متشابه القرآن ومختلفه - ج ٢

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني

متشابه القرآن ومختلفه - ج ٢

المؤلف:

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات بيدار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

بن جعفر بعد ما أنعم عليه وقال أوصيك أن تلقى الله في دمي وإنه خرج بمكة وشهر سيفه في الشهر الحرام في البلد الحرام فلم يتم أمره ثم قام عنه المبارك غلام إسماعيل في مسجد الكوفة حتى قتله عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس وقد كان الصادق ع أخبر بهذه الفتنة ونص على ابنه موسى على ما هو مشهور في الكتب.

قوله سبحانه حكاية عن موسى (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) لا يريد بذلك معرفة الله تعالى لأنه لا يكون نبي إلا ويكون عالما بالأصول والفروع كما تقدم شرحه ثم إنه إنما سأله عما لا يتعلق بالدين كما حكى الله عنه أما السفينة وأما الجدار وأما الغلام.

قوله سبحانه :

(لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أما الغلاة فإنهم قوم يدعون في النبي أو في الوصي وباقي الأئمة ع على حسب اختلافهم القدم والإلهية وهذا يؤدي إلى قدم الأجسام كلها فإن أرادوا أن بين القديم وهذه الأشخاص اختصاص فلا يخلو إما أن يكون حلولا واتحادا مثل حلول الأعراض في الأجسام أو مجاورة ومماسة وهذا يقتضي كونه جوهرا متحيزا أو جزءا مؤلفا واختصاص الجوهر البسيط بالجملة مستحيل لأن الجوهر البسيط يستحيل أن يفعل في غير تلك الجملة مبتدأ والقديم سبحانه يصح أن يبتدأ في سائر الجمل

(باب المفردات)

فصل

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال أبو علي التوبة غير الاعتقاد وهي نوع بانفراده وقال أبو هاشم إنه من قبيل الاعتقاد وهو الصحيح والتوبة لا تخلو إما أن تكون عن شيء بينه وبين الله تعالى أو تكون عن شيء بينه وبين الآدميين فالأول لا يخلو إما أن يظهر ذلك الناس أو لا يظهر فإذا ظهر ذلك للناس تجب التوبة ظاهرا مثل الباغي يكذب نفسه عند قومه في بغيه على الحق ثم يرجع إلى الإمام طائعا وينوي في المستقبل طاعته وإن كانت مظلمة وجب ردها إن كانت باقية أو رد مثلها إن كانت تألفه أو قيمتها إن كانت من ذوات القيم إن

٨١

كان صاحبها حيا وإن كان ميتا رد إلى ورثته وله حكم والصحيح أن القاتل من غير عمد تصح توبته وقال قوم لا تصح والتوبة من القتل العمد توجب القود وقال قوم لا تصح إلا بالاستسلام وهو الأقوى وهو أن يسلم نفسه إلى أولياء المقتول ثم يعزم في المستقبل أن لا يعود إلى مثله ويعتق رقبة ويصوم شهرين متتابعين ويطعم ستين مسكينا وإن كان ذلك كلاما موحشا لا يخلو إما أن يكون قد بلغه أو لم يكن قد بلغه فإن كان بلغه يوجب الاستحلال منه وإن لم يبلغه لا يجوز الاستحلال منه لأنه يكون مبتدأ وحشة فإن كان اعتقادا بينه وبين الله تعالى فبضد ما اعتقده وقال قوم التوبة من اعتقاد جهالة إذا كان صاحبها لا يعلم أنها معصية بأن يعتقد أنه لا محجوج إلا عارف فإنه يتخلص من ضرر تلك المعصية إذا رجع عنها إلى المعرفة وإن لم يوقع منها توبة وقال آخرون يحتاج إلى التوبة لأنه محجوج وهو الأقوى وأما ما نسي من الذنوب فإنه يجري التوبة منه على الوجه الجملة وقال بعضهم لا تجري وهو خطأ وأما ما نسي من الذنوب مما لو ذكره فاعله لم يكن عنده معصية هل يدخل في الجملة إذا وقعت التوبة من كل خطيئة فقال قوم لا يدخل فيها لكنه يتخلص من المعصية وقال آخرون يدخل فيها وهو الصحيح وأما المشرك إذا تاب وكان يعرف قبل توبته بفسق قبل توبته في الحكم وإن لم يظهر التوبة قال قوم لا يزول عنه حكم الفسق وقال آخرون يزول وأما التوبة من قبيح بفعل قبيح آخر فلا يصح على أصلنا كالتائب من الإلحاد بعبادة المسيح وقال قوم يصح وأجراه مجرى معصيتين وأما التوبة من الغصب هل تصح مع الإقامة على حال الغصب فقال قوم لا تصح وقال آخرون يصح وهو الأقوى إلا أنه يكون فاسقا بالمنع يعاقب عقاب المانع وإن سقط عنه عقاب الغصب وقال بعضهم لا تصح التوبة عن ذنب مع إقامة على معصية أخرى وقال المحققون إنه إذا تاب عن الزناء أو الخيانة وعزم أن لا يعود إلى مثلهما صحت فيهما وزعمت البكرية أن المطبوع على قلبه لا توبة له وهو خطأ وأما التوبة عند أشراط الساعة هل تصح أم لا فقد اختلفوا فيه ولا شك أن بعض الآيات يحجب.

قوله سبحانه :

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وقوله (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ) وقوله (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) دلائل على أن الإيمان لا ينفع عند نزول العذاب ولا عند الإلجاء.

٨٢

قوله سبحانه :

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) يدل على أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت.

قوله سبحانه :

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) الوجه في ذلك أنه ظهرت لهم دلائله ولم يروا العذاب كما أن العليل المدنف قد يستدرك التوبة فيقبل الله توبته قبل أن يتحقق الموت فإذا تحقق لم يقبل بعد ذلك توبته وقد قال الله تعالى (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) ولا يدل ذلك على أنهم كانوا دخلوا النار فأنقذهم منها.

قوله سبحانه :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وقال (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الآية الأولة نزلت في قوم من أهل مكة فقالوا نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون فإن بدا لنا الرجعة إلى قومنا ذهبنا كما ذهب الحارث فقبل منا التوبة كما قبل منه فنزل (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ما أقاموا على الكفر كأنه يقول لن تقبل هذه النية منهم في الإسلام إذا أخروه فكأنه سماها توبة غير مقبولة إذ لم تصح وهو يقبل التوبة إذا صحت والآية دالة على أن المولود على الفطرة إذا ارتد ثم تاب لا يقبل.

قوله سبحانه :

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في الآية حجة على من قال لا تصح التوبة مع الإقامة على معصية أخرى لعلم صاحبها أنها معصية لأن الله تعالى علق بالتوبة حكما لا يحل معه الإقامة على معصية هي السكر أو شرب نبيذ التمر على التأويل بإجماع المسلمين.

قوله سبحانه :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

٨٣

يدل على أن العزم على الفسق فسق لأنه إذا لزم الوعيد على محبة شياع الفاحشة من غيره فإذا أحبها من نفسه وأرادها كان أعظم وفي الآية وعيد لمن يحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) الآية معناه من قتل مؤمنا متعمدا على دينه والآية نزلت في مقيس الكناني قتل رجلا مسلما من بني فهر وارتد فأهدر النبي ص دمه فقتلوه يوم الفتح وقال عمرو بن عبيد يؤتى في يوم القيامة فأقام بين يدي الله فيقول قلت إن القاتل يخلد في النار فأقول أنت قلت (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية فقال قريش بن أنس أرأيت إن قال لك فإني قلت (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) من أين علمت أنني لا أشاء أن أغفر لهذا فتحير وكان الحسن يقول لا توبة لقاتل المؤمن عمدا فقال عمرو هو لا يخلو من أن يكون مؤمنا أو كافرا أو منافقا أو فاسقا فقال الله تعالى في المؤمن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) وقال في الكافر (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) وقال في المنافق (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) إلى قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) وقال في الفاسق (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فاستحسن مقاله ورجع عن قوله.

قوله سبحانه :

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) إلى آخرها فيها دلالة على أنه تقبل توبة القاتل عمدا لأنه يقبل التوبة من الأعظم ولا يقبل من الأقل.

قوله سبحانه :

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ثم قال (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ثم قال (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أما قوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فقد علمنا أنه إنما نفاه مع عدم التوبة لأن مع حصولها يغفر الشرك أيضا وأما قوله (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أثبت أنه يغفر ما دون الشرك فينبغي أن يكون ذلك مع عدم التوبة ليتخالف ما نفاه مما أثبته ويحسن في ترتيب الكلام وأما قوله (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) قطع

٨٤

على غفران جميع الذنوب إلا ما دل الدليل على تخصيصه من الكفر.

قوله سبحانه :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) تدل على بطلان قول من قال إن أصحاب الكبائر لا يجوز أن يعفو الله عنهم إلا بالتوبة لأنه تعالى لم يشرط في ذلك التوبة ومن شرط في الآية التوبة أو خصصها بالصغائر كان تاركا للظاهر وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ كُنَّا فِي مَجْلِسِ الرِّضَا ع فَتَذَاكَرُوا الْكَبَائِرَ وَقَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّهَا لَا تُغْفَرُ فَقَالَ الرِّضَا ع قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ).

قوله سبحانه :

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من غفران معاصي أهل الضلال فقلنا إنها تستغرق جميع من فعل السوء بل قال ابن عباس المراد به الشرك ثم الآية مخصوصة لأن التائب ومن كانت معصيته صغيرة يتناوله العموم فإذا جاز لهم تخصيص الفريقين جاز لنا أن يخص من يتفضل الله عليه بالعفو.

قوله سبحانه :

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) يدل على جواز العفو عن العصاة لأنه تعالى بين أن قوما من هؤلاء العصاة أمرهم مرجى إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء قبل توبتهم فعفا عنهم فلو كان سقوط العقاب عند التوبة واجبا لما جاز تعليق ذلك بالمشية على وجه التخيير لأنهم إن تابوا وجب قبول توبتهم عند الخصم وإسقاط العقاب عنهم وإن أصروا ولم يتوبوا فلا يعفو عنهم فلا معنى للتخيير على قولهم وإنما يصح ذلك على ما نقوله من أن مع حصول التوبة يحسن المؤاخذة فإن عفا فبفضله وإن عاقب فبعدله.

قوله سبحانه :

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لا يدل على أن ما يجب غفرانه من الكبائر عند التوبة يجب تعليقه بالمشية لأن عندنا لا يجب إسقاط العقاب بالتوبة عقلا وإنما علمنا ذلك بالسمع وإن الله تعالى يتفضل بذلك.

٨٥

قوله سبحانه :

(ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) هذه الآية تبطل قول من قال إن إقامة الحدود تكفير المعاصي لأنه تعالى مع إقامة الحدود عليهم بين أن لهم في الآخرة عذابا عظيما أي يستحقون ذلك ولا يدل على أنه يفعل بهم لا محالة لأنه يجوز أن يعفو الله عنهم بإسقاط عقابه.

قوله سبحانه :

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي لطف لهم في التوبة كما يقال في الدعاء تاب الله عليه وقيل قبل توبتهم ليتمكنوا بها في المستقبل وقيل قبل توبتهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم وقال الحسن جعل لهم التوبة ليتوبوا بها والمخرج ليخرجوا به

فصل

قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) تعلقت الوعيدية في الاستدلال على التحابط بآيات منها هذه الآية وهي لا تدل على التحابط بل هي أقرب إلى بطلانها لأن الإحباط المذكور في جميعها يتعلق بالأعمال دون الجزاء عليها ومذهبهم أن التحابط بين الجزاء والأعمال ثم إن إبطال العمل وإحباطه عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه المنتفع به لأن أحدنا إذا استأجر أجيرا على نقل شيء من موضع إلى موضع إنما يستحق الأجرة إذا نقله إلى موضع أمره فلو نقله إلى غيره لقيل أحبطت عملك ومعلوم أن هاهنا ما كان يستحق فاعله شيئا فأبطله ومنها قوله سبحانه : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) لما كانت الصدقة إنما يستحق بها الثواب إذا خلصت لوجه الله تعالى وإذا فعلت للمن والأذى لما كانت الصدقة خرجت عن الوجه الذي يستحق معه الثواب فقيل بطلت ومنها قوله سبحانه : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إلى قوله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) لو وقع رفع الصوت على صوت النبي ص على سبيل الإجابة له لم يستحق العقاب وإذا وقع على خلاف ذلك انحبط الفعل ومنها قوله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يعني أن من استكثر من الحسنات وأدمن عليها كان ذلك لطفا له في الامتناع من السيئات ومما يمكن أن يستدل به على بطلان الإحباط قوله

٨٦

سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) لأن عموم الآية يدل أنه لا يفعل شيئا من طاعته أو معصيته إلا ويجازى عليه ولا يدل على أنه لا يجوز أن يعفى عن مرتكب كبيرة لأن الآية مخصوصة بلا خلاف لأنه إن تاب عفي عنه وقد شرطوا أن لا يكون معصية صغيرة فإذا شرطوا الأمرين جاز لنا أن نخص من يعفو الله عنه.

قوله سبحانه :

(إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) معناه أنما يستحق الثواب على الطاعات من يوقعها لكونها طاعة فأما إذا فعلها لغير ذلك فلا يستحق عليها ثوابا فإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن يقع من الفاسق طاعة يوقعها على الوجه الذي يستحق عليها الثواب ويستحق الثواب لأن الإحباط عندنا باطل

فصل

قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إنما ذم الله الكافر بالظلم وإن كان الكفر أعظم منه لأن الكافر قد ضر نفسه بالخلود في النار وقد ظلم نفسه والثاني أنه إنما نفي البيع في ذلك اليوم والخلة والشفاعة قال وليس ذلك بظلم منا بل الكافرون هم الظالمون لأنهم عملوا ما استحقوا به حرمان الثواب.

قوله سبحانه :

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) لما أظهر واصل بن عطا المنزلة بين المنزلتين ناظره عمرو بن عبيد فقال يا واصل لم قلت إن من أتى كبيرة من أهل الصلاة يستحق اسم النفاق قال لقوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) الآيات ولقوله (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فكان كل فاسق منافقا إذا كانت الألف ولام المعرفة موجودين في الفساق وقال عمرو أليس قال الله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وأجمع أهل العلم على أن صاحب الكبيرة يستحق اسم ظالم كما يستحق اسم فاسق فإلا كفرت صاحب الكبيرة من أهل الصلاة وهم الظالمون.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها)

٨٧

وقوله (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) وقوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) وقوله (إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ونحوها من الآيات فإنها مشتركة بين الخصوص والعموم ومحتملة الأمرين على الحقيقة وتكون أيضا معارضة بآيات مثلها تتضمن القطع على غفران الله تعالى لمستحق العقاب مثل قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) وقوله (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وقوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) وقال أبو القاسم البلخي مر أبو عمرو بن العلا بعمرو بن عبيد وهو يتكلم في الوعيد فقال إنما أوتيتم من العجمة لأن العرب يرى ترك الوعد ذما وأنشد :

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لأخلف إيعادي وأنجز موعدي.

وأنشد:

إن أبا خالد لمجتمع الرأي شريف الأفعال والبيت

لا يخلف الوعد والوعيد ولا يبيت من ثاره على فوت

أبو وجرة السعدي :

صدق إذا وعدوا الرجال وأوعدوا

بأحث بادرة وأوفى موعد.

قوله سبحانه :

(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) قال نافع بن الأزرق لابن عباس كيف يخرج أهل النار وهو يقول (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال هذا في الكفار وأول الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية الْبُخَارِيُّ قَالَ النَّبِيُّ ص لَيُصِيبَنَّ أَقْوَاماً شَفْعٌ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا ثُمَّ يُخْرَجُونَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ عَلِيٌّ ع فَيَخْرُجُونَ قَدِ امْتَحَشُوا وَعَادُوا حُمَماً قَالَ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ قَالَ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي جَمِيلِ السُّنْبُلِ. وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ سَيَابَةَ لِلصَّادِقِ ع الْمُخْرَجُونَ مِنْ جَهَنَّمَ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللهِ فَقَالَ يَا عَلَاء إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) الْخَبَرَ.

فصل

قوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وقوله (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ) ثم قال (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقال (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الرزق ما هو بالانتفاع به أولى فإضافة الرزق إلى الله تعالى واجبة لأنه خلق الحياة والشهوة

٨٨

ومكن من الانتفاع بالقدرة والآلات وقال (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) وقال (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقال (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) فأما إذا أضيف إلينا على جهة الهبة والوصية ونحوها فهو عبارة عن تصرفنا فيه على الوجه الذي ينتفع به ومنه يقال رزق السلطان جنده ولا يقال إنه رزق من البائع لأنه قد أخذ العوض منه ولا يقال إنه رزق من الموروث أو رزق من الغنائم لأن السبب الذي وقع التمليك به من غير جهته ولا تابع لاختياره.

قوله سبحانه :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) قال الرماني فيه دلالة على أن كل ما خلقه الله تعالى مما يملك فهو رزق للعباد إلا ما أخرجه الدليل من الحرام ولا يجوز أن يخلق الله حيوانا يريد تبقيته إلا وقد هيأ له رزقا وأما الذي يولد ميتا فإنه لا رزق له في الدنيا.

قوله سبحانه :

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الرزق لا يكون إلا حلالا لأن الله تعالى مدح من أنفق من رزقه ونحن منهيون عن الإنفاق من الحرام وأباح ذلك فقال (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) وقال (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وقال (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) وهذا مانع من كون الحرام رزقا لاستحالة أن يكون ما تمدح بفعله ومدح على التصرف فيه وأباح تناوله هو ما نهى عنه وتوعد عليه وتعبد بالمنع من التصرف فيه ولو كان الحرام رزقا لحل أموال الناس لكل غاصب وظالم وسارق وتكون المحرمات من الخمر والخنزير والميتة لنا أرزاقا وإن وطي زوجة غيره يكون ذلك رزقا له.

قوله سبحانه :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) قال الرماني ما افترسه السبع رزق له بشرط غلبته عليه كما أن أموال المشركين رزق لنا بشرط غلبتنا عليها وقال الطوسي إن رزقه ما ليس لنا منعه منه إما أن يكون ملكا لنا أو أذن لنا فيه فلا يكون رزقا له على الإطلاق ولنا أن نمنع البهائم من الزرع وليس لنا منعها عن الكلأ والماء غير أنه لا يكون رزقا لها

٨٩

إلا إذا جعل في أفواهها.

قوله سبحانه :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وقوله (اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وقوله (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي إنه يوسع الرزق لمن يشاء على حسب ما يعلم من مصلحته ومصلحة غيره (وَيَقْدِرُ) أي يضيق و (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) هو الزيادة فيه قدر الكفاية والقدر تضييقه على قدر الكفاية.

قوله سبحانه :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي من كان يريد المنافع العاجلة في الدنيا عجلنا له فيها القدر الذي نريده لمن نريد لا على قدر ما يريدونه لأن ما يريدونه ربما كان فيه مفسدة لا يجوز إعطاؤهم إياه ثم بين أنه إذا أعطاهم ما طلبوه عاجلا جعل لهم جهنم جزاء على معاصيهم وكفرهم.

قوله سبحانه :

(قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) احتجاجا منهم في منع الحقوق بأن يقولوا كيف نطعم من الله تعالى قادر على إطعامه ولو شاء الله أطعمه فإذا لم يطعمه دل على أنه لا يشاء إطعامه فنحن إذا أحق بذلك وذهب عليهم أن الله تعالى تعبد بذلك لما هم فيه من المصلحة واللطف في فعل الواجبات وترك المحرمات ولذلك كلفهم الله إطعام غيرهم.

قوله سبحانه :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) شرط الله في هذه الآية أن من أراد الدنيا دون الآخرة فإن الله موفيه جزاء عمله فيها لا يبخسهم شيئا منه وقال الضحاك ومجاهد (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) أي يعطي سائلا ما سأله أو يرحم مضطرا وغير ذلك من أفعال الخير فإن الله تعالى يعجل له جزاء عمله في الدنيا بتوسع الرزق وإقرار العين بما حول ودفع مكاره الدنيا وقال الجبائي الغزو مع النبي ص دون ثواب الآخرة وأمر الله نبيه أن يوفيهم قسمهم.

٩٠

قوله سبحانه :

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) قال قتادة والربيع وابن جريح هو نصر المسلمين على عدوهم حتى ظفروا بهم وأخذوا الغنيمة ويجوز أن يكون ما آتاهم الله في الدنيا من النصر والظفر وأخذ الغنيمة ثوابا مستحقا لهم على طاعاتهم لأن في ذلك تعظيما لهم وتبجيلا ولذلك نقول إن المدح على أفعال الطاعة والتسمية بالأسماء الشريفة بعض الثواب ويجوز أن يكون الله أعطاهم ذلك تفضلا منه تعالى أو ما لهم فيه من اللطف فيكون تسميته بأنه ثواب مجازا.

قوله سبحانه :

(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) قال ابن عباس الأجر في الدنيا الثناء الحسن والولد الصالح وقال الجبائي هو ما أمر الله به المكلفين من تعظيم الأنبياء ع وقال البلخي وذلك يدل على أنه يجوز أن يثيب الله تعالى في دار التكليف ببعض الثواب.

قوله سبحانه :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) معناه نفي الإيهام عن خلقه إياهم لعبادته عن أن يكون ذلك لعائده نفع تعود إليه تعالى فبين أنه لعائده النفع على الخلق دونه تعالى لاستحالة النفع عليه ودفع المضار عنه لأنه غني بنفسه لا يحتاج إلى غيره والخلق محتاجون إليه.

قوله سبحانه :

(وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) قال الجبائي أي اجعل ذلك رزقا لنا وارزقنا الشكر عليه لأن الشكر لطف فيه وفي الآية دلالة على أن العباد يرزق بعضهم بعضا بدلالة قوله (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه لو لم يصح ذلك لم يجز أن يقول (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) كما أنه لما لم يجز أن يكونوا آلهة لم يصح أن يقول أنت خير الآلهة وصح (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) و (أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) و (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وإنما قال (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه تعالى إذا غضب على عبده لا يقطع رزقه ما دام حيا بخلاف الآدميين.

قوله سبحانه :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) إنما ذكر ذلك على وجه التأكيد

٩١

كما قال (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).

قوله سبحانه :

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي حظكم وقال ابن عباس أي شكركم وهي لغة أزد شنوءة يقال ما رزق فلانا أي ما شكره.

قوله سبحانه :

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الرزق الكريم هو الخير المعطى على الإدراك المهنأ من غير تبعيض بالامتنان وهو رزق الله تعالى الذي يعم جميع العباد ويختص من يشاء بالزيادة.

قوله سبحانه :

(لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) يعني النفقة التي يريدون بها إعزاز دين الله ونفع المسلمين والتقرب إلى الله والإنفاق إذا كان للشهوة أو ليذكر بالجود كان ذلك مباحا وإذا كان للرياء والسمعة أو للمعاونة على فساد كان معصية.

قوله سبحانه :

(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) أي النبوة والإمامة والأرزاق الكثيرة والأملاك الخطيرة إلا أنه لا يجوز أن يمكن ظالما من الظلم أو غاصبا من الغصب.

قوله سبحانه :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) قال البلخي والجبائي لا يجوز أن يعطي الله الملك للفاسق لأنه تمليك الأمر العظيم من السياسة والتدبير مع المال الكثير لقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) والملك من أعظم العهود ولا ينافي ذلك قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) لقول مجاهد الهاء كناية عن إبراهيم والملك أراد به النبوة والتقدير أن آتاه الله إبراهيم النبوة ويقال المراد بالملك المال دون السياسة. قوله سبحانه :

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ

٩٢

الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) رد على من قال إن النبوة والإمامة والملك لا يجتمع في بيت واحد

فصل

قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وقوله (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وقوله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ثم قال (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وقال (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) لا تناقض بينها لأن الأجل الوقت المعلوم أنه يحدث فيه أمر من الأمور لأن التأجيل يكون به الوقت أجلا لأمر وما في المعلوم ليس بأمر والأجل لا يتأخر ولا يتقدم والأجل المشروط بحسب الشرط ولا يجوز أن يكون المقدر أجلا كما لا يجوز أن يكون ملكا والظاهر عند حصول الأجل لا يصح وقوع التقديم والتأخير فأما قبل ذلك فلا يبعد أن يقع هناك ما يقطع عند بلوغه الأجل من قتل وغيره فإن سمى ما يعلم الله تعالى أنه لو لم يقتل فيه لعاش إليه أجلا كان ذلك مجازا لأن الحي لم يعش إليه ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى من حال المقتول أنه لو لم يقتله القاتل لعاش إلى وقت آخر وكذلك ما روي في قصة يونس وأن الله تعالى صرف عنهم العذاب وزاد في آجالهم وما روي أن الصدقة وصلة الرحم يزيدان في الأجل لا يمنع منه مانع وإنما منع من التسمية لما قلناه.

قوله سبحانه :

(ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) الظاهر أنه قضى أجلا وأن عنده أجلا مسمى وليس فيه أنهما أجلان لأمر واحد فيمكن أن يكون أحدهما الموت في الدنيا وأجل حياتهم في الأخرى ثم إنه يعم الجميع وليس للجميع أجلان عند المخالف ثم إنه أضافه إلى نفسه فقال عنده وقال ثم أنتم تفترون في هذا الأجل المسمى يعني به القيامة وكانوا يشكون فيه وأكثر ما في القرآن من قوله (أَجَلٌ مُسَمًّى) يكون معنى به يوم القيامة نحو (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ).

قوله سبحانه :

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) قال الجبائي

٩٣

في الآية دلالة على أن أجل الإنسان أنما هو أجل واحد وهو الوقت الذي يموت فيه لأنه لا يقتطع عن الأجل الذي أخبر الله أنه أجل لموته وخالفه ابن الإخشيد والأقوى الأول.

قوله سبحانه :

(لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وقوله (يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لا دلالة فيهما على مقالهم لأنا لا نمتنع من تسمية المقدر بأنه أجل وإنما منعنا من أن يكون ذلك حقيقة.

قوله سبحانه :

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) قال البلخي لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه فلا تكون آية إلا بأجل قد قضاه الله في كتاب على ما يوجبه التدبير وقال الجبائي لكل أمر قضاه الله كتاب كتبه فيه فهو عنده كأجل الحياة والموت وقال ابن عباس لكل كتاب وقت يعمل به من التوراة والإنجيل.

قوله سبحانه :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) الظاهر لا يقتضي أنه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وإن الذي محاه هو الذي أثبته ولو أطلقنا ذلك لم يكن بداء لأن البداء أنما يلزم إذا عزم على فعل ثم قبل أن يفعله يكرهه فلا يفعله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريح وأبو علي الفارسي (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) في الأحكام من الناسخ والمنسوخ الكلبي والضحاك والحسن والجبائي يمحو من كتاب الحفظة المباحات وما لا جزاء فيه ابن جبير يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا ويثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا عكرمة يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب الحسنات لقوله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) السدي يمحو ما يشاء يعني القمر ويثبت يعني الشمس بيانه (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وقيل يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها قوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ النَّبِيُّ ص هُمَا كِتَابَانِ سِوَى أُمِّ الْكِتَابِ (يَمْحُوا اللهُ) مِنْهُ (ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) وَأُمُّ الْكِتَابِ لَا يُغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ. حُمْرَانُ قَالَ الصَّادِقُ ع هُمَا أَمْرَانِ مَوْقُوفٌ وَمَحْتُومٌ فَمَا كَانَ مِنْ مَحْتُومٍ أَمْضَاهُ فَلَهُ فِيهِ الْمَشِيَّةُ يَقْضِي فِيهِ مَا يَشَاءُ.

قوله سبحانه :

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) معناه لو لا ما أخبر الله به

٩٤

وضربه من الآجال التي يبقى عباده إليها لكان الهلاك الذي تقدم ذكره أن الله أوقعه بالأمم السالفة لازما مستمرا يشهد بذلك ما قبل الآية (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) الآية ويكون معنى الآية لو لا الأجل المضروب في التبقية واستمرار التكليف لكان الهلاك لازما.

قوله سبحانه :

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) كتب لا يخلو إما أن يكون لإيجاب فرض أو حكم أو قضاء أو علم فلو فرض قتلهم لكان قاتلهم مطيعا لذلك وأن يكون قتل المقتول واجبا على القاتل ولا يجوز بمعنى الحكم لأنهم يكونون مستحقين للقتل وإنما يحكم بالقتل على من يستحق القتل دون من لا يستحق ولا يجوز بمعنى القضاء لأن ذلك خارج عن اللغة فلم يبق إلا العلم وما علم الله كونه فهو كأين لكن العلم لا يوجب المعلوم.

قوله سبحانه :

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) وقوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) الوجه في إحصاء الأشياء في الكتاب ما في اعتبار الملائكة فيما لا تقدم به الإثبات مع أن تصور ذلك يقتضي الاستكثار من الخير والاستبعاد من الشر كما يقتضي إذا قيل للإنسان ما تعلمه فإنه لك وعليك

فصل

قوله تعالى : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) يحييكم ويميتكم (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) وقال (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) وقال (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أضاف الفعل في ذلك إلى جماعتهم تارة لأنهم أعوانه وإليه تارة لأنه المؤمر وإلينا تارة للسبب المؤدي إليه وإلى نفسه تارة لأنه بحكمه وقيل الميت في القتال تتوفاه الملائكة والميت على الفراش يتوفاه ملك الموت والميت في المنام يتوفاه الله ويقال النزع من الملائكة والقبض من ملك الموت والإماتة من الله وقال مجاهد المشارق والمغارب كالمائدة الصغيرة بين يديه يتناول منها ما يشاء يدعو

٩٥

الأرواح فتجيبه واختلفوا في الموت فقالت الفلاسفة الموت عن ضعف الطبيعة وقلة اقتدارها على إمساك الروح فتقفز الروح وترجع إلى العالم وقال النظام الموت آفة تدخل على الإنسان فتمنعه عن الحس والعلم وقال البلخي والأسواري هو عرض مضاد للحياة كمضادة السكون الحركة وقال غيرهما هو تفرق القلب وتباين أجزائه وقال الشيخ المفيد هو شيء يضاد الحياة ويبطل معه النمو ويستحيل معه الإحساس وهو يحل محل الحياة فينفيها والصحيح أنه انتفاء الحياة وإنه ليس بمعنى وهو اختيار المرتضى.

قوله سبحانه :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) قالت الفلاسفة إن فوت الفجأة يقع لمعنيين إما بامتلاء العروق أو خلائها كالمسرجة تنطفئ إذا كثر دهنها ولا تزهر إذا قل دهنها وقالت الديانون هو بتقدير الله تعالى عند نفاد أجله وانقضاء أكله.

قوله سبحانه :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) يقتضي أن روح الإنسان هي الإنسان والإضافة وقعت فيها كما وقعت في نفس الإنسان.

قوله سبحانه :

(إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) وقوله (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يعني إذا قرب أحدكم من الموت ولو لم يكن كذلك لما أسند إليه القول بعد الموت.

قوله سبحانه :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) قال الجبائي فيها دلالة على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا منزلته عند الله تعالى وأنه من أهل الثواب أو العقاب ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

قوله سبحانه :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) يدل على أن كل نفس تذوق الموت وإن

٩٦

كانت مقتولة على قول جماعة وعندنا أن الموت غير القتل فيقول إن المقتول يختار الله أن يفعل فيه الموت إذا كانت في فعله مصلحة ويمكن أن يكون المراد كل نفس تعدم الحياة فيكون ذلك على وجه الاستعارة.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) إنما قال أحياها على وجه المجاز يعني نجاها من الهلاك كما حكي عن نمرود إبراهيم (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) فاستبقى واحدا وقتل الآخر لأن الله تعالى هو المحيي ولا يقدر على ذلك غيره.

فصل

قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) يستدل بها على إثبات الفناء وهو أن الله تعالى لما كان أولا ولا شيء معه ويكون آخرا كذلك فلا بد إذا أن يعدمها ليصح هذا القول واستدل أبو هاشم على إثبات الفناء بالعقل والصحيح أنه لا يعرف إلا بالسمع.

قوله سبحانه :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) لا خلاف أن الله تعالى يحيي الجملة يوم القيامة فالفوج أنما يكون في غير القيامة وقوله (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قالوا أي إن الله يردك إلى دار الدنيا لنصره ولدك ولذلك نكر ولو أراد يوم القيامة لعرف وقال إلى المعاد وقوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) دل على أن بين رجعة الآخرة والموت حياة أخرى ولا ينكر ذلك لأنه قد جرى مثله في الزمن الأول قوله في قصة بني إسرائيل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) وقوله في قصة عزير أو إرميا (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) إلى قوله (قَدِيرٌ) وقوله في قصة إبراهيم (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية وقال المرتضى الطريق إلى إثبات الرجعة إجماع الإمامية ثم إن الرجعة لا تنافي التكليف فإن الدواعي مترددة معها حتى لا يظن ظان أن تكليف من لا يعاد لا يصح.

قوله سبحانه :

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) وقوله (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ

٩٧

فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) الإعادة النشأة الثانية فالقادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الثانية لأنه باق قادر على اختراعه من غير سبب يولده.

قوله سبحانه :

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا) يدل على إعادة مستحق الثواب لدوام الثواب وخلوصه ولا يجب إعادة مستحق العوض لانقطاعه وجواز وصوله إليه في الدنيا ولا يجب إعادة مستحق العقاب لأن العقاب يحسن إسقاطه عقلا وقد ورد السمع بإعادتهم وإعادة الأطفال والمجانين وما يجب إعادته هو عين الأجزاء التي هي أقل ما يكون معه الحي حيا ويبلى الباقي أما الأنبياء والأئمة ع فلا تبلى منهم جارحة وإنهم في الجنان منعمون.

قوله سبحانه :

حكاية عن الكفار (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن الله تعالى لو قدر على إعادة الأموات وإحيائهم قدر على إعادة الآباء وهذا باطل لأن النشأة الثانية أنما وجبت للجزاء لا للتكليف فلا يلزم إعادة الآباء ولا جزاء.

قوله سبحانه :

في أهل الجنة (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) قيل إلا بمعنى بعد كأنه قال بعد الموتة الأولى وقيل معنى إلا سوى الموتة الأولى وقيل إنها بمعنى لكن وتقديره لكن الموتة الأولى فأذاقوها.

قوله سبحانه :

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) لا يدل على إثبات التناسخ لأنه يريد بالنشأة الأولى نشأة العالم أجمع لأنه خاطب المستدلين العارفين بهذه الآية لأن الله قد أكثر الناس بعده تلك النشأة فصح أن يقال إنها نشأة أولى ولم يقل ولقد علمتم نشأتكم الأولى.

٩٨

قوله سبحانه :

(فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) لا يدل على التناسخ لأنه يجوز أن يكون خاطب قوما بذلك على أن أوائلهم وأمثالهم ومن دينه دينهم فعل ذلك كما يقال لليهود إن بخت نصر قتلكم وللمجوس إن العرب صنعت بكم يوم القادسية كيت وكيت وقد ذهب هذا المعنى من قبل.

قوله سبحانه :

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) ابن عباس أي تبدل صورتها من الآجام والآكام والبحار والأنهار وتبدل السماوات فتذهب شمسها وقمرها ونجومها وقال الطبري معناه تبدل أرض الجنة وأرض النار وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنَّ أَرْضَ الدُّنْيَا وَالسَّمَاءَ الدُّنْيَا تَسْفَلُ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى. والحكمة في التبديل بطلان قول الدهرية إن العالم مدور ولا يفنى ولإظهار قدرته بأنه (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وَعَنِ النَّبِيِّ ص ثُمَّ يَزْجُرُ اللهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمُبَدَّلَةِ مِنَ الْأُولَى. يعني قوله (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) وهي أرض القيامة وعليها يقع الحساب فإذا فرغ من الحساب (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) فرقا بين أرض الجنة وأرض النار

فصل

قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال ابن عباس وقتادة أي في القبر إذا سئل الموتى وهو المروي عن النبي ص وقال مجاهد (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يعني في القبر أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ ص فِي قَوْلِهِ (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قَالَ عَذَابُ الْقَبْرِ. قال مجاهد وليس يجوز أن يسموا هذه المعيشة ضنكا في الدنيا لوجود الكفار في السعة فعلمنا أنه في غير الدنيا قبل القيامة وهو القبر وَقَالَ النَّبِيُّ ص يَا عَمِّ كَيْفَ بِكَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ مَلَكَانِ أَزْرَقَانِ فَظَّانِ غَلِيظَانِ وَمِنْ هَيْبَتِهِمَا كَذَا. قال الشيخ المفيد وليس ينزل الملكان إلا على حي ولا يسألان إلا من يفهم المساءلة ويعرف معناها ويديم حياته لثواب أو عقاب لِمَا رُوِيَ عَنْهُمُ الْخَيْرُ كُلُّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالشَّرُّ كُلُّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ النَّبِيُّ ص الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ.أما المعتزلة فقد خالفونا في ذلك فقال يحيى بن كامل وبشر المريشي وضرار بن عمرو من المحال أن ينعم الميت أو يعذب وقال صالح

٩٩

فيه أن الله تعالى يحدث فيهم الألم ولا يشعرون فإذا حشروا وجدوا الألم في ذلك الوقت كالسكران والمغمى عليه وقال محمد بن جرير يعذب الميت في قبره من غير أن يرد الروح عليه وهذا كله محال ومن كلام الجهال أما البلخي والصالحي يجوز عذاب القبر ولا يثبت القول بوجوبه ومن المنكر أن منكرا ونكيرا يسألانه عن عقيدته وهذا محال بعد الموت فالجواب أنما سمى منكرا ونكيرا لأنه ينكر الحق وينكر ما يأتيانه به ويكرهه وسمى مبشرا وبشيرا لأنه يبشر أنه بالنعيم وإن هذين الاسمين ليسا بلقب وإنما هو عبارة عن فعلهما وهذا لا يستحيل وقالا أما قوله (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) وهم يعرضون على النار وهذا من المقدم والمؤخر نحو قوله (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) تقديرا آتوني قطرا أفرغ عليه وقالا قوله (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) والغدو والعشي لا يكونان في الآخرة إن لم يصح في الآخرة غدو وعشي فيصح تقديره من الزمان وغرضنا يتم بالتقدير ثم إنه قال في آخره (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) يعني عذاب جهنم وذلك أشد من الذي تقدم من عذاب القبر وأما قوله (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) فنحن لا نتعلق بها وهي مفسرة في قوله (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).

قوله سبحانه :

حكاية عن مؤمن آل فرعون (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ص مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ مِنْ بُعْدٍ بُلِّغْتُهُ. قد ثبت أن المعصومين في جنان الله تعالى أحياء يدركون بحواسهم ما يتصل بها من المحسوسات ولا يمتنع أن يسمعهم الملائكة الموكلون بقبورهم في أوجز مدة سلام زوارهم شافعا لما يسمعونه بالوسائط بينهم وبين زوارهم من غير تأخير وإذا سلم عليهم الإنسان بلغوا ذلك في تراخي الأوقات.

قوله سبحانه :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الصحيح أن المؤمنين كلهم في البرزخ أحياء إلى أن تقوم الساعة ثم يحييهم الله في الجنة يدل على أنهم أحياء في الحقيقة قوله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ولو كان المعنى يستحيون في الآخرة لم يقل (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وإن النعيم والعذاب أنما يصل إلى الروح لا الجثة التي ترى ومن زعم

١٠٠