موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وأسند الطبرسي في «مجمع البيان» قول أهل اللغة هذا الى الزجاج.

وفي الحامي قال : هو الذكر من الابل ، كانت العرب اذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى ، رواه عن الزجاج وأبي عبيدة ، وابن مسعود وابن عباس.

ثم نقل عن المفسّرين عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ عمرو ابن لحيّ بن قمعة بن خندف ، كان قد ملك مكة ، وكان هو أول من غيّر دين اسماعيل واتّخذ الأصنام ونصب الأوثان ، وبحّر البحيرة وسيّب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ، فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه (١).

حماس العرب قبل الاسلام :

بإمكاننا ان نقول : إنّ العربيّ قبل الإسلام كان نموذجا تاما لشره البشر وحرصه على مصالحه ومنافعه ، فكان ينظر إلى كلّ شيء من زاوية منافعه الخاصة ، وكان يدّعي لنفسه في كلّ ذلك أنواعا من الشرف والكرامة والرفعة على الآخرين ، يحب الحرية غاية الحبّ ، وينفر من أيّ قيد أو حدّ.

وقد قال ابن خلدون بهذا الصدد : «إنّ العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب ، وذلك أنّهم أمّة قد استحكمت فيهم أسباب التوحش فصار لهم خلقا وجبلّة ، وكان عندهم الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة ملذوذا. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له ، فانّ حالتهم العاديّة هي الرحلة والتغلّب ، وهذا مناقض للسكون الّذي به العمران ومناف له. وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٣٩٠. ورواه ابن اسحاق بسنده عن ابن حزم وبسند آخر عن أبي هريرة ـ السيرة ١ : ٧٨ ، ٧٩.

١٢١

أيدي الناس ، وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم ، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدّ ينتهون إليه ، بل كلّما امتدّت أعينهم الى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه» (١).

أجل ، إنّ العرب قبل الإسلام كانوا قد اعتادوا على الحرب والقتال ، وكان منطقهم السائد : لا يغسل الدم إلّا الدم ، وكذلك كانوا قد اعتادوا الإغارة على أموال الآخرين حتّى أنّ أحدهم كان يعدّ غاراته على أموال الناس مفخرة له ، وحتّى أنّ الشاعر الجاهلي حينما يشاهد عجز قومه عن الغارة يتمنّى ان لو كان له عن قومه هؤلاء قوم آخرون يشنّون الغارات :

فليت لي بهم قوما اذا ركبوا

شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا

والى هذه الحالة يشير الذكر الحكيم اذا يقول لهم : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها)(٢).

الخرافات عند العرب :

إنّ القرآن الكريم يبيّن أنّ من أهداف بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(٣).

فما هو الإصر وما هي الأغلال الّتي كانت عليهم؟ لا شكّ أنّها لم تكن أغلالا من حديد ، بل الغرض منها هي تلك الأوهام والخرافات الّتي كانت تمنع عقولهم وافكارهم عن الرشد والنموّ ، ولا شكّ أنّها لا تقلّ عن أغلال الحديد ثقلا وضررا ، اذ هذه الأغلال قد لا تنفك عن صاحبها حتّى الموت وهي تمنعه عن كلّ حركة حتّى لحلّها ، في حين لو كان الإنسان ذا عقل حرّ سليم كان بإمكانه ان يكسر كلّ طوق أو قيد.

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون : ١٤٩ ط دار الفكر.

(٢) آل عمران : ١٠٣.

(٣) الاعراف : ١٥٧.

١٢٢

إنّ من مفاخر رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كافح الخرافات والأوهام ، وغسل العقل البشريّ منها.

إنّ ساسة العالم الّذين لا يهمّهم شيء سوى الرئاسة على الناس ، يحاولون الإفادة من كلّ شيء في سبيل أغراضهم ومقاصدهم ، فإذا كانت العقائد الخرافية والقصص القديمة ممّا يمكن ان تؤيد حكومتهم ورئاستهم ، فلا مانع لهم من أن يروّجوا لها ويفتحوا السبيل أمامها ، وحتّى لو كانوا اناسا مفكّرين ذوي رأي ومنطق فإنّهم سوف يدافعون عن هذه الخرافات باسم احترام آراء الناس وأفكارهم واعتقاداتهم.

امّا رسول الله فانّه لم يمنع عن تلك العقائد الخرافية الّتي تضرّ بالمجتمع فحسب ، بل كان يكافح حتّى الأفكار الّتي كانت قد تؤيّده وتدعم هدفه ، وكان يسعى الى ان يكون الناس أبناء الدليل والمنطق لا القصص والخرافات.

فقد روى البرقي في كتابه «المحاسن» بسنده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام أنّه قال : لمّا قبض ابراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جرت في موته ثلاث سنن : أمّا واحدة : فانّه لمّا قبض انكسفت الشمس فقال الناس : إنمّا انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله ، فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

«ايّها الناس! إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا انكسفا أو أحدهما صلّوا».

ثم نزل من المنبر فصلّى بالناس الكسوف (١). إنّ فكرة كسوف الشمس لموت ابن رسول الله كان ممّا يرسّخ العقيدة برسول الله في نفوس الناس ، وهو من ثمّ يؤدي الى انتشار رسالته ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرض أن يتأيّد بالخرافة.

__________________

(١) المحاسن للبرقي : ٣١٣.

١٢٣

إنّ كفاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضد الخرافات وعلى رأسها عبادة الأصنام والأوثان واتّخاذ بعض المخلوقات أربابا لم يكن دأبه في رسالته فحسب بل إنّه كان يكافح الأوهام والخرافات حتّى في دور طفولته وصباه. فقد روى المحدث المجلسيّ في موسوعته «بحار الأنوار» عن كتاب «المنتقى في أحوال المصطفى» للكازروني من العامّة ، بسنده عن ابن عباس عن حليمة السعدية أنّها قالت «فلمّا تمّ له ثلاث سنين قال لي يوما : يا امّاه! مالي لا أرى أخويّ بالنهار؟ قلت له : يا بنيّ انّهما يرعيان غنيمات ، قال : فمالي لا أخرج معهما؟ قلت له : تحبّ ذلك؟ قال : نعم. فلما أصبح دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانية فنزعها ثم قال لي : مهلا يا امّاه! فإنّ معي من يحفظني» (١).

إنّ عقائد جميع امم العالم كانت حين طلوع فجر الإسلام خليطا بأنواع من الخرافات والأساطير ، فالأساطير الساسانية واليونانية كانت تسود على أفكار امم كانت تعدّ من أرقى أمم العالم يومذاك. وحتى اليوم يوجد بين امم العالم خرافات كثيرة لا تستطيع الحضارة الحاضرة أن تنفيها من حياة الناس.

وقد سجّل التأريخ خرافات وأساطير كثيرة للناس في شبه جزيرة العرب ، جمع كثيرا منها السيد محمود الآلوسي في كتاب أسماه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» مع ذكر شواهد لها من الشعر الجاهلي وغيره ، بمراجعة هذا الكتاب ومثله يواجه المرء شيئا كثيرا من الخرافات قد ملأت عقول العرب الجاهليين ، وكانت هذه الأساطير احدى عوامل التخلف فيهم عن سائر امم العالم آنذاك ، وكانت كذلك أكبر سدّ أمام تقدّم الإسلام فيهم أيضا ، ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسعى جاهدا أن يحبط تلك الأساطير والأوهام من آثار الجاهلية ، فحينما أرسل «معاذ بن

__________________

(١) بحار الانوار ١٥ : ٣٩٢.

١٢٤

جبل» الى اليمن أمرة قائلا : «وأمت الجاهلية الّا ما سنّه الإسلام ، وأظهر أمر الإسلام كلّه صغيره وكبيره» (١).

وهنا نأتي نحن بنماذج من خرافاتهم :

أ ـ إشعال النار للاستسقاء :

كانت الجزيرة العربية تواجه الجفاف في أكثر فصول السنة ، فكان الناس يجمعون حطبا من شجر القشر والسّلع فيربطونها بذيل الثور ثمّ يسوقونه الى سفح الجبل فيضرمون النار في حزمة الحطب فتشتعل ، ويبدأ الثور يركض ويخور وهم يرون ذلك تقليدا للبرق والرعد ؛ فالبرق النار في الحطب والرعد خوار الثور والبقر ، ويرون ذلك مفيدا لهطول الأمطار!

ب ـ يضربون الثور لتشرب البقرة :

كانوا يردون بقطيع البقر الماء وقد يشرب الثور ولا تشرب الأبقار ، فيرون ذلك من وجود الجن في قرون الثور فيضربون الثور لتشرب البقر! ويقول شاعرهم في ذلك :

فإنّي اذا كالثور يضرب جنبه

اذا لم يعف شربا وعافت صواحبه!

ج ـ يكوون الجمل السالم لتصحّ الإبل :

كانوا اذا مرضت الإبل وظهر في فمها أو على أطرافها قروح أو بثور ، يأتون ببعير سالم فيكوون شفاهه وساعديه وذراعيه ، لتصحّ سائر الإبل كما يتوهّمون حسب خرافاتهم. وقد يحتمل بعض المتأخرين من المؤرخين أنّ ذلك كان عملا وقائيا بل علاجا علميا! لكننا حينما نرى أنّهم يفعلون ذلك بواحد من الإبل بدلا من الكلّ ، نعلم أنّ ذلك لم يكن الّا خرافة ووهما.

__________________

(١) تحف العقول : ٢٥.

١٢٥

د ـ يحبسون بعيرا على القبر ليحشر الميّت عليه :

كانوا إذا مات كبير منهم حفروا قرب قبره حفيرة وحبسوا بها بعيرا وتركوه يموت جوعا وعطشا ، يزعمون انّ الميّت يركبه ولا يبقى راجلا بلا راحلة!.

ه ـ يعقرون بعيرا عند قبر الميت :

كانوا اذا مات كريم منهم كان ينحر الإبل لاضيافه ، يعقر أقرباؤه بعيرا عند قبره تكريما للميت وثناء عليه!

وحارب الإسلام كلّ هذه الأوهام ، بل انّها إنمّا كانت ظلما للحيوان ، وإذا ما قارنّاها نحن بأحكام الإسلام بشأن حماية الحيوان رأينا أنّ الإسلام كان ثورة على هذه الأفكار السائدة في ذلك المحيط الجاهل. ويكفينا من بين عشرات الأحكام أنّ الإسلام قرّر للحيوان حقوقا على صاحبه (١).

و ـ علاج المرضى :

كانوا يرون أنّ الملدوغ والملسوع لو كان معه شيء من النحاس مات ، وكانوا يعالجونها بإناطة عقود وقلائد الذهب والفضّة برقبتهما وكانوا يعالجون عضّة الكلب المكلوب (داء الكلب) بدم كبير القبيلة أو شيخ العشيرة يضعونه على موضع الجراح! وقد جاء هذا المعنى في هذا البيت المعروف :

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفي من الكلب

وكانوا إذا ظهرت على أحد منهم سمات مسّ الجنون لجؤوا لطرد الأرواح الشرّيرة منه الى عظام الموتى والأقمشة الملوّثة بالأوساخ والقاذورات فعلّقوها برقبته. ولدفع الجنون عن الجنين والبنين كانوا يعلّقون سنّ السنّور والثعلب بخيط فيعلّقونها برقابهم. وكانت الام اذا رأت في فم أو شفاه أولادها بثورا حملت على

__________________

(١) انظر بهذا الصدد كتاب من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٨٦ ـ ٢٩٢.

١٢٦

رأسها طبقا وطافت على دور القبيلة فجمعت شيئا من الخبز والتمر وأطعمتها الكلاب ليطيب بنوها. وكان نساء الحيّ يراقبن أبناءهن كيلا يأكلوا شيئا من ذلك الخبز والتمر فيصابوا بذلك الداء. واذا استمرّ مرض أحدهم قالوا انّه قتل حيّة أو غيرها من الجنّ ، وللاعتذار من الجنّ كانوا يصنعون بعيرا من الطين يحمّلونه التمر والحنطة والشعير ويتركونه ببعض شعاب الجبال ، فإذا رأوا الحمل بعد ذلك قد تغيّر شيء منه قالوا انّ الهدية قبلت وسيطيب المريض ، وإلّا قالوا : إنّهم استقلوا الهديّة فلم يقبلوا بها!.

وكانوا إذا دخلوا قرية وخافوا الجنّ أو الطاعون صاحوا في مدخل القرية عشر مرّات بصوت الحمير (النهيق) وقد يعلّقون برقابهم عظم الثعلب! وكانوا اذا ضلّوا في البيداء نزعوا ملابسهم فلبسوها بالمقلوب كي ينقلبوا الى أهلهم! وكانوا عند السفر يربطون خيطا بغصن شجرة أو فرعها ، فإذا رجعوا ووجدوه كما هو اطمأنّوا الى وفاء أزواجهم وعدم خيانتهنّ لهم ، أمّا إذا فقدوه أو وجدوه قد حلّ اتهموا أزواجهم بخيانتهم من ورائهم. وكانوا إذا سقط سنّ من أسنان أطفالهم رموا به الى جهة الشمس وقالوا : أيّتها الشمس اعطينا سنّا أحسن من هذا! وكانت المرأة التي لا يبقى لها أولادها تطأ القتيل سبع مرّات ويرون أنّ ذلك نافع لها ليبقى لها ولدها بعد هذا.

هذه نماذج من الخرافات التي كانت قد خيّمت على محيط حياة العرب في عهد الجاهلية فجعلت منه عهدا مظلما أسود ومنعت عقولهم من الرقيّ والنمو.

المرأة في المجتمع الجاهلي :

كانت المرأة لديهم كسلعة تباع وتشترى ، تماما كالحيوانات ، ولا يورّثونها ، ويرثونها مع التركة ، ولا حدّ لتزويج الرجال منهنّ ، ويعظلوهنّ ليذهبوا ببعض ما آتوهن ـ كما في القرآن الكريم ـ ويتزوّجون بزوجات آبائهم ، ويمنعون أزواجهم اذا طلقوهنّ ان يتزوجن بغيرهم الّا بإذنهن ، ولا يكون ذلك الّا بمال.

١٢٧

امّا الإسلام فيكفينا منه تغييرا لهذا الوضع واصلاحا له قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته في حجّة الوداع :

«أيّها الناس : انّ لنسائكم عليكم حقّا ولكم عليهن حقّا ، فحقّكم عليهن ان لا يوطئن أحدا فرشكم ، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم الّا بإذنكم ، وان لا يأتين بفاحشة ، فإنّ الله قد أذن لكم ان تعظلوهن وتهجروهنّ في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإذا انتهين واطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتّقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا» (١).

مبدأ العرب ، والعرب العاربة :

إن ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام مزيج بالأساطير ، وقد ظل تأريخهم تأريخا مبهما حتى أواسط القرن الماضي حيث جدّ علماء الآثار والحفريات الأثرية التاريخية من الغربيين في قراءة آثارهم المنقوشة بالخط المسند على الأبراج والهياكل والنصب والأحجار ، فاستقر رأي هؤلاء الباحثين الغربيين على أن العرب الجنوبيين في اليمن هم من الموجة السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر الألف الثانى ق م ، أي في حدود الألف قبل الميلاد ، أي قرابة خمسة عشر قرنا قبل الاسلام ، اتّجهت من شمال الجزيرة الى جنوبها ، لا من بابل العراق (٢) بينما نرى في التاريخ النقلي المتوارث أن الهجرة كانت من بابل الى اليمن ، فمثلا :

__________________

(١) تحف العقول : ٣٠ ، وانظر للتفصيل : المرأة في الشعر الجاهلي لعلي الهاشمي ، والقيان والغناء في الشعر الجاهلي لناصرالدين الأسد. وحقوق المرأة في الجاهلية والاسلام للمؤلف.

(٢) العصر الجاهلي ، لشوقي ضيف : ٢٥ ـ ٢٨.

١٢٨

ذكر المسعودي في أوائل من تكلموا بالعربية عن نسل نوح ببابل العراق بعد الطوفان قال : وكان من تكلّم بالعربية : يعرب وجرهم ، وعاد ، وثمود ، وعملاق ، وطسم ، وجديس ، ووبار ، وعبيل وعبد ضخم ، فسار يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح (اي الجيل الخامس بعد نوح) بمن تبعه من ولده .. فحلّ باليمن.

وسار بعده عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه ، فحلّ بالأحقاف وأداني الرمل بين عمان وحضرموت واليمن وتفرّق هؤلاء في الأرض فانتشر منهم ناس كثير : منهم جيرون بن سعد بن عاد حلّ بدمشق فمصّر مصرها ، وجمع عمد الرّخام والمرمر إليها وشيّد بنيانها وسماها «ارم ذات العماد».

قال المسعودي : وهذا الموضع بدمشق في هذا الوقت ـ وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ـ سوق من أسواقها عند باب المسجد الجامع يعرف بجيرون ، وهو بنيان عظيم كان قصر هذا الملك (جيرون) عليه أبواب من نحاس عجيبة ، بعضها على ما كانت عليه ، وبعضها من مسجد الجامع.

وسار بعد عاد بن عوص : ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح ، بولده ومن تبعه ، فنزلوا الحجر الى فرع ، نحو وادي القرى بين الشام والحجاز ونبيّهم صالح عليه‌السلام.

وسار بعد ثمود : جديس بن عابر بن ارم بن سام بن نوح ، بولده ومن تبعه ، وهؤلاء نزلوا اليمامة.

وسار بعد جديس : عملاق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح ، بولده ومن تبعه فنزل هؤلاء أكناف الحرم والتهائم ، ثم انضافوا الى ملوك الروم فملّكتهم الروم على مشارف الشام والغرب والجزيرة من ثغور الشام فيما بينهم وبين فارس ، منهم السميدع بن هوبر ، ومنهم اذينة بن السميدع.

١٢٩

ثم سار طسم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح بعد عملاق بن لاوذ بولده ومن تبعه ، فكان منزلهم باليمامة ، واسمها اذ ذاك جرّ ، وكانت أفضل البلاد وأكثرها خيرا فيها صنوف الشجر والأعناب ، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفّة ، وكثرت طسم فملّكت عليها عملوق بن جديس.

فكان عملوق يحكم طسم وجديس ، ولكن كثرت جديس فملكت عليها الأسود بن غفار. وكان عملوق ظلوما غشوما لا ينهاه شيء عن هواه ، وكان قد قهر على جديس وتعدى عليهم. وترافع إليه زوجان من جديس تنازعا في ولدهما عمن يكون بعد الطلاق فحكم الملك أن يؤخذ الولد منهما ويجعل في غلمانه ، فقالت فيه شعرا ذمّته به وبلغ قولها الملك فغضب ، وأمر أن لا تتزوج امرأة من جديس فتزفّ الى زوجها حتّى تحمل إليه فيفترعها قبل زوجها ، فلقوا من ذلك ذلا طويلا ، ولم تزل تلك حالتهم حتّى تزوجت اخت الأسود ملك جديس ففعل بها كسائر نسائها ، فخرجت تقول شعرا تحرّض به قومها جديس على طسم. فصنع الأسود طعاما كثيرا ودعا إليه عملوق ومن معه من رؤساء طسم باليمامة فأجابوه ، فوثبت جديس عليهم بأسيافهم فقتلوهم عن آخرهم ومضوا الى ديارهم فانتهبوها.

قال المسعودي : وسار بعد طسم بن لاوذ : وبار بن اميم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح ، بولده ومن تبعه من قومه ، فنزل برمل عالج ، وأصابهم نقمة من الله فهلكوا لبغيهم في الأرض.

وسار بعد وبار بن اميم : عبد ضخم بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا الطائف ، ثم هلك هؤلاء ببعض غوائل الدهر فدثروا ، ولهم ذكر في الشعر الجاهلي.

وسار بعد عبد ضخم بن ارم : جرهم بن قحطان بولده ومن تبعه ، وطافوا البلاد حتّى أتوا مكّة فنزلوها (بعرفات ، وبعد ظهور زمزم نزلوا حول البيت بمكّة).

١٣٠

وسار اميم بن لاوذ بن ارم بعد جرهم بن قحطان فحلّ بأرض فارس ، فالفرس من ولد كيومرث بن اميم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح على خلاف في ذلك.

ونزل ولد كنعان بن حام بن نوح بلاد الشام فبهم عرفت تلك الديار فقيل : بلاد كنعان.

قال المسعودي : وقد ذكر جماعة من أهل السير والأخبار : انّ جميع من ذكرنا من هذه القبائل كانوا أهل خيم وبدوا مجتمعين في مساكنهم من الأرض. وانّ اميما وأولاده (أي الفرس) هم أوّل من ابتنى البنيان ورفع الحيطان وقطع الأشجار وسقّف السقوف واتّخذ السّطوح.

وقد كان من ذكرنا من الامم لا يجحد الصانع عزوجل ، ويعلمون أنّ نوحا عليه‌السلام كان نبيّا. ثم دخلت عليهم بعد ذلك شبه ومالت نفوسهم الى ما تدعو إليه الطبائع من الملاذ والتقليد ، وكان في نفوسهم هيبة الصّانع والتقرّب إليه بالتماثيل وعبادتها لظنهم أنّها مقرّبة لهم إليه.

وكان عبيل بن عوص بن ارم بن سام بن نوح نزل هو وولده ومن تبعه بلاد الجحفة بين مكّة والمدينة ، فهلكوا بالسيل فسمّي ذلك الموضع بالجحفة لإجحافها بهم.

وكان يثرب بن قامة بن مهليل بن ارم بن عبيل نزل هو وولده ومن تبعه المدينة فسمّيت به يثرب ، وهؤلاء أيضا هلكوا ببعض غوائل الدهر وآفاته.

وقد أخبر الله جلت قدرته عمن اهلك من قوم عاد وثمود فقال تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ)(١) ارسل الله على عاد الريح العقيم فخرجت عليهم

__________________

(١) الحاقة : ٤ ـ ٦.

١٣١

من واد لهم (بصورة سحاب مركوم) (فَلَمَّا رَأَوْهُ) ... (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) وتباشروا بذلك ، فلمّا سمع هو ذلك منهم قال لهم (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ)(١).

ولمّا دثرت هذه الامم من العرب والقبائل خلت منهم الديار فسكنها غيرهم من الناس ، فنزل قوم من بني حنيفة اليمامة واستوطنوها. وقد كانوا نزلوا بلاد الجحفة بين مكّة والمدينة.

واختلفوا في بني حضور فقيل إنّهم من ولد يافث بن نوح ، ومنهم من الحقهم بمن ذكرنا من العرب البائدة ممن سمّينا ، وكانت أمّة عظيمة ذات بطش وشدة. ومنهم من رأى أنّ ديارهم كانت بلاد جند قنسرين الى تلّ ماسح الى خناصرة الى بلاد سورية ، وهذه المدن في هذا الوقت مضافة الى أعمال حلب من بلاد قنسرين من أرض الشام. ومن الناس من رأى أنّهم كانوا بأرض السماوة وأنّها كانت عمائر متصلة ذات جنان ومياه متدفقة ، وذلك بين العراق الى حدّ الحجاز والشام ، وهي الآن براري وقفار وديار خراب. وقد كان الله بعث إليهم شعيب بن مهدّم بن حضور بن عدي : نبيّا ناهيا لهم عمّا كانوا عليه ، وهو غير شعيب بن نويل. فجدّ شعيب بن مهدم في دعائهم وخوّفهم وتوعّدهم ، وظهرت له معجزات ودلائل أظهرها الله على يديه تدلّ على صدقه وتثبت حجته على قومه ، فقتلوه.

وكان في عصره نبيّ آخر هو برخيا بن اجنيا بن رزنائيل بن شالتان ، من أسباط يهودا بن اسرائيل بن اسحاق بن ابراهيم ، فاوحى الله إليه أن يأمر بعض الملوك في الشام بغزو العرب أصحاب شعيب بن مهدّم ، فسار إليهم في جنوده

__________________

(١) الأحقاف : ٢٤.

١٣٢

وغشى دارهم بعساكره ، فاستعدّوا لحربه ولكن انفضّت جنودهم وتفرّقت جموعهم وولّت كتائبهم وأخذهم السيف فحصدوا أجمعين وبشأنهم ـ قيل ـ قال الله تعالى (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ)(١).

العرب من ولد قحطان :

قال المسعودي : «ودثرت العرب العاربة عدا ولد قحطان من يعرب ، فدثرت عاد وثمود والعمالقة وجرهم وطسم وجديس ووبار وعبيل ، وسائر من سمّينا ، ودخل من بقي ممّن ذكرنا في العرب الباقية الى هذا الوقت ، وهم ولد قحطان ومعد ، ولا نعلم أن قبيلا بقي يشار إليه في الأرض من العرب الأولى غير معد وقحطان» (٢).

وقال : «الواضح من أنساب اليمن وما تدين به كهلان وحمير ابنا قحطان الى هذا الوقت قولا وعملا ، وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير ، والّذي وجدت عليه التواريخ القديمة للعرب وغيرها من الامم ، ووجدت عليه الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان بأرض اليمن والتهائم والأنجاد ، وبلاد حضرموت والشحر والأحقاف ، وبلاد عمان وغيرها من الأمصار : أنّ الصحيح في نسب قحطان : أنّه قحطان بن عابر ابن شالخ بن قنان بن ارفخشد بن سام بن نوح. وكان لعابر ثلاثة أولاد : فالغ وقحطان وملكان. وولد لقحطان أحد وثلاثون ذكرا منهم يعرب ، وولد ليعرب : يشجب ، وولد ليشجب : عبد شمس فتملك وقاتل وسبى فلقّب : بالسبإ لسبيه السبايا. وولد لسبأ : حمير وكهلان ، وإنمّا العقب

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٠٩ ـ ١٣١ بتصرف ـ الأنبياء : ١٢.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٤.

١٣٣

في قحطان من ولد هذين : حمير وكهلان. هذا هو المتفق عليه عند أهل الخبرة والمتيقن لديهم. وكان قحطان سرياني اللسان وإنمّا تكلّم يعرب بالعربية بخلاف لسان قحطان أبيه» (١).

ملوك اليمن :

قال المسعودي «وفد عبيد بن شريّة الجرهمي على معاوية فسأله عن أخبار اليمن وملوكها وتواريخ سنيّها ، فذكر : أنّ اول ملوك اليمن : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثمّ ملك بعده الحارث بن شدّاد بن ملظاظ ابن عمرو. ثمّ ملك بعده أبرهة بن الرائش وهو ابرهة ذو المنار ، ثمّ ملك بعده افريقس بن ابرهة. ثمّ ملك بعده أخوه العبد بن ابرهة ، ثمّ ملك بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهوذ والصّرح ، ثمّ ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد سبع سنين ، ثمّ ملك سليمان بن داود عليهما‌السلام ثلاثا وعشرين سنة. ثمّ ملك بعده ارحبعم بن سليمان سنة ، ثم رجع الملك الى حمير فملك من بعد ارحبعم بن سليمان : ناشر النعم بن يعفر بن عمرو ذي الأذعار ، ثم ملك بعده عمرو بن شمر بن افريقس ، ثمّ ملك بعده تبّع الأقرن بن عمرو ، وهو تبّع الأكبر ، ثم ملك بعده ابنه ملكيكرب بن تبّع. ثمّ ملك بعده تبّع أبو كرب اسعد بن ملكيكرب ، ثمّ ملك بعده كلال بن مثوب ، ثم ملك بعده تبّع بن حسّان بن تبّع ، ثمّ ملك بعده مرثد ، ثمّ ملك بعده ابرهة بن الصبّاح ، ثمّ ملك بعده ذو شناتر بن زرعة ، ثمّ ملك بعده لخنيعة ذو شناتر ، في مجموع مدّة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين سنة. هذا ما حكي عن عبيد بن شريّة في ترتيب ملوك اليمن (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٤٥ ، ٤٦.

(٢) مروج الذهب : ٢ : ٦٠ ـ ٦٢.

١٣٤

ونترك هنا ذكر بقيّة ملوك اليمن وما وقع على عهدهم ، لنأتي على ذلك بعد ذكر انتشار العرب من اليمن الى الحجاز ويثرب والعراق والشام.

ورجّحنا ذكر خبر عبيد بن شريّة الجرهمي في هذا الباب للاختصار ، ولترجيح المسعودي له بقوله «ولم يصح عند كثير من الاخباريين ـ أي المؤرخين ـ من أخبار من وفد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين العرب وغيرهم من المتقدمين فيها ، الّا خبر عبيد بن شريّة واخباره ايّاه عمّا سلف من الأيام وما كان فيها من الكوائن والحوادث وتشعّب الأنساب. وكتاب عبيد بن شريّة متداول في أيدي الناس مشهور» (١).

سيل العرم وتفرّق الأزد في البلدان :

ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنّه أرسل على أهل بلاد سبأ سيلا سماه سيل العرم ، وقال المسعودي : «لا خلاف بين ذوي الرواية والدراية : أنّ العرم هو المسنّاة الّتي قد احكم عملها لتكون حاجزا بين ضياعهم وبين السيل (٢) ، وكان فرسخا في فرسخ ، بناه لقمان بن عاد بن عاديا الأكبر (٣). وهذا السد هو الّذي كان يردّ عنهم السيل فيما سلف من الدهر اذا حان أن يغشى أموالهم وقد كانت أرض سبأ قبل ذلك يركبها السيل ، وكان ملك القوم في ذلك الزمان يقرّب الحكماء ويدنيهم ويؤثرهم ويحسن إليهم ، فجمعهم من أقطار الأرض للالتجاء الى رأيهم والأخذ من محض عقولهم ، فشاور في دفع ذلك السيل وحصره ، وكان ينحدر من أعالي الجبال هابطا على رأسه حتّى يهلك الزرع ويسوق من حملته البناء.

__________________

(١) مروج الذهب : ٢٥١.

(٢) مروج الذهب ٢ : ١٦٣ ، ١٦٤.

(٣) مروج الذهب ٢ : ١٦١.

١٣٥

فأجمع القوم رأيهم على عمل مصاريف له الى البراري تقذف به الى البحر. فحضر الملك المصارف حتّى انحدر الماء وانصرف وتدافع الى تلك الجهة ، واتّخذ السد في الموضع الّذي كان فيه بدء جريان الماء ، من الجبل الى الجبل ، من الحجر الصلد والحديد بطول فرسخ ، وكان وراء السد والجبال أنهار عظام وقد اتّخذوا من تلك المياه نهرا بمقدار معلوم ينتهي في جريانه الى المخراق ، وكان في هذا المخراق للأخذ من تلك الأنهار ثلاثون نقبا مستديرة في استدارة الذراع طولا وعرضا مدوّرة على أحسن هندسة وأكمل تقدير ، وكانت المياه تخرج من تلك الأنقاب في مجاريها حتّى تأتي الجنان فترويها سقيا ، وتعمّ شرب القوم.

ثمّ إنّ تلك الأمم بادت وضربها الدهر بضرباته وطحنها بكلكله ، ومرّت عليها السنون ، وعمل الماء في اصول ذلك المخراق وأضعفه ممر السنين عليه وتدافع الماء حوله. وأتى أبناء قحطان الى هذه الديار وتغلّبوا على من كان فيها من القطّان ، ولم يعلموا الآفة في السد والمخراق وضعفه ، وعند تناهي السد والبنيان في الضعف عن تحمله غلب الماء على السد والمخراق والبنيان إبان زيادة الماء ، فقذف به في جريه ورمى به في تياره واستولى الماء على تلك الديار والجنان والعمائر والبنيان ، حتّى انقرض سكّان تلك الأرض وزالوا عن تلك المواطن (١) ، وذلك عند ما انتهت الرئاسة فيهم الى عمرو بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن كهلان بن سبأ» (٢).

قال المسعودي : «ورأى عمرو في النوم سيل العرم ، فعلم أنّ ذلك واقع بهم وأنّ بلادهم ستخرب ، فكتم ذلك واخفاه وأجمع ان يبيع كلّ شيء له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده فابتاع الناس منه جميع ماله بأرض مأرب.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٦٢ ، ١٦٣ ط بيروت.

(٢) مروج الذهب ٢ : ١٦١ ط بيروت.

١٣٦

فلمّا اجتمعت لعمرو بن عامر أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم فقال : قد رأيت انكم ستمزقون كلّ ممزّق ، واني أصف لكم البلدان فاختاروا أيّها شئتم. فنزل جمع من الأزد بقصر عمان المشيّد فقيل لهم : أزد عمان. ولحق وادعة بن عمرو الأزدي وجمع معه بشعب كرود وهي أرض همدان فانتسبوا إليهم. وسكن جمع منهم ببطن مرّ فسمّوا خزاعة لانخزاعهم عمّن كان معهم من الناس وهم بنو عمرو بن لحيّ. ولحق الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بيثرب فسكنوه. ولحق بنو غسّان ببصرى وحفير من أرض الشام. ولحق مالك بن فهم الأزدي وولده بالعراق فسكنوه.

وخرج من كان بمأرب من الأزد يريدون أرضا يقيمون بها ، فساروا حتّى اذا كانوا بنجران تخلّف أبو حارثة بن عمرو بن عامر ودعبل بن كعب فانتسبوا الى مذحج ، وخرج عمرو بن عامر وولده من مأرب فسار حتّى اذا كان بين السّراة ومكّة أقام هنالك اناس من بني نصر من الأزد. وسار عمرو بن عامر وبنو مازن حتّى نزلوا بين بلاد الأشعريين وعكّ على ماء يقال له غسّان بين واديين يقال لهما زبيد ورمع ، فأقاموا على غسّان فسمّوا به ، والسّراة : جبل يقال له الحجاز أيضا سكن الأزد في سهله وجبله وما قاربه من ظهره ، وإنمّا سمّي السّراة ظهر هذا الجبل كما يقال لظهر الدابة السّراة ، وهو جبل يبدأ من تخوم الشام يفرز بين الحجاز وبين ما يلي أعمال دمشق والأردن وبلاد فلسطين» (١).

«وتخلّف في مأرب مالك بن اليمان بن بهم بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد ، فأصبح ملك مأرب بعد من خرج منه الى ان كان من امرهم ما كان من الهلاك» (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٧٠ ـ ١٧٤.

(٢) مروج الذهب ٢ : ١٧٢.

١٣٧

قال المسعودي : وكان أهل مأرب يعبدون الشمس ، فبعث الله إليهم رسلا يدعونهم الى الله ويزجرونهم عمّا هم عليه ، ويذكّرونهم آلاء الله ونعمته عليهم ، فجحدوا قولهم وردّوا كلامهم وأنكروا ان يكون لله عليهم نعمة وقالوا لهم : ان كنتم رسلا فادعوا الله ان يسلبنا ما انعم به علينا ويذهب عنّا ما أعطانا فدعت عليهم رسلهم فأرسل الله عليهم سيلا هدم سدّهم وغشى الماء أرضهم فأهلك شجرهم وأباد خضرا عمّهم وأزال أنعامهم وأموالهم! فأتوا رسلهم فقالوا : ادعوا الله أن يخلف علينا نعمتنا ويخصب بلادنا ويرد علينا ما شرد من أنعامنا ، ونعطيكم موثقا ان لا نشرك بالله شيئا. فسألت الرسل ربها فأجابهم الى ذلك وأعطاهم ما سألوا.

فأخصبت بلادهم واتسعت عمائرهم الى أرض فلسطين والشام قرى ومنازل وأسواقا. فأتتهم رسلهم فقالوا : موعدكم ان تؤمنوا بالله ، فأبوا الّا طغيانا وكفرا فمزّقهم الله كلّ ممزّق» (١).

ولا بدّ هنا من استدراك :

كان هذا مهذّب ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام ، تأريخا نقليا ظنيّا ، بل مزيجا بالأساطير. وظل هكذا مبهما حتى أواسط القرن الماضي ، حيث جدّ علماء الآثار والحفريات الأثرية التاريخية الغربيون في قراءة آثارهم المنقوشة بالخط المسند على الأبراج والهياكل والنصب والأحجار ، فاستقرّ رأي الباحثين من علماء العرب على ما يلي موجزا :

إن العرب الجنوبيين في اليمن ليسوا من هجرة بابل بالعراق ، بل هم من الموجة السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر (الألف الثاني ق م وأوائل الألف ق م) ، أي في حدود خمسة عشر قرنا قبل الاسلام ، متّجهة من شمال الجزيرة

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٧٤ ، ١٧٥.

١٣٨

نحو جنوبها ، لا من خارجها وكانت مملكة سبأ في جنوب اليمن وعاصمتها مأرب ، ولهجتهم السبائية هي احدى اللهجتين الأساسيتين : المنبثقة في اللغة اليمنية العربية القريبة من العربية الشمالية الحجازية والتهامية ، والحبشية.

واللهجة الاخرى : المعينية لمملكة معين في جوف اليمن ، وهي المملكة الثانية من الممالك الخمس هناك.

والمملكة الثالثة : مملكة قتبان في الجنوب الغربي لسبأ ، وعاصمتها تمنع.

والمملكة الرابعة : الاوسانية جنوبي قتبان.

والمملكة الخامسة : مملكة حضرموت ، وعاصمتها شبوة.

وكانت الدولة المعينية في القرن العاشر قبل الميلاد ، واستولت على مملكة قتبان ومملكة حضرموت ، ووجدت نقوشهم في شمالي الحجاز في دادان من منطقة العلا ، وفي الحجر أو مدائن صالح عليه‌السلام.

وفي (القرن السابع ق م) غلب السبائيون على المعينيين بل على الجنوب كله والشمال ، واتخذوا مأرب حاضرة لهم ، ومنهم بلقيس ، نحو (٢٧٠ ق م).

وفي (١١٥ ق م) نازعهم ملوك ظفار وذي ريدان الحميريون وغلبوا عليهم وعلى الدول الجنوبية فتلقّبوا باسم ملوك ذي ريدان واليمان وسبأ وحضرموت ، وكانت لهم تجارات الى الهند ومصر وافريقية الشرقية.

وفي (٢٤ ق م) اتّجه الرومان الى الملاحة في البحر الأحمر فاستولوا على ميناء عدن واتخذوها قاعدة لتموين سفنهم ، فشلّوا بذلك تجارة الحميريين ، فساءت أحوالهم الاقتصادية ، وأهملوا شئونهم العمرانية ، وأخذ الخراب يدبّ في البلاد.

وفي منتصف القرن الرابع الميلادي حاربهم ملوك الحبشة واستولوا على بلادهم وظلوا بها عشرين عاما. وأخذت القبائل الحجازية تغير عليها.

فأخذ كثير من عشائر اليمن يهاجرون الى الشمال.

١٣٩

وهكذا اختلطت بل امتزجت لغتهم مما أعدّ لانتصار العربية الشمالية الحجازية على العربية الجنوبية اليمنية في أواخر العصر الجاهلي.

وسبّب المنافسة الشديدة بين فارس وبيزنطة بعثات دينية مسيحية الى اليمن ، فاعتنقها أهل نجران في القرن الخامس الميلادي. وناهضها ملوك حمير وآخرهم ذو نؤاس وحاول القضاء على المسيحيين بنجران (أصحاب الاخدود). فأوعزت بيزنطة الى النجاشي أن يغزو اليمن ، فغزاها في (٥٢٥ م) واستولى عليهم وضمّها الى بلاده. وظل هذا الاحتلال الحبشي لليمن نحو خمسين عاما.

وأخيرا استنجد أهلها (سيف بن ذي يزن) بالفرس ، فردّوا الأحباش وظلّوا بها حتى سنة (٦٣٨ م) إذ اعتنق الاسلام الحاكم الفارسي على اليمن بادان (١) في السنة السابعة للهجرة ، فأقره رسول الله على عمله على اليمن ، فكان عليها حتى توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن أجل أن نصل الى مدى عظمة الحضارة الحديثة الإسلامية فانّ علينا أن ندرس الحضارات السائدة يومئذ :

الحضارة في الامبراطوريتين الفارسية والرومية :

يهمّنا للوصول الى مدى بركات الدعوة الإسلامية أنّ نطّلع على حال الناس :

أولا ـ في محيط نزول القرآن الكريم ، وبيئة ظهور الإسلام وتناميه.

ثانيا ـ في أرقى نقاط العالم يومئذ فكرا وأدبا واخلاقا وحضارة.

لا نرى التأريخ يعرّفنا بأرقى نقطة في ذلك العهد سوى الإمبراطوريتين الفارسية والرومية ، وانّ من تمام البحث أن ندرس أوضاع هاتين الدولتين من مختلف النواحي كي يتضح لنا مدى أهمية الحضارة الّتي أتى بها الإسلام.

__________________

(١) العصر الجاهلي لشوقي ضيف : ٢٧ ، ٢٨.

١٤٠