موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

ابن الحضرمي ، وحبر مولى عامر ، وكانوا من أهل الكتاب (١) ونقل ابن شهرآشوب مثله في «المناقب» (٢).

وفيها قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها)(٣) روى السيوطي في «الدر المنثور» بأسناده عن ابن عباس : أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ، وأبا البختري ، والأسود بن المطّلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن اميّة ، واميّة بن خلف ، والعاصي ابن وائل ، ونبيه بن الحجاج ، واجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ابعثوا الى محمّد فكلّموه وخاصموه حتّى تعذروا منه.

فبعثوا إليه : إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك. فجاءهم رسول الله فقالوا له : يا محمّد! انّا بعثنا إليك لنعذر منك ، فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا ، جمعنا لك من أموالنا ، وان كنت تطلب الشرف فنحن نسوّدك ، وان كنت تطلب ملكا ملّكناك.

فقال رسول الله : ما بي ممّا تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم. ولكنّ الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلّغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا منّي ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة ، وان تردّوه علي أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٢٥٣.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٤٩ وذكر : حميرا مولى عامر!.

(٣) الفرقان : ٧ ، ٨.

٤٦١

قالوا : يا محمّد! فإن كنت غير قابل منّا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضّة تغنيك عمّا تبتغي ـ فإنّك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ـ حتّى نعرف فضلك ومنزلتك من ربّك ان كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم رسول الله : ما أنا بفاعل ، ما أنا بالّذي يسأل ربّه هذا وما بعثت إليكم بهذا ، ولكنّ الله بعثني بشيرا ونذيرا.

فأنزل الله في قولهم ذلك : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ...)(١).

وفيها قوله سبحانه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢).

نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن ابن عباس قال : نزل قوله : (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) في عقبة بن أبي معيط وابي بن خلف الجمحي ، وكانا متخالّين ، وذلك : أن عقبة كان لا يقدم من سفر الّا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه. وكان يكثر مجالسة الرسول. فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما ودعا الناس فدعا رسول الله الى طعامه.

فلمّا قرّبوا الطعام قال رسول الله : ما أنا بآكل من طعامك حتّى تشهد أن لا إله الّا الله وأنّي رسول الله. فقال عقبة : أشهد أن لا إله الّا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله.

__________________

(١) الدر المنثور : ٥ : ٦٢ وروى القصّة مرّة اخرى عن ابن عباس أيضا سببا لنزول الآيات : ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الاسراء ٤ : ٢٠٢ كما سيأتي ، ورواها الطبرسي في مجمع البيان في سورة الاسراء ٦ : ٦٧٨.

(٢) الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩.

٤٦٢

وبلغ ذلك ابيّ بن خلف ، فأتاه وقال له : صبوت يا عقبة؟! قال : لا ـ والله ـ ما صبوت ، ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي الّا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم. فقال ابيّ : ما كنت براض عنك أبدا حتّى تأتيه فتبزق في وجهه ، ففعل ذلك عقبة ، وارتدّ ، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ألقاك خارج مكّة الّا علوت رأسك بالسيف.

فوقع يوم بدر أسيرا بيد المسلمين فأمر رسول الله بتنفيذ حلفه فيه من بين سائر اسارى المشركين ، ولم يقتل من الاسارى يومئذ غيره. (١).

وعليه ، فالظالم في الآية : عقبة بن أبي معيط الاموي ، وفلان خليله ابيّ بن خلف الجمحي ، والذكر الّذي جاءه شهادته بالشهادتين ولو أخذت منه حياء ، وضلاله بعد الذكر استجابته لطلبة خليله بالارتداد والبصاق في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

السورة الرابعة والأربعون ـ «مريم» :

وهي الّتي قرأ شطرا منها جعفر بن أبي طالب الطيار على النجاشي ملك الحبشة في الهجرة إليها ، فيعلم أنّها نزلت قبل ذلك وأنّ الهجرة إليها بعد هذه السورة. وفيها قوله سبحانه : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ...)(٢) قال الطبرسي : روي في الصحيح : عن خبّاب بن الأرتّ قال : كنت رجلا غنيا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي : لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد!

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٢٦٠ ، ٢٦١ وفيه : وأمّا ابي بن خلف فقد قتله النبيّ يوم احد بيده في المبارزة. وروى الخبر السيوطي بسنده عن ابن عباس أيضا في الدر المنثور ٥ : ٦٨.

(٢) مريم : ٧٧.

٤٦٣

فقلت : لن أكفر به حتّى تموت وتبعث. قال : فإنّي لمبعوث بعد الموت فسوف أقضيك دينك اذا رجعت الى مال وولد. فنزلت الآية (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً)(١).

السورة السادسة والأربعون ـ «الواقعة» :

وفيها قوله سبحانه : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٢) وروى العيّاشي في تفسيره عن عقبة بن عامر الجهني قال : لمّا نزلت : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجعلوها في ركوعكم.

ورواه أيضا في «الدر المنثور» عن أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وهذا ممّا يؤيد ما مرّ عن أنّ الصلاة في أوائل تشريعها كانت بسجود بلا ركوع ، ثمّ شرّع فيه الركوع بعد ذلك (٤).

السورة السابعة والأربعون ـ «الشعراء» :

وفيها آية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقد سبق القول فيها.

وفيها أيضا قوله سبحانه : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)(٥) ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن مقاتل : أنّهم شعراء المشركين وكلّهم من قريش منهم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب ، وأبو عزّة عمرو بن عبد الله ، وعبد الله

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٨١٦ ويقصد بالصحيح البخاري ومسلم كما في أسباب النزول للواحدي : ٢٤٨ ط الجميلي وفي ابن هشام ١ : ٣٨٣ ، ومثله في مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٥٣.

(٢) الواقعة : ٧٤.

(٣) الميزان ٢٠ : ٢٧٠.

(٤) صفحة : ٣٨٥ و ٤٥٧.

(٥) الشعراء : ٢٢٤.

٤٦٤

بن الزبعرى السهمي ، ومسافع بن عبد مناف الجمحي ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ... اجتمعوا وقالوا : نحن نقول مثل ما قال محمّد ، قالوا الشعر وتكلّموا بالكذب والباطل ويهجون النبيّ ، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ويروون عنهم هجوهم (١).

السورة التاسعة والأربعون ـ «القصص» :

وفيها قوله سبحانه : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ)(٢) ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن الكلبي قال : كانت مقالتهم هذه حين بعثوا الرهط منهم الى رءوس اليهود بالمدينة في عيد لهم ، يسألونهم عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة فرجع الرهط الى قريش فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : سحران تظاهرا (٣).

والعلّامة الطباطبائي مع أنّه يذكر في بحوثه الروائية روايات أسباب النزول لم يذكر هذا الخبر عن «مجمع البيان» ولكنّه قال في تفسير الآيات : سياق الآيات يشهد بأن المشركين من قوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله راجعوا بعض أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه ، وهو مصدق للتوراة.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٣٢٥.

(٢) القصص : ٤٦ ـ ٤٨.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٤٠٢.

٤٦٥

فأجابوهم بتصديقه والايمان بما يتضمّنه القرآن من المعارف الحقّة ، وأنّهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال الله تعالى : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)(١).

فساء المشركين ذلك وشاجروهم وأغلظوا عليهم في القول وقالوا : إنّ القرآن سحر والتوراة سحر مثله (سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) فأعرض الكتابيون عنهم وقالوا : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(٢) هذا ما تلوّح به الآيات الكريمة بسياقها (٣).

ولم يذكر الخبر من هؤلاء العلماء اليهود من أهل يثرب الّذين صدّقوا بالقرآن فأغضبوا المشركين ، وأثنى عليهم القرآن في هذه الآيات؟ ولعلّهم هم الّذين أسلموا منهم فيما بعد : تميم الداري والجارود العبدي وعبد الله بن سلام ، الّذين نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن قتادة : أنّهم لمّا أسلموا نزلت فيهم الآيات : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) (٤) بينما الآيات مكيّة من سورة مكيّة قبل الهجرة الى المدينة. وقد ذكر في الخبر معهم سلمان الفارسي أيضا ، وهو غريب! (٥).

ايمان أبي طالب :

وفيها بعده قوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(٦).

__________________

(١) القصص : ٥٣.

(٢) القصص : ٥٥.

(٣) الميزان ١٦ : ٤٧ ، ٤٨.

(٤) القصص : ٥٢

(٥) مجمع البيان ٧ : ٤٠٣.

(٦) القصص : ٥٦.

٤٦٦

قال القمّي في تفسيره : نزلت في أبي طالب عليه‌السلام ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : يا عمّ قل : لا إله الّا الله ، أنفعك بها يوم القيامة ، فيقول : يا بن أخي أنا أعلم بنفسي. ولكنّه لم يمت حتّى شهد العباس بن عبد المطّلب عند رسول الله : أنّه تكلّم بها عند الموت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرجو أن تنفعه يوم القيامة. وقال : لو قمت المقام المحمود لشفعت في أبي وامّي وعمّي ، وأخ كان لي مواخيا في الجاهلية (١).

وروى القميّ هذا الأخير قبل هذا عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن معاوية وهشام عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وقال الطبرسي : رووا عن ابن عباس وغيره أنّ قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) نزلت في أبي طالب ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحبّ اسلامه فنزلت فيه هذه الآية ... وفي هذا نظر كما ترى ؛ فإنّ النبيّ لا يجوز أن يخالف الله سبحانه في ارادته ، كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره ونواهيه ، واذا كان الله تعالى ـ على ما زعم القوم ـ لم يرد ايمان أبي طالب وأراد كفره وأراد النبيّ ايمانه ، فقد حصل غاية الخلاف بين ارادتي الرسول والمرسل ، فكأنّه سبحانه يقول : انّك ـ يا محمّد ـ تريد ايمانه ولا اريد ايمانه ... مع تكفّله بنصرتك وبذل مجهوده في اعانتك والذبّ عنك ومحبته لك ونعمته عليك ... وفي هذا ما فيه (٣) وقال في سورة الأنعام : وقد ثبت اجماع أهل البيت عليهم‌السلام على ايمان أبي طالب ، واجماعهم حجّة ؛ لأنّهم أحد الثقلين اللذين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتمسك بهما بقوله : «إن تمسكتم بهما لن تضلّوا».

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٤٢. ونقل السيّد ابن طاووس في الطرائف ١ : ٤٢٤ عن الواسطي في أسباب النزول عن ابن المفضّل : أنها نزلت في الحارث بن نعمان بن عبد مناف ، قال للنبي يوماً : إنا نعلم أن الذي جئت به حق ويمنعنا من اتباعك أن العرب تتخطفنا من أرضنا ولا طاقة لنا بهم لقلتنا وكثرتهم! فنزلت الآية. وانظر الكشاف ٢ : ١٦٧ وتفسير ابن كثير ٣ : ٣٩٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٥.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٤٠٥ ، ٤٠٦.

٤٦٧

ويدل على ذلك ما رواه ابن عمر : أنّ أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح الى رسول الله فأسلم وكان أعمى فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا تركت الشيخ فآتيه؟ فقال أبو بكر : أردت أن يأجره الله تعالى ، والّذي بعثك بالحق لأنا كنت باسلام أبي طالب أشدّ فرحا منّي بإسلام أبي التمس بذلك قرة عينك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : صدقت.

وروى الطبري بأسناده : أنّ رؤساء قريش لمّا رأوا ذبّ أبي طالب عن النبيّ اجتمعوا عليه وقالوا : جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة : عمارة بن الوليد ، ندفعه إليك وتدفع إلينا ابن أخيك الّذي فرّق جماعتنا وسفّه أحلامنا فنقتله!

فقال أبو طالب : ما انصفتموني ، تعطوني ابنكم فأغذوه واعطيكم ابني فتقتلونه ، بل فليأت كلّ امرئ منكم بولده فأقتله. وقال :

معنا الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمع البروق

أذود وأحمي رسول المليك

حماية حام عليه شفيق

قال : وأقواله وأشعاره المنبئة عن اسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى ، فمن ذلك قوله :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا

نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

أليس أبونا هاشم شدّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب

وقوله من قصيدة :

وقالوا لأحمد : أنت امرؤ

خلوف اللسان ضعيف السبب

الّا إنّ أحمد قد جاءهم

بحقّ ولم يأتهم بالكذب

٤٦٨

وقوله في حديث الصحيفة وهو من معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد كان في أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا الله منها كفرهم وعقوقهم

وما نقموا من ناطق الحق معرب

وأمسى ابن عبد الله فينا مصدّقا

على سخط من قومنا غير معتب

وقوله في قصيدة يحضّ أخاه حمزة على اتباع النبيّ والصبر في طاعته :

فصبرا ـ أبا يعلى ـ على دين أحمد

وكن مظهرا للدين ـ وفّقت ـ صابرا

فقد سرّني إذ قلت إنّك مؤمن

فكن لرسول الله ـ في الله ـ ناصرا

وقوله في وصيته وقد حضرته الوفاة :

اوصي بنصر النبيّ الخير مشهده

عليا ابني وشيخ القوم عبّاسا

وحمزة الأسد الحامي حقيقته

وجعفرا : أن يذودا دونه الناسا

كونوا ـ فداء لكم أمّي وما ولدت ـ

في نصر أحمد دون الناس أتراسا

في أمثال هذه الأبيات ممّا هو موجود في قصائده المشهورة ، ووصاياه وخطبه ، ما يطول به الكتاب (١) فإنّ استيفاء ذلك جميعه لا تتسع له الطوامير ، وما روى من ذلك في كتب المغازي وغيرها أكثر من أن يحصى ، يكاشف فيها من كاشف النبيّ ويناضل عنه ويصحح نبوته ... ولا شكّ في أنّه لم يختر تمام مجاهرة الأعداء استصلاحا لهم ولحسن تدبيره في دفع كيدهم ، لئلّا يلجئوا الرسول الى ما ألجئوه إليه بعد موته (٢).

وقال العلّامة الطباطبائي : وروايات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مستفيضة على ايمانه ، والمنقول من أشعاره مشحون بالإقرار على صدق النبيّ وحقيقة دينه ، وهو الّذي آوى النبيّ صغيرا وحماه بعد البعثة وقبل الهجرة ، وقد كان أثر مجاهدته

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٤٤٦.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٤٠٦.

٤٦٩

وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين والأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة (١).

وقال في تفسير الآية : لمّا بيّن في الآيات السابقة حرمان المشركين ـ وهم قوم النبيّ ـ من نعمة الهداية ، وضلالهم باتباع الهوى ، واستكبارهم عن الحق النازل عليهم ، وايمان أهل الكتاب به واعترافهم بالحق ، ختم هذا الفصل من الكلام بأنّ أمر الهداية الى الله لا إليك ، يهدي هؤلاء من أهل الكتاب وهم من غير قومك الّذين تدعوهم ، ولا يهدي هؤلاء وهم قومك الّذين تحب اهتداءهم ، وهو أعلم بالمهتدين (٢).

وفي السورة قوله سبحانه : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا)(٣) قال الطبرسي : قيل : إنّما قاله الحرث بن نوفل بن عبد مناف فإنّه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا لنعلم أنّ قولك حقّ ، ولكن يمنعنا أن نتّبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا ، ولا طاقة لنا بالعرب (٤).

وروى السيوطي بأسناده عن ابن عباس : أنّ القائل هو : الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف (٥).

وفيها قوله سبحانه : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)(٦) ونقل الطبرسي عن السدي

__________________

(١) الميزان ١٦ : ٥٧.

(٢) الميزان ١٦ : ٥٥.

(٣) القصص : ٥٧.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٤٠٦.

(٥) الدر المنثور ٥ : ١٣٤ ، سورة القصص.

(٦) القصص : ٦١.

٤٧٠

ومحمّد بن كعب القرظي أنّها نزلت في [رسول الله] وعلي بن أبي طالب والحمزة بن عبد المطّلب [وعمّار بن ياسر] وفي أبي جهل [والوليد بن المغيرة] ثمّ قال : والأولى أن يكون عامّا فيمن يكون بهذه الصفة (١).

السورة الخمسون ـ «الإسراء» :

وقد سبق القول عن المعراج في «سورة النجم» وكانت السورة الثالثة والعشرين ، وكان الحديث فيها مع المشركين قبل هذه.

وفيها قوله سبحانه : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً)(٢) روى الطبرسي عن الزجاج والجبّائي قالا : نزلت في قوم كانوا اذا صلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتلا القرآن عند الكعبة ليلا يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعاء الناس الى الدين. وقال الكلبي : هم أبو سفيان وأبو جهل وامرأة أبي لهب والنضر بن الحرث ، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءته للقرآن ، فكانوا يأتونه ويمرّون به ولا يرونه ، حال الله بينه وبينهم حتّى لا يؤذوه (٣).

وبعدها قوله سبحانه : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)(٤) قال الطبرسي قيل : يعني به أبا جهل وزمعة بن الأسود وعمرو بن هشام وحويطب بن عبد العزّى ، اجتمعوا وتشاوروا في أمر النبيّ ، فقال أبو جهل : هو مجنون ، وقال زمعة : هو شاعر ، وقال حويطب : هو كاهن. ثمّ أتوا الوليد بن المغيرة وعرضوا ذلك عليه فقال : هو ساحر (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٤٠٨.

(٢) الإسراء : ٤٥.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٦٤٥.

(٤) الإسراء : ٤٧.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٦٤٦.

٤٧١

وبعدها قوله سبحانه : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً)(١) روى الطبرسي عن الكلبي قال : كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة ، فيقولون : يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم! فيقول لهم : اني لم أومر فيهم بشيء ، فنزلت (٢).

وبعدها قوله سبحانه : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)(٣) فاستحقوا العقاب بالتكذيب بالآية الّتي هم طلبوها بالتعيين اقتراحا على نبيّهم. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : ذلك أنّ محمّدا سأله قومه أن يأتيهم بآية ، فنزل جبرئيل فقال : إنّ الله يقول : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) الى قومك (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) وكنّا اذا أرسلنا الى قرية آية فلم يؤمنوا أهلكناهم ، فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات (٤).

وروى السيوطي بأسناده عن ابن عباس قال : سأل أهل مكّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون. فاوحي إليه : ان شئت أن نتأنّى بهم ، وان شئت أن نؤتيهم الّذي سألوا فإن كفروا اهلكوا كما اهلكت من قبلهم من الامم؟ قال : لا ، بل أستأني بهم. فانزل الله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ)(٥).

وذكر هذا في معنى الآية الشيخ الطبرسي (٦) بلا أسناد الى رواية.

وبعدها قوله سبحانه : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ

__________________

(١) الإسراء : ٥٣.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٦٥٠.

(٣) الإسراء : ٥٩.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢١.

(٥) الدر المنثور ٤ : ١٩٠ ، سورة الإسراء.

(٦) مجمع البيان ٧ : ٦٥٣.

٤٧٢

وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً)(١).

روى الطبرسي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد قالوا : إنّ المراد ب (الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) ما أراه في إسرائه الى المسجد الأقصى برؤية العين لا رؤيا المنام ، ولكنّه حيث رأى ذلك ليلا وأخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا.

وروي عن الحسن وابن عباس أنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم. وتقدير الآية : (وما جعلنا الرؤيا الّتي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن الّا فتنة للناس).

وأراد بالفتنة الامتحان وشدة التكليف ، ليعرض المصدق بذلك لجزيل ثوابه والمكذّب لأليم عقابه. وإنمّا كانت شجرة الزقوم فتنة لما روى : أنّ أبا جهل قال : إنّ محمّدا يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثمّ يزعم أنّه تنبت فيها الشجرة! فقال المشركون : إنّ النار تحرق الشجرة فكيف تنبت الشجرة في النار؟! وصدّق بها المؤمنون (٢).

وقال فيه : روي أنّ قريشا لمّا سمعت الآية : (ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ)(٣) قالوا : ما نعرف هذه الشجرة ، فقال ابن الزبعرى : الزقوم بلغة اليمن أو البربر : الزبد والتمر! فقال أبو جهل لجاريته : يا جارية زقّمينا! فأتته الجارية بتمر وزبد ، فقال لأصحابه : تزقّموا بهذا الّذي يخوفكم به محمّد فيزعم أنّ النار تنبت الشجرة ، والنار تحرق الشجرة. فأنزل الله : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ)(٤).

__________________

(١) الإسراء : ٦٠.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٦٥٤ ، ٦٥٥.

(٣) الصافات : ٦٢.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٦٩٤ والآية في الصافات : ٦٣.

٤٧٣

وأوّل ما ذكرت شجرة الزقوم في القرآن ذكرت في سورة الواقعة السادسة والأربعين ، في قوله سبحانه : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ)(١) فالظاهر أن استهزاء أبي جهل والمشركين كان هنا لأوّل مرة ، وفي سورة الإسراء بعد أربع سور من الواقعة أشار الى فتنتهم بهذه الشجرة المذمومة في القرآن في سورة الواقعة. ثمّ كرّر ذلك في سورة الصافات ، والّا فالصافّات قد نزلت بعد الاسراء.

وروى السيوطي باسناده عن جماعة منهم البخاري والترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل والطبري والطبراني والبيهقي في «دلائل النبوة» عن ابن عباس في قوله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) أنّها ليست رؤيا منام بل هي رؤيا عين لما رآه ليلة اسري به الى بيت المقدس. وأنّ (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) هي شجرة الزقوم. ورواه أيضا عن ابن عساكر وابن سعد وأبي يعلى عن أمّ هانئ (٢).

وفيها قوله سبحانه : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً)(٣) وقال ابن شهرآشوب في «المناقب» : قال قريش مكّة ... إنّ هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء وإنمّا أرض الأنبياء الشام فائت الشام. فنزلت (وَإِنْ كادُوا ...)(٤) ورواه الطبرسي عن مجاهد وقتادة (٥).

ومنها قوله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(٦).

__________________

(١) الواقعة : ٥١ ـ ٥٤.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٩١ ، سورة الإسراء.

(٣) الإسراء : ٧٦.

(٤) المناقب ١ : ٤٩.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٦٦٧.

(٦) الإسراء : ٨٥.

٤٧٤

روى السيوطي بإسناده عن ابن عباس قال : قالت قريش لليهود : اعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا : سلوه عن الروح (١) فان أجابكم فليس بنبيّ ، وان لم يجبكم فهو نبيّ ، فإنّا نجد في كتبنا ذلك. فوكّلهم الله في معرفة الروح الى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه ودلالة لنبوّته (٢).

ومنها قوله سبحانه : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(٣).

روى الطبرسي عن ابن عباس : أنّ جماعة من قريش وهم : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والأسود بن المطّلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي اميّة ، واميّة بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج ، والنضر بن الحارث ، وابو البختري بن هشام ... اجتمعوا عند الكعبة وقال بعضهم لبعض : ابعثوا الى محمّد فكلّموه وخاصموه. فبعثوا إليه : إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله حريصا على رشدهم ، فظنّ أنّهم بدا لهم في أمره ، ولذلك بادر إليهم. فقالوا : يا محمّد! إنّا دعوناك لنعذر إليك ، فلا نعلم أحدا أدخل على قومه ما ادخلت على قومك : شتمت الآلهة وعبت الدين وسفّهت الأحلام وفرّقت

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٥ ، سورة الإسراء.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٦٧٤.

(٣) الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٤٧٥

الجماعة ، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا اعطيناك ، وإن كنت تطلب الشرف سوّدناك علينا ، وإن كانت بك علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس شيء من ذلك ، بل بعثني الله إليكم رسولا ، وأنزل كتابا ، فإن قبلتم ما جئت به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه أصبر حتّى يحكم الله بيننا.

قالوا : إذن فليس أحد أضيق بلدا منّا ، فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال ويجري لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وأن يبعث لنا من مضى وليكن فيهم قصيّ ـ فإنّه شيخ صدوق ـ لنسألهم عمّا تقول : أحق هو أم باطل؟

فقال : ما بهذا بعثت. قالوا : فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربّك أن يبعث ملكا يصدّقك ويجعل لنا جنات وكنوزا وقصورا من ذهب.

فقال : ما بهذا بعثت ، وقد جئتكم بما بعثني الله به ، فإن قبلتم ، والّا فهو يحكم بيني وبينكم. قالوا : فاسقط علينا السماء كما زعمت أنّ ربّك إن شاء فعل ذلك ـ قال : ذاك الى الله إن شاء فعل.

وقال قائل منهم : لا نؤمن حتّى تأتي بالله والملائكة قبيلا.

فقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقام معه عبد الله بن أبي اميّة المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطّلب فقال : يا محمّد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثمّ سألوك لأنفسهم امورا فلم تفعل ، ثمّ سألوك أن تعجّل ما تخوّفهم به فلم تفعل ، فو الله لا أومن بك أبدا حتّى تتّخذ سلّما الى السماء ثمّ ترقى فيه وأنا انظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك وكتاب يشهد لك.

وقال أبو جهل : إنّه أبى الّا سبّ الآلهة وشتم الآباء ، وأنا أعاهد الله لأحملنّ حجرا ، فاذا سجد ضربت به رأسه!

٤٧٦

فانصرف رسول الله حزينا لمّا رأى من قومه ، فأنزل الله سبحانه الآيات (١) وذكر مختصره ابن شهرآشوب في «المناقب» (٢).

ومنها قوله سبحانه : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)(٣) روى العياشي عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذ كان بمكّة يجهر بصلاته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه ، فانزلت هذه الآية عند ذلك (٤) وكأنّ في قولهما عليهما‌السلام «اذ كان بمكّة» إشعار بأن ذلك كان في حالة خاصة ، وليس مطلقا.

والى هذه الرواية من العياشي يشير الطبرسي يقول : روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان اذا صلّى فجهر في صلاته تسمّع له المشركون وذلك بمكّة في أوّل الأمر ، فيؤذونه ويشتمونه ، فأمره سبحانه بترك الجهر (٥).

وروى الطوسي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنّ النبيّ كان اذا صلّى جهر في صلاته بمكّة في أوّل الأمر ، فيسمعه المشركون فيشتمونه ويؤذونه وأصحابه ، فأمر الله بترك الجهر (٦) ورواه عن ابن عباس ابن اسحاق في سيرته (٧)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٦٧٨ ، ٦٧٩. ورواه السيوطي في الدر المنثور ٣ : ٢٠٢ وكذلك رواه سببا لنزول الآيتين ٧ و ٨ من سورة الفرقان ٥ : ٦٣ ، وكلاهما عن ابن عبّاس والقصّة واحدة. وأخبار النزول هكذا مضطربة ومشوّشة.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٥٥.

(٣) الإسراء : ١١٠.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٣١٨.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٦٨٩.

(٦) التبيان ٦ : ٥٣٤.

(٧) سيرة ابن اسحاق ١ : ٣٣٥.

٤٧٧

السورة الحادية والخمسون ـ «يونس» :

وفيها قوله سبحانه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)(١).

روى الطبرسي عن مقاتل قال : نزلت في خمسة نفر : عبد الله بن اميّة المخزومي ، والوليد بن مغيرة المخزومي ، ومكرز بن حفص ، والعاص بن عامر ابن هاشم ، وعمرو بن عبد الله العامري ، قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزّى ومناة وهبل وليس فيه عيبها. ومثله عن الكلبي مختصرا (٢) وقبله نقل الطوسي عن الزجّاج قال : كان غرضهم إسقاط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، ومن ذكر البعث والنشور ، فأمر الله تعالى نبيّه أن يقول لهم في جواب ذلك : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي)(٣).

السورة الثانية والخمسون ـ «هود»

: (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) فالبشارة : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) والانذار : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأمّا كيفية مواجهتهم له ولكتابه هذا ففي قوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ

__________________

(١) يونس : ١٥ ـ ١٧.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١٤٦ ورواه الواحدي في أسباب النزول : ٢١٦ ط الجميلي.

(٣) التبيان ٥ : ٣٥٠.

٤٧٨

يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(١).

روى الكليني في «الكافي» باسناده عن سدير الصيرفي الكوفي عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : أخبرني جابر بن عبد الله : أنّ المشركين كانوا اذا مرّوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حول البيت ، طأطأ أحدهم رأسه وظهره (هكذا) وغطّى رأسه بثوبه لا يراه رسول الله ، فأنزل الله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) ورواه العياشي ، وعنه الطبرسي في «مجمع البيان» والبحراني في «البرهان» والفيض الكاشاني في «الصافي» (٢) ورواه السيوطي بإسناده عن أبي زرين قال : كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه (٣).

وفيها قوله سبحانه : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(٤).

وروى الطبرسي عن ابن عبّاس : أنّ رؤساء مكّة من قريش أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكّة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة! فأنزل الله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا ...)(٥).

وبعدها قوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٦).

__________________

(١) هود : ١ ـ ٥.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٣٩ ومجمع البيان ٥ : ٢١٥ والبرهان ٢ : ٢٠٦ والصافي ١ : ٧٧٧.

(٣) الدر المنثور ٣ : ٣٢٠ ، سورة هود.

(٤) هود : ١٢.

(٥) مجمع البيان ٥ : ٢٢١.

(٦) هود : ١٣.

٤٧٩

السورة الرابعة والخمسون ـ «الحجر» :

وفيها قوله سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)(١) وما مرّ فيها من أبحاث.

والآن وبعد أن استعرضنا ما نزل من القرآن الكريم قبل هذه الآية ممّا فيه إشارة الى حوادث البعثة وما بعدها ، فهل كان فيه ما ينسجم مع سرّية الدعوة حتّى نزول هذه الآية وبداية الإعلان للعموم بها مع نزول هذه الآية؟ أم كان جلّه أو كله ممّا لا ينسجم الّا مع الإعلان بالدعوة للعموم منذ الأوّل أو الأوائل؟ ممّا يؤيّد الخبر والقول بتقدم المرحلة السرّية على نزول القرآن ، وبدء الدعوة العلنية العامّة مع بدء نزول القرآن أو قريبا منه ، وقد مرّ خبره والقول به قبل هذا.

وسبق أيضا في معنى قوله سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) عدم التسليم لمّا اشتهر في معناه أنّه امر بإظهار الدعوة العامّة والإعلان بها ، واختيار خبر المفيد أنّ الآية أمر بالإعراض عن تهديد المشركين المستهزئين الستة المقتسمين الأبواب الستّة لمنع الحجاج والمعتمرين عن الاستماع والاستجابة للرسول الأمين ، الّذين أمهلوه الى الزوال ليترك أمره أو يقتلوه. فالآية أمر له بالاعراض عن هذا التهديد لهؤلاء المشركين والصدع بأمره ، لا ابتداء به بل استمرارا واستدامة فيه. وسبق أن لو لا هذا المعنى لمّا كان أيّ معنى مناسب للاعراض عن المشركين في الآية ، بل كان الأنسب أن يؤمر بالتصدّي لهم لا بالاعراض عنهم. وكذلك ما كان من المناسب أن يتواجد هناك مستهزءون معروفون بذلك ، مقتسمون لأبواب مكّة للمنع عنه في حين أنّ دعوته سرّية.

إذن فالصدع بالأمر وإعلان الدعوة لم يكن الحدث الآخر المشار إليه في هذه

__________________

(١) الحجر : ٩٤ ، ٩٥.

٤٨٠