موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

طلب الغنى جمعنا لك مالا حتّى تكون أيسر أهل مكّة. فكره النبيّ ذلك وظن أنّ قومه إنمّا يكذبوه لفقره ، فوعده الله سبحانه الغنى ليسلّيه بذلك عمّا خامره من الهمّ فقال : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي لا يحزنك ما يقولون وما أنت فيه من الإقلال ، فإنّ مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا. ثمّ أنجز ما وعده فلم يمت حتّى فتح عليه الحجاز وما والاها من القرى العربية وعامّة بلاد اليمن ، فكان يعطي المائتين من الإبل ويهب الهبات السنيّة ، ويعدّ لأهله قوت سنته (٣) فهل كان بين الضحى والشرح من التحديث بنعمة النبوة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما جرّ المشركين الى اقتراح تقديم المال إليه ردعا له عن دعوته؟!

السورة الثالثة عشرة ـ «العصر» :

وقال الطبرسي : قيل : المراد بالإنسان هو الوليد بن المغيرة وأبو جهل (١) ونسب السيوطي الى ابن عبّاس القول بأنّه أبو جهل (٢). وعلى هذا فلا يخلو قوله (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن تعريض به أو بهما اذ كانا يتواصيان بالباطل والصبر عليه في مواجهة الحقّ. وهذا أيضا ممّا يقتضي الإعلان ، كما يقتضيه اطلاق قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

السورة الرابعة عشرة ـ «العاديات» :

إنّما علّقنا علامة استفهام على كون سورة العاديات هي الرابعة عشرة نزولاً ، لأنّها كذلك حسب الخبر المعتمد في ترتيب نزول السور (٤).

إلّا أنّ القميّ والكوفي في تفسيريهما (٥) والمفيد في إرشاده (٦) والطوسي في أماليه (٧) رووا مدنية السورة عن سلمان وأبي ذر وابن عباس والباقر والصادق عليهما السلام ، ونقل الطوسي في تفسيره عن الضحاك مدنيّتها ، وعن ابن عباس وتلامذته مجاهد وقتادة وعطاء : أنّ العاديات الضابحات والمثيرات نقعاً والموريات قدحاً كلّها

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٧٧٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨١٥.

(٣) الدر المنثور ٦ : ٣٩١.

(٤) التمهيد ١ : ١٠٣ ، ١٠٤.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٤٣٤ و ٤٣٨ والفرات الكوفي : ٥٩٩ الحديث ٧٦١.

(٦) الارشاد ١ : ١٦٥.

(٧) أمالي الطوسي : ٤٠٧ ، م ١٤ ، ح ٦١.

٤٢١

أوصاف الخيول المغيرات صباحاً بالمدينة ، إذ لم يكن للمسلمين خيل بمكة. ومع كل ذلك نقل عن ابن عباس كونها مكية (١)! فعكس الطبرسي عن ابن عباس وقتادة (٢) ثمّ روى عن الصادق عليه السلام مدنيّتها وكذا عن عطاء وعكرمة والحسن ومجاهد والربيع ما يفيد مدنيّتها (٣) وكذا في تاريخه عن بعض أهل السير (٤)!

إلّا أنّه في تفسيره روى عن عطاء عن ابن عباس خبراً في ترتيب نزول السور فعدّ العاديات مكيّة ، وآخر عن عكرمة والحسن البصري كذلك ، وفي ثالث عن سعيد بن المسيب عن علي عليه السلام (كذا) كذلك (٥) والراونية روى مدنيّتها (٦) وكذا الساروي الحلبي عن مقاتل والزجاج ووكيع والسدّي والثوري وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن اُم سلمة (٧). وكذا القرطبي في تفسيره عن أنس بن مالك وابن عباس وتلميذه قتادة (٨) وقال ابن حجر : باسناد صحيح عن ابن عباس قال : ما ضبحت دابة إلّا فرس أو كلبس (٩) فهو يصرّ على أن الضبح إنما هو للخيل ، ولم يكن بمكة قتال حتى تعدو الخيل ضبحاً وتُغير صبحاً فتثير نقعاً وتوري قدحاً! وعليه فمنطوق السورة يأبى كونها مكية بل هي مدنية ، نزلت سنة ثمان للهجرة في جمادي الثانية (١٠). وعليه فنحن نستثنيها من الخبر المعتمد ونؤجل برها إلى حوادث الثامنة للهجرة (١١).

السورة الخامسة عشرة ـ «الكوثر» :

قال القمّي في تفسير الكوثر : نهر في الجنة ، أعطاه الله محمّدا عوضا عن ابنه

__________________

(١) التبيان ١ : ٣٩٥ ، ٣٩٦.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨٠١.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٠٢ ، ٨٠٣.

(٤) إعلام الورى ١ : ٣٨٣.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٦١٢ ، ٦١٣.

(٦) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٨.

(٧) مناقب آل ابي طالب ٣ : ١٦٦ و ١٦٧.

(٨) تفسير القرطبي ، سورة العاديات.

(٩) فتح الباري ١٠ : ٣٥٧.

(١٠) الطبقات لابن سعد ق ١ ج ٢ : ٩٤. وانظر : عليّ امام البررة ٣ : ١٢٩ ـ ١٨٠ للخرسان.

(١١) في المجلد الثالث : ١٦٠ : سرية وادي الرمل.

٤٢٢

ابراهيم (كذا) وكان الرجل ـ في الجاهلية ـ اذا لم يكن له ولد سمي أبتر ، فدخل رسول الله المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن أبي العاص ، فقال له عمرو : يا أبا الأبتر! (كذا) ثمّ قال عمرو : انّي لأشنأ محمّدا. أي : ابغضه ، فأنزل الله على رسوله السورة (١).

ونقله الطباطبائي في «الميزان» وعلّق عليه يقول : الخبر ـ على إرساله واضماره ـ معارض لسائر الروايات (٢) ثمّ لم يأخذ عليه ما فيه من تهافت في اسم ابن النبيّ المتوفّى حيث ذكر ابراهيم ابن مارية القبطية المتوفّى بعد الهجرة بالمدينة ، ثمّ عرّج على معنى الأبتر في الجاهلية ، ثمّ ذكر دخول الرسول الى المسجد وفيه عمرو بن العاص وليس هو الّا المسجد الحرام بمكّة. ثمّ ذكر أنّه قال له : يا أبا الأبتر بينما هو الأبتر ، فيا لضعف النص!

وروى الدولابي في «الذرّية الطاهرة» بسنده عن جابر الجعفي عن محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام قال : كان القاسم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بلغ أن يركب الدابّة ويسير على النجيب (الابل) فلمّا قبضه الله قال (العاص بن وائل السهمي) : قد أصبح محمّد أبتر من ابنه ، فأنزل الله على نبيّه : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) عوضا عن مصيبتك في القاسم (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣).

أمّا الطبرسي فقد روى عن ابن عباس : انّه كان قد توفّي عبد الله بن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من خديجة ، وكانوا يسمّون من ليس له ابن : أبتر ، واتفق أن التقى العاص بن وائل السهمي عند باب بني سهم برسول الله وهو يخرج من المسجد

__________________

(١) تفسير القميّ ٢ : ٤٤٣.

(٢) الميزان ٢٠ : ٣٧٣.

(٣) الذرّية الطاهرة : ٦٧.

٤٢٣

فتحادثا ، وكان اناس من صناديد قريش جلوسا في المسجد ، فلمّا دخل العاص سألوه : من كنت تتحدث معه؟ قال : ذلك الأبتر ، فسمّته قريش بالأبتر (١).

وجاء مختصر الخبر عنه في «الدر المنثور» قال : مات عبد الله ، فقال العاص بن وائل السهمي ، قد انقطع نسله فهو أبتر ، فأنزل الله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٢).

ولكنّه أخرج عن الصادق عليه‌السلام قال : توفّي «القاسم» ابن رسول الله بمكّة ، فمرّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وهو آت من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو ، فقال (عمرو) حين رأى رسول الله : إني لأشنؤه! فقال العاص بن وائل : لا جرم لقد أصبح أبتر ، فأنزل الله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣).

يمتاز هذا الخبر عمّا مرّ بذكر عمرو بن العاص وأنّه هو الشانئ الأبتر وان كان أبوه العاص هو النابز للنبيّ بلقب الأبتر ، ويؤيده ما في «الاحتجاج» للطبرسي عن الحسن بن علي عليهما‌السلام في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاص يقول له : ثمّ قمت خطيبا وقلت : أنا شانئ محمّدا ، وقال العاص بن وائل (ولم يقل أبوك لأنّه عاهر) : إنّ محمّدا رجل أبتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره. فأنزل الله تبارك وتعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٤).

فالخبران الأوّلان عن ابن عباس إنمّا ذكرا نابز النبيّ بلقب الأبتر وأنّه كان العاص بن وائل أبا عمرو بن العاص ، ثمّ لم يذكرا الشانئ له صلى‌الله‌عليه‌وآله المجاهر له الشنآن. والخبران الآخران عن الصادق والمجتبى عليهما‌السلام ذكراهما ، فلا منافاة بينهما ، ولعلّ ابن عباس سالم عمرو بن العاص أو اتقاه فاكتفى بذكر أبيه دونه.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٣٦.

(٢ و ٣) الدر المنثور ٦ : ٤٠١ ، سورة الكوثر.

(٤) الاحتجاج ١ : ٤١١ ، ط. النجف الأشرف.

٤٢٤

كما فعل كذلك السّدي فقال : كانت قريش اذا مات ذكور الرجل تقول : بتر فلان والأبتر : الفرد! فلمّا مات ولد للنبيّ قال العاص بن وائل : بتر الرجل (١).

وكما فعل ابن اسحاق قال : بلغني أنّه كان العاص بن وائل السهمي اذا ذكر رسول الله قال : دعوه فإنّما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو مات لا نقطع ذكره واسترحتم منه. فأنزل الله في ذلك : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي ما هو خير لك من الدنيا وما فيها (٢).

والّذي تشير إليه السورة وتدلّ عليه الأخبار التأريخية والتفسيرية هو أيضا ممّا يقتضي الإعلان لا الكتمان ، بل المجاهرة بالإحن والشنآن ، والحنق والعدوان.

السورة السادسة عشرة ـ «التكاثر» :

روى الطبرسي عن مقاتل والكلبي قالا : نزلت في حيّين من قريش : بني عبد مناف بن قصي ، وبني سهم بن عمرو ، تكاثروا وعدّوا أشرافهم ، فكثرهم بنو عبد مناف ، ثمّ قالوا : نعدّ موتانا! حتّى زاروا القبور فعدّوهم قالوا : هذا قبر فلان وهذا قبر فلان ، فكثرهم بنو سهم لأنّهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية (٣) فنزلت السورة. وعليه فلا يصح ما قيل من مثل ذلك في الأنصار أو اليهود ممّا يقتضي مدنية السورة.

__________________

(١) الميزان ٢٠ : ٣٧٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة٢ : ٣٤. وانظر الميزان ٢٠ : ٣٧٠ في معنى الكوثر.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨١١.

٤٢٥

ولا ننسى هنا ما كان من معاوية وبني أميّة وبني مروان وقريش عموما من العداء للأنصار ، ممّا يدفعهم الى أن يعطفوا ما كان من الذم القرآني عليهم الى من سواهم ولا سيما الأنصار وفيهم الأوتار.

السورة السابعة عشرة ـ «الماعون» :

روى الطبرسي عن ابن جريج قال : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، كان ينحر في كلّ اسبوع جزورين ، فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه. وعن السدّي ومقاتل بن حيّان قالا : نزلت في الوليد بن المغيرة. وعن الكلبي قال : نزلت في العاص بن وائل السهمي. وعن عطاء عن ابن عباس قال : نزلت في رجل من المنافقين (٢) وأظن هنا في عطاء أنّه قد ناله في هذا القول عطاء بني أميّة أو أصابه سهم من سهام وزرائهم من بني سهم ، ليعطف عنهم ذمّا قرآنيا مكّيّا الى رجل من المنافقين في المدينة.

وفي السورة آية : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) ممّا يشير الى وجود مصلّين وفيهم مراءون ، فهل يتفق هذا وقول ابن اسحاق : أنّهم قبل اعلان الدعوة كانوا اذا أرادوا الصلاة ذهبوا الى شعاب مكّة فاستخفّوا بصلاتهم فيها؟ فمن كان يرائي لمن؟

السورة الثامنة عشرة ـ «الكافرون» :

__________________

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨٣٤.

٤٢٦

فعدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رءوسهم ثمّ قرأ عليهم حتّى فرغ من السورة ، فأيسوا عند ذلك فآذوه وآذوا أصحابه (١) وروى قريبا منه الشيخ في أماليه عن ميناء (٢).

وقال ابن اسحاق في السيرة : بلغني أنّه اعترض رسول الله وهو يطوف بالكعبة : الأسود بن المطّلب ، والوليد بن المغيرة ، واميّة بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي ، وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا : يا محمّد هلمّ فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الّذي تعبد خيرا ممّا نعبد كنّا قد أخذنا بحظنا منه ، وان كان ما نعبد خيرا ممّا تعبد كنت قد أخذت بحظك منه. فأنزل الله فيهم : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)(٣).

وروى الطبري بسنده عن ابن عبّاس قال : انّ قريشا وعدوا رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكّة ، ويزوّجوه ما أراد من النساء ، وقالوا له : هذا لك عندنا يا محمّد وكفّ عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل فإنّا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ، ولنا فيها صلاح. قال : ما هي؟ قالوا : تعبد آلهتنا اللات والعزّى سنة ، ونعبد إلهك سنة! فقال النبيّ : حتّى أنظر ما يأتي من عند ربّي!

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٤٦.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٨٤٠.

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٣٨٨.

٤٢٧

فجاء الوحي من اللوح المحفوظ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)(١). وعليه فهذه هي بداية أذية المشركين للرسول والمسلمين ، وهي تقتضي الإعلان لا الكتمان. وكأن أذى أبي لهب وزوجته للرسول من قبل كان خاصّا به وبهما فاختصت السورة بهما.

السورتان العشرون والواحدة والعشرون ـ «المعوّذتان» :

قال القمي : حدثني أبي ، عن بكر بن محمّد ، عن الصادق عليه‌السلام قال : كان سبب نزول المعوّذتين أنّه وعك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزل جبرئيل بهاتين السورتين فعوّذه بهما (٢).

وروى الطبرسي عنه عليه‌السلام قال : جاء جبرئيل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو شاك ، فرقاه بالمعوّذتين و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقال : باسم الله ارقيك ، والله يشفيك من كل داء يؤذيك ، خذها فلتهنيك (٣).

وروى عن أبيه الباقر عليه‌السلام قال : انّ رسول الله اشتكى شكوى شديدة ووجع وجعا شديدا ، فأتاه جبرئيل وميكائيل ، فقعد جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، فعوّذه جبرئيل ب (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، وعوّذه ميكائيل ب (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)(٤).

وعن كتاب «طب الأئمة» عن الصادق عليه‌السلام : أنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : إنّ فلانا اليهودي سحرك ، ووصف له السحر وموضعه ، فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام حتّى أتى القليب فبحث عنه فلم يجده ، ثمّ اجتهد في طلبه حتّى وجده فأتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واذا هو حقة فيها قطعة كرب نخل ، في جوفه وتر عليها احدى عشرة

__________________

(١) الطبري ٣٠ : ٣٣٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٥٠.

(٣ و ٤) مجمع البيان ١٠ : ٨٦٧.

٤٢٨

عقدة ، وكان جبرئيل عليه‌السلام قد انزل المعوّذتين ، فأمر النبيّ عليا أن يقرأهما على الوتر ، فجعل كلّما قرأ آية انحلّت عقدة حتّى فرغ منها ، فكشف الله عن نبيّه ما سحر به وعافاه (١).

ونقل المجلسي في باب معجزاته في كفاية شرّ الأعداء عن كتاب «الخرائج والجرائح» للقطب الراوندي قال : روى أنّ امرأة من اليهود عملت له سحرا فظنّت أنّه ينفذ فيه كيدها. والسحر باطل محال ، الّا أنّ الله دلّه عليه فبعث من استخرجه ، وكان على الصفة الّتي ذكرها وعلى عدد العقد الّتي عقد فيها ووصف ، ما لو عاينه معاين لغفل عن بعض ذلك (٢).

ولعلّه أخذ القول باليهودية ممّا اختصره ابن جزي الكلبي في «التسهيل» قال : قيل : انّ بنات «لبيد» كنّ ساحرات ، فهنّ ـ وأبوهنّ ـ سحرن رسول الله وعقدن له احدى عشرة عقدة ، فأنزل الله المعوّذتين : احدى عشرة آية بعدد العقد ، وشفى الله رسوله (٣).

وشاء الراوي ـ في خبر آخر ـ أن يحذف اسمه ويكتفي بوصفه باليهودية فقال : سحر النبيّ يهودي فاشتكى ، فأتاه جبرئيل بالمعوّذتين وقال : انّ رجلا من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان. فأرسل عليا عليه‌السلام فجاء به ، فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية ، فجعل يقرأ ويحلّ حتّى قام النبيّ كأنّما نشط من عقال (٤).

وأخرج مفصله البيهقي في «دلائل النبوة» عن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة قالت : كان لرسول الله غلام يهودي يخدمه يقال له : لبيد بن أعصم ، فلم تزل به اليهود حتّى سحر النبيّ ، فكان يذوب (أو : يدور)

__________________

(١) طب الأئمة : ١١٨.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٣٤ ، الحديث ٣٣ وعنه بحار الأنوار ١٨ : ٥٧.

(٣) التسهيل ٤ : ٢٢٥.

(٤) الدر المنثور ٦ : ٤١٧.

٤٢٩

ولا يدري ما وجعه. فبينا رسول الله ذات ليلة نائم إذ أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الأوّل للثاني : ما وجعه؟ قال : مطبوب (أي مسحور) قال : من طبّه؟ قال : لبيد ابن أعصم؟ قال : بم طبّه؟ قال : بمشط ومشاطة وجفّ طلعة نخل ذكر بذي أروان (بئر) وهي تحت راعوفة البئر (الصخرة على فم البئر).

فلمّا أصبح رسول الله غدا ومعه أصحابه الى البئر فنزل رجل (؟) فاستخرج الجف ، فإذا فيها مشط رسول الله ومن مشاطة رأسه (شعر رأسه) واذا تمثال من شمع تمثال رسول الله واذا فيها ابر مغروزة ، واذا وتر فيه احدى عشرة عقدة. فأتاه جبرئيل بالمعوّذتين فقال : يا محمّد (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وحلّ عقدة ، (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، وحلّ عقدة ، حتّى فرغ منها وحل العقد كلها ، وجعل لا ينزع ابرة الّا يجد لها ألما ثمّ يجد بعد ذلك راحة ، فقيل : يا رسول الله لو قتلت اليهودي؟! فقال : قد عافاني الله ، وما وراءه من عذاب الله أشد (١).

وقد قالوا : انّ أوهى الطرق الى ابن عباس هو طريق الكلبي عن أبي صالح عنه (٢) وابن عباس رواه عن عائشة ، وان أوهم الطبرسي فقال : عن ابن عباس وعائشة (٣) ولكن عائشة من أين علمت وأخبرت عن الملكين؟ ونجد الجواب فيما رواه الشيخان في الصحيحين عنها قالت : سحر رسول الله رجل من يهود بني زريق يقال له : لبيد بن الأعصم ، حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما يفعله! حتّى اذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله ثمّ دعا ثمّ دعا. ثمّ قال : يا عائشة : جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال الّذي

__________________

(١) كما في الدر المنثور ٦ : ٤١٧.

(٢) الإتقان ٢ : ١٨٩.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٦٥.

٤٣٠

عند رأسي للّذي عند رجلي : ما وجع الرجل؟ قال : مطبوب ، قال : من طبّه؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : في أيّ شيء؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلعة نخل ذكر قال : فأين هو؟ قال : في بئر ذي أروان (أو : ذروان).

قالت : فأتاها رسول الله في اناس من أصحابه ثمّ رجع وقال : يا عائشة ، والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء ولكأن نخلها رءوس الشياطين. فقلت : هلا استخرجته؟ فقال : لا ، أمّا أنا فقد شفاني الله ، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا (!) ثمّ أمر بالبئر فدفنت (١).

وعليه بنى السيوطي فقال : المختار أنّ المعوّذتين مدنيتان لانهما نزلتا في قصّة سحر لبيد بن الأعصم (٢) ولعل اليعقوبي عدّهما من أواخر المدنيات لذلك أيضا (٣)

ومرّ في خبر «الدر المنثور» و «طب الأئمة» أن الرسول أرسل عليا فجاءه بالسحر ، وفي خبر «الصحيحين» و «دلائل النبوة» أنّه خرج مع ناس من أصحابه فنزل إليه رجل منهم فاستخرج السحر ، وأمر بالبئر فطمّت ، ومن الطبيعيّ القطعيّ أن ينقطع لبيد بعد ذلك عن خدمته ، ومع ذلك لم يرو الخبر عن غير ابن عباس عن عائشة!

والغريب أنّ ابن عباس كأنّه لم ير في الخبر تنافيا مع ما رواه في ترتيب نزول السور وأن المعوذتين من أوائل المكّيات لا من أواخر المدنيات! (٤).

أمّا الأخبار الثلاثة الاول عن القميّ عن الصادق عليه‌السلام وعن الطبرسي عنه ، وعن الباقر عليه‌السلام ، فهي خلو ممّا ينافي شأن النبيّ ومكّية السورتين ، وأمّا الخبر

__________________

(١) البخاري ٤ : ١٤٨ و ٧ : ١٧٦ ومسلم ٧ : ١٤.

(٢) الإتقان ١ : ١٤.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٤٣.

(٤) التمهيد ١ : ١٠٣ وتلخيصه ١ : ٩٥.

٤٣١

الرابع عن «طب الأئمة» عن الصادق عليه‌السلام فهو عن محمّد بن سنان عن المفضّل بن عمر ، وكلاهما معروفان في الرجال بالضعف ، ولا أراه الّا متسرّبا من غيرهم عليهم‌السلام.

السورة الثانية والعشرون ـ «التوحيد» :

قال القميّ في تفسيره : كان سبب نزولها : أنّ اليهود جاءت الى رسول الله فقالت : ما نسب ربّك؟ فأنزل الله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١).

ورواه الكليني في «الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ اليهود سألوا رسول الله فقالوا : انسب لنا ربّك. فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثمّ نزلت (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الى آخرها (٢) ورواه الطبرسي في «مجمع البيان» (٣).

وفي «الاحتجاج» للطبرسي عن العسكري عليه‌السلام أنّ السائل هو عبد الله بن صوريا اليهودي (٤).

وروى الطبرسي عن الضحاك وقتادة ومقاتل قالوا : جاء اناس من أحبار اليهود الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد صف لنا ربّك لعلّنا نؤمن بك ، فإنّ الله أنزل نعته في التوراة. فنزلت السورة (٥).

الى هنا تبدو هذه الأخبار وكأنّها تستلزم مدنية السورة ، ولكن روى الطبرسي عن تفسير القاضي ما يدفع هذه الدلالة قال : انّ عبد الله بن سلام انطلق الى رسول الله وهو بمكّة ، فقال له رسول الله : انشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله ، فقال : انعت لنا ربّك. فنزلت هذه السورة فقرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) تفسير القميّ ٢ : ٤٤٨.

(٢) كما في الميزان ٢٠ : ٣٩٠.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٩.

(٤) كما في الميزان ٢٠ : ٣٩٠ عن الاحتجاج ، ولم اجده في أخبار العسكري عليه‌السلام.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٩.

٤٣٢

فكانت سبب اسلامه الّا أنّه كان يكتم ذلك الى أن هاجر النبيّ الى المدينة ثمّ أظهر الإسلام (١) فلعلّه كان هو وعبد الله بن صوريا اليهودي كما مر عن خبر «الاحتجاج» عن العسكري عليه‌السلام.

ولكن روى القميّ أيضا عن الضحّاك عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبيّ بمكّة : صف لنا ربّك لنعرفه فنعبده. فأنزل الله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٢) وروى الطبرسي تفصيله عنه أيضا قال : إنّ عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ـ أخا لبيد الشاعر ـ أتيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له عامر ابن الطفيل : الى ما تدعونا يا محمّد؟ فقال : الى الله فقال : صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضّة أم من حديد أم من خشب؟ فنزلت السورة. وأرسل الله الصاعقة على أربد فأحرقته وطعن عامر في خنصره فمات (٣).

وقد يجمع بينهما بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تلى التوحيد عليهم ، فاستهزءوا به فنزل العذاب بهم ، أمّا نزول السورة فقد كان من قبل لليهود القادمين إليه من المدينة ، فلا تنافي.

وفي اتيان اليهود إليه من المدينة دلالة على انتشار خبره وبلوغه إليها ، وهذا أيضا ممّا لا يتلاءم مع دور الكتمان ، بل الإعلان.

السورة الثالثة والعشرون ـ «النجم» ومعراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال القميّ : النجم رسول الله و (إِذا هَوى) أي لمّا اسري به الى السماء. فهو قسم برسول الله وردّ على من أنكر المعراج (٤).

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٤٤٨.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٥٩.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٣٣. وجاء في اللغة : هوى في الجبل أي صعد فيه ، فهو من الأضداد.

٤٣٣

ولعلّه أخذ ذلك من خبر رواه الطبرسي عن الصادق عليه‌السلام قال : ان محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نزل من السماء السابعة ليلة المعراج (١) مع ما بين النصين من الفرق.

وروى القمي عن الصادق عليه‌السلام قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله راقد بالأبطح وعلى يمينه علي عليه‌السلام وعن يساره جعفر وحمزة بين يديه ... اذ أدركه اسرافيل بالبراق وأسرى به الى بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وآيات الأنبياء ، فصلّى فيها ، وردّه من ليلته الى مكّة. فمرّ في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية فشرب منه وأهرق باقي ذلك. وقد كانوا أضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه.

فلمّا أصبح صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لقريش : انّ الله قد أسرى بي في هذه الليلة الى بيت المقدس ، فعرض عليّ محاريب الأنبياء وآيات الأنبياء ، وانّي مررت بعير لكم في موضع كذا وكذا واذا لهم ماء في آنية فشربت منه وأهرقت باقي ذلك ، وقد كانوا أضلوا بعيرا لهم.

فقال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : قد أمكنكم الفرصة من محمّد ، سلوه كم الأساطين فيها والقناديل. فقالوا : يا محمّد انّ هاهنا من قد دخل بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلّق صورة البيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما سألوه. فلمّا أخبرهم قالوا : حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت. فقال لهم : وتصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر.

فلمّا أصبحوا أقبلوا ينظرون الى العقبة ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة. فبينا هم كذلك اذا طلعت العير مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر. فسألوهم عمّا قال رسول الله ، فقالوا : لقد كان هذا : ضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا ،

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٢٦١.

٤٣٤

ووضعنا ماء باردا وأصبحنا وقد اهريق الماء. فلم يزدهم ذلك الّا عتوا (١).

رواه القميّ مرسلا بلا اسناد ، ورواه الصدوق في أماليه عن أبيه عن القميّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان بن الأحمر البجلي عن الصادق عليه‌السلام (٢).

هذا الخبر كما مرّ ذكر الإسراء من مكّة الى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس فقط ولم يذكر عروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله منه الى السماوات العلى.

وقال الطبرسي : فمن جملة الأخبار الواردة في قصّة المعراج ما روى : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أتاني جبرئيل عليه‌السلام وأنا بمكّة فقال : قم يا محمّد. فقمت معه وخرجت الى الباب فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل واسرافيل ، فأتى جبرئيل عليه‌السلام بالبراق ... فقال : اركب ، فركبت ومضيت حتّى انتهيت الى بيت المقدس. ثمّ ساق الحديث الى أن قال : ثمّ أخذ جبرئيل عليه‌السلام بيدي الى الصخرة فأقعدني عليها ، فإذا معراج الى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا ، فصعدت الى السماء الدنيا ورأيت عجائبها وملكوتها ... ثمّ صعد بي جبرئيل الى السماء الثانية ... ثمّ صعد بي الى السماء الثالثة ... ثمّ صعد بي الى السماء الرابعة ... ثمّ صعد بي الى السماء الخامسة ... ثمّ صعد بي الى السماء السادسة ... ثمّ صعد بي الى السماء السابعة ... ثمّ جاوزناها متصاعدين الى أعلى عليّين. ووصف ذلك الى أن قال : ثمّ كلّمني ربّي وكلّمته ، ورأيت الجنة والنار ، ورأيت العرش ، وسدرة المنتهى.

__________________

(١) تفسير القميّ ٢ : ١٣ ، ١٤ ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ٤٩.

(٢) أمالي الصدوق : ٣٦٣. وروى بعده خبرا باسناده الى عبد الرحمن بن غنم في الإسراء والمعراج ، قريب من سابقه. وفي : ٤٨٠ روى خبرا آخر عن الباقر عليه‌السلام.

٤٣٥

ثمّ رجعت الى مكّة ، فلمّا أصبحت حدثت به الناس فكذّبني أبو جهل والمشركون ، وقال مطعم بن عدي : أتزعم أنّك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟! أشهد أنّك كاذب! ثمّ قالوا : أخبرنا عمّا رأيت. فقال مررت بعير بني فلان وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب مملوء من ماء فشربت الماء ثمّ غطيته كما كان. قال : ومررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها قالوا : فأخبرنا عن عيرنا. قال : مررت بها بالتنعيم يتقدّمها جمل أورق (أي أحمر) عليه قرارتان محيطتان ، ويطلع عليكم عند طلوع الشمس.

قالوا : فخرجوا يشتدون نحو الثنيّة وهم يقولون : لقد قضى محمّد بيننا وبينه قضاء بيّنا وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذّبوه. فقال قائل : والله انّ الشمس قد طلعت ، وقال آخر : والله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق. فبهتوا ولم يؤمنوا (١).

ورواه محمّد بن اسحاق عن أمّ هانئ بنت أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ قالت : انّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ ليلة اسري به صلّى العشاء الآخرة في بيتي ثمّ نام عندي تلك الليلة في بيتي ونمنا. فلمّا كان قبيل الفجر أيقظنا رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فلمّا صلّى الصبح وصلّينا معه قال : يا أمّ هانئ لقد صلّيت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الدار ثمّ ذهبت الى بيت المقدس فصلّيت فيه ثمّ ها أنا قد صليت معكم الآن صلاة الغداة كما ترين. ثمّ قام ليخرج ، فأخذ بطرف ردائه فقلت له : يا نبيّ الله لا تحدث بهذا الناس فيكذّبوك ويؤذوك! قال : والله لاحدثنّهم به.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٦٠٩ ، ٦١٠.

٤٣٦

فقلت لجارية لي حبشية : ويحك اتّبعي رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ حتّى تسمعي ما يقول الناس وما يقولون له. فقالت : لمّا خرج رسول الله الى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا : ما آية ذلك يا محمّد؟ فإنّا لم نسمع بمثل هذا قط! قال : آية ذلك : أنّي مررت وأنا متوجه الى الشام بعير بني فلان بوادي كذا وكذا فانفرهم حسّ الدابّة فشذّ عنهم بعير فدللتهم عليه. ثمّ أقبلت حتّى اذا كنت بوادي ضجنان (على بريد من مكّة بوادي تهامة) مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ، ولهم إناء فيه ماء قد غطّوا عليه بشيء ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثمّ غطّيت عليه كما كان ، وآية ذلك أنّ عيرهم الآن تصوب من البيضاء ثنيّة «التنعيم» يقدمها جمل أورق (بين الغبرة والسواد) عليه غرارتان : احداهما سوداء والاخرى بألوان مختلفة.

قالت (أمّ هانئ عن جاريتها) فابتدر القوم الثنيّة فلم يلقهم شيء قبل الجمل كما وصف لهم ، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنّهم وضعوه مملوءا ماء ثمّ غطّوه وأنّهم هبّوا (من نومهم) فوجدوه مغطّى كما غطّوه ولم يجدوا فيه ماء ، وسألوا الآخرين وهم بمكّة ، فقالوا : صدق والله ، لقد انفرنا في الوادي الّذي ذكر ، وندّ لنا بعير ، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتّى أخذناه (١).

وفي تمام الخبر السابق عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا نزلت السورة واخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتفل في وجهه وقال : كفرت بالنجم وبرب النجم ، وطلّق ابنته صلى‌الله‌عليه‌وآله. فدعا عليه وقال : اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك.

فخرج عتبة الى الشام فنزل في بعض الطريق ، وألقى الله عليه الرعب فقال لأصحابه : أنيموني بينكم ليلا. ففعلوا ، فجاء أسد فافترسه من بين الناس.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٤٣ ، ٤٤.

٤٣٧

وفي ذلك قال (بعد ذلك) حسّان :

سائل بني الأصفر إن جئتهم

ما كان أنباء بني واسع

لا وسّع الله له قبره

بل ضيّق الله على القاطع

رمى رسول الله من بينهم

دون قريش ، رمية القاذع

واستوجب «الدعوة» منه بما

بيّن للناظر والسامع

فسلّط الله به «كلبه»

يمشي الهوينا مشية الخادع

والتقم الرأس بيافوخه

والنحر منه قفزة الجائع

من يرجع العام الى أهله؟

فما «أكيل السبع» بالراجع

قد كان هذا لكم عبرة

للسيد المتبوع والتابع (١).

وعن قولهم له : صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام وغير ذلك ، ممّا جادلوه به عبّر الله تعالى بقوله سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)(٢) وفي السورة قوله سبحانه : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى)(٣) وقد مرّ في الخبر السابق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سمّى من المكذّبين لحديثه عن إسرائه ومعراجه : أبا جهل ومطعم بن عدي. ثمّ مرّ خبر عتبة بن أبي لهب وأنّه كان أشدهم تكذيبا له. فهل الآية تشير الى أحد هؤلاء المكذّبين؟

سمّى المفسّرون أحد ثلاثة أشخاص من صناديد مشركي قريش مصداقا لهذه الآية ، وخبرا رابعا تسمي مسلما مصداقا معيّنا لها. ليس الّا واحدا من الثلاثة المشركين مذكورا في المكذّبين لحديث الرسول عن إسرائه ومعراجه هو أبو جهل ،

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٢٦١.

(٢) النجم : ١١ ، ١٢. والآيات : ١٩ ـ ٢١ يتعلق بها قصة الغرانيق ، وراجع ١ : ٣٣.

(٣) النجم : ٣٣ ـ ٣٥.

٤٣٨

فيما نقله الطبرسي عن محمّد بن كعب القرظي : أنّ الآية في أبي جهل ، وذلك أنّه قال : والله ما يأمرنا محمّد الّا بمكارم الأخلاق! فذلك قوله سبحانه : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي أعطى قليلا من نفسه تصديقا ثمّ لم يؤمن. وعن السدّي قال : نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنّه كان يوافق رسول الله في بعض الامور. وعن مجاهد وابن زيد قالا : نزلت في الوليد بن المغيرة.

وعن الكلبي عن السدي عن ابن عباس : أنّ عثمان بن عفان كان ينفق ويتصدق من ماله ، فقال له أخوه من الرضاعة : عبد الله بن سعد بن أبي سرح : ما هذا الّذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك شيء! فقال عثمان : انّ لي ذنوبا وانّي أطلب بما أصنع رضا الله وأرجو عفوه. فقال له عبد الله : أعطني ناقتك وأنا أتحمّل عنك ذنوبك كلّها! فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الصدقة ، فنزلت : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً) ثمّ قطع نفقته ، الى قوله : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى)(١).

وهذا الخبر دلّ ـ فيما دلّ ـ على اسلام عثمان ، كما دلّ الخبر السابق عن تفسير القميّ في إسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على اسلام حمزة أيضا ، كما دلّ خبر ابن اسحاق عن أمّ هانئ بنت أبي طالب على اسلامها واسلام بيتها وزوجها أبي هبيرة المخزومي. واذا لم يكن للأخير خبر في تأريخ الإسلام فلنمرّ على أخبار اسلام حمزة وعثمان.

إسلام حمزة عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أمّا اسلام حمزة : فكذلك فعل الطبرسي في «اعلام الورى» اذ جعله الخبر السابق لخبر إسرائه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى بيت المقدس ، نقلا عن علي بن ابراهيم ابن هاشم باسناده قال : كان أبو جهل قد تعرض لرسول الله وآذاه بالكلام ، واجتمعت بنو هاشم وكان حمزة في الصيد فأقبل ونظر الى اجتماع الناس فقال : ما هذا؟ فقالت

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٧١ وقبله الزمخشري في الكشاف ٤ : ٣٣. وبعده الواحدي في أسباب النزول : ٣٣٥ ، ٣٣٦ ط الجميلي.

٤٣٩

له امرأة : يا أبا يعلى إنّ عمرو بن هشام (أبا جهل) قد تعرض لمحمّد وآذاه. فغضب حمزة ومرّ نحو أبي جهل وأخذ قوسه فضرب بها رأسه ثمّ احتمله فجلد به الأرض. واجتمع الناس فقالوا : يا أبا يعلى صبوت الى دين ابن أخيك؟ قال : نعم ، أشهد أن لا إله الّا الله وأنّ محمّدا رسول الله. على جهة الغضب والحمية. ورجع الى منزله.

وغدا على رسول الله فقال : يا ابن أخ أحقّ ما تقول؟ فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سورة من القرآن فاستبصر ، وثبت على دين الإسلام ، وفرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسر أبو طالب بإسلامه وقال في ذلك :

فصبرا أبا يعلى على دين أحمد

وكن مظهرا للدين ـ وفّقت ـ صابرا

وحط من أتى بالدين من عند ربّه

بصدق وحقّ ، لا تكن ـ حمز ـ كافرا

فقد سرّني اذ قلت : انّك مؤمن

فكن لرسول الله ـ في الله ـ ناصرا

وناد قريشا بالّذي قد اتيته

جهارا وقل : ما كان أحمد ساحرا (١)

وروى الخبر ابن اسحاق عن رجل من أسلم قال : إنّ أبا جهل مرّ برسول الله عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره ، فلم يكلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ انصرف عنه فعمد الى ناد من قريش عند الكعبة فجلس معهم.

وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك. فلم يلبث أبو جهل حتّى أقبل حمزة بن عبد المطّلب متوشحا قوسه راجعا من الصيد ، وكان اذا رجع من ذلك لم يصل الى أهله حتّى يطوف بالكعبة ، وكان اذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش الّا وقف وسلّم وتحدث معهم ، وكان أعزّ فتى في قريش وأشد شكيمة. وكان رسول الله قد رجع الى بيته. فلمّا مرّ حمزة بمولاة ابن جدعان قالت له : يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمّد آنفا من أبي الحكم بن هشام :

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٢٢ ، ١٢٣.

٤٤٠