متشابه القرآن ومختلفه - ج ٢

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني

متشابه القرآن ومختلفه - ج ٢

المؤلف:

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات بيدار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

تقدير الجواب على وجه الحكاية كأنه قيل ما أم الكتاب فقيل هن أم الكتاب كما يقال من نظير زيد فيقال نحن نظيره وقيل قوله (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي جعلناها آية ولو أريد أن كل واحد منهما آية على التفصيل لقيل آيتين.

قوله سبحانه :

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) إنما ذكر جمع لأن كل اسم لا يكون فيه علم التأنيث يجوز تأنيثه على معنى اللفظ وقال بعضهم إنما عنى بالتذكير الضوء.

فصل

قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) جمع بين الواحد والجمع لأن المغضوب على وزن مفعول ولفظة المفعول إن وقع تحت متعد محض يتعدى بغير صلة ويتبين التثنية والجمع فيه نحو مضروب مضروبان مضروبون وإن وقع تحت فعل لازم يتعدى بصلة ولا يتبين التثنية والجماعة تقول مرغوب فيه مرغوب فيهما مرغوب فيهم وجماعة صفاته دليل على جماعة.

قوله سبحانه :

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) معطوف على اسم الله تعالى فكأنه قال وما يعلم تأويله إلا الله وإلا الراسخون في العلم وإنهم مع علمهم به يقولون آمنا به فوقع قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) موقع الحال (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنف غير معطوف على ما تقدم ثم أخبر عنهم بأنهم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) غير معطوف ويكون المعنى وما يعلم تأويل المتشابه بعينه ولا على سبيل التفصيل إلا الله لأن أكثر المتشابه قد يحتمل الوجوه الكثيرة المطابقة للحق ولا يقطع على مراد الله تعالى بعينه فيعلم في الجملة أنه أراد أحدها ولا يعلم منها المراد بعينه.

قوله سبحانه :

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) نصب لام ليقولن لأنه تقدم على الفعل ثم قال بعدها (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَ) رفع لام ليقولن لأنه تأخر عن الفعل.

٢٤١

قوله سبحانه :

(يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) فيه ياءان ياء الجمع وياء الإضافة وقوله (يا بَنِيَ) فيه ثلاث ياءات ياء التصغير وياء الأصل وياء الإضافة.

قوله سبحانه :

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) وإنهم جماعة والمصطفين تثنية الجواب هي جماعة وكان حقه أن يقول مصطفيين بياءين ياء لام الفعل وياء الجماعة وكان ياء لام الفعل ساكنا فدخل عليه ياء الجماعة فحذفوا ياء لام الفعل لأنها معتلة وهي أولى بالحذف لأن ياء الجماعة علامة والعلامة لا تحذف ونصب الفاء من المصطفين فرقا بين الفاعل والمفعول وهاهنا مفعول وانتصب النون من المصطفين لأنه نون الجماعة ونون الجماعة إذا كانت على هجاءين يكون منصوبا تقول مصطفون ومصطفين مثل مسلمون ومسلمين

فصل

قوله تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) قال آية لأن قصتهما واحدة فلفظ الآية معبر عن القصة لا عن ذاتهما فكأنه قال فنفخنا فيه من روحنا وجعلنا قصتهما آية للعالمين وقيل ذكر آية والمراد آيتين لأن العرب تذكر واحدا وتريد اثنين كما قال (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) وهما طعامان المن والسلوى وقوله (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أراد به رسولا.

قوله سبحانه :

(وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ولم يقل ونساء كثيرا نظيره (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) معناه أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا والقيم نعت الكتاب وقوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) معناه وإنه لقسم عظيم لو تعلمون فالعظيم نعت القسم.

قوله سبحانه :

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)

٢٤٢

(٣٤ /٢) الخطاب متوجه إلى آدم وحواء وذريتهما لأن الوالدين يدلان على الذرية كما حكى إبراهيم وإسماعيل (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا) والخطاب يختص آدم وحواء وخاطب الاثنين بالجمع لأن التثنية أول الجمع قوله (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أراد لحكم داود وسليمان والخطاب لآدم وحواء ولإبليس اللعين والجميع مشتركون في الأمر بالهبوط وقد جرى ذكر إبليس في قوله (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ).

قوله سبحانه :

(يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) الخطاب إلى آدم خاصة فبخطابه اكتفى من خطاب حواء ومثله (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) وقيل إن الله تعالى خص آدم بالمخاطبة دون حواء لبيان فضله على حواء كما قال (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) والمعنى ويا هارون نظيره (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) وقيل إن الله تعالى خص آدم بالخطاب دون حواء وفي خطاب المتبوع خطاب التابع لأنه داخل في حكمه كما قالوا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) وقيل خاطب آدم دون حواء لأنها خلقت من آدم فكانت كعضو منه

فصل

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) وقال (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) انجر بأحكم الحاكمين مع الإضافة لزوال اللبس ولم ينجر بأعلم مع عدمها خوف اللبس وعلامة عدم الصرف.

قوله سبحانه :

(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) وفي موضع (ادْخُلُوا مِصْرَ) إن أسماء البلدان لا تنصرف في المعرفة وتنصرف في النكرة وقال بعضهم أسماء البلدان إذا كانت على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن إن شئت صرفته لخفته وإن شئت لم تصرفه لتأنيثه وتعريفه مثل مصر وبلخ وكذلك أسماء الإناث مثل هند ودعد.

قوله سبحانه :

(وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) وقوله (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) ثم قال

٢٤٣

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) قال المبرد يقال لكل جبل طورا فإذا أدخلت الألف واللام كان معرفة لشيء بعينه.

قوله سبحانه :

(أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) وقال (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) لما جاز في ثمود أن يكون مرة للقبيلة ومرة للحي ولم يكن لحمله على أحد الوجهين مزية حسن صرفه وترك صرفه

فصل

قوله تعالى : (أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) الفتحة إذا أشبعت ظهرت منها ألف والضمة إذا أشبعت تولدت منها واو والكسرة إذا أشبعت تولدت منها ياء وقال بعضهم إن هذه الألفات ألفات الوقف لأن الحركة لا يوقف عليها فألحقت هذه الألفات بأواخر هذه الأسماء ليعلم حركتها لأن الألف لا يمكن النطق بها إلا أن يكون ما قبلها مفتوحا.

قوله سبحانه :

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) اعترضت الواو في وصف أبواب الجنة ولم تكن في وصف أبواب النار وقال الخليل الواو هاهنا واو التكرار معناه حتى إذا جاءوها جاءوا وفتحت أبوابها وقال بعضهم هي زائدة كقوله (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وقال بعضهم هي واو الحال لأن أهل الجنة إذا دخلوا إليها وأبواب الجنة في تلك الحال مفتوحة كرامة لهم بدليل قوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) وأهل النار إذا دخلوا إليها وجدوا أبوابها في تلك الحال مفتوحة وقال بعضهم هي واو الثمانية الدالة على أبواب الجنة نظيره (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وفي قوله (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) ثم قال (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وفي قوله (وَأَبْكاراً) وفي قوله (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ) وقال بعضهم (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) واو التحقيق لأنهم اختلفوا في عددهم فحقق سبعة والواو في حال (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) واو العموم لأن صاحبها يعرف هذه الأشياء الحسان والواو في قوله (وَأَبْكاراً) واو التمييز لأنه لا يجتمع الثيابة والبكارة في امرأة واحدة ثم إن النحاة لا تعرف واو الثمانية.

قوله سبحانه :

في سورة البقرة (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) وقوله في سورة إبراهيم (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ

٢٤٤

سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) دخلت الواو هاهنا قال الفراء معنى الواو أنه كان يمسهم من العذاب عند التذبيح كأنه قال يعذبونكم بغير الذبح وإذا طرحت كان تفسير الصفات للعذاب.

قوله سبحانه :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقال في سورة الحج (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أدخل الفاء في الآية الثانية ولم يدخل في الأولة لأن ما دخل فيه الفاء من خبر الذي وأخواته مشبه بالجزاء وما يكون فيه فاء فهو على أصل الخبر فإذا قلت مالي فهو لك جاز على وجه ولم يجز على وجه فإن أردت أن معنى الذي فهو جائز وإن أردت أن مالي تريد به المال ثم تضيف ذلك كقولك غلامي لك لم يجز كما لا يجوز فهو لك.

قوله سبحانه :

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أدخل الباء في الآيات دون الثمن وفي سورة يوسف أدخله في الثمن قوله (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) قال الفراء إنما كان كذلك لأن العروض كلها أنت مخير فيها في إدخال الباء إن شئت قلت اشتريت الثوب بكساء وإن شئت قلت اشتريت بالثوب كساء أيهما جعلته ثمنا لصاحبه جاز فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) لأن الدراهم ثمن أبدا.

قوله سبحانه :

(حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) وقوله (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) وقال (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) عطف القتل على لقاء الغلام بالفاء ولم يدخل في خرق السفينة ولا على الاستطعام لأهل القرية لأن اللقاء لما كان سببا للقتل أدخلت الفاء إشعارا بذلك ولما لم يكن المركوب في سفينة سببا لخرقها ولا إتيان القرية سببا للاستطعام لم يدخل الفاء

فصل

قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وقوله (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) حذف الألف من إحدى الكلمتين دون الأخرى فرقا بين الاستفهام والخبر لأن قوله (لِمَ

٢٤٥

استفهام وقوله (ما أَحَلَّ اللهُ) بمعنى أحل الله وهو خبر كقوله (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) وعما قليل فرقا بينهما لأن عم استفهام وعما قليل صلة الكلام وإنما حذفت الألف من الاستفهام دون الخبر لأن الاستفهام مبني على الخفة والخبر لم يبن عليها.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) ذكر الخطيئة والإثم ثم كنى عن الواحد دون الآخر الجواب الكناية راجعة إلى الإثم لأنه يشتمل على أجناس الخطايا نظيره (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) رجعت الكناية إلى الله لأن رضاه يشتمل على رضا رسوله وكذلك قوله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها).

قوله سبحانه :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الكناية راجعة إلى الفؤاد لأنه سابق بالسعي على السمع والبصر من معنى الهمة والإرادة ولأن القلب رئيس الجسد فاكتفى بالكناية عنه وقالوا الكناية راجعة إلى السعي وإن كان في الظاهر غير مذكور ونظيره (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) عني به القوادى وقوله (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي على ظهر الأرض وقالوا الكناية راجعة إلى لفظ الكل معناه كل واحد عن أولئك كان عنه مسئولا والكل موحد اللفظ مجموع المعنى قوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) وقوله (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً).

قوله سبحانه :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) الهاء راجعة إلى الصلاة لشهرتها وكثرة استعمالها بين الخاص والعام نظيره (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) خص الفضة لكثرة الاستعمال وقالوا الهاء راجعة إلى الاستعانة وهي مؤنثه تشتمل على الصبر والصلاة وكذلك (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) وقيل الهاء راجعة إلى كليهما والعرب تذكر شيئين ثم تكني عن الواحد منهما نحو قوله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها).

قوله سبحانه :

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أضاف أيا إلى الأرض مؤنثة و

٢٤٦

اكتفى بتأنيثهما عن تأنيث أي كما قال الشاعر:

لما أتى خبر الزبير تهدمت

سور المدينة والجبال الخشع.

أنث السور لإضافته إلى المدينة فلما جاز تأنيث المذكر لإضافته إلى المؤنث جاز أيضا تذكير المؤنث لإضافته إلى المذكر وقيل المراد بالأرض القدم والقدم يذكر ويؤنث.

قوله سبحانه :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ذكر السماوات بلفظ الجماعة والأرض بلفظ الواحد قال أهل البصرة الأرض لفظه لفظ المصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع نظيره (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) وقوله (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) ولم يقل رتقين لأن لفظه لفظ المصدر

فصل

قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) وحد نجوى لأنه مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث كقولهم الرجال صوم والمنازل حمد ويقال معناه وإذ هم أصحاب نجوى فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

قوله سبحانه :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) فوحد الفعل ثم قال (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأن لفظة من تعم الواحد والجمع والأنثى والذكر فإن ذهب إلى اللفظ وحد وإن ذهب إلى المعنى جمع قال (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) فجمع مرة من الفعل لمعناه ووحد أخرى على اللفظ.

قوله سبحانه :

(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ) بلفظ الجماعة (وَالنُّورَ) بلفظ الواحد لأن النور يقع على الواحد والجمع قال (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) وسمى الظلمات وهي مختلفة في ذلك قوله (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ونظيره (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) قال ابن

٢٤٧

الزبعرى راتق ما فتقت إذا أنا بور.

قوله سبحانه :

(الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) للواحد وقوله (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) للجمع فالعلة في ذلك أن واحده وجمعه سواء.

قوله سبحانه :

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) وكان واحدا وهو الخفاش وقال في الجمع (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) وقال (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) وقال (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ).

قوله سبحانه :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) قدم النساء على الرجال لأن الزناء في النساء أشهر وقوتهن فيه أكثر كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الشَّهْوَةَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا لِلنِّسَاءِ وَوَاحِدٌ مِنْهَا لِلرِّجَالِ. وقدم الرجال في السرقة قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) لأنها فيهم أكثر لأنها تكون بقوة القلب وقوة القلب في الرجال أكثر وقيل إنما قدم النساء في الزناء على الرجال لأن بدء الزناء منهن وذلك أن الزناء تبع الزينة والزخرف وقدم الرجال في السرقة لأن السرقة مع السلاح وهذا من عمل الرجال.

قوله سبحانه :

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) إنما قدم السجود على الركوع لأن اعتقادات الأنبياء في العقليات سواء ومختلفة في الشرعيات فيمكن أن يكون السجود قبل الركوع وَقِيلَ إِنَّهَا سَأَلَتْ زَكَرِيَّا ع أَيَجُوزُ لِلنِّسْوَةِ أَنْ يُصَلِّينَ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْجَمَاعَاتِ فَقَالَ يَجُوزُ. كما أخبر الله تعالى عنهما فقال (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) الآية أي صلي مع الرجال في الجماعة كما قال في موضع آخر (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فلما قال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فقد أجمل الصلاة بأسرها ثم أمر بهذه الصلاة فقال (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) نظيره (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

٢٤٨

قوله سبحانه :

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) تأكيد ولا يجوز الاستثناء بعده الجواب الاستثناء وقع على الأمر لا على الدخول والتأكيد وقع على الدخول معناه (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) غير خائفين.

قوله سبحانه :

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا) ٦٠ ١٥ قال أبو عبيدة كان أبو يوسف يتأول فيها أن الله تعالى استثنى آل لوط من المجرمين ثم استثنى امرأة لوط فرجعت امرأته في التأويل إلى القوم المجرمين لأنه استثناء رد إلى استثناء كان قبله وكذلك كل استثناء في الكلام إذا جاء بعد الآخر عاد المعنى إلى الأول كقول الرجل لفلان علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما فإنه يكون إقراره بسبعة وكذلك إن قال له علي خمسة إلا درهما إلا ثلاثا كان إقراره بأربعة وثلاث ولو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة كانت بثنتين.

قوله سبحانه :

(كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) كلام مبني على الشرط والجزاء مقصود به إليهما والمعنى من يكن في المهد صبيا كيف نكلمه وقال قطرب معناه من صار في المهد ومن هو في المهد كما تقول إن كنت أبي فصلني قال زهير:

أجزت إليه حرة أرجبية

وقد كان لون الليل مثل الأزندج.

وقيل كان هاهنا بمعنى خلق ووجد يقال كان الحر والبرد وقيل لفظة كان وإن أريد به الماضي فقد يراد به الحال والاستقبال قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) و (كانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) قال الشاعر:

فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع

لمن كان بعدي في القصائد مصعدا.

قوله سبحانه :

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قال الفراء والزجاج هو من صفة الراسخين لكن لما طال واعترض بينهما كلام نصب المقيمين على المدح مثل قوله

٢٤٩

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) وقال آخرون هو من صفة غير الراسخين في العلم هاهنا وإن كان الراسخون في العلم من المقيمين قالوا وموضع المقيمين خفض عطفا على ما في قوله (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ويؤمنون بالمقيمين المعنى يؤمنون بإقام الصلاة وقوله (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قالوا عطف على قوله (وَالْمُؤْمِنُونَ) وقالوا المعنى والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بالمقيمين الصلاة وهم المعصومون (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) كما قال (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) وقالوا (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) منهم من المقيمين الصلاة قالوا فموضعه خفض وهذا ضعيف وقال الطبري المقيمون الصلاة هم الملائكة وإقامتهم الصلاة تسبيحهم ربهم واستغفارهم لمن في الأرض ومعنى الكلام والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة.

قوله سبحانه :

(إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً) نكرة بعد المعرفة والنكرة بعد المعرفة تكون منصوبة على القطع نظيره (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) وقوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) وقال بعضهم نصب على الحال كقوله (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) وقوله (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً) والكسائي لا يفرق بين الحال والقطع يقول إذا تم الكلام انتصب الاسم بعده على الحال والقطع.

قوله سبحانه :

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) الآية انتصب حذر الموت لأنه مفعول له معناه يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وهذا قول أهل البصرة وقيل نصب على الحال معناه في حال حذرهم من الموت كقولك جاءني زيد راكبا نظيره (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) و (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) وقيل انتصب على نزع الخافض معناه يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق من حذر الموت نظيره (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ)

فصل

قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ارتفع هذان على معنى الابتداء لأن إن هاهنا بمعنى نعم وقيل هذا لغة بلحرث بن كعب من اليمن وإنهم يرفعونه في حال الخفض

٢٥٠

والنصب يقولون إن أخواك عندك ومررت بأخواك وابتعت ثوبان واشتريته بدرهمان وقال الشاعر : إن أباها وأبا أباها وقال الفراء ألفه أصلية وقال غيره إنها عماد وليس بألف التثنية وألف التثنية ترجع إلى الياء في التثنية فلما كان هذا مبهما غير متمكن من الإعراب زيد في آخره نون بدل التثنية وأخرى في الإعراب على حالة واحدة وحدانه وجمعه وتثنيته تقول رأيت هذا ومررت بهذا وجاءني هذا وفي الجمع رأيت هؤلاء ومررت بهؤلاء وجاءني هؤلاء ولو بني على قياس الأسماء المتمكنة لوجب أن يقال هذاان بألفين ثم يثنى ألف التثنية دون ألف الوصل أو العماد وقرئ بتسكين النون بمعنى ما واللام على معنى الاستثناء معناه ما هذان إلا ساحران نظيره (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ).

قوله سبحانه :

(صَغَتْ قُلُوبُكُما) القلب لا يصغى وإنما يتعلق بغيره ما يحل فيه من محبات وإرادات ودواع فحذف ذكر الحال وأقام المحل مقامه وجمع المحل الذي هو القلب لما كان الحال جمعا كما أقام المضاف إليه مقام المضاف في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وقوله (صَغَتْ قُلُوبُكُما) وهما قلبان مثل قوله (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) وهما اثنان عائشة وصفوان وكذلك قوله (خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) وقوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) وهو الواحد وقيل إنما ذكر فعل اثنين بلفظ الجماعة لأن العدد عدد مفرد في بابه وكل ما خرج من حيز الواحد دخل في حيز الجماعة نحو الرجلين يصليان جماعة على مذهب من يقول أقل الجمع اثنان.

قوله سبحانه :

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) وفي موضع (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) كل اسم جاء على لفظ المصدر فالواحد والتثنية والجمع فيه سواء نظير (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) وقال (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) وقيل إنما قال اختصموا لأنهما جمعان ليسا برجلين عنى به اليهود والنصارى وإذا كان اثنان غير مقصود بهما ذهب بهما مذهب الجمع لأنه يكون عاما كقوله (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ)

فصل

قوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ)

٢٥١

أي فمتعوهن متاعا فيه ضمير ناصب ومثله (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) وكل مرفوع لا يظهر رافعه فهناك ضمير نحو (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) يعني هذه السورة لأن النكرة لا يبدأ بها ومثله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) ومثله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

قوله سبحانه :

(فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) إنما يريد بالكل التوكيد والتكثير كقولك أكلنا اليوم كل شيء وكنا في كل سرور وكقولك هذا قول أهل العراق وأهل الحجاز.

قوله سبحانه :

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) المعنى أن الخلق جميعا يتقلبون في رحمته ورزقه وسأكتب ثوابها للمتقين خاصة والمعنى الآخر وسعت كل شيء دخل فيها وأرادها.

قوله سبحانه :

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إلى قوله (الْمُتَّقُونَ) أراد تعالى ليس الصلاة هي البر كله بل تبقى عليكم صنوف الواجبات وضروب الطاعات ويقال إن النصارى لما توجهوا إلى المشرق واليهود إلى بيت المقدس واعتقدوا في الصلاة إليهما أنها بر وطاعة خلافا على الرسول ص أكذبهم الله تعالى في ذلك وبين أن ذلك ليس من البر إذ كان منسوخا بشريعة النبي ص وأن البر ما تضمنه الآية.

قوله سبحانه :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ذمهم بالغفلة وهي من فعله تعالى لأنها السهو أو ما جرى مجراه مما تنافي العلوم الضرورية ولا تكليف على الساهي قلنا المراد هاهنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة وذلك أنهم لما أعرضوا عن تأمل آيات الله تعالى والانتفاع بها أشبهت حالهم حال من كان ساهيا غافلا عنها فأطلق ذلك عليهم كما قال (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ويقال أنت ميت وراقد وما لك لا تسمع ولا تبصر.

٢٥٢

قوله سبحانه :

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) وإن كان حكمة فإنما وصفه بأنه حكيم لما كان فيه من الدلالة بمنزلة الناطق بالحكمة حسن وصفه بأنه حكيم من هذه الجهة كما وصفت بأنها دليل لما فيها من الدليل والبرهان.

قوله سبحانه :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) ويكون فيها الأطفال والمجانين وإنما قلنا ذلك تغليبا للأكثر كقولك قال أهل البصرة وإن كان قولا لبعضهم

فصل

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) علق الخلود بدوام السماوات والأرض وهما يفنيان الجواب أنما علق به على طريق التبعيد وتأكيد الدوام تقول العرب لا أفعل كذا ما لاح كوكب وما أضاء الفجر وما اختلف العصران وما تغنت حمامة ونحوها ومرادهم التأبيد ويجري ذلك مجرى قولهم لا أفعل كذا أبدا لأنهم يعتقدون أنه لا يزول ولا يتغير وعباراتهم تجري بحسب اعتقاداتهم لا بحسب ما يجري عليه الشيء في نفسه كما اعتقد بعضهم في الأصنام أن العبادة تحق لها فسماها آلهة بحسب اعتقاده لا بحسب الحقيقة وقيل إنه أراد به الشرط وعنى بالآية دوام السماوات والأرض المبدلتين لأنه تعالى قال (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأعلمنا أنهما تبدلان وقد يجوز أن يديمهما بعد التغيير أبدا بلا انقطاع وإنما المنقطع هو دوام السماوات والأرض التي يعلم الله تعالى انقطاعهما ثم يزيدهم الله على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم.

قوله سبحانه :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ) وفي موضع (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) لأن من لفظ الواحد ومعناها الجمع فمرة يحمل على اللفظ وأخرى على المعنى.

قوله سبحانه :

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) وقوله (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وقوله

٢٥٣

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) دخل لو لا على الماضي لأنها للتحضيض والتوبيخ.

قوله سبحانه :

(وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) المراد بالرؤية العلم إلا أن العلم لم يتناول كونها سبيلا للرشد وكونها سبيلا للغي بل يتناولها لأمر من هذا الوجه ثم إنهم عالمين بسبيل الرشد والغي غير أنهم لاتباع الهوى يعدلون عن الرشد إلى الغي ويجحدون ما يعلمون المراد بالرؤية الأولى العلم وبالثانية رؤية البصر والسبيل المذكور في الآية هي الأدلة والآيات لأنها مما تدرك بالبصر وتسمى بأنها سبيل الرشد وسبيل الغي هي الشبهات والمخاريق من نصب المبطلين.

قوله سبحانه :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) التكذيب قد يطلق في الأخبار وغيرها يقال فلان يكذب بكذا إذا اعتقد بطلانه كما يقال يصدق بكذا إذا اعتقد صحته ولو صرفنا التكذيب هاهنا إلى أخبار الله التي تضمنها كتبه جاز فتكون الآيات هي كتب الله دون سائر المعجزات.

قوله سبحانه :

(يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) وإن كانوا يستبقون الأطفال من البنات تغليبا لأنهم كانوا يستبقون الصغار والكبار كما يقال أقبل الرجال وإن كان معهم صبيان وقيل اسم النساء يقع على الصغار والكبار كما أن الأبناء يقع على الصغار والكبار وقيل إنهم سموا بذلك على تقدير أنهن يبقين حتى يصرن نساء.

قوله سبحانه :

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) والحكم هي الحكمة وهي حسنة المراد به على ما يدعون من الحكمة (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقال (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

قوله سبحانه :

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني القرآن قال قتادة إنما كرره بواو

٢٥٤

العطف لأن الكتاب القرآن والحكمة السنة وذلك لاختلاف فائدة الصفتين وذلك أن الكتاب ذكر للبيان أنه مما يكتب ويخلد ليبقى على وجه الدهر.

قوله سبحانه :

(كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أثبت شيئا بهذه الهاء ثم قال (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) المعنى أنه قد كان يرى الضباب وأنه تراه كثيفا من بعيد فإذا دخلت فيه رق وصار كالهواء وغيرك يراه من موضعك كما كنت تراه أولا ويجوز أن يكون معنى إذا جاءه يريد إذا جاء موضعه.

قوله سبحانه :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) المعنى أنه مالك لجميع الأشياء واجتزأ بذكر بعض الأشياء عن ذكر بعض لدلالته عليه كما قال (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ولم يقل على ظهورهم لأن من المفهوم أنهم يذكرون على كل حال ومثله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) لما كان رضى أحدهما رضى الآخر ومثله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ولم يقل ينفقونهما لدلالته على ذلك.

قوله سبحانه :

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) لم يحتج أن يقول سبيل المؤمنين لأنهن سبيل المجرمين إذا بانت فقد بان معها سبيل المؤمنين لأنه خلافها حذف إحدى الجملتين لدلالة الكلام عليه كما قال (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل البرد لأن الساتر يعمهما.

قوله سبحانه :

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) التقدير وما قلاك حذف اللام لدلالته عليه ولأن رءوس الآي بالياء فلا تخالف بينهما ومثله (فَآوى) و (فَهَدى) و (فَأَغْنى).

قوله سبحانه :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ولم يتقدم نفاقهم إيمان

٢٥٥

الجواب من ارتكب الضلالة وترك الهدى جاز أن يقال ذلك فيه ويكون معناه كان الهدى الذي تركه هو الثمن الذي جعله عوضا من الضلالة التي أخذها فيكون المشتري مكان المشتري به كما قال الشاعر:

أخذت بالجمة رأسا أزعرا

وبالثنايا الواضحات الدررا

كما اشترى المسلم إذ تنصرا.

قوله سبحانه :

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) هذا كقول العرب لا مهرب مني ولا وزر ولا نفق الوزر الجبل والنفق السرب فكأنه تعالى نفى أن يكون لهؤلاء الكفار عاصم منه ومانع من عذابه وإن جبال الأرض وسهولها لا تحجز بينهم وبين ما يريد إيقاعه بهم وإذا نفى تعالى أن يكون لهم معقلا فقد نفى المعقل من كل وجه.

قوله سبحانه :

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) إنما سمى مكاءهم بأنه صلاة لأنهم كانوا يقيمون فعلهم الصفير والتصفيق مكان الصلاة والدعاء والتسبيح ثم إنهم كانوا يعملون كعمل الصلاة فيه.

قوله سبحانه :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي يظهر ذلك العمل من الثواب ويقال العامل لك مثل ما عملت أي مثل أجره.

فصل

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) قال (عَلِمُوا) ثم قال (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) معناه أن الذين قال لهم يعلمون غير الذي لا يعلمون فيكون الذي يعلمون الشياطين كقوله (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ويكون الذين شروا أنفسهم هم الذين لا يعلمون.

قوله سبحانه :

(لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) معناه لئن نصرهم

٢٥٦

من هو على دين هؤلاء الذين أخبر أنهم (لا يَنْصُرُونَهُمْ) لأن من نصرهم من أهل دينهم فقد دخلوا معهم ووجه آخر (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) فذلك خذلان لا نصر.

قوله سبحانه :

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) وهم لم يرجعوا وقد هلكوا معناه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) وحرام على قرية أهلكنا هذه الصفة التي وصفنا (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أو يكون لا توكيدا مثل قوله (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) وقوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) كأنه قال حرام عليها الرجوع.

قوله سبحانه :

(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) وقوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) دخول لا وما توكيد في كلام العرب كما قال (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) أي بنقضهم وكذلك (أَلَّا يَسْجُدُوا أَلَّا يَقْدِرُونَ) ومثله (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال زهير:

مورث المجد لا يغتال همته

عن الرئاسة لا عجز ولا سام.

وقال أبو النجم : فما ألوم البيض ألا تسخرا أي ما ألومها أن تسخر.

قوله سبحانه :

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) إليها كقوله (مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) و (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) وكقول الأعشى وما عمدت من أهلها لسوايكا ويقال من أجلها كقوله (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) و (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)

فصل

قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) وقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) المعنى إذا أردتم القراءة والصلاة لأن بعد القراءة لا تجب الاستعاذة إلا عند من لا يعتد بخلافه وبعد الصلاة لا يحتاج إلى الوضوء الواجب وقال قوم هو على التقديم والتأخير وهذا ضعيف لأنه لا يجوز التقديم والتأخير عند اللبس والشبهة.

٢٥٧

قوله سبحانه :

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) قال الفراء ذكر مع سواء أحد الفريقين دون الآخر لأنه محذوف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه كما قال أبو ذؤيب:

عصيت إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها.

ولم يقل أم غي لأن الكلام يدل عليه أنه كان يهواها وقال غيره أن ليسوا سواء تمام الكلام ثم استأنف لما بعده كما يقول القائل إذا ذكر قبيلة ببخل أو جبن ليسوا سواء منهم الجواد والشجاع.

قوله سبحانه :

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نحيا قبل أن نموت كما تقول شربت وأكلت والأكل كان قبل الشرب ويقال المعنى نموت ونحيا أولادنا لأنهم منا وبعضنا فكأنا قد حيينا نحن بحياتهم.

قوله سبحانه :

(فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) المعنى لم قتلتم لقوله من قبل كما قال (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أي ما تلت و (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يخلده قال الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت عنه وقلت لا يعنيني.

قوله سبحانه :

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) المعنى من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله أي من قبل المطر لمبلسين فيكون قبل الأولى للتنزيل والأخرى للمطر ويمكن أنه كرر كقولك من قبل ذاك وقبل قال الشاعر:

يرمى بها من فوق فوق وماؤه

من تحت تحت سرية يتغلغل.

قوله سبحانه :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي الشرائع أولا فأولا لأن التوحيد لم يزل تاما.

٢٥٨

قوله سبحانه :

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي في حالين أي ركعا وسجدا

فصل

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) المعنى في ذلك كحب الله المؤمنون وكما يحب الله كقولك بعت جاريتي كبيع جاريتك وأخذت مالي كأخذ مالك أي كأخذك مالك تركت الفاعل وهو حسن.

قوله سبحانه :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) المعنى القرآن والمقام كما قال (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ويقال (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) المعنى ننزل شفاء من القرآن كله كقولك يجيئني من هذا الثوب قميص أي من الثوب لا كله.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي ما آتينا من قليلها وكثيرها (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) كأنه قال ومن يرد ثواب الآخرة بالعمل كما يقال من أراد الجنة يعمل لها.

قوله سبحانه :

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) قال ابن عباس لما مضى من ذنوبهم وما خلفها ممن بعدها من بني إسرائيل ويقال لما شاهدت من الاسم أي حضرت وما خلفها مما يستقبل.

قوله سبحانه :

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي لو كنتم في السماء كقولك ما تفوتني بالبصرة ولا هاهنا وهو معك.

قوله سبحانه :

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) جمع بين

٢٥٩

اليهود والنصارى في الحكاية مع افتراق مقالتهما في المعنى وحكى عنهما ما ليس بقول لهما للإيجاز والاختصار وتقريره وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا فأدرج الجنة عنهما للإيجاز من غير إخلال إذ شهرة حالهما أغنى عن البيان كقوله (قُلْنَا اهْبِطُوا) وإنما كانت الصورة أهبط لإبليس ثم قيل اهبطا لآدم وحواء فحكاه على المعنى وتقدير الكلام وقال بعض أهل الكتاب لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقال بعضهم لن يدخلها إلا من كان نصارى والبعض الثاني غير الأول إلا أنه لما كان اللفظ واحدا جمع الأول ثم قال (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي من النفس يعني الجنس فهو في اللفظ على مخرج الراجع إلى النفس الأولى وفي تحقيق المعنى لغيرها.

قوله سبحانه :

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) كما يقول اجتنبوا المعصية من الزناء لأن الرجس يكون أيضا من غيرها ويجوز من الأوثان تأتيكم المعصية

فصل

قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إنما قال من لتقديره ولكن البار من آمن بالله كقوله (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا قال الشاعر:

تظل جيادهم نوحا عليهم

مقلدة أعنتها صفونا.

العرب تخبر عن المصدر بالاسم كقولهم إنما البر الذي يصل الرحم ويخبر عن الاسم بالمصدر والفعل كقول الشاعر:

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى

ولكنما الفتيان كل فتى ند.

فجعل أن تنبت وهو مصدر خبر عن الفتيان ثم إنه حذف البر الثاني وأقام من مقامه كقوله (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) قال النابغة:

وقد خفت حتى ما تريد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل.

أراد على مخافة وعل ويكون تقديره ولكن البر بر من آمن بالله.

قوله سبحانه :

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ

٢٦٠