متشابه القرآن ومختلفه - ج ٢

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني

متشابه القرآن ومختلفه - ج ٢

المؤلف:

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات بيدار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

أن الإنسان هو هذه الجملة المعروفة وجعل الجثة جزءا منها فإنه يقول تلطف أجزاء من الإنسان يوصل إليها النعيم وإن لم يكن الإنسان بكماله.

قوله سبحانه :

(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) الآية قال قتادة كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم يعني نطفا ثم أحياهم بأن أخرجهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم بعد الموت وهو قريب من قول ابن عباس وابن مسعود وقال أبو صالح (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أي في القبر (فَأَحْياكُمْ) فيه (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) فيه (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة والأول أصح ويقال معناه (كُنْتُمْ أَمْواتاً) يعني خاملي الذكر دارسي الأثر (فَأَحْياكُمْ) بالظهور والذكر (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند تقضي آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للبعث كما قال أبو نخيلة السعدي :

فأحييت من ذكري وما كان خاملا

ولكن بعض الذكر أنبه من بعض.

قوله سبحانه :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) تدل على عذاب القبر والرجعة معا لأن الإحياء في القبر وفي الرجعة مثل هؤلاء الذين أحياهم للعبرة وقالت المعتزلة لا يجوز أن يكون أحياهم إلا في زمان نبي على سبيل المعجز ويجوز عندنا في غير زمان نبي وهذا المعنى قد تقدم من قبل

فصل

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال البلخي معنى الآية أن الأبناء إذا كانوا مؤمنين وكانت مراتب آبائهم في الجنة أعلى من مراتبهم ألحق الأبناء بالآباء والاتباع إلحاق الثاني بالأول في معنى ما هو عليه الأول لأنه لو ألحق به من غير أن يكون في معنى ما عليه لم يكن اتباعا وكان إلحاقا وإذا قيل أتبعه بصره فهو تصرف البصر بتصرفه.

قوله سبحانه :

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) دلالة على

١٠١

بطلان مذهب من قال إن الطفل يعذب بكفر أبويه لأن الله تعالى بين وجه العدل في هذا وقياس العدل في الطفل ذلك القياس فمن هناك دل على الحكمة فيه وفيها أيضا دلالة على بطلان قول من يقول إن الوارث إذا لم يقض دين الميت إنه يؤاخذ في قبره أو في الآخرة لما قلنا من أنه دل على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به الميت لم يزل عقابه بقضاء الوارث عنه إلا أن يتفضل الله بإسقاطه عنه.

قوله سبحانه :

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) يعني إن قاتلها مسئول عن قتله لها بأي ذنب قتلها كما يقال سألت حقي أي طلبت به قال الله تعالى (أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) ويمكن أن يتوجه السؤال إليها على وجه التوبيخ لقاتلها كقوله (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) على طريق التوبيخ لقومه والخطاب وإن توجه إليها فالغرض في الحقيقة غيرها ثم إن الأخبار متظاهرة والأمة متفقة على أنهم في الآخرة يكونون عقلاء.

قوله سبحانه :

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وقوله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) قال الشيخ المفيد أما ما قدمه الإنسان فهو ما عمله في حياته مما لم يكن له أثر بعد وفاته وأما الذي أخره فهو ما سنه في حياته فاقتدى به بعد وفاته وهو مبين فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ص مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْخَبَرَ. وقال الطوسي (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وتركت مما يستحق به الجزاء وقيل (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) من إحسان أو إساءة إذا قرأ كتابه وجوزي به.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) وقوله (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وقوله (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ثم قال (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) العمى الأول أنما هو عن تأمل الآيات والنظر في الدلالات والعمى الثاني هو عن الإيمان في الآخرة بما يجازى به المكلفون فيها من ثواب أو عقاب وقالوا إنها متعلقة بما قبلها من قوله (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) إلى قوله (تَفْضِيلاً). ثم قال بعد ذلك (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ

١٠٢

أَعْمى) كناية عن النعم لا عن الدنيا وهو قول ابن عباس (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) عن الإيمان بالله وما أوجبت عليه (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) عن الجنة والثواب يعني إنه لا يهتدي إلى طريقهما ولا شك أن من ضل عن ذلك يكون في القيامة منقطع الحجة مفقود المعاذير ويكون العمى الأول عن المعرفة بالله والثاني بمعنى المبالغة في الأخبار عن عظم ما يناله هؤلاء الكفار من الخوف والغم الذي أزاله الله عن المؤمنين بقوله (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والعرب تقول لمن اشتد خوفه إنه أعمى سخين العين بضد قرير العين قوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) والعمى الأول عن الإيمان والثاني هو الآفة في العين على سبيل العقوبة قوله (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).

قوله سبحانه :

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قال الجبائي عمومه يقتضي أنه لا يلحقهم خوف في أهوال القيامة وقال ابن الإخشيد لا يدل على ذلك لأن الله تعالى وصف القيامة بعظم الخوف وقال (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) إلى قوله (شَدِيدٌ) غير ذلك من الشدائد وهذا ليس بمعتمد لأنه لا يمتنع أن يكون هؤلاء خارجين من ذلك العموم وأما الحزن فلا خلاف أنه لا يلحقهم ومن أجاز الخوف فرق بينه وبين الحزن والحزن أنما يقع على ما يغلظ ويعظم من الغم والهم فلذلك لم يوصفوا بذلك وكذلك (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) لأن ما يلحقهم لا يلبث ويزول لأن الحزن مأخوذ من الحزن وهو ما غلظ من الأرض فكأنه ما غلظ من الهم فأما لحوق الخوف والحزن في دار الدنيا فلا خلاف أنه يجوز أن يلحقهم لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه.

فصل

قوله تعالى : (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وفي موضع (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) وفي موضع (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وفي موضع (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وقال (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) وفي موضع (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) قال المفسرون في الجمع بين الآيات إن يوم القيامة يوم طويل ممتد فقد يجوز أن يمنعوا النطق في بعض ويؤذن لهم في بعض كما حكى الله تعالى عنهم (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) وقال الحسن وواصل وأبو علي أي لا يكلمهم بما

١٠٣

يحبون وإنما هو دليل على الغضب عليهم وليس فيه دليل على أنه لا يكلمهم بما يسوؤهم لأنه قد دل في موضع آخر فقال (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وقال (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) وقيل أي لا يكلمهم أصلا والملائكة تسائلهم بأمر الله ويتأول قوله (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) على أن الحال دالة على ذلك والجواب الصحيح أنه تعالى نفى النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله عذرا وحجة ولم ينف النطق الذي ليست هذه حاله ويجري هذا مجرى قولهم خرس فلان عن حجته وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نقل شيئا وإن كانا قد تكلمنا بكلام كثير كما قال تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وقال الشاعر : أصم عما ساه سميع.

قوله سبحانه :

(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) قيل إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يعتذرون يحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به من حيث كانت تلك الحال لا تكليف فيها والعباد ملجئون عند مشاهدة أحوالها عند الاعتراف والإقرار ويحمل يؤذن لهم على معنى أنه لا يستمع لهم ولا يقبل عذرهم والعلة في امتناع قبول العذر ما ذكرناه التقدير لا ينطقون بنطق ينفعهم ولا يعتذرون بعذر ينفعهم فيكون يعتذرون داخلا في حيز النفي. ولا يمكن حمله على الإيجاب إلا إذا كان المعنى على أنهم لا ينطقون بنطق ينفعهم لأنه إن حمل على الظاهر كان في الكلام تناقض لأن الاعتذار نطق وإن شئت كان التقدير لا ينطقون بحال ولا يعتذرون لأن هناك مواقف يكون هذا في موقف منها وفي قراءة الحسن والثقفي لا يقضى عليهم فيموتون معطوف على يقضى أي لا يقضى عليهم فلا يموتون كذلك (لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي فلا يعتذرون.

قوله سبحانه :

(وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقال (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) الجمع بينهما أن يقال لا ينظر إليهم أي لا يعطف عليهم بخير وهو يراهم كما يقال انظر إلي نظر الله إليك وانظر إلينا نظر رحمة.

قوله سبحانه :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) الضحك والاستبشار إذا

١٠٤

أضيفا إلى الوجه فالمراد به أصحاب الوجوه.

قوله سبحانه :

(لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) وقوله (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) وقوله (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) ثم قال (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) السؤال الاستعلام فلا يسأل الله لأنه علام الغيوب وللتقريع نحو قولهم لم فعلت كذا وما الذي حملك عليه وعلى هذا قوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لأنه عالم بجميع ما فعلوا فلا يسألنا إلا على سبيل التوبيخ وللمطالبة كقوله (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي مطالبا به وللتوبيخ لغير المسئول كما قيل لعيسى ع (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) وقوله (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) ابن عباس والخدري والشعبي والحسكاني في قوله (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن ولاية علي بن أبي طالب ع أَبُو جَعْفَرٍ ع فِي قَوْلِهِ (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يَعْنِي الْأَمْنَ وَالصِّحَّةَ وَوَلَايَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع.

قوله سبحانه :

(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) وقال (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) وقال (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) وقال (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) قال ابن عباس وقتادة والحسن إنهم عمي عما يسرهم عن التكلم بما ينفعهم وصم عما يمنعهم وقيل إنهم يحشرون كذلك ثم يجعلون يبصرون ويشهدون وينطقون.

قوله سبحانه :

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) ثم قال (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) وقال (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) ثم قال (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) وقوله (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) وقوله (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ) أما قوله (لا يَنْطِقُونَ) يريد أنه لا حجة لهم ولا عذر. وأما قوله (الْيَوْمَ نَخْتِمُ) فهو إخبار عن ترك اعتذارهم عن جرمهم وإن أيديهم وأرجلهم تشهد عليهم وقيل الشاهد هو العاصي نفسه بما فعله وقيل إنما يظهر أمارة تدل على الفرق بين المطيع والعاصي وقيل إن الله تعالى يفعل الشهادة فيها وأضافها إلى الجوارح مجازا وقيل بين الله فيها بينة حتى تشهد.

١٠٥

قوله سبحانه :

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) على وجه التعجب ثم أخبر في مواضع بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون وأن على أسماعهم وأبصارهم غشاوة قال أبو مسلم معنى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ما أسمعهم وما أبصرهم وهذا على المبالغة في الوصف يقول فهم يومئذ يأتوننا أي يوم القيامة سمعاء بصراء أي عالمين وهم اليوم في دار الدنيا في ضلال مبين أي جهل واضح وقال الحسن هم يوم القيامة سمعاء بصراء لكن الظالمون اليوم في الدنيا ليسوا سمعاء ولا بصراء ولكنهم في ضلال عن الدين مبين.

قوله سبحانه :

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وقوله (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) لا تناقض بينهما لأن الغسلين اسم لذلك والضريع وصف له وضريع بمعنى مضرع أي يضرع وقد فسره بقوله (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ويقال ليس لهم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين يريد الشراب ثم يقول ولا طعام لم يشبعه ولم ينفعه

فصل

قوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ثم قال (يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) لا تناقض في ذلك لأنه أخبر أن يوما عنده كألف سنة ولم يرد أن يوما عنده خمسين ألف سنة إنما أخبر عن يوم القيامة أنه خمسون ألف سنة لقوله (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) ثم وصفه بقوله ذلك اليوم فقال (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) وقد قيل يعني إن جبرئيل والملائكة يعرجون في يوم واحد ما يكون مقدار عروجهم خمسين ألف سنة وقال ابن عباس والضحاك معناه يوم كان مقداره لو سار غير الملك ألف سنة مما يعده البشر وقيل يجوز أن يكون يوم القيامة يوما له أول وليس له آخر وفيه أوقات يسمى بعضها ألف سنة وبعضها خمسون ألف سنة.

قوله سبحانه :

(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي إن لهم رزقهم فيها مقداره بكرة

١٠٦

وعشية من عشاء الدنيا لقوله (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي مقدار شهر وقوله (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) و (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

قوله سبحانه :

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ثم قال (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وقال في الكفار (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) وفي المنافقين (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) فكيف يجمع الكافرين والمنافقين مع الأنبياء والصديقين أما قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) خطاب لمن تقدم من قوله (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُ) إلى قوله (صِلِيًّا) إنه يحضرهم حولها جثيا وإنه ينزع من الذين (أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) وإنه أعلم بمن هو (أَوْلى بِها صِلِيًّا) فلو كان يدخل جميعهم النار لما كان هذا التقديم والعلم وإنه يخص هؤلاء بإحضار حول جهنم وإنه أعلم بالمستحق لصليها معنى فكيف يجوز أن يقدم ذلك ثم يقول إني أدخل بعد ذلك المنكر والمقر والمؤمن والكافر جهنم جميعهم فلما تقرر ذلك فإنه رجع بالخطاب إلى هؤلاء المذكورين وشبيه ذلك في قصة موسى (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) إلى قوله (ما رَزَقْناكُمْ) فرجع الإخبار عن الغائب إلى مخاطبته كذلك هنا كما قال (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) الآية وقال ابن مسعود والحسن وقتادة وأبو مسلم والزجاج قد يكون الورود الإشراف قوله (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) والإنجاء إنما يكون من المخوف لا من الواقع تقول نجيت فلانا من القتل والضرب.

قوله سبحانه :

(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) وقد كتموه حيث قالوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) المعنى ودوا لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا على التمني يقال يا ليتني ألقاه وأصبر على كلامه وليت هذين اجتمعا لي ثم إن قوله (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ظاهرا عنده وإن كتموه فقد علمه.

قوله سبحانه :

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) الآية

١٠٧

(٢٣/٦) وقوله (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) قالوا معرفة الله تعالى في الآخرة ضرورة وأهلها ملجئون إلى ترك القبائح فكيف أنكروا الشرك الجواب ليس في ظاهر الآية أن قولهم (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وقع في الآخرة دون الدنيا فمعناه ما كنا عند نفوسنا مشركين في الدنيا يوضحه قوله (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعني في الدنيا أنهم محقون من غير تخصيص بوقت.

قوله سبحانه :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) قال الفراء الظاهر الاستثناء والتأبيد بمدة السماوات والأرض إلا أن المراد بإلا الزيادة فكأنه قال خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك من الزيادة لهم على هذا المقدار كقول القائل إن عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف لأن الكثير لا يستثني من القليل ومثله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وقوله (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) وقال الجبائي (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من كونهم قبل دخول الجنة والنار في الدنيا وفي البرزخ الذي هو بين الحياة والعرض لأنه لو قال خالدين فيها أبدا ولم يستثن لتوهم متوهم أنهم يكونون في الجنة والنار وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ما معناها من كأنه قال إلا من شاء ربك فلا يدخله النار فيكون استثناء من الخلود فكأنه قال إلا ما شاء ربك بأن لا يخلدهم في النار بل يخرجهم عنها وقال الزجاج إن الاستثناء وقع على أن لهم زفيرا وشهيقا إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تذكر وقال ابن قبة (لَهُمْ فِيها) يعني في النار في حال كونهم في القبور دائمين فيها ما دامت السماوات والأرض فإنها إذا أعدمت انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب وقالوا إلا بمعنى الواو والتأويل خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض وما شاء ربك من الزيادة شاعر:

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان.

ولا يتعلق إلا بالخلود لأن الاستثناء الأول متصل بقوله (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) وتقدير الكلام لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب والاستثناء غير مؤثر في النقصان من الخلود والغرض فيه أنه لو شاء أن يخرجهم وأن لا يخلدهم لفعل وأن التخليد أنما يكون بمشيته كما يقول القائل والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وهو لا ينوي إلا ضربه وتعليق

١٠٨

ذلك بالمشية على سبيل التأكيد لا للخروج لأن الله تعالى لا يريد إلا تخليدهم على ما دل عليه كما يقول والله لأهجرنك إلا أن يشيب الغراب ويبيض القاز أي أهجرك أبدا من حيث علق بشرط معلوم أنه لا يحصل والمراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل الإيمان الذين مضوا بطاعاتهم ومعاصيهم فقال إنهم معاقبون في النار (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من إخراجهم إلى الجنة وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم ويجوز أن يريد بأهل الشقاء هاهنا جميع الداخلين إلى جهنم ثم استثنى بقوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أهل الطاعات منهم فقال (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من إخراج بعضهم وهكذا في (الَّذِينَ سُعِدُوا).

فصل

قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قال الزجاج الساعة اسم الوقت الذي يصعق فيه العباد واسم الوقت الذي يبعث فيه.

قوله سبحانه :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) لا يوصف المعدوم بأنه فان ولا يقال فيما يصح عليه البقاء بأنه فان ولا فيما لا يصح عليه الفناء بأنه فان لأن الفناء عدم للشيء بعد وجوده.

قوله سبحانه :

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يقرر الله عباده فيقر المؤمنون والكافرون بأنه (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقيل إنه تعالى القائل لذلك وهو المجيب لنفسه ويكون في ذلك مصلحة للعباد في دار التكليف وقيل إن جبريل يقول (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيقول ملك الموت (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ثم يموتان.

قوله سبحانه :

(وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي نكافي ومن كوفي بفعله فقد هلك وإذا قال هل يجزى فهي مثل يثاب وقد يقرب معناهما.

قوله سبحانه :

(وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي المجازاة لأن ما هو آت قريب

١٠٩

قوله (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) والحساب بمعنى الكفاية والمكافأة قوله (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) شاعر : وفي الناس حر إن تأملت محسب معناه كاف وقيل يعني في العدل من غير حاجة إلى حط ولا عقد لأنه عالم به وإنما يحاسب العبد بظاهره في العدل والإحالة على ما يوجبه الفعل من خير أو شر وقيل أي لا يشغله محاسبة بعض عن محاسبة آخرين وقيل أي يحاسب الخلق جميعا في أوقات يسيرة ويقال إن مقدار ذلك حلب شاة وهذا دليل على أنه لا يتكلم بآلة وأنه ليس بجسم وَسُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع كَيْفَ يُحَاسِبُ اللهُ الْخَلْقَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. ويقال المراد بالآية أنه سريع العلم بكل محسوب وأنه لما كانت عادة بني الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء في أكثر أمورهم أعلمهم الله تعالى أنه يعلم ما يحسبون بغير حساب وإنما سمي هذا العلم حسابا لأن الحساب إنما يراد به العلم وقال المرتضى المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة ومواقفهم عليها ويكون الفائدة بسرعته الإخبار عن قرب الساعة.

قوله سبحانه :

(فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) المحاسبة المفاعلة وهو تقرير من الله تعالى للعبد بذنوبه وإقرار العبد بها ويجاب عن ذلك أن للعبد حقوقا عند ربه من ثواب وعوض كما له عليه حقوق فيصح ذلك ويجيء فاعل بمعنى فعل يقال طارقت النعل وليس محاسبة القديم تعالى مع العباد كمحاسبة بعضهم بعضا بل بأن يخلق في بعض أعضاء الواحد منا ما يتضمن ما له وما عليه ويكون محاسبته مع الكل كمحاسبته مع الواحد كما قال (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

قوله سبحانه :

(وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) قال الجبائي معناه أخذه به على وجه التقريع وقال النخعي هو مؤاخذة العبد بذنبه لا يغفر له شيء منه والحساب أحصى ما على العبد.

قوله سبحانه :

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) الوجه في جعل كتاب الفجار في سجين أن تخليده فيه يقوم مقام إدامة التقريع وأن عقابهم لا يفنى ولا يبيد كما لا يفنى كتاب سيئاتهم ولا يبيد.

قوله سبحانه :

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) لأن

١١٠

تفصيلها لا يمكن العلم بها إلا بالمشاهدة دون علم الجملة ثم قال (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مكتوب فيه جميع طاعاتهم بما تقر به أعينهم ويوجب سرورهم بضد الكتاب الذي للفجار لأن فيه ما يسوءهم.

قوله سبحانه :

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) جعل ثبوت ما فيه وظهوره بمنزلة النطق وأنه ينطق بالحق دون الباطل.

قوله سبحانه :

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) إعطاء الكتاب باليمين يكون أمارة على أنه من أهل الجنة وبالشمال على أنه من أهل النار وكذلك وراء ظهره لما روي أنه يخرج شماله من وراء ظهره ويعطى كتابه فيها.

قوله سبحانه :

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) إنما خص إلزام الطائر بالعنق لأنه محل لما يزين من طوق أو يشين من غل ولأن في عرف الناس أن يقولوا هذا في رقبتك كما يضاف العمل إلى اليد أيضا قوله (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وإن كان كسبه بفرجه أو لسانه وإنما يذم بذلك على وجه التقريع بما فعله من المعاصي ويكون العلم بذلك لطفا في دار الدنيا وإن كان عالما بتفصيل ما فعلوه.

قوله سبحانه :

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) وقوله (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وما أشبه ذلك من الآيات دالة على المساءلة وهي عامة إلا أنها تسهل على المؤمنين وتصعب على الكافرين.

قوله سبحانه :

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) الميزان هو المعروف وإذا استعمل

١١١

في غيره كان مجازا وكلام الله لا ينقل عن الحقيقة إلى المجاز من دون دلالة ومانع وقال مجاهد وأبو مسلم إنها عبارة عن العدل والتسوية الصحيحة كما يقال كلام فلان موزون وأفعاله موزونة قوله (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) وقيل هو برهان على إقامة العدل قوله (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) وقوله (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) وقيل هو ذو الكفتين يوزن بها الصحف المكتوب وقيل يجعل النور في كفة علامة الرجحان والظلمة في الأخرى علامة النقصان وقيل معناه من كان له يوم القيامة وزن قوله (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

قوله سبحانه :

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) يجوز أن يخرج الألسنة ويختم على الأفواه ويجوز أن يكون الختم على الأفواه إنما هو في حال شهادة الأيدي والأرجل ويجوز أن يبينها بينة مخصوصة ويشهد فيها شهادة يشهد عليهم بها.

قوله سبحانه :

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وقيل إن الله تعالى يبينها بينة يمكنها النطق والكلام من جهتها وقيل إن يفعل الله تعالى في هذه البينة كلاما يتضمن الشهادة وكأنها هي الناطقة وقيل يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق بالشهادة وذلك إذا جحدوا معاصيهم وقيل يفعل الشهادة فيها وأضافها إلى الجوارح مجازا وقيل هي عبارة عن وضوح الأمر في لزوم الحجة لهم والعلم بما فعلوه كما يقال شهدت عينك بكذا وأقرت.

قوله سبحانه :

(هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي يستقيم على حتى يورد أو قلت الطريق الدالة على استقامته.

قوله سبحانه :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قالوا هو الصراط والصراط طريق أهل الجنة وأهل النار يتسع لأهل الجنة ويتسهل ويضيق على أهل النار ويشق قال الشاعر :

١١٢

أمير المؤمنين على صراط

إذا أعوج الموارد مستقيم.

وقيل هو الحجج والأدلة المفرقة بين أهل الجنة وأهل النار وقيل إنما هو العبادات الموصلة إلى ثواب الله تعالى وفي الخبر أنه محبة علي بن أبي طالب ع

فصل

قوله تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال مجاهد لم يبق مزيد لامتلائها لقوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) فقيل له هذا القول كان منها قبل دخول أهل النار فيها وقيل إن قولها فيها كالمثل أي بقي في سعة كثيرة قال الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني.

وقيل إنه يخلق لها آلة الكلام كما خلق لجوارح الإنسان كقوله (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وقيل إنه خطاب لخزنة جهنم على وجه التقريع لهم هل امتلأت فيقولون بلى لم يبق موضع المزيد ليعلم القول صدق قوله ومعناه ما من مزيد.

قوله سبحانه :

(يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي يخافون عذاب يوم تتقلب فيه القلوب من عظم أهواله والأبصار من شدة ما تعاينه وقيل تقلب القلوب ببلوغها الحناجر وتقلب الأبصار بالعمى بعد النظر وقال البلخي أي القلوب تتقلب عن الشك الذي كانت عليه إلى اليقين والأبصار تتقلب عما كانت عليه لأنها تشاهد من أهوال ذلك اليوم ما لم تعرفه كما قال (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

قوله سبحانه :

(فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) وقوله (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) لا خلاف بينهما لأن قوله (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي عقلك ومعرفتك بما عاينت نافذ ماض يقال له بصر بكذا وكذا وهو بصير بالجوارح.

قوله سبحانه :

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٥٩ /٤) سَأَلَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ الصَّادِقَ ع فَقَالَ مَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَبْ هَذِهِ الْجُلُودُ عَصَتْ فَعُذِّبَتْ فَمَا بَالُ الْغَيْرِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ع

١١٣

وَيْحَكَ هِيَ هِيَ وَهِيَ غَيْرُهَا فَقَالَ أَعْقِلْنِي هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ ع أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً كَسَرَ لَبِنَةً ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهَا مَاءً وَجَبَلَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى هَيْئَتِهَا الْأُولَى لَمْ يَكُنْ هِيَ هِيَ وَهِيَ غَيْرُهَا فَقَالَ بَلَى أَمْتَعَ اللهُ بِكَ. وقال الجبائي والبلخي والزجاج إن الله تعالى يبدلها أي يعيدها إلى الحالة الأولى التي كانت عليها غير محترقة وقال المغربي لا نقول إن الله تعالى يعدم الجلود بل إنه يجددها ويطريها بما يفعل فيها من المعاني التي تعود إلى حالتها يقال أبدلت الشيء بالشيء إذا أبدلت عينا بعين قال الله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) لأن الشيء إذا جعل على حالته يقال جعلت شيئا كالأول ويحتمل أن يخلق الله لهم جلدا آخر فوق جلودهم فإذا احترق التحتاني أعاده الله وهكذا يتعقب الواحد الآخر ويحتمل أن يخلق الله لهم جلدا يعذبهم فيه كما يعذبهم في سرابيل القطران قال الرماني إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت ويعدم المحترقة على ظاهر القرآن من أنها غيرها لأنها ليست بعض الإنسان.

قوله سبحانه :

(لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) وقوله (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) من عذابها لا يناقضهما قوله (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) لأنه ليس فيه أنها تخبو عنها بزيادة السعير كقوله (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) يعني متى راموا الخروج منعوا من ذلك والمعنى الجامع بينها أنه لا يخفف عنهم من عذابها الذي وضع عليهم شيء.

قوله سبحانه :

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا يناقضه قوله (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) لأن الأحقاب جمع والجمع لا غاية له وليس فيه أن لا يلبثوا أكثر من ذلك.

قوله سبحانه :

(عَذابٌ غَلِيظٌ) والغليظ العظيم الجثة الكثيف وإنما وصفه بذلك لأنه بمنزلته في الثقل على النفس وطول المكث.

قوله سبحانه :

(عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) وصف اليوم بالإحاطة وهو من نعت العذاب لأن اليوم محيط بعذابه بدلا من إحاطته بنفسه.

١١٤

قوله سبحانه :

(لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والمس هاهنا ما يكون معه إحساس وهو حلوله فيه لأن العذاب لا يمس الحيوان إلا أحس به ويكون المس بمعنى اللمس لأن في المس طلبا لإحساس الشيء فلهذا اختير هاهنا المس واللمس ملاصقة معها إحساس.

قوله سبحانه :

(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وصفه بأنه عقيم أي لا مثل له في عظم الأهوال الملك فيه لله تعالى لا ملك لأحد معه وإنما خص ذلك به لأن في الدنيا قد ملك الله أقواما أشياء كثيرة والملك اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور فالله تعالى يملك الأمور لنفسه وكل مالك سواه فإنما هو مملك بحكمه إما بدليل السمع أو بدليل العقل.

قوله سبحانه :

(ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) الذوق تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم فهو أشد لإحساسه عند تفقده وطلب إدراك طعمه وهو هاهنا مجاز وكذلك قوله (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ).

قوله سبحانه :

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فيها دلالة على من زعم أن من علم الله أنه لا يعصي فلا يجوز أن يتوعده بالعذاب وعلى زعم من زعم أنه لا يجوز أن يقال فيما قد علم أنه لا يكون أنه إن كان وجب فيه كيت وكيت لأنه كان المعلوم لله تعالى أن النبي ص لا يعصي معصية يستحق بها العقاب يوم القيامة ومع هذا فقد توعد به.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) المعنى يضاعف له العذاب في كثرة الأجزاء لا أنه يضاعف استحقاقه لأن الله تعالى لا يعاقب بأكثر من المستحق لأن ذلك ظلم.

١١٥

قوله سبحانه :

(يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي يضاعف بحسب تضاعيف الأجرام وقيل أي كلما ضعف جاء ضعف وكله على قدر الاستحقاق.

قوله سبحانه :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) إنما جاز تضعيف عقابهن بالمعصية لعظم قدرهن وإن معصيتهن تقع على وجه يستحق بها ضعف ما يستحق غيرهن من حيث كن قدوة في الأعمال ويحتمل أن ذلك لهتك حرمة النبي ص.

قوله سبحانه :

(وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) قال مجاهد بئس ما مهدوا لأنفسهم وقال الحسن بئس القرار وقيل بئس الفراش الممهد وقال البلخي والجبائي هذا مجاز كما قيل للمرض شر وإن كان خيرا من جهة لأنه حكمة وصواب فقيل لجهنم بئس المهاد لعظم الآلام.

قوله سبحانه :

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فائدة ذلك أنها أعدت للكافرين قطعا وللفاسقين جوازا لأنا نجوز العفو عنهم وقالت المعتزلة لأن الكفار أحق بها والفساق تبع لهم في دخولها كما قال (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ولا خلاف أنه يدخلها الأطفال والمجانين إلا أنهم تبع للمتقين وقال أبو علي هذه النار نار مخصوصة فيها الكفار خاصة دون الفساق كما قال (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

قوله سبحانه :

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) والنار تحرق الشجر فكيف ينبتها الجواب أن الله تعالى قادر على أن يمنع من النار إحراقها مثل إبراهيم ع.

قوله سبحانه :

(فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) وقوله (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ

١١٦

كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) وقوله (تَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) أي لا يموت فيها موتا يقضى عليه ولا يحيا حياة تنفعه (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي مثل الموت وكأنهم سكارى لما هم فيه وليسوا بسكارى كسكر الدنيا قال أبو النجم بلهاء لم تحفظ ولم تضيع وقال ليس بمحفوظ ولا بضائع وقال الآخر فالقوم لا مرضى ولا صحاحا.

قوله سبحانه :

(سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) وقوله (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) المعنى سمعوا صوت التغيظ وفعل التغيظ من التهابها وتوقدها فسمي بذلك تغيظا على سعة الكلام لأن المغتاظ هو المتفطر بما يجد من الألم الباعث على الإيقاع لضره فحال جهنم كحال المغتاظ.

قوله سبحانه :

(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) كأنه قال فما صبرهم قال ابن عباس ما الذي أجرأهم عليها بصبره استفهاما ويصبر ما أصبرهم كأنه قال فما صبرهم مثل أكرمته وكرمته وأحسنته وحسنته فكأنه قال فما أصبرهم على النار أي قد عملوا العمل الذي أقدموا به على النار فيصيروا في لفظ التعجب من الآدميين على اللغة وعلى ما يعقلون.

قوله سبحانه :

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي إن يصبروا على آلهتهم لأنهم قالوا (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ويقال فإن يصبروا أو يجزعوا (فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ويكون (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) كقوله وإن يجزعوا في المعنى لأن المستعتب جزع مما استعتب منه وقال في آية أخرى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) ويقال سبب نزولها قول كفار قريش لما دعاهم النبي ص إلى ترك عبادة الأصنام فقال بعضهم لبعض (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) واصبروا على آلهتكم.

قوله سبحانه :

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ثم قال (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) الوجه في ذلك أن درك الأسفل هو أشد العذاب أو قلت آل فرعون في أشد العذاب وأشد من أهل الدرك الأسفل بفضل العذاب يوصله إليهم

١١٧

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) الظلل من تحتهم ظلل لمن تحتهم فهذه هي بساط لهم وهي لمن تحتهم ظلل وهلم جرا حتى ينتهوا إلى القعر.

قوله سبحانه :

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) والمعنى وما وقوع الساعة إلا كلمح البصر في سرعته في حال وقوعه ويكون (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أراد يطويه عنا كقولك أكلت رطبة أو تمرة وأنت تعلم ما أكلت ولكن طويت ذلك عن السامع.

قوله سبحانه :

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) وقوله (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) إذا أخرج يده رائيا لها وناظرا إليها لم يكد أي لم يقرب كقولك ما فعلت وما كدت أي لم اقترب ويجوز (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي لم يرها ويكون يكد على ما يذكر في (أَكادُ أُخْفِيها) وما أكاد أخفيها أي أريد أخفيها قال حسان :

وتكاد تكسل أن تجيء فراشها

في جسم خرعبة وحسن قوام

وقال أبو النجم :

وإن أتاك نعي فاندبن أبا

قد كاد يصطلح الأعداء والخطباء

ويقال (أَكادُ أُخْفِيها) أي آتي بها قال صابي :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

ويقال (أَكادُ أُخْفِيها) أظهرها يقال خفا البرق ظهر قال إمرؤ القيس :

فإن تدفنوا الداء لا تخفه

وإن تبعثوا الحرب لا يقعد

فصل

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر فإن الرجل إذا شفع لصاحبه فقد شفعه أي صار ثانية ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه وقالت المعتزلة ومن تابعهم الشفاعة مقتضاها زيادة المنافع والدرجات كما قال الحطية :

وذاك إمرؤ إن تأته في صنيعة

إلى ماله لم تأته بشفيع

وقالت الإمامية مقتضاها إسقاط المضار كما قال المبرد :

تعلم أن مالك إن تصب نفدك

وإن تحبس نذرك ونشفع

١١٨

وتجيء الشفاعة بمعنى المعاونة وقال الشاعر:

أتاك امرؤ مستعلن لك بغضه

له من عدو مثل ذلك شافع.

وقد تعلقت المعتزلة بقوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وبقوله (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) وبقوله (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) وبقوله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وبقوله (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) ولا دلالة في شيء من هذه الآيات على اختصاص الشفاعة بزيادة المنافع أما الآية الأولى فلأن المرتضى فيها محذوف فليسوا بأن يقدروا لمن ارتضى جميع أفعاله بأولى منا إذا قدرنا لمن ارتضى أن يشفع له وأما الثانية فمختصة بنفي شفيع يطاع وهذا متفق عليه وإنما يكون لهم دلالة لو نفى شفيعا يجاب لأنه قبول الشفاعة وقبولها ليس بطاعة وإنما هو إجابة وأما الثالثة فصريحة في الكفار لأنهم قالوا (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وأما الرابعة ففاسد لأن النصرة غير الشهادة وإنما هي المدافعة والمغالبة ويقرن بالشفاعة خشوع وخضوع وأما الخامسة والسادسة فغير نافعة لهم لأن الشفاعة في المؤمنين لا تكون على سبيل التقدم بين يدي الله تعالى وأما السابعة فمتروكة الظاهر بالإجماع لأننا قد اتفقنا أن للنبي ص شفاعة مقبولة نافعة وقد تلقت الأمة بالقبول قَوْلُهُ ع ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي. وَرَوَى أَصْحَابُنَا عَنِ النَّبِيِّ ص أَنِّي أَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأُشَفَّعُ وَيَشْفَعُ عَلِيٌّ فَيُشَفَّعُ وَيَشْفَعُ أَهْلُ بَيْتِي فَيُشَفَّعُونَ وَإِنَّ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ شَفَاعَةً لَيَشْفَعُ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنْ إِخْوَانِهِ كُلٌ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ.

قوله سبحانه :

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) قيل إن الغرض بذلك الإنكار على عبدة الأوثان وقولهم إنها تشفع لهم لأن الملك إذا لم تغن شفاعته شيئا فشفاعة من دونه أبعد من ذلك ولا ينافي ذلك ما قلناه من شفاعة النبي والأئمة والمؤمنين لأن هؤلاء يشفعون بإذن الله ورضاه ومع ذلك يجوز أن لا يشفعوا فيه فالزجر واقع موقعه.

قوله سبحانه :

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) لا تدل على أنه لا شفاعة لمرتكبي الكبائر لأن أحدا لا يقول إن لهم معينا على عدوهم بل إنما يقول له من يسأل في بابهم على وجه

١١٩

التضرع ولا يسمى ذلك نصرة على حال

فصل

قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ولم يذكر طولها قال أبو مسلم الأصفهاني أي ثمنها لو بيعت كثمنها لو بيعتا كما يقال عرضت المتاع للبيع والمراد عظم قدرها وقيل إن العرب تصف الشيء بالعرض يقال بلاد عريضة وأرض عريضة قال إمرؤ القيس مواقع غيث في فضاء عريضة وقوله تعالى : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) قال السدي أي يدعو الله كثيرا عند ذلك إنما قال عريض ولم يقل طويل لأنه أبلغ ألا ترى أن عرض الإنسان والدواب والأشجار والأنهار لا على حسب طولها ولأن العرض يدل على الطول ولا يدل الطول على العرض إذ قد يصح طويل ولا عرض له ولا يصح عريض ولا طول له لأن العرض الانبساط في خلاف جهة الطول والطول الامتداد في أي جهة كان وقيل عرضها كعرض السماوات والأرضين وطولها لا يعلمه إلا الله وقيل معناه أن لكل واحد من أهل الجنة نصيبه منها عرضها كعرض السماوات والأرض لقوله (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا) فإذا كانت لكل واحد مغفرة فينبغي أن يكون له جنة مفردة ولا يلزم على هذا أن الجنة إذا كانت في السماء كيف يكون لها هذا العرض لأنه يزاد فيها يوم القيامة وَسُئِلَ النَّبِيُّ ص إِذَا كَانَتْ الْجَنَّةِ عَرْضُهَا بِعَرَضٍ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَأَيْنَ يَكُونُ النَّارِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللهِ إِذَا جَاءَ النَّهَارِ فَأَيْنَ يَكُونُ اللَّيْلِ.

قوله سبحانه :

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) قال الحسن تدل هذه الآية على أن الجنة في السماء والنار في الأرض فلذلك صح منهم الاطلاع وقال الطوسي يجوز أن يكون الجنة مخلوقة في غير السماوات والأرض وفي الناس من قال إن الجنة والنار ما خلقتا بعد وإنما يخلقهما الله تعالى على ما وصفه بقوله (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ).

قوله سبحانه :

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) قالوا إن النار التي وعد الله مخلوقة لأن ما لا يكون مخلوقا لا يعد

١٢٠