولو لا أن تداركهم رحمة من ربّهم بأن بعث فيهم رسولا من انفسهم يزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، لما كنّا نعايش اليوم نسلا من عدنان ، بل كانوا قد التحقوا بالعرب البائدة ، وكانت تتجدّد قصّة اخرى عن هؤلاء البائدين.

إنّ شيوع الجهل والخرافات والفساد فيهم كان قد قرّب حياتهم من حياة الحيوانات ، بحيث ينقل لنا التأريخ قصصا متعددة عن حروب امتدّت خمسين سنة بل مائة ، ولم تبدأ إلّا على مواضع حقيرة لا يعبأ بها.

٩٧

إنّ عدم وجود حكومة متنفّذة بينهم تضرب على أيدي الطغاة والبغاة من ناحية ، ومن ناحية اخرى سوء الوضع الجغرافي للجزيرة من حيث الماء والكلأ ، كانا عاملين جعلا أكثر العرب من البدو الرحّل يجوبون الصحاري برواحلهم كلّ عام سعيا وراء الماء والكلأ ، وإذا رأوا أثرا منهما نصبوا خيامهم حولها ، وإذا علموا ـ أو أخبرهم رائدهم ـ بمكان أنفع ممّا هم فيه بدءوا الرحلة من جديد.

إنّ الجهل والفقر وفقدان النظام كان قد خيّم على بيئة الجزيرة العربية بصورة ظاهرة بحيث أصبحت لهم تلك العادات القبيحة امورا اعتيادية ، فكثرت فيهم الغارات ، واسر بعضهم ، وتداول فيهم الربا والخمر والميسر.

انّهم كانوا يثنون على المروّة ويمجّدون بالشجاعة ، لكنّ مفهوم الشجاعة لديهم كان عبارة عن قتل أكبر عدد ممكن وسفك الدّماء أكثر فأكثر. وكذلك الغيرة كانت لديهم بمعنى وأد البنات في القبور وهنّ أحياء. ويرون الوفاء ان ينصروا عشيرتهم وحلفاءهم في كلّ شيء سواء كانوا على حقّ أم باطل.

قومٌ إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم

طاروا اليه زرافات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

هل كانت للعرب حضارة قبل الإسلام؟

لا شكّ أنّه كانت هناك في جزيرة العرب بعض الحضارات ، إلّا أنّها لم تكن في كلّ الجزيرة بل عدّة نقاط منها ، كحضارة قوم سبأ أصحاب سدّ مأرب في اليمن ، فإنّها حضارة لا تنكر ، ففضلا عمّا ذكر عنها في التوراة الحاضرة وما نقل عن «هرودوت» و «ارتميدور» المؤرخين اليونانيّين قبل الميلاد ، نرى المؤرخ الشهير المسعودي يقول في وصفها :

٩٨

«ذكر أصحاب التأريخ القديم : أنّ أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها وأغدقها ، وأكثرها جنانا وغيطانا وأفسحها مروجا ، مع بنيان حسن وشجر مصفوف ، ومساكب للماء متكاثفة وأنهار متفرّقة. وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحالة ، وفي العرض مثل ذلك ، وإنّ الراكب والمارّ كان يسير في تلك الجنان من أوّلها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا تعارضه لاستتار الأرض بالعمارة الشجريّة. واستيلائها عليها وإحاطتها بها. وكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه ، وأهنأ حال وأرغد قرى ، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفّق الماء ، وقوّة الشوكة واجتماع الكلمة ونهاية المملكة ، وكانت بلادهم في الأرض مثلا ، وكانوا على طريقة حسنة من اتّباع شريف الأخلاق ، وطلب الأفضال بحسب الإمكان وما توجبه القدرة من الحال ، فمكثوا على ذلك ما شاء الله من الأعصار ، لا يعاندهم ملك إلّا قصموه ، ولا يوافيهم جبّار في جيش إلّا كسروه ، فذلّت لهم البلاد ، وأذعن لطاعتهم العباد ، فصاروا تاج الأرض» (١).

إلّا أنّ وجود هذه المستندات لا تدلّنا على حضارة تسود كلّ أقطار الجزيرة العربيّة ، ولا سيّما منطقة الحجاز التي لم تكن تتمتّع بهذه الحضارة بل لم تشمّ شيئا من نسيمها ، وهذا هو الذي جعلها مصونة عن تصرّف المتصرّفين بالبلاد ، فلم يتوجّه إليها نهم الروم والفرس اللذين كانا يقتسمان العالم آنذاك. والمقطوع به هو أنّه لم يبق من هذه الحضارة حين ظهور الإسلام شيء يذكر.

ونحن هنا نأتي بذكر قصّة أسعد بن زرارة الخزرجي ، التي تبيّن لنا نقاطا كثيرة من حياة الناس في الحجاز : روى الشيخ الطبرسي في كتابه «إعلام الورى بأعلام الهدى» عن علي بن إبراهيم أنّه قال :

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٨١.

٩٩

«كان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بغاث وكانت للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم.

فقال عتبة : بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ معه لشيء!

قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟

قال عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد : من هو منكم؟

قال : ابن عبد الله بن عبد المطّلب من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم ـ النظير وقريظة وقينقاع ـ : إنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

فلمّا سمع أسعد ما سمع من عتبة وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود ، وقال : فأين هو؟

وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب فقال عتبة : إنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم ، وها هو جالس في الحجر ، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه.

فقال أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟

فقال : ضع في اذنيك القطن. فحشا أسعد في اذنيه القطن ودخل المسجد ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فطاف أسعد بالبيت ونظر إلى

١٠٠