موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

الفصل الاول

البيئة العربية والظروف العالمية

قبيل ظهور الإسلام

٦١
٦٢

الجاهلية في القرآن الكريم :

قلنا : إنّ البداية الطبيعيّة لتأريخ الإسلام تفرض علينا أن نتعرّف أوّلا على حالة العرب قبل الإسلام كي نتعرّف على المناخ والجو الذي انطلقت فيه الدعوة إلى الإسلام ، وخير كلام في هذا المقام كلام الإمام العلّامة الطباطبائي في تفسيره «الميزان» قال :

إنّ القرآن يسمّي عهد العرب المتّصل بظهور الإسلام بالجاهليّة ، وليس إلّا إشارة منه إلى أنّ الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم ، وأنّ المسيطر عليهم في كلّ شيء الباطل دون الحق ، وكذلك كانوا ، على ما يقصّ القرآن من شئونهم :

قال تعالى : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِ يَّةِ)(١).

وقال (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)(٢).

__________________

(١) آل عمران : ١٥٤.

(٢) المائدة : ٥٠.

٦٣

وقال : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ)(١).

وقال : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى)(٢).

كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانيّة ، وفي مغربها إمبراطوريّة الروم وهي نصرانيّة أيضا ، وفي شمالها الفرس وهم مجوس ، وفي غير ذلك مصر والهند وهما وثنيّتان ، وفي أرضهم طوائف من اليهود. وهم وثنيّون يعيش أكثرهم عيشة القبائل ، وهذا كلّه هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيّا بدويّا فيه أخلاط من رسوم اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة ، وهم سكارى في جهالتهم.

وكانت العشائر البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشنّ الغارات واختطاف ما في أيدي الآخرين من متاع أو عرض ، فلا أمن بينهم ولا أمانة ، ولا سلم ولا سلامة ، والأمر لمن غلب ، والملك لمن وضع يده عليه «ومن عزّ بزّ».

أمّا الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحميّة الجاهليّة والكبر والغرور واتّباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين ، والتعادي والتنافس ، والقمار وشرب الخمر والزنا ، وأكل الميتة وحشف التمر.

وأمّا النساء فقد كنّ محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهنّ إرادة ولا من أعمالهنّ عملا ، ولا يملكن ميراثا ، ويتزوّج بهنّ الرجال من غير تحديد بحدّ ، كما عند اليهود وبعض الوثنيّين ، ومع ذلك فقد كنّ يتبرّجن بالزينة ويدعن من أحببن إلى أنفسهنّ ، وفشا فيهنّ الزنا والسفاح حتّى المحصنات المزوّجات منهنّ ، ومن عجيب بروزهن أنّهنّ ربّما كنّ يطفن بالبيت ليلا عاريات من ثيابهنّ (لأنّهنّ لا يجدن إحراما طاهرا).

__________________

(١) الفتح : ٢٦.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

٦٤

وأمّا الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنّهم لا يورّثون صغارا ويذهب الكبار بالإرث ، ومن الإرث زوجة المتوفّى ، ويحرم الصغار ـ ذكورا أو إناثا ـ والنساء. نعم لو ترك المتوفّى صغيرا ورثه ولكنّ الأقوياء يتولّون أمر اليتيم ويأكلون ماله ، ولو كان اليتيم بنتا تزوّجوها وأكلوا مالها ثمّ طلّقوها وخلّوا سبيلها ، فلا مال تقتات به ولا راغب في نكاحها ينفق عليها. والابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لدوام الحروب والغارات والغزوات فطبعا كان القتل شائعا بينهم.

وكان من شقاء أولادهم أنّ بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع إليها الجدب والقحط ، فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(١) وكانوا يئدون البنات : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)(٢) وكان من أبغض الأشياء أن يبشّر الرجل بالانثى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٣).

وأمّا وضع الحكومة بينهم : فأطراف الجزيرة وإن كانت ربّما ملك فيها ملوك تحت رعاية أقوى الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال ، والروم لنواحي الغرب ، والحبشة لنواحي الجنوب ، إلّا أنّ قرى الأوساط كمكّة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهوريّة وليس بها ، والعشائر في البدو بل حتّى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها وشيوخها ، وربّما تبدّل الوضع بالسلطنة.

__________________

(١) الإسراء : ٣١.

(٢) التكوير : ٨ ، ٩.

(٣) النحل : ٥٨ ، ٥٩.

٦٥

وهذا هو الهرج (الفوضى) العجيب الذي كان يبرز في كلّ عدّة معدودة منهم بلون ، ويظهر في كلّ ناحية من أرض شبه الجزيرة بشكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافيّة الدائرة بينهم. أضف إلى ذلك بلاء الاميّة وفقدان التعليم والتعلّم في بلادهم فضلا عن العشائر والقبائل.

وكلّ هذا الذي ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والمراسيم الدائرة بينهم هو ممّا يستفاد من سياق الآيات القرآنيّة والخطابات التي تخاطبهم بها ، أوضح إفادة ، فتدبّر في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكّة أوّلا ، ثمّ بعد ظهور الإسلام وقوّته بالمدينة ثانيا ، وفي الأوصاف التي تصفهم بها ، والامور التي تذمّها منهم وتلومهم عليها ، والنواهي المتوجّهة إليهم في شدّتها وضعفها ... إذا تأمّلت كلّ ذلك تجد صحّة ما ذكرناه. والتأريخ كذلك يذكر كلّ ذلك ويعرض من تفاصيله ما لم نذكره ، لإجمال الآيات الكريمة وإيجازها القول فيه. وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة مجمل هذه المعاني ما سمّى القرآن به هذا العهد «الجاهليّة» فقد أجمل في معناها كلّ هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

وأمّا العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الفرس والروم والحبشة والهند وغيرهم ، فالقرآن يجمل القول فيه أيضا.

أمّا أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم (من المجوس والصابئة) فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبداديّة والتحكّمات الفرديّة من الملوك والرؤساء والحكّام والعمّال ، فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين : طبقة حاكمة فعّالة لما تشاء ، تعبث بالنفس والعرض والمال وطبقة محكومة مستعبدة مستذلّة لا أمن لها في مال ولا عرض ولا نفس ولا حرّيّة ولا إرادة إلّا ما وافق من يفوقها. وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم ، وأخذت مجامع قلوب العامّة وأفكارهم بأيديهم ، فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في

٦٦

دين الناس ودنياهم ، تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم ، وفي دنياهم بالسوط والسيف.

هذا وقد انقسمت الطبقة المحكومة أيضا حسب قوتها في السطوة والثروة فيما بينهم ، إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد ، وإلى ربّ البيت ومربوبيه من النساء والأولاد ، وكذا إلى الرجال المالكين لحرّيّة الإرادة والعمل في جميع شئون الحياة وإلى النساء المحرومات من جميع ذلك والتابعات للرجال محضا والخادمات لهم فيما أرادوه منهنّ من غير استقلال ولو يسيرا.

ومجمل هذه الحقيقة يظهر من قوله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(١) وكذا قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٢) وقوله في النساء : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(٣) وفيما أوصى به في التزويج بالفتيات والإماء : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)(٤).

الجاهليّة في نهج البلاغة :

وبعد استعراض هذه الآيات من القرآن الكريم بشأن الجاهليّة يكفينا أن نتذكّر بعض ما جاء عن علي عليه‌السلام في «نهج البلاغة» في ذلك :

__________________

(١) آل عمران : ٦٤.

(٢) الحجرات : ١٣.

(٣) آل عمران : ١٩٥.

(٤) النساء : ٢٥. الميزان ٤ : ١٥١ ـ ١٥٤.

٦٧

«وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار ، منيخون بين حجارة خشن وحيّات صمّ ، تشربون الكدر وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة والآثام فيكم معصوبة» (١).

«والناس ضلّال في حيرة ، وحاطبون في فتنة ، قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء ، حيارى في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل» (٢).

«والأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرّقة ، في بلاء ازل وإطباق جهل : من بنات موؤدة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة» (٣).

معنى الجاهليّة :

ومن مصاديق الحميّة الجاهليّة ما حاوله البعض أن يحرّف في معنى الجاهليّة من معنى عدم العلم وفقدان المعرفة لديهم إلى أنّها من الجهل بمعنى الحميّة والغضب ، كما قد يقال : جهل زيد على عمرو بمعنى غضب عليه ، وأنّها ليست من الجهل بمعنى عدم العلم والمعرفة.

وهذا التوجيه ليس ـ كما قلنا ـ إلّا مصداقا من مصاديق الحميّة الجاهليّة ، فإنّ الظاهر من إطلاق الجهل ليس إلّا بمعنى ما يقابل العلم والمعرفة ، ولا تحمل على معنى الحميّة والغضب إلّا مجازا بقرينة ما ، كما فيما يستشهدون به من قولهم جهل عليه ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ٩١.

(٢) الخطبة : ٩٥.

(٣) الخطبة : ١٨٧.

٦٨

فإنّ تعدية الجهل إلى المفعول بلفظة «على» أجلى قرينة لفظية لذلك ، وإلّا فلا تحمل الكلمة إلّا على ما يقابل العلم فقط.

وليت شعري ما يقول أصحاب هذا التوجيه غير الوجيه في معنى ما جاء في الآيات الكريمة الأربع «ظنّ الجاهليّة» و «حكم الجاهليّة» و «الحميّة الجاهليّة» و «تبرّج الجاهليّة» فهل يصحّ أن تفسّر الجاهليّة في هذه الآيات بمعنى الغضب؟

وقد رأينا أمير المؤمنين عليه‌السلام وصف الجاهليّة بالجهلاء تأكيدا للمعنى المعروف من الجاهليّة ، ثمّ قال : «وبلاء من الجهل» و «إطباق جهل» ممّا يؤكّد ذلك أيضا ويدفع أيّ ترديد فيه.

«لقد أوضح لنا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلماته المتقدّمة حالة العرب ومستواهم العلمي والثقافي ، وأنّهم كانوا يعيشون في ظلمات الجهل والحيرة والضّياع ..

وهذا يكذّب كلّ ما يدّعيه الآخرون ـ كالآلوسي وغيره ـ من أنّ العرب كانوا قد تميّزوا ببعض العلوم : كعلم الطبّ والأنواء والقيافة والعيافة ...» (١).

ويقول ابن خلدون بهذا الصدد «إنّ الملّة ـ العربيّة ـ في أوّلها لم يكن فيها علم ولا صناعة ، وذلك لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة .. فالقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ، ولا دفعوا إليه ، ولا دعتهم إليه حاجة .. فالامّيّة يومئذ صفة عامّة» (٢).

ويقول عن علم الطب عند العرب : «.. طب يبنونه ـ في غالب الأمر ـ على تجربة قاصرة على بعض الاشخاص متوارثا عن مشايخ الحيّ وعجائزه ، وربّما يصحّ

__________________

(١) الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ١ : ٤٨.

(٢) مقدمة ابن خلدون : ٥٤٣.

٦٩

منه البعض إلّا أنّه ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير ، وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره» (١).

ويكفي أن نذكر هنا ما رواه البلاذري في اميّتهم : إنّ الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا ، وفي الأوس والخزرج في المدينة اثنا عشر رجلا يعرفون القراءة والكتابة (٢).

ويقول ابن خلدون عن نوعية الخطّ عندهم «وكانت كتابة العرب بدوية وكان الخط العربي لأوّل الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط ، ذلك لمكان العرب من البداوة والتوحّش وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع ـ لأجل ذلك ـ في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها ، ثمّ اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبرّكا بما رسمه اصحاب الرسول» (٣).

بل ربّما كانوا يعتبرون القراءة والكتابة عيبا ، فقد قال عيسى بن عمر : قال لي ذو الرّمة : ارفع هذا الحرف. فقلت له : أتكتب؟ فقال بيده على فيه اي اكتم عليّ ، فإنّه عندنا عيب (٤).

وقال ابن خلدون بهذا الصدد : «مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ ، لأنّه من جملة الصنائع ، والرؤساء ـ أبدا ـ يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجرّ إليها» (٥).

__________________

(١) مقدّمة ابن خلدون : ٤٩٣.

(٢) فتوح البلدان ق ٣ : ٥٨٠.

(٣) مقدّمة ابن خلدون : ٤١٩.

(٤) الشعر والشعراء لابن قتيبة : ٣٣٤.

(٥) مقدّمة ابن خلدون : ٥٤٤ ، فصل «أنّ حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم».

٧٠

فالذي رواه الرواة والمؤرخون يفيد نفي وجود أي لون من ألوان التعليم ، أو وجوده ولكن بنسبة صغيرة جدّا حيث لا يتجاوز عدد المتعلمين عدد أصابع اليدين والرجلين في كلّ بلدان الحجاز وحواضره.

ذهب بعض المتأخرين من المؤرخين العرب ـ منهم محمد عزة دروزة في كتابه : القرآن المجيد ـ إلى أنّ هناك في المدن الحجازية فئة من المتعلمين بنسبة لا يمكن تجاهلها. وكلّ ما سجّله هؤلاء في كتبهم لتأييد رأيهم هو : ـ أنّ البيئة الحجازية ـ ولا سيّما مكة والمدينة ـ كانت بيئة تجارية ـ ، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة قريش ، فكانت ـ بحكم عملها وطبيعتها ـ على اتّصال وثيق ومستمر مع البلاد المجاورة من الشام واليمن والعراق والتي كانت على جانب لا بأس به من العلم والثقافة.

وكانت البيئة الحجازية تضم فئات كتابيّة : يهودية ومسيحية اصيلة ونازحة من البلاد المجاورة ، والتي كانت تتداول ما بينها الكتب الدينية وغيرها قراءة وكتابة.

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فقد ورد في القرآن العزيز أطول آية في سورة البقرة تطلب من الناس تسجيل كافة المعاملات والتصرفات وكتابتها نقدا أو دينا صغيرة أو كبيرة (١) فكيف تطلب هذه الآيات من الناس تحقيق كلّ ذلك دون وجود قسم من المتعلمين في صفوفهم يكتبون ويدوّنون عن أنفسهم أو الآخرين.

هذا بالاضافة إلى أنّ كتبة الوحي بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغ عددهم أكثر من أربعين رجلا ، وأنّ كثيرا منهم كانوا مكيّين ، وهم الذين كتبوا القسم المكّي من القرآن قبل هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، فهذا دليل على وجود المتعلمين في مكة وإن كانوا قليلين ، سواء ممّن كتب الوحي من هؤلاء ومن لم يسلم بعد.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

٧١

كما إنّ الأسرى الفقراء من قريش الذين وقعوا في قبضة المسلمين في معركة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة ، والذين لم يستطيعوا أن يقدّموا فدية نقديّة لإطلاق سراحهم ، كلف كلّ واحد منهم ـ ممّن يجيد القراءة والكتابة ـ تعليم عشرة من أطفال المسلمين في المدينة القراءة والكتابة لقاء إطلاق سراحهم ، ويحدّثنا البلاذري : انّ كثيرين منهم قاموا بما كلّفوا به من تعليم الأطفال في المدينة وأصبحوا بعدها أحرارا عادوا إلى مكة ، كما أسلم بعضهم بعد ما لمسوا عدالة الإسلام وسماحته فكيف يعقل هنا أن يجيد قسم من الفقراء ومعدمي القرشيّين القراءة والكتابة ولا يتقنها أغنياؤهم وتجّارهم وأرباب السلطان منهم! (١).

وخلاصة القول في جواب هؤلاء هو أن نقول : إنّ الجهل كان هو الحاكم المطلق ولا نلاحظ نحن فيهم أي شيء من العلوم قبل الإسلام بل لا نرى إلّا جهلا وحيرة وضياعا. أمّا ما استشهد به هؤلاء فلا يعدو أن يكون ممّا قام به الإسلام لمحو الامية.

أمّا أولوية أن يكون ذوو الغنى والسلطان منهم يقرءون ويكتبون فقد عرفت فساده ممّا سبق عن ابن خلدون. وأمّا عدد كتّاب الوحي فقد فنّد أكثر العدد العلّامة السيد ابو الفضل مير محمدي في كتابه القيّم «بحوث في تأريخ القرآن وعلومه».

ولا يفوتنا هنا أن ننوّه إلى : أنّ أميّتهم هذه كانت السبب في قوة حافظتهم التي امتازوا بها ، فأصبح الكثير منهم حفظة القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم.

لكن مستواهم الثقافي هذا كان السبب الطبيعي في أن ينظروا إلى أهل الكتاب عموما واليهود خصوصا نظرة التلميذ إلى معلّمه فتكون لهم الهيمنة الفكرية عليهم ، ممّا بقيت آثاره في أخبار رواتهم فيقول الطبري : «عن بعض أهل العلم من أهل الكتاب».

__________________

(١) لمحات من تاريخ القرآن للسيد محمد علي الاشيقر ، ط النجف : ٣٦ و ٣٧.

٧٢

غيرة وحميّة ، أم حميّة جاهليّة :

كما حاولوا أن يوجّهوا الجاهليّة بتفسيرها بمعنى الغضب لا عدم العلم والمعرفة ، كذلك حاولوا تحريف الحميّة الجاهليّة المذكورة في القرآن الكريم من كونها صفة ذميمة إلى جعلها خصيصة ذات ميزة للعرب قبل الإسلام ، وذلك بحذف صفة الجاهليّة وإضافة لفظة «الغيرة» إلى «الحميّة».

والحقيقة هي أنّ الحميّة صفة ذميمة ، إذ هي تعني أن يكون النصر للقبيلة وذوي القرابة فقط ، وإنّ العون لا بدّ وأن يمحّض لهم ظالمين كانوا أو مظلومين فلا بدّ من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة سواء كان الحقّ له أو عليه ، حتّى قال شاعرهم يمتدحهم بذلك :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا (١)

وفي المقابل تتحمّل القبيلة عنه كلّ جناية وجريمة يرتكبها ، وتحميه من كلّ من أراده بسوء. وهذا هو التعصّب القبلي الذي لا يرحم ولا يلين. فالتعصب القبلي كان من مميّزات الإنسان العربي وخصائصه.

ومن الطبيعي أن يكون شعور أفراد كلّ قبيلة بالنسبة لأبناء قبيلتهم قويّا جدّا ، وذلك بدافع من شعورهم بالحاجة إلى قبائلهم للدفاع عن أنفسهم.

وهذا هو السرّ في شجاعتهم أيضا ، وذلك أنّهم بحكم بيئتهم وحياتهم في الصحراء بلا حواجز وموانع طبيعيّة أو غيرها ، كانوا يشعرون بحاجتهم إلى حماية أنفسهم والدفاع عنها ، ولا يردّ عنه إلّا يده وسيفه ثمّ أهله وعشيرته ، وهو يرى نفسه في كلّ حين عرضة للغزو والنهب والسّلب والغارات والثارات.

إنّ حياة البادية والغزو المفاجئ وعمليات الاغتيال ثأرا التي كانت تهدّدهم

__________________

(١) الشاعر : قريط بن اُنيف من شعراء الجاهلية كما في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ٢٧ ، ٢٩.

٧٣

دائما ، كلّ ذلك كان يستدعي سرعة الإقدام ومباشرة العمل فورا ، فإذا اضيف إلى ذلك عدم شعورهم بالمسؤوليّة عمّا يفعلون ، فإنّ الإقدام بلا تروّ ولا تريّث لا بدّ وأن يصبح هو الصّفة المميّزة لهم والطّاغية على تصرّفاتهم .. ولذا فقد قلّ أن تجد فيهم حليما.

وأخيرا فقد نعى القرآن الكريم على الجاهليّة هذه الحميّة فعبّر عنها بالحمية الجاهليّة ، وهذا يعني أنّها كانت من دون تثبّت في الفكر والرأي بل للجهل ، فكيف تكون ميزة؟!

أجل إنّ الإسلام حاول أن يضع هذه الحميّة في خطّها الصحيح وأن يجعلها تنطلق من قواعد إنسانيّة وعواطف حقيقيّة وفضائل أخلاقيّة ، وبالأخصّ من إحساس دينيّ صحيح ، وأن يستفيد منها في بناء الامّة على اسس صحيحة وسليمة. فقد حاول أن يوجّه العصبيّة القبليّة وجهة بنّاءة ويقضي على كلّ عناصر الشر والانحراف فيها ، فدعى إلى برّ الوالدين وإلى صلة الرحم ، وجعل ذلك من الواجبات وذلك لربط الامّة المسلمة بعضها ببعض. وفي الوقت نفسه أدان كلّ تعصب لغير الحقّ وندّد به وعاقب عليه ، واعتبر ذلك من دعوات الجاهليّة المنتنة كما جاء في بعض نصوص الاحاديث. وكذلك حاول أن يوجّه غيرتهم وحميّتهم وشدّتهم إلى حيث قال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)(١).

بناء الكعبة المعظّمة :

يجدر بنا ونحن نحاول دراسة التأريخ الإسلامي أن نتعرّف على تأريخ بناء الكعبة في مكة المكرمة ، وذلك يجرّنا إلى البدء بتأريخ بانيها إبراهيم عليه‌السلام ، فلنبدأ به :

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

٧٤

ومن اجمع ما يتضمن قصة الخليل عليه‌السلام ما جاء في «روضة الكافي» بسنده عن عليّ بن إبراهيم القمّي ، عن زيد الكرخي قال :

سمعت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يقول : إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان مولده بكوثاريا وكان أبوه من أهلها ، وكانت أمّ إبراهيم وأمّ لوط عليهما‌السلام ، سارة وورقة اختين ، وهما ابنتان للاحج ، وكان لاحج نبيّا منذرا ، ولم يكن رسولا.

وكان إبراهيم عليه‌السلام في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عزوجل الخلق عليها حتّى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه وانّه تزوّج سارة ابنة (١) لاحج ، وهي ابنة خالته ، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة ، وكانت قد ملّكت إبراهيم عليه‌السلام جميع ما كانت تملكه ، فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتّى لم يكن بأرض كوثى ربى رجل أحسن حالا منه.

وإنّ إبراهيم لمّا كسّر اصنام نمرود وأمر به نمرود فاوثق ، وعمل له حائرا وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ، ثمّ قذف إبراهيم عليه‌السلام في النار لتحرقه ، ثمّ اعتزلوها حتّى خمدت النار. ثمّ اشرفوا على الحائر فإذا إبراهيم عليه‌السلام سليما مطلقا من وثاقه. فاخبر نمرود خبره ، فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه‌السلام من بلاده ، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجّهم إبراهيم عليه‌السلام عند ذلك فقال : إن أخذتم ماشيتي ومالي فإنّ حقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم! واختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على اصحاب نمرود أن يردّوا على إبراهيم عليه‌السلام ماله! وأخبر بذلك نمرود ، فأمرهم أن يخلّوا سبيله وسبيل ماشيته وماله ويخرجوه وقال : إنّه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم (!) وأضرّ بآلهتكم. فأخرجوا إبراهيم ولوطا عليهما‌السلام معه من بلادهم إلى الشام.

__________________

(١) قد علّق العلّامة المجلسي في الجزء ٢٦ من مرآة العقول على ذلك بأنّه لا بدّ وأن تكون ابنة ابنة لا حج ، ولعلّ السقط من النسّاخ حيث تصوّر أنّها زائدة.

٧٥

فخرج إبراهيم ـ ومعه لوط لا يفارقه ـ وسارة ، وقال لهم «إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين» يعني إلى بيت المقدس. فتحمّل إبراهيم بماشيته وماله ، وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشدّ عليها الاغلاق غيرة منه عليها. ومضى حتّى خرج من سلطان نمرود ، وصار إلى سلطان رجل من القبط يقال له : عزارة ، فمرّ بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشّر ما معه ، فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت قال العاشر لإبراهيم عليه‌السلام : افتح هذا التابوت لنعشّر ما فيه ، فقال له إبراهيم عليه‌السلام : قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتّى نعطي عشره ولا نفتحه. فأبى العاشر إلّا فتحه ، وغضب إبراهيم عليه‌السلام على فتحه. فلما بدت له سارة ـ وكانت موصوفة بالحسن والجمال ـ قال له العاشر : ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم عليه‌السلام : هي حرمتي وابنة خالتي. فقال له العاشر : فما دعاك إلى أن خبّيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم عليه‌السلام : الغيرة عليها أن يراها أحد! فقال له العاشر : لست أدعك تبرح حتّى اعلم الملك حالها وحالك.

فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه ، فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت ، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم عليه‌السلام : إنّي لست افارق التابوت حتّى يفارق روحي جسدي! فاخبروا الملك بذلك ، فأرسل الملك : أن احملوه والتابوت معه. فحملوا إبراهيم عليه‌السلام والتابوت وجميع ما كان معه حتّى ادخل على الملك ، فقال له الملك : افتح التابوت! فقال له إبراهيم عليه‌السلام : أيّها الملك إنّ فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي.

فغصب الملك إبراهيم عليه‌السلام على فتحه ، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مدّ يده إليها ، فأعرض إبراهيم عليه‌السلام وجهه عنها وعنه ـ غيرة منه ـ وقال : اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي! فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه!

فقال له الملك : إنّ إلهك هو الذي فعل بي هذا؟ فقال له : نعم إنّ إلهي غيور يكره الحرام ، وهو الذي حال بينك وبين ما أردته من الحرام.

٧٦

فقال له الملك : فادع إلهك يردّ عليّ يدي ، فإن أجابك فلن أعرض لها. فقال إبراهيم عليه‌السلام : إلهي ردّ إليه يده ليكفّ عن حرمتي ، قال : فردّ الله عزوجل إليه يده.

فأقبل الملك نحوه ببصره ثمّ عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة منه ، وقال : اللهم احبس يده عنها. قال : فيبست يده ولم تصل إليها.

فقال الملك لإبراهيم عليه‌السلام : إنّ إلهك لغيور ، وإنّك لغيور ، فادع إلهك يردّ إليّ يدي ، فإنّه إن فعل لم أعد! فقال إبراهيم عليه‌السلام : أسأله ذلك على أنّك إن عدت لم تسألني أن أسأله! فقال له الملك : نعم ، فقال إبراهيم : نعم.

فقال إبراهيم عليه‌السلام : اللهم إن كان صادقا فردّ يده عليه. فرجعت إليه يده. فلمّا رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى ، ورأى الآية في يده ، عظّم إبراهيم عليه‌السلام وهابه وأكرمه واتّقاه ، وقال له : قد أمنت من أن أعرض لها أو لشيء ممّا معك فانطلق حيث شئت ، ولكن لي إليك حاجة! فقال إبراهيم عليه‌السلام : ما هي؟ فقال له : احبّ أن تأذن لي أن اخدمها قبطيّة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما ، فأذن إبراهيم عليه‌السلام فدعا بها فوهبها لسارة ، وهي هاجر أمّ إسماعيل عليه‌السلام.

فسار إبراهيم عليه‌السلام بجميع ما معه ، وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم عليه‌السلام إعظاما لإبراهيم وهيبة له ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم عليه‌السلام : أن قف ولا تمش قدّام الجبّار المتسلّط وهو يمشي خلفك ، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظّمه وهبه فإنّه مسلّط ، ولا بدّ من إمرة في الأرض برّة أو فاجرة! فوقف إبراهيم عليه‌السلام وقال للملك : امض ، فإنّ إلهي أوحى إليّ الساعة : أن اعظّمك وأهابك ، وأن اقدّمك أمامي وأمشي خلفك إجلالا لك! فقال له الملك : أوحى إليك بهذا؟ فقال إبراهيم عليه‌السلام : نعم. فقال له الملك : أشهد أنّ إلهك لرفيق حليم كريم ، وانّك ترغّبني في دينك! وودّعه الملك.

٧٧

فسار إبراهيم عليه‌السلام حتّى نزل بأعلى الشامات وقد خلّف لوطا عليه‌السلام في أدنى الشامات.

ثمّ إنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا أبطأ عليه الولد قال لسارة : لو شئت لبعتني هاجر لعلّ الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا؟! فابتاع إبراهيم عليه‌السلام هاجر من سارة فتزوّج بها ، فولدت إسماعيل عليه‌السلام (١).

وروى علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن أبيه عن هشام عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال :

إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان نازلا في بادية الشام ، فلمّا ولد له من هاجر إسماعيل اغتمّت سارة من ذلك غمّا شديدا لأنّه لم يكن له منها ولد ، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمّه ، فشكى إبراهيم ذلك إلى الله عزوجل ، فأوحى الله إليه ، إنّما مثل المرأة مثل الضلع الأعوج ، إن تركتها استمتعت بها وإن أقمتها كسرتها. ثمّ أمره أن يخرج إسماعيل وامّه ، فقال : يا ربّ إلى أيّ مكان؟ قال : إلى حرمي وأمني وأوّل بقعة خلقتها من الأرض وهي مكّة. فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل. وكان إبراهيم لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلّا قال : يا جبرئيل إلى هاهنا؟ إلى هاهنا؟ فيقول : لا ، امض ، امض ، حتّى أتى مكة ، فوضعه في موضع البيت.

وقد كان إبراهيم عليه‌السلام عاهد سارة : أن لا ينزل حتّى يرجع إليها ، فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجرة ، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلّوا تحته ، فلمّا سترهم ووضعهم وأراد الانصراف منهم إلى سارة قالت له هاجر : يا إبراهيم لم تدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟!

__________________

(١) روضة الكافي : ٣٠٤ ـ ٣٠٦ ط النجف الأشرف ، وانظر تفسير القمي ١ : ٢٠٦ ، ٢٠٧ ط النجف الأشرف.

٧٨

فقال إبراهيم : الله الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان حاضر عليكم. ثمّ انصرف عنهم فلمّا بلغ كداء ـ وهو جبل بذي طوى ـ التفت إليهم إبراهيم فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(١) ثمّ مضى وبقيت هاجر.

فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل وطلب الماء ، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى ونادت : هل في الوادي من أنيس؟! فغاب عنها إسماعيل ، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء وسعت ، فلمّا بلغت المسعى غاب عنها ، ثمّ لمع لها السراب في ناحية الصفا فعادت حتّى بلغت الصفا ، حتّى فعلت ذلك سبع مرّات ، فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجله ، فعادت حتّى جمعت حوله رملا فزمّته بما جعلته حوله فلذلك سمّيت زمزم.

وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات ، فلمّا ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير على ذلك المكان فاتّبعوها حتّى نظروا إلى امرأة وصبيّ في ذلك الموضع قد استظلّوا بشجرة ، وقد ظهر الماء لهما. فقالوا لهاجر : من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبيّ؟ فقالت : أنا أمّ ولد إبراهيم خليل الرحمن وهذا ابنه ، أمره الله أن ينزلنا هاهنا. فقالوا لها : أيّتها المباركة أفتأذني لنا أن نكون بالقرب منكما؟

فلمّا زارهم إبراهيم عليه‌السلام في اليوم الثالث قالت هاجر : يا خليل الله إنّ هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتّى يكونوا بالقرب منّا ، أفتأذن لهم

__________________

(١) ابراهيم : ٣٧.

٧٩

في ذلك؟ فقال إبراهيم : نعم. فأذنت ، فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم ، فأنست هاجر أمّ إسماعيل بهم.

فلمّا زارهم إبراهيم في المرّة الثالثة نظر إلى كثرة الناس حولهم فسرّ بهم سرورا شديدا. وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاة وشاتين فكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها.

فلمّا بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله إبراهيم عليه‌السلام أن يبني البيت ، فقال : يا ربّ في أيّ بقعة؟ قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبّة فأضاء لها الحرم فلم تزل البقعة التي أنزلتها على آدم قائمة حتّى كان طوفان نوح فلما غرقت الدنيا رفعت تلك القبة وغرقت الدنيا إلّا موضع البيت. فبعث الله جبرئيل عليه‌السلام فخطّ له موضع البيت ، وأنزل الله عليه القواعد من الجنّة ، ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى ، وبنى إبراهيم البيت فرفعه إلى السماء تسعة أذرع (١). وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشدّ بياضا من الثلج ، فاستخرجه إبراهيم عليه‌السلام ووضعه في موضعه الذي هو فيه. وجعل له بابين : بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب يسمّى المستجار ، ثمّ ألقى عليه الشجر والاذخر (٢) وعلّقت هاجر إلى بابه كساء كان معها فكانوا يكنّون تحته.

فلما بناه وفرغ منه نزل عليهما جبرئيل عليه‌السلام يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجّة فقال : يا إبراهيم قم فارتو من الماء. لأنّه لم يكن بمنى وعرفات ماء ، فسمّيت التروية لذلك ، ثمّ أخرجه إلى منى فبات بها ، ففعل به ما فعل بآدم عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) وكذلك في خبرين في الكافي ٤ : ٢٠٧ الحديث ٨ و ٤ : ٢١٧ الحديث ١ ، وهما في الفقيه ٢ : ٢٤٧ وفي الثاني منهما : والطول ثلاثين ذراعاً والعرض اثنين وعشرين ذراعاً.

(٢) الاذخر : نبات طيب الرائحة.

(٣) تفسير القمي ١ : ٦٠ ـ ٦٢.

٨٠