موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وهكذا تفعل الحرة العاقلة اللبيبة كما فعلت خديجة ، فلا تغرها بهرجة الدنيا وزخرفها وزبرجها ، ولا تبحث عن المال والشهرة ، ولا عن اللذة والشهوة .. وإنمّا يكون نظرها الى الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة ، لأنها هي الّتي تسخّر المال والجاه والقوة في سبيل الانسانية (١).

دوافع زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

والماديّون الّذين ينظرون الى كلّ شيء من ناحية المال والمادة ، يزعمون : أنّ خديجة بما أنّها كانت ذات مال تتاجر به ، كانت أحوج ما تكون الى رجل «أمين» لإدارة امور تجارتها ، لذلك اندفعت للزواج بمحمّد «الصادق الأمين» وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم بوضعها المالي وحياتها الكريمة لذلك قبل خطوبتها مع ما بينهما من تفاوت العمر!

الّا أنّ الّذي نراه في التأريخ هو أنّ دوافع خديجة للزواج بالصادق الأمين كانت دوافع معنوية لا مادية ، والشاهد لذلك :

١ ـ ما رواه ابن اسحاق قال : وكانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد ـ ابن عمّها ـ. ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب ، وما كان يرى منه اذ كان الملكان يظلّانه. وكان ورقة نصرانيا قد تتبّع الكتب وعلم من علم الناس فقال لها : لئن كان هذا حقّا يا خديجة فانّ محمّدا لنبيّ هذه الامة ، وقد عرفت انّه كائن لهذه الامة نبيّ ينتظر ، هذا زمانه (٢).

٢ ـ انّ سبقها الى الإيمان بالإسلام ورسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث كانت أوّل امرأة آمنت به ، لما يشهد في صفحات التأريخ بأنّ زواجها كان منبعثا من ايمانها

__________________

(١) انظر : الصحيح للسيد المرتضى ١ : ١١٩ ، ١٢٠.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٠٣.

٣٠١

وبطهارة الصادق الأمين ، وانّ حياة خديجة وما ورد بشأنها من الروايات والأحاديث لما يوضّح هذا الموضوع بما لا يدع فيه أيّ شبهة ، على من أراد التفصيل في ذلك أن يراجع الروايات الواردة في فضلها وفضيلتها.

عمر خديجة ومهرها :

روى الدّولابي في كتابه : «الذريّة الطاهرة» بسنده عن عمّار بن أبي عمّار ، عن ابن عباس .. ثمّ قال : وبلغني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج خديجة على اثنتي عشرة اوقية ذهبا ، وهي يومئذ ابنة ثمان وعشرين سنة (١).

__________________

(١) الذريّة الطاهرة : ٥٢ وعنه في كشف الغمّة ٢ : ١٣٩. وروى الصفّار عن حمّاد بن عيسى قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال أبي : ما زوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا من بناته ولا تزوّج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة اوقيّة ونشّ ، يعني نصف اوقيّة (البحار ٢٢ : ١٩٧ ، ١٩٨ عن قرب الاسناد : ١٠).

وروى الخبر الكليني بسنده عنه قال : سمعته يقول : قال أبي : ما زوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ساير بناته ولا تزوج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة اوقيّة ونشّ. والاوقيّة : أربعون درهما ، والنشّ : عشرون درهما.

ثمّ روى عن حمّاد عن ابراهيم بن أبي يحيى عن الصادق عليه‌السلام قال : وكانت الدراهم وزن ستة يومئذ. وروى بسنده عن حذيفة بن منصور عنه عليه‌السلام قال : كان صداق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنتي عشرة اوقيّة ونشّا ، والاوقيّة : أربعون درهما ، والنشّ : عشرون درهما ، وهو نصف الاوقيّة.

وروى بسنده عن معاوية بن وهب قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى أزواجه اثنتي عشرة اوقيّة ونشّا ، والاوقيّة : اربعون درهما ، والنشّ : نصف الاوقيّة : عشرون درهما ، فكان ذلك خمسمائة درهم. قلت : بوزننا؟ قال : نعم.

وروى بسنده عن أبي العباس قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصداق هل له

٣٠٢

ونقل ذلك عنه الإربلي في «كشف الغمة» بواسطة كتاب الجنابذي (١) ، ثمّ نقل عن الجنابذي قوله : «وعن ابن عباس : أنّه تزوجها وهي ابنة ثمان وعشرين سنة» (٢) ولم يسنده الى أيّ سند ، وما في كتاب الدولابي ليس كذلك ، بل روى خبرا عن عمّار بن أبي عمّار ، عن ابن عباس ـ فيما يحسب ابن حمّاد ـ (كما في الكتاب) في تزويج خديجة بمباشرة أبيها ووليمتها لذلك.

ثمّ قال : وبلغني .. وذكر مهرها وعمرها كما مر. والظاهر أنّ القائل : وبلغني هو ابن حمّاد الدّولابي ـ كما فهم كذلك الاربلي ـ ولا ابن عباس ، ولكن خلط ابن الخشاب الجنابذي فنابذ الفهم والنقل الصحيح فنسب ذلك الى ابن عباس على غير أساس. والله هو العاصم من الخطأ في القياس والمقياس ، ومن وساوس الخنّاس في صدور الناس.

وعلى هذا ، فينحصر الخبر بكون عمر خديجة عند زواجها بالرسول في الثامنة والعشرين ، في مرفوعة الدّولابي فحسب ، ومن دون أن تصح نسبة ذلك الى ابن عباس.

__________________

وقت (يعني الحد للمهر قال : لا ، ثمّ قال : كان صداق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنتي عشرة اوقيّة ونشّا ، والنشّ نصف الاوقيّة ، والاوقيّة : اربعون درهما ، فذلك خمسمائة درهم (البحار ٢٢ : ٢٠٥ ، ٢٠٦ عن فروع الكافي ٢ : ٢٠).

وروى الصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا من نسائه ولا زوج شيئا من بناته على اكثر من اثنتي عشرة أوقيّة ونشّ ، والاوقيّة : أربعون درهما ، والنش : عشرون درهما (البحار ٢٢ : ١٩٨ عن معاني الأخبار : ٦٤ ، ٦٥).

وكذلك ذكر المهر الطبرسي في إعلام الورى : ١٤٠ مرسلا وابن شهرآشوب في المناقب ١ : ١٦١ عن (تاج التراجم). ويبدو من لحن هذه الأخبار أنها ناظرة الى ردّ ما كان يروى بغير هذا المعنى في مبلغ صداق ازواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا سيما خديجة رضي الله عنها.

(١) كشف الغمة ٢ : ١٣٧.

(٢) كشف الغمة ٢ : ١٣٩.

٣٠٣

أما الخبر المشتهر عن كونها في الأربعين من عمرها : فاليعقوبي لم يصرّح بذلك ولكنّه ذكر في وفاتها أنها توفّيت «ولها خمس وستون سنة» (١) وهذا يقتضي أن يكون عمرها حين زواجها حسب المشهور أربعين سنة.

أمّا الطبري فقد نقل عن الكلبي قوله : «وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة» (٢).

والمسعودي في «مروج الذهب» قال : «وهي يومئذ بنت أربعين» وفي «التنبيه والإشراف» أنّها توفيت ولها خمس وستون سنة (٣).

ونقل سبط ابن الجوزي عن الواقدي قوله : توفّيت وهي بنت خمس وستين سنة (٤) والاربلي في «كشف الغمّة» نقل عن «معالم العترة النبوية» للجنابذي عن ابن سعد صاحب الطبقات : يرفعه الى حكيم بن حزام قال :

«توفّيت خديجة في شهر رمضان سنة عشر من النبوة ، وهي ابنة خمس وستين» (٥) فيكون عمرها في زواجها أربعين سنة. والكازروني قال : «فتزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة» (٦).

ومعنى كلّ هذا أنّ المؤرخين القدامى كالكلبي والواقدي وكاتبه ابن سعد واليعقوبي متفقون على المشهور في سن خديجة في زواجها أي الأربعين ، وان كان الاسناد الوحيد ينحصر في حكيم بن حزام اذ يذكر تأريخ وفاتها عليها‌السلام وهي عمّته ،

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٣٥.

(٢) الطبري ٣ : ٢٨٠.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٢٨٧ والتنبيه والاشراف : ١٩٩ ، ٢٠٠.

(٤) تذكرة الخواص : ٣٠٤ ط النجف.

(٥) كشف الغمّة ٢ : ١٣٩.

(٦) بحار الأنوار ١٦ : ١٩.

٣٠٤

اذ هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ، فهو أعلم بها ، ولا يعارضه شيء اللهم الّا ما انفرد به ابن حماد الدولابي بقوله : وبلغني .. من غير اسناد ، فلا يصح اعتماده.

هل كانت خديجة متزوّجة؟

قال ابن هشام : «وكانت قبله عند أبي هالة بن مالك .. فولدت له هند بن أبي هالة ، وزينب بنت أبي هالة. وكانت قبل أبي هالة عند عتيّق ابن عابد المخزومي فولدت له : عبد الله ، وجارية تزوّجها صيّفي بن أبي رفاعة» (١).

أما الطبري فقد روى عن الكلبي عن أبيه قال : «وكانت قبله عند عتيّق بن عابد المخزومي ... فولدت لعتيّق جارية ، ثمّ توفّي عنها. وخلف عليها أبو هالة بن زرارة بن نبّاش ... ثمّ توفّي عنها فخلف عليها رسول الله وعندها هند بن أبي هالة» (٢).

وروى الدولابي في «الذرية الطاهرة» بذلك أخبارا ثلاثة عن الزهري ومحمّد بن اسحاق وقتادة بن دعامة ، وروى رابعا عن الليث بن سعد فعكس فذكر أبا هالة ثمّ عتيّق (٣) فهو مردود ، وخبر قتادة نقله الاربلي في كتابه (٤).

وقال ابن شهرآشوب في كتابه (المناقب) في ترتيب أزواجه : تزوّج بمكّة أوّلا خديجة بنت خويلد. قالوا : وكانت عند عتيّق بن عائذ المخزومي ، ثمّ عند أبي هالة زرارة بن نبّاش الاسيدي (٥).

__________________

(١) ابن هشام ٤ : ٢٩٣.

(٢) الطبري ٣ : ١٦١.

(٣) الذرية الطاهرة : ٤٥ ـ ٤٧.

(٤) كشف الغمّة ٢ : ١٣٨ ، ١٣٩.

(٥) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٥٩.

٣٠٥

وروى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في (الشافي) وأبو جعفر في (تلخيص الشافي) : أنّ النبيّ تزوّج بها وكانت عذراء. يؤكّد ذلك ما ذكر في كتابي (الأنوار) و (البدع) : أنّ رقية وزينب كانتا ابنتي هالة اخت خديجة (١)!

__________________

(١) المناقب ١ : ١٥٩. والظاهر أنّه يقصد بكتاب الأنوار : كتاب الأنوار ومفتاح السرور والأفكار لأبي الحسن البكري المتقدم الذكر سابقا ، وهو مخطوط ، سرد عنه المجلسي قصّة زواجه من صفحة ٢٠ الى ٧٧ ج ١٦ ثمّ قال «إنمّا أوردت تلك الحكاية (!) لاشتمالها على بعض المعجزات والغرائب (!) وان لم نثق بجميع ما اشتملت عليه ، لعدم الاعتماد على سندها كما أومأنا إليه ، وان كان مؤلفه من الأفاضل والأماثل» يقول ذلك لأنه التبس عليه ببكريّ آخر هو من مشايخ الشيخ الشهيد ، كما قال قبل هذا ، وعلّق عليه المحقق الرباني الشيرازي بأنّ هذا البكري ليس هو البكري من مشايخ الشيخ الشهيد ، بل هو متقدم عليه وعلى ابن تيمية المتوفى ٧٢٨ ه‍ ومعروف بالكذب وقد حكى هو أيضا : انّها كانت قد تزوجت قبله برجلين أحدهما عمرو الكندي (!) والثاني عتيّق بن عائذ (البحار ١٦ : ٢٢).

وكتاب (البدع) هو كتاب أبي القاسم الكوفي المذكور قبل ذلك ، وهو (الاستغاثة في بدع الثلاثة) وقال فيه : انّ الإجماع من الخاص والعام من أهل الآثار ونقلة الأخبار على أنّه لم يبق من اشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم الّا من خطب خديجة ورام تزويجها فامتنعت على جميعهم من ذلك ، فكيف يجوز ـ في نظر أهل الفهم ـ أن تكون خديجة يتزوجها أعرابي من تميم ، وتمتنع من سادات قريش وأشرافها؟! ألّا يعلم ذوو التمييز والنظر أنّه من أبين المحال وافظع المقال؟! (ص ٧٠).

والإجماع ـ فيما نعلم ـ من أهل الآثار ونقلة الأخبار من الخاص والعام على خطبة خديجة من قبل جميع أشراف قريش ، اللهم الّا ما انفرد بحكايته (!) البكري المذكور آنفا فيما حكاه ممّا هو أشبه بقصص العامّة من التأريخ المسند والخبر المعتبر قال :

فلمّا ماتا خطبها عقبة بن أبي معيط ، والصلت بن أبي مهاب ـ ولكلّ منهما أربعمائة عبد وأمة ـ وخطبها أبو جهل بن هشام ، وأبو سفيان ، وخديجة لا ترغب في واحد منهم (البحار ١٦ : ٢٢).

٣٠٦

أما الطبرسي فقد ذكر الخبر بلا خلاف فيه (١) ونقله عنه المجلسي في (البحار) كذلك أيضا (٢).

أولاد خديجة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى الصفار بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : ولد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من خديجة : القاسم والطاهر ، وأمّ كلثوم ، ورقيّة ، وزينب وفاطمة (٣).

__________________

وأمّا (تلخيص الشافي) فلا يبقى الّا هو ، والظاهر أنّه أخذه من كتاب أبي القاسم الكوفي ، وقد عرفت حاله ومستنده.

(١) اعلام الورى : ١٣٩.

(٢) البحار ٢٢ : ٢٢٠ وعكس في (الاستيعاب) وفي (شرح المواهب) فقالا : كانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي (لا التيمي) ومات أبو هالة في الجاهلية وقد ولدت له هندا ، فهو أخو فاطمة بنت خديجة ، وكان هند فصيحا بليغا وصّافا فروى عنه الحسن عليه‌السلام حديث صفة النبيّ قال : حدّثني خالي هند بن أبي هالة (*). وقد شهد بدرا وقيل : احدا. وقتل مع علي عليه‌السلام يوم الجمل. وولدت خديجة لأبي هالة أيضا هالة بن أبي هالة. وبعد تزوّجها عتيّق بن عابد (كذا) المخزومي فولدت له هندا بنت عتيّق ، وقد أسلمت وصحبت. راجع ترجمة خديجة في (الاستيعاب).

(٣) قرب الاسناد : ٢٧ والصواب تقديم زينب على فاطمة طبقاً للخبر التالي. وانظر وقارن خاتمة الرجال ١٢ : ٧٦ ـ ٧٧.

______________

(*) روى الحديث الشيخ الصدوق في معاني الأخبار : ٧٩ الحيدري. والشيخ الطوسي في مكارم الاخلاق : ٧ وابن الأثير في اسد الغابة ٥ : ٧٢ ط. اسماعيليان. وراجع : نسب قريش لمصعب الزبيري : ٢٢ واسد الغابة ٥ : ١٢ و ١٣ و ٧١ والإصابة ٣ : ٦١١ ، ٦١٢ والسيرة الحلبية ١ : ١٤٠. فمن الصعب جدّا دعوى ابن شهرآشوب بكارتها وانكار زوجيها السابقين وأولادها منهم بما يتضمن ذلك من خبر الحسن المجتبى عن خاله هند في صفة النبيّ ٩ ثمّ ما الداعي الى ذلك؟!

٣٠٧

وروى الصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ولد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من خديجة : القاسم والطاهر ـ وهو عبد الله ـ وأمّ كلثوم ، ورقيّة ، وزينب وفاطمة (١).

وقال الكليني : ولد له منها قبل مبعثه : القاسم ، ورقية ، وزينب وأمّ كلثوم ، وولد له بعد المبعث : الطيب والطاهر وفاطمة وروى أيضا : أنّه لم يولد بعد المبعث إلّا فاطمة عليها‌السلام ، وانّ الطيب والطاهر ولدا قبل مبعثه (٢).

وقال الشيخ الطبرسي : فأوّل ما حملت ولدت عبد الله بن محمّد وهو الطيب «الطاهر» والناس يغلطون فيقولون : ولد له منها أربعة بنين القاسم وعبد الله والطيب والطاهر ، وإنمّا ولد له منها ابنان ، الثاني : القاسم ، وقيل : انّ القاسم أكبر ، وهو بكره ، وبه كان يكنّى. وأربع بنات : زينب ورقيّة وأمّ كلثوم وفاطمة (٣).

وقال ابن شهرآشوب : أولاده : وله من خديجة : القاسم وعبد الله ، وهما الطاهر والطيب ، وأربع بنات : زينب ورقيّة وأمّ كلثوم وفاطمة .. وفي (الأنوار) ، و (الكشف) ، و (اللمّع) ، وكتاب البلاذري : أنّ زينب ورقية كانتا ربيبتيه من جحش. فأمّا القاسم والطيّب فماتا بمكّة صغيرين ، مكث القاسم سبع ليال (٤).

وروى المجلسي عن الكازروني عن ابن عباس قال : أوّل من ولد لرسول الله بمكّة قبل النبوة القاسم وبه كان يكنّى ، ثمّ ولد له زينب ، ثمّ رقيّة ، ثمّ فاطمة ، ثمّ أمّ كلثوم ، ثمّ ولد له في الإسلام عبد الله فسمّي الطيّب والطاهر. وامّهم جميعا خديجة

__________________

(١) المصدر عن الخصال ٢ : ٣٧. وروى فيه بسنده عن الصادق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر قال : «وانّ خديجة رحمها الله ولدت منّي طاهرا ـ وهو عبد الله وهو المطهّر ـ وولدت مني القاسم ، وفاطمة ورقيّة وأمّ كلثوم وزينب».

(٢) اصول الكافي ١ : ٤٣٩ ، ٤٤٠.

(٣) اعلام الورى : ١٤٠.

(٤) المناقب ١ : ١٦١ ، ١٦٢.

٣٠٨

بنت خويلد. وكان أوّل من مات من ولده القاسم ثمّ مات عبد الله بمكّة ، فقال العاص بن وائل السهمي. قد انقطع ولده فهو ابتر ، فأنزل الله تعالى (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(١).

وقيل : انّ الذكور من أولاده ثلاثة والبنات أربع : أولهن زينب ، ثمّ القاسم ، ثمّ أمّ كلثوم ، ثمّ فاطمة ، ثمّ رقيّة ، ثمّ عبد الله وهو الطيّب والطاهر (٢).

وقال ابن اسحاق : ولدت لرسول الله ولده : القاسم ـ وبه كان يكنّى ـ والطّاهر ، والطّيب ، وزينب ، ورقيّة ، وأمّ كلثوم ، وفاطمة عليهم‌السلام. فأمّا القاسم والطيب والطاهر فهلكوا في الجاهلية ، وأمّا بناته فكلّهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن.

وقال ابن هشام : أكبر بنيه القاسم ، ثمّ الطيّب ، ثمّ الطّاهر ، وأكبر بناته رقيّة ، ثمّ زينب ، ثمّ أمّ كلثوم ، ثمّ فاطمة (٣).

وقال اليعقوبي : ولدت له قبل أن يبعث : القاسم ، ورقيّة ، وزينب ، وأمّ كلثوم ، وبعد ما بعث : عبد الله وهو الطيّب والطاهر ، ـ لانّه ولد في الإسلام. وفاطمة (٤).

روى الطبري عن هشام الكلبي عن أبيه قال : فولدت لرسول الله ثمانية : القاسم والطيّب ، والطاهر ، وعبد الله ، وزينب ، ورقيّة ، وأمّ كلثوم ، وفاطمة (٥).

وقال المسعودي : ولد له ـ من خديجة ـ القاسم ـ وبه كان يكنّى وكان أكبر بنيه

__________________

(١) الكوثر : ٣.

(٢) البحار ٢٢ : ١٦٦ عن (المنتقى في مولد المصطفى) الباب الثامن فيما كان سنة خمس وعشرين من مولده.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٠٢.

(٤) اليعقوبي ٢ : ٢٠.

(٥) الطبري ٣ : ١٦١.

٣٠٩

سنا ـ ورقيّة ، وأمّ كلثوم ، وولد له بعد ما بعث : عبد الله ـ وهو الطيب والطاهر لانّه ولد في الإسلام ، وفاطمة (١).

وعلّق المحقّق على قول ابن اسحاق بموت القاسم قبل الإسلام يقول : في موت القاسم في الجاهلية خلاف ، فقد ذكر السهيلي في (الروض الانف) عن الزبير «أنّ القاسم مات رضيعا ، وأنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ دخل على خديجة بعد موت القاسم وهي تبكي ، فقالت : يا رسول الله لقد درّت لبينة القاسم ، فلو كان عاش حتّى يستكمل رضاعه لهون عليّ!

فقال : ان شئت أسمعتك صوته في الجنة؟ فقالت : بل اصدّق الله ورسوله ثمّ قال : وفي هذا دليل على أنّ القاسم لم يهلك في الجاهلية (٢).

وروى الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : دخل رسول الله على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي ، فقال لها : ما يبكيك؟ فقالت : درّت دريرة فبكيت. فقال : يا خديجة أما ترضين اذا كان يوم القيامة أن تجيء الى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك أفضلها. وذلك لكلّ مؤمن. إنّ الله أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثمّ يعذّبه بعدها أبدا (٣).

وروى بسند آخر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضا قال : توفّي طاهر ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنهى رسول الله خديجة عن البكاء ، فدخل عليها وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك؟ ألم أنهك؟! فقالت : بلى يا رسول الله ، ولكن درّت عليه الدريرة فبكيت. فقال لها : أما ترضين أن تجديه قائما على باب الجنة ،

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢٩١.

(٢) هامش ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٠٢ عن (الروض الانف).

(٣) البحار ١٦ : ١٦ و ١٩ عن فروع الكافي ١ : ٥٩.

٣١٠

فإذا رآك أخذ بيدك فأدخلك أطهرها مكانا وأطيبها؟ قالت : وانّ ذلك كذلك؟ قال : فإن الله أعزّ وأكرم من أن يسلب عبدا ثمرة فؤاده فيصبر ويحتسب ويحمد الله عزوجل ثمّ يعذّبه (١).

فهذا هو الصحيح الراجح ولا أتردد في عدم وحدة الخبرين ولا أحتمل التعدد بل أحتمل انّه وقع سهو من أحد الرواة للخبر في الطريق السابق فأخطأ اسم الطاهر والتبس عليه بالقاسم. وأمّا خبر (الروض ...) عن الزبير ، فهي مرسلة لا أظنها الّا مسروقة عن خبر عمرو بن شمر عن جابر بالطريق الّذي وقع فيه الخطأ والالتباس. وعلیه فالذي كانت تبكيه خديجة ويدرٌ عليه درّها هو عبد الله الطيب الطاهر وليس القاسم ، ذلك لما يأتي في نزول سورة الكوثر عن الحسن والباقر والصادق عليه السلام أن القاسم كان قد درج يمشي بل كان يركب الابل ، فلعلّه كان موتهما كليهما بعد البعثة ويبدو أنّ عبدالله ولد بعد القاسم بعد البعثة ومات قبله ثمّ مات القاسم (٢).

__________________

(١) البحار ١٦ : ١٦ عن فروع الكافي ١ : ٦٠.

(٢) خلافا (لهيكل) في كتابه اذ قال : أمّا القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما الّا أنّهما ماتا طفلين في الجاهلية لم يتركا أثرا يبقى أو يذكر ؛ لكنّهما من غير شك قد ترك موتهما في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق ، وترك موتهما من غير شكّ في نفس خديجة ما جرح امومتها جرحين داميين وهي لا ريب (!) وقد اتجهت عند موت كلّ واحد منهما في الجاهلية الى آلهتها الأصنام تسألها : ما بالها لم تشملها برحمتها وبرّها. (حياة محمّد : ١٢٨) ولا ريب في بطلان ظنونه ، فلا مستند لزعمه هذا ، وليس الّا حدسا ناشئا من قياس خديجة بسائر نساء قريش. ونحن اذ تبيّنا أن دوافع زواجها برسول الله إنّما كانت دوافع معنوية ، وذلك لأنّها كانت قد سمعت من ابن عمها ورقة بن نوفل النصرانيّ وغلامها ميسرة عن الراهب النصرانيّ أن محمّدا نبيّ آخر الزمان فتزوجت به لذلك ، وأضفنا الى ذلك كراهته للاصنام حتّى انّه حينما أقسم عليه بحيرا الراهب بالأوثان قال : إنّها أبغض خلق الله إليه .. فلا يمكنا مع ذلك أن نقول : إنها كانت تلجأ في موت أولادها الى الأصنام وهنّ أبغض خلق الله الى حبيبها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣١١

__________________

ولا يفوتنا هنا أنّ ننوّه الى أنّ القسطلاني قال : قيل : ولد له ولد قبل المبعث يقال له عبد مناف (!) ومع هذا يكون أولاده اثني عشر كلّهم ولدوا في الإسلام سوى هذا (المواهب اللدنية ١ : ١٩٦) والظاهر أن مستنده ما نقله المقدسي عن قتادة قال : ولدت خديجة لرسول الله عبد مناف في الجاهلية ، وولدت له في الإسلام غلامين وأربع بنات : القاسم وبه كان يكنى : أبا القاسم فعاش حتّى مشى ثمّ مات ، وعبد الله مات صغيرا. وأمّ كلثوم ، وزينب ، ورقيّة ، وفاطمة (البدء والتأريخ ٤ : ١٣٩ ، ٥ : ١٦) وقول قتادة هذا شاذ يتنافى مع كلّ ما تقدّم عن غيره وهو كثير مستفيض مشهور ، كما مر ويشبه هذا في الشذوذ ما ذهب إليه أبو القاسم الكوفي اذ قال : كانت لخديجة اخت اسمها هالة ، تزوجها رجل مخزومي فولدت له بنتا اسمها هالة ، ثمّ خلف عليها رجل تميمي يقال له أبو هند ، فأولدها ولدا اسمه هند ، وكان لهذا التميمي امرأة اخرى قد ولدت له زينب ورقية فماتت ومات التميمي فلحق ولده هند بقومه ، وبقيت هالة ـ اخت خديجة ـ والطفلتان من التميمي وزوجته الاخرى فضمتهم خديجة إليها. وبعد أن تزوجت بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ماتت هالة فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت فنسبتها إليه ، مع أنهما ابنتا أبي هند زوج اختها (الاستغاثة : ٦٨).

وروى الحافظ عبد الرزاق في مصنّفه عن عمر بن دينار عن الحسن بن محمّد بن علي قال : انّ أبا العاص بن الربيع كان زوجا لبنت خديجة (المصنف ٥ : ٢٢٤).

وقال مغلطاي في سيرته : وخلف عليها (خديجة) أبو هالة النباش بن زرارة فولدت له هندا والحرث وزينب (سيرة مغلطاي : ١٢).

فعلى الأوّل تكون زينب ورقيّة من ضرة هالة اخت خديجة ، وعلى الثاني والثالث تكون زينب بنت خديجة من زوجها السابق أو الأسبق. ولكن لا مجال لهذه الأقوال بعد تصريح نصّ الخبرين المعتبرين للصفار والصدوق المسندين الى الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام «ولد لرسول الله من خديجة» وفيهم رقيّة وزينب ، وليست العبارة نسبة الابوة أو البنوة لتحمل على عادة العرب في نسبة الربائب فنحتمل صدق مقال صاحب الاستغاثة : كان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت فنسبتا إليه.

٣١٢

تجديد البناء الكعبة ووضع الحجر :

الحجر الصخر المنضود بعضه على بعض بلا ملاط بينهما يُسمى رَضماً ، والكعبة المعظّمة حتي تجديد بنائها قبل البعثة النبوية المباركة كانت كذلك رضماً ، فوق القامة (١) ومرّ في خبر القمي في تفسيره عن الصادق عليه السلام في بناء إبراهيم عليه السلام : أنه رفعه إلى السماء تسعة أذرع (٢) وفي «الكافي» عنه عليه السلام أيضاً قال : كانت الكعبة على عهد إبراهيم عليه السلام تسعة أذرع ولها بابان (٣).

وفي «الكافي» : كان طول الكعبة تسعة أذرع بدون سقف (٤) وفي موضوع آخر منه : أنّ بنيان إبراهيم عليه السلام كان سُمكه _ أي ارتفاعه _ تسعة أذرع ، والطول ثلاثين ذراعاً والعرض اثنين وعشرين ذراعاً (٥).

وفيه في خبر آخر : التعبير بأن حائطها كان قصيراً , وأتاهم سيل من أعلا مكة فدخل الكعبة فانصدعت ، فسُرق من الكعبة غزال من ذهب ، فأرادت قريش أن يهدموا الكعبة ويبنوها ....

وقد كان بعث ملك الروم بسفينة فيما سقوف وآلات وخشب إلى الحبشة ليُبنى له هناك بيعة (=كنيسة) فطرحتها الريح إلي ساحل العرب وبطحت فيه ، وبلغ ذلك قريشاً فخرجوا إليها فابتاعوها وما يصلح للكعبة من خشب وزينة وغير ذلك وصاروا به إلى مكة.

ثمّ هدّموا الكعبة ونحّوا حجارتها حولها حتى بلغوا القواعد التي وضعها

__________________

(١) ابن إسحاق في السيرة ١: ٢٠٥.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦٢.

(٣) الكافي ٤ : ٢٠٧ ، الباب ٧ ، الحديث ٧.

(٤) الكافي ٤ : ٢٠٧ ، الباب ٧ ، الحديث ٨ ، وفي الفقيه ٢ : ٢٤٧ ،الباب ٦٤ ، الحديث ٢٣١٩.

(٥) الكافي ٤ : ٢١٧ ، الباب ٩ ، الحديث ١ ، وفي الفقيه ٢ : ٢٤٧ ، الباب ٦٤ ، الحديث ٢٣٢٢.

٣١٣

إبراهيم عليه السلام ، وأرادوا الزيادة في عرصتها فحرّكوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام فأصابتهم زلزلة وظلمة فكفّوا عنها .. وكان ذلك قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بثلاثين عاماً (١).

وفيه عن الصادق عليه السلام : أنّ قريشاً لما هدموا البيت وأرادوا بناءه اُلقي الرُعب في روعهم حتى قال قائل منهم (٢) : ليأت كل رجل منكم بأطيب ماله ، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من حرام أو من حرام أو قطيعة رحم! ففعلوا (٣).

وساهم في البناء بنو سهم وبنو مخزوم وبنو عبد شمس وبنو أسد بن عبدالعزى ، كل منهم ما بين ركنين منه ، وكان لبني هاشم من الحجر الأسود إلى الركن الشامي وساهم رسول الله فكان له من باب الكعبة إلى نصف ما بين الركنين الحجر الأسود واليماني (٤).

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢١٧ ، الباب ٩ ، الحديث ٤ وأوّله في الفقيه ٢ : ١٩٤ ، الباب ٦١ ، الحديث ٢١٢٠ مرسلاً وفي علل الشرائع ٢ : ١٥٧ ، الباب ٢٠٢ ، الحديث ١ عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام. وبالنسبة إلى عمر النبيّ حين بناء البيت أن يكون قبل مبعثه بثلاثين سنة يقتضي أن يكون عمره يومئذ عشر سنين تقريباً! وهذا غريب ويتنافى مع ما يأتي من الأخبار ، إلا أن يكون في الأصل : قبل مهاجره ، وعرض عليه التصحيف ، وعليه يكون عمره يومئذ أكثر من عشرين عاماً فيكون قريباً مما في اليعقوبي ٢ : ١٩ : وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وليس كما في السيرة ١ : ٢٠٤ : خمساً وثلاثين سنة.

(٢) روى ابن اسحاق بسنده عن عبدالله بن صفوان : أنّ القائل كان أبا وهب بن عمرو المخزومي. وقال : والناس يخلونه للوليد بن المغيرة المخزومي ٢ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦. ونسبه اليعقوبي ٢ : ١٩٠ إلى أبي طالب ، ولو كان هو لذكره الصادق عليه السلام ، ولعله تصحيف من أبي وهب.

(٣) الكافي ٤ : ٢١٧ ، الباب ٩ ، الحديث ٣ وفي الفقيه ٢ : ٢٤٧ ، الباب ٦٤ ، الحديث ٢٣٢٠.

(٤) الكافي ٤ : ٢١٩ ، الباب ٩ ، الحديث ٥ وذيله ، وهما في الفقيه ٢ : ٢٤٨ ، الباب ٦٤ ، الحديث ٢٣٢٣ وبعده.

٣١٤

فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه ، حتى كاد أن يكون بينهم شر ، فحكّموا أول من يدخل من باب المسجد(١) باب بني شبية ، فطلع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالوا : هذا الأمين قد جاءكم ، فحكّموه ، فبسط رداءه _ وكان كِساءً طارونياً أي خزّاً _ ووضع الحجر فيه ثمّ قال : يأتي من كل رَبع من قريش رجل. فكانوا : عتبة بن ربعة من عبد شمس ، والأسود بن المطّلب من بني أسد بن عبد العزّى ، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم ، وقيس بن عدي من بني سهم ، فرفعوه ، ووضعه النبيّ في موضعه(٢) فخصّه الله به(٣) فلما بنوها كسوها وصائل الأردية(٤).

مولد فاطمة عليها‌السلام :

مرّ في خبر الصفّار عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، والصدوق في «الخصال» عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا : أن عدّت فاطمة عليها‌السلام في آخر عداد أولاد خديجة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكذلك كان في كلام كلّ من الكليني والطبرسي وابن شهرآشوب. وفي قول ابن اسحاق وابن هشام واليعقوبي والطبرسي والمسعودي.

وافتتح الكليني في «اصول الكافي» : «باب مولد فاطمة» وقبل أن يفتتح الباب وفي آخر الباب السابق حسب النسخ الموجودة من الكتاب ، أورد بسند صحيح عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «ولدت فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد مبعث

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢١٧ ، الباب ٩ ، الحديث ٣ وفي الفقيه ٢ : ٢٤٧ ، الباب ٦٤ ، الحديث ٢٣٢٠ عن الصادق عليه السلام.

(٢) الكافي ٤ : ٢١٧ ، الباب ٩ ، الحديث ٤.

(٣) من الخبر الاسبق.

(٤) من الخبر الاسبق. والوصائل جمع الوصلة : القطعة ، والاردية جمع الرداء.

٣١٥

رسول الله بخمس سنين. وتوفّيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما» (١) ثمّ افتتح الباب فقال : ولدت فاطمة ـ عليها وعلى بعلها السلام ـ ، بعد مبعث رسول الله بخمس سنين ، وتوفّيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما ، بقيت بعد أبيها خمسة وسبعين يوما» (٢) وكذلك في «روضة الكافي» قال : ولدت بعد البعثة بخمس سنين (٣).

والظاهر أنّه يستند في ذلك الى ما رواه في الاصول قبيل الباب ، صحيحا.

والخبر ـ كما مرّ ـ ليس فيه جملة «وقريش حينئذ تبني البيت» ممّا جاء فيما رواه عنه عليه‌السلام الاربلي في «كشف الغمة» عن كتاب «تأريخ مواليد ووفيات أهل البيت» لابن الخشاب يرفعه عن أبي جعفر محمّد بن علي قال : «ولدت فاطمة بعد ما أظهر الله نبوة نبيّه وأنزل عليه الوحي بخمس سنين ، وقريش تبني البيت ، وتوفّيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما» ثمّ قال : «وفي رواية صدقة : «ثمان عشرة سنة وشهر وخمسة عشر يوما ثمّ قال «وكان عمرها مع أبيها بمكّة ثمانية سنين» (٤).

وهكذا مرّ الاربلي على هذا الخبر المرفوع لابن الخشّاب مرور الكرام من دون أن يلاحظ عليه التناقض فيه ؛ فهو من جانب يقول : ولدت فاطمة بعد البعثة ، ومن جانب آخر يقول : وقريش تبني الكعبة! وهذان الأمران لا يجتمعان ؛ فإنّ البيت بني قبل البعثة بخمس سنين لا بعدها. اللهم الّا أن نقول بأن الجملة : «وقريش تبني البيت» مزيد مردود من الراوي ، والّا فأصل الخبر مردود الى أهله.

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٤٥٧.

(٢) اصول الكافي ١ : ٤٥٨.

(٣) روضة الكافي : ٢٨١.

(٤) كشف الغمّة ٣ : ٧٥.

٣١٦

ويشبه هذا الخبر المرفوع لابن الخشاب عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في جملة : «وقريش تبني الكعبة» خبر آخر مسند لابن حمّاد الدّولابي «الحنفي» في كتابه «الذرية الطاهرة» بسنده عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال : «دخل العباس على عليّ بن طالب وفاطمة بنت رسول الله وأحدهما يقول لصاحبه : أيّنا أكبر؟ فقال العباس : ولدت يا علي قبل بناء قريش البيت بسبع سنوات ، وولدت ابنتي وقريش تبني البيت ، ورسول الله يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة ، قبل النبوة بخمس سنين» (١).

والظاهر أنّ المراد بأبي جعفر هو الباقر عليه‌السلام كما في أخبار اخرى عنه مصرحة باسمه في الكتاب ومنها خبر قبل هذا عن أبي جعفر محمّد بن علي قال : «توفّيت فاطمة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بخمس وتسعين ليلة في سنة احدى عشرة».

وان كان الراوي المباشر للخبر السابق : يحيى بن شبل ، لم أجده في مظانه من كتب الرجال.

والغريب أنّ الاربلي روى الخبرين وغيرهما بادئا لها بقوله : «ونقلت من كتاب : «الذرية الطاهرة» للدّولابي ، ولكنّه حذف الأسناد بادئا لهذا الخبر بقوله : «وقيل ...» من دون أن يشير الى أنّه يرويه عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام. فلعلّه لم يتنبّه لذلك (٢).

وعلى أيّ حال فالخبران عامّيان معارضان لما رواه الكليني عنه عليه‌السلام بسند صحيح.

أما عن الصادق عليه‌السلام فقد روى الطبري الإمامي في «دلائل الإمامة» بسنده عنه عليه‌السلام قال : «ولدت فاطمة في جمادى الآخرة : اليوم العشرين منها

__________________

(١) الذرية الطاهرة : ١٥٢.

(٢) كشف الغمّة ٢ : ١٢٨ ، ١٢٩.

٣١٧

سنة خمس وأربعين من مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقامت بمكّة ثمان سنين» (١).

وقال اليعقوبي : «وبعد ما بعث : عبد الله ـ وهو الطيّب والطاهر ، لأنّه ولد في الإسلام ـ وفاطمة» (٢) ومثله المسعودي (٣).

وكذلك ذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب) في ترجمة خديجة : أنّ الطيّب قد ولد بعد النبوة ، وولدت بعده أمّ كلثوم ، ثمّ فاطمة.

ولكنّ الشيخ المفيد قال : «كان مولد السيدة الزهراء سنة اثنتين من المبعث» (٤) وتبعه تلميذه الشيخ الطوسي فقال في «المصباح» : «في اليوم العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين من المبعث كان مولد فاطمة في بعض الروايات» ثمّ قال : «وفي رواية اخرى : سنة خمس من المبعث» ثمّ قال : «والعامّة تروي أنّ مولدها قبل المبعث بخمس سنين» (٥).

وأقدم نص على ذلك منهم فيما بأيدينا هو ما رواه ابن حماد الدّولابي «الحنفي» في كتابه «الذرية الطاهرة» وقال به الاصفهاني (ت ٣٥٦ ه‍) في «مقاتل الطالبيين» (٦) وقال سبط ابن الجوزي في «تذكرة الخواص» : «وأمّا فاطمة عليها‌السلام قال علماء السير : ولدتها خديجة وقريش تبني البيت الحرام قبل النبوة بخمس سنين ، وهي أصغر بنات رسول الله» (٧) والمحب الطبري في «ذخائر العقبى» (٨) روى رواية

__________________

(١) دلائل الإمامة : ١٠.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠.

(٣) مروج الذهبي ٢ : ٢٩١.

(٤) كما في بحار الأنوار ٤٣ : ٩ عن الإقبال عن حدائق الرياض للشيخ المفيد.

(٥) المصباح للطوسي ٥٥٤ ط الهند.

(٦) مقاتل الطالبيين : ٣٠ ط النجف.

(٧) تذكرة الخواص : ٣٠٦ ط النجف.

(٨) ذخائر العقبى : ٥٣.

٣١٨

ابن حماد الدّولابي عن الباقر عليه‌السلام عن عباس. وقال الزرندي الحنفي في «نظم درر السمطين» (١) ومغلطاي في سيرته (٢) والديار بكري في «تاريخ الخميس» وأضاف القول بسبع سنين قبل البعثة ، بل واثنتي عشرة سنة قبلها (٣).

وإن كان المحبّ الطبري والدّيار بكري عقّبا ذلك بنقل ما يدل من الحديث على أنّ نطفة فاطمة قد انعقدت من ثمر جاء به جبرئيل الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجنة ، وقد نقل ذلك المرعشي النجفي في ملحقات «احقاق الحق» عنهما وعن ميزان الاعتدال (٤) ، ولسان الميزان ، والروض الفائق ، ونزهة المجالس ، ومجمع الزوائد ، وكنز العمّال ومنتخبه ، ومحاضرة الأوائل ، ومقتل الحسين للخوارزمي ، وتأريخ بغداد للخطيب البغدادي ، ومفتاح النجاة ، ومستدرك الحاكم ، وتلخيصه للذهبي ، وأخبار الدول ، والمناقب لابن المغازلي ، والمناقب لعبد الله الشافعي ، واللآلي المصنوعة ، وإعراب ثلاثين سورة (٥).

ومن الخاصّة عن العامّة عن الصحابة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله روى الصدوق بسنده عن طاوس اليماني عن ابن عباس عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) وروى في «عيون المعجزات» عن حارثة بن قدامة عن سلمان عن عمّار عن فاطمة عليها‌السلام (٧).

__________________

(١) نظم درر السمطين : ١٧٥.

(٢) سيرة مغلطاي : ١٧.

(٣) تأريخ الخميس ١ : ٢٧٧.

(٤) ميزان الاعتدال ١ : ٣٨ ، ٢٥٣ و ٢ : ٢٦ ، ٨٤ ، ١٦٠ ، ٢٩٧ و ٣ : ٥٤٠ وإن كان هنا أشار إلى أنّه حديث موضوع.

(٥) إحقاق الحق ١٠ : ١ ـ ١٠.

(٦) علل الشرائع ١ : ١٨٣ ط النجف الأشرف.

(٧) عيون المعجزات ، كما في البحار ٤٣ : ٨.

٣١٩

ومن الخاصّة عن الأئمة عليهم‌السلام روى الصدوق في «علل الشرائع» عن الباقر عليه‌السلام (١) وفي «معاني الأخبار» عن الصادق عليه‌السلام (٢) والقميّ في تفسيره كذلك (٣) والصدوق أيضا في (الأمالي) و (العيون) عن الرضا عليه‌السلام (٤).

كل ذلك ممّا يؤيد أو يدل على كون ولادتها بعد البعثة. وقد تقدّم أنّ المشهور في سن خديجة حين الزواج بالنبيّ هو أنها كانت في الأربعين والنبيّ في الخمس والعشرين وقد بعث في الأربعين ، فخديجة حينئذ فيما بعد الخمس والخمسين ، وهو سن اليأس من الحمل ولكن لغير القرشية والكنانية والنبطية ، كما هو مقرّر في الفقه ، وخديجة قرشية ، وهذا يعني أنّ قابلية الحمل كانت موجودة لا تزال عند خديجة ، وأنّ عمرها حينئذ كان ، لا يأبى من الحمل (٥).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١٨٣ ط النجف الأشرف.

(٢) معاني الأخبار : ٣٧٧ ط النجف الأشرف.

(٣) تفسير القمي ، كما في البحار ٤٣ : ٦.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١١٦ ط قم وعنه في البحار ٤٣ : ٤ وعن أمالي الصدوق.

(٥) صحيح أنّ حمل المرأة في هذه السن العالية نادر الوقوع ، ولكن قد وقع في التأريخ نماذج منه ، وحتّى اليوم : فقد نشرت جريدة «اطلاعات» الإيرانية بتأريخ ٢٠ ارديبهشت ١٣٥١ هجري شمسي : أنّ امرأة تدعى «شوشنا» وضعت في «اصفهان» ولدا ولها من العمر ٦٦ عاما ، ولها ثمانية أولاد أكبرهم عمره ٥٠ وأصغرهم ٢٥ سنة.

وبتأريخ ٢٨ بهمن ١٣٥١ هجري شمسي أيضا نشرت : أنّ امرأة علوية تدعى «أكرم موسوي» ولها ٦٦ عاما ولزوجها ٧٤ عاما ، وضعت توأما في «بندر عباس». ونقلت الجريدة عن الطبيب : أن أكبر امرأة ولدت لحد الآن عمرها ٦٧ عاما. انظر كتاب : فاطمة الزهراء المرأة النموذجية في الاسلام للشيخ ابراهيم الاميني. وراجع خاتمة قاموس الرجال ١٢ : ٨.

٣٢٠