فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يصحّ حينئذ أن يقصد التقرّب بكلّ من المشتبهين ، لصيرورتهما مأمورا بهما بعد تعلّق الأمر الشرعيّ بهما. والثاني مبنيّ على كون الأمر به إرشاديّا عقليّا كما هو الأظهر ، ولذا أورد المصنّف رحمه‌الله على الأوّل بما أورده من الوجهين.

والوجه فيه : أنّ نفس الاحتياط طريق إطاعة لما هو واجب في نفس الأمر ، ولا يمكن تعلّق الأمر الشرعيّ بما هو طريق الإطاعة والامتثال ، وإلّا لا فتقر هذا الأمر أيضا إلى أمر شرعيّ آخر ، فيدور أو يتسلسل. ومن هنا حمل الأمر في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) على الإرشاد الذي لا يترتّب عليه أثر سوى ما يترتّب على نفس الواقع. فمرجع الأمر بالاحتياط هو الإرشاد إلى ما فيه من مصلحة المكلّف ، وهي الائتمان بإتيان المشتبهين من خطر مخالفة الواقع ، وهذا الأمر بمجرّده لا يصلح أن يقصد به التقرّب ، لأنّ حصول التقرّب بالعبادة إنّما هو باعتبار حسنها الذي هو منشأ الأمر بها ، ولا حسن في المقدّمة العلميّة إلّا مجرّد التوصّل بها إلى الواقع ، وهو بمجرّده لا يحصل به التقرّب ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله وبما فيه من الدقّة ، ولذا ضعّفنا ما جعلوه ثمرة لوجوب المقدّمة من صحّة قصد الطاعة بالمقدّمة فيما يعتبر فيه ذلك ، كما فيما نحن فيه من مثال الظهر والجمعة والقصر والإتمام. ووجه الضعف واضح.

وممّا ذكرناه يظهر أيضا أنّ قصد الوجه المعتبر في العبادة لا يصحّ في المقام بقصد الوجوب العارض للمشتبهين من باب المقدّمة ، لأنّ المراد بالوجه المقصود هو الوجوب العارض للعبادة التي هي المقرّبة إلى الله ، والمشتبهان مع قطع النظر عن الواقع لا مطلوبيّة لهما ، وليسا مقرّبين إلى الله سبحانه ، ولذا حكم المصنّف رحمه‌الله بأنّ المقصود في المقام إحراز الوجه الواقعي.

ثمّ إنّ الثمرة بين الطريقين تظهر فيما لو أتى بالظهر مثلا أوّلا من دون قصد الإتيان بالجمعة بعدها لتحصيل الواجب الواقعي ، بل ومع قصد عدمه ، فتصحّ الظهر حينئذ على الطريقة الاولى دون الثانية ، لفرض تعلّق الوجوب الشرعيّ على كلّ

٦١

أحدهما : أن ينوي بكلّ منهما الوجوب والقربة ؛ لكونه بحكم العقل مأمورا بالإتيان بكلّ منهما. وثانيهما : أنّ ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّبا إلى الله تعالى ، فيفعل كلّا منهما ، لتحصيل الواجب الواقعي ، وتحصيله لوجوبه والتقرّب به إلى الله تعالى ، فيقصد (*) أنّي اصلّي الظهر لأجل تحقّق الفريضة الواقعيّة به أو بالجمعة التي أفعل بعدها أو فعلت قبلها قربة إلى الله ، وملخّص ذلك : أنّي اصلّي الظهر احتياطا قربة إلى الله. وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد.

ولا يردّ عليه : أنّ المعتبر في العبادة قصد التقرّب والتعبّد بها بالخصوص ، ولا ريب أنّ كلّا من الصلاتين عبادة ، فلا معنى لكون الداعي في كلّ منهما التقرّب المردّد بين تحقّقه به أو بصاحبه ؛ لأنّ القصد المذكور إنّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة دون المقدميّة.

وأمّا الوجه الأوّل ، فيردّ عليه : أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي وهو الوجوب الثابت في أحدهما المعيّن ، ولا يلزم من نيّة الوجوب المقدّمي قصده. وأيضا فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما ولو بملاحظة وجوبه الظاهري ؛ لأنّ هذا الوجوب مقدمي ومرجعه إلى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمّة ، ودفع احتمال ترتّب ضرر العقاب بترك بعض منهما ، وهذا الوجوب إرشادي لا تقرّب فيه أصلا ، نظير أوامر الإطاعة ؛ فإنّ امتثالها لا يوجب تقرّبا ، وإنّما المقرّب نفس الإطاعة ، والمقرّب هنا أيضا نفس الإطاعة الواقعيّة المردّدة بين الفعلين ، فافهم ؛ فإنّه لا يخلو عن دقّة.

______________________________________________________

واحدة منهما ، فيصحّ الإتيان بكلّ واحدة منهما ولو مع القصد إلى عدم الإتيان بالاخرى ، بخلافه على الثانية ، إذ وجوب كلّ واحدة منهما حينئذ من باب المقدّمة ، فلا يصحّ قصد التقرّب بالواجب الواقعي حينئذ مع عدم القصد عند الإتيان بأحد المشتبهين إلى عدم الإتيان بالآخر ، وهو واضح.

ثمّ إنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا من عدم صحّة قصد التقرّب بكلّ واحد من

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «فيقصد» ، فيتصوّر.

٦٢

وممّا ذكرنا يندفع توهّم : أنّ الجمع بين المحتملين مستلزم لإتيان غير الواجب على جهة العبادة ؛ لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ـ ليقطع بإحرازه في الواجب الواقعي ـ ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب (١٦٢٧) الواقعي فيكون محرّما ، فالاحتياط غير ممكن في العبادات ، وإنّما يمكن في غيرها من جهة أنّ الإتيان بالمحتملين لا يعتبر فيهما قصد التعيين والتقرّب ، لعدم اعتباره في الواجب الواقعي المردّد ، فيأتي بكلّ منهما لاحتمال وجوبه.

ووجه اندفاع هذا التوهّم مضافا إلى أنّ غاية (١٦٢٨) ما يلزم من ذلك عدم

______________________________________________________

المشتبهين من حيث كونهما مقدّمة للواقع وإن كان متّجها في بادئ النظر ، إلّا أنّه قد حقّق في مسألة دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ـ من مسائل الشكّ في التكليف ـ مع كون الشبهة ناشئة من فقدان النصّ ، صحّة قصد التقرّب بالفعل المحتاط به لأجل حسن الاحتياط ، فراجع.

١٦٢٧. فيه نظر ، لأنّ الظاهر تحقّق التشريع بكلّ من المشتبهين ، لأنّ التشريع هو إدخال ما لم يثبت في كونه من الدين في الدين ، لا خصوص ما علم أنّه ليس منه فيه ، لقبح الأوّل أيضا عقلا بل شرعا أيضا ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله عند تأسيس الأصل في العمل بالظنّ ، وحيث لم يثبت كون خصوص كلّ واحد من المشتبهين من الدين ، يكون الإتيان بخصوص كلّ واحد منهما بقصد كونه من الدين تشريعا.

١٦٢٨. يردّ عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّ محذور التشريع مشترك بين القول بوجوب الاحتياط والتخيير ، لأنّ القائل بالثاني يدّعي أنّ الواجب عدم المخالفة القطعيّة للواقع وكفاية الموافقة الاحتماليّة فيه ، وهو يحصل بالإتيان بأحد المشتبهين ، فيكون القول بالتخيير من شعب القول بالاحتياط ، لكونه قولا بالاحتياط في الجملة ، لفرض كون الإتيان بأحدهما لأجل تحصيل الواقع في الجملة ، لا لأجل وجوبه بالخصوص شرعا ، فيكون الإتيان به بقصد كونه من الدين تشريعا. ولكن هذا

٦٣

التمكّن من تمام (١٦٢٩) الاحتياط في العبادات حتّى من حيث مراعاة قصد التقرّب المعتبر في الواجب الواقعي ـ من جهة استلزامه للتشريع المحرّم ـ ، فيدور الأمر بين الاقتصار على أحد المحتملين وبين الإتيان بهما مهملا لقصد التقرّب في الكلّ فرارا عن التشريع ، ولا شكّ أنّ الثاني أولى ؛ لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الإمكان ، فإذا لم يمكن الموافقة بمراعاة جميع ما يعتبر في الواقعي في كلّ من المحتملين ، اكتفي بتحقّق ذات الواجب في ضمنهما : أنّ اعتبار قصد (١٦٣٠) التقرّب والتعبّد في العبادة الواجبة واقعا لا يقتضي قصده في كلّ منهما ، كيف وهو غير ممكن! وإنّما يقتضي بوجوب قصد التقرّب والتعبّد في الواجب المردّد بينهما بأن يقصد في كلّ منهما : أنّي أفعله ليتحقّق به أو بصاحبه التعبّد بإتيان الواجب الواقعي.

وهذا الكلام بعينه جار في قصد الوجه المعتبر في الواجب ؛ فإنّه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصّة في خصوص كلّ منهما ، بأن يقصد أنّي اصلّي الظهر لوجوبه ، ثمّ يقصد أنّي اصلّي الجمعة لوجوبها ، بل يقصد أنّي اصلّي الظهر لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي اصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك.

______________________________________________________

مبنيّ على ما عرفته في الحاشية السابقة من تحقّق التشريع فيما لم يثبت كونه من الدين مطلقا ، وحينئذ يمكن دعوى كون القول بالاحتياط أولى من القول بالتخيير ، لحصول الواقع بالأوّل بالفرض ، والشكّ في حصوله بالثاني.

١٦٢٩. حاصله : دوران الأمر في المقام بين فوات وصف من أوصاف الذات يقينا وبين احتمال فوات الذات ، وأنّ الأوّل أولى من الثاني. وهو لا يخلو من تأمّل ، لأنّ نيّة التقرّب لا تقاس على سائر شرائط العبادة ، لأنّ قوامها بها ، وهي روحها ، وهي بدونها كالعدم ، لأنّ مطلوبيّتها إنّما هي بعنوان حصول التقرّب والامتثال بها ، بل ذلك هي الغاية المقصودة منها. ويمكن دعوى معارضة فوات مثل هذا الوصف لفوات الذات فيما كان الأوّل قطعيّا والثاني محتملا كما هو الفرض.

١٦٣٠. حاصله : منع اعتبار قصد التقرّب بخصوص المأتيّ به تفصيلا ، وأنّ ذلك على تقدير تسليمه إنّما هو فيما أمكن تحصيل العلم التفصيلي بالواقع فيه ،

٦٤

والحاصل : أنّ نيّة الفعل هو قصده على الصفة التي هو عليها التي باعتبارها صار واجبا ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك في كلّ من المحتملين ، وإذا لاحظنا ذلك فيه وجدنا الصفة التي هو عليها ـ الموجبة للحكم بوجوبه ـ هو احتمال تحقّق الواجب المتعبّد به والمتقرّب به إلى الله تعالى في ضمنه ، فيقصد هذا المعنى ، والزائد على هذا المعنى غير موجود فيه ، فلا معنى لقصد التقرّب في كلّ منهما بخصوصه ، حتّى يردّ : أنّ التقرّب والتعبّد بما لم يتعبّد به الشارع تشريع محرّم.

نعم هذا الإيراد متوجّه على ظاهر من اعتبر في كلّ من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص ، لكنّه مبنيّ أيضا على لزوم ذلك من الأمر الظاهري بإتيان كلّ منهما عبادة ، فيكون كلّ منهما عبادة واجبة في مرحلة الظاهر ، كما إذا شكّ في الوقت أنّه صلّى الظهر أم لا ، فإنّه يجب عليه فعلها ، فينوي الوجوب والقربة وإن احتمل كونها في الواقع لغوا غير مشروع ، فلا يرد عليه إيراد التشريع ؛ إذ التشريع إنّما يلزم لو قصد بكلّ منهما أنّه الواجب واقعا المتعبّد به في نفس الأمر. ولكنّك عرفت أنّ مقتضى النظر الدقيق خلاف هذا البناء ، وأنّ الأمر المقدّمي ـ خصوصا الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها إلّا إرشاديّا ـ لا يوجب موافقته التقرّب ولا يصير منشأ لصيرورة الشيء من العبادات إذا لم يكن في نفسه منها.

وقد تقدّم في مسألة (١٦٣١) «التسامح في أدلّة السنن» ما يوضح حال الأمر بالاحتياط ، كما أنّه قد استوفينا في بحث «مقدّمة الواجب» حال الأمر المقدّمي ، وعدم

______________________________________________________

كيف وهو غير مسلّم فيه أيضا ، ولذا قلنا بجواز الاحتياط فيما أمكن فيه العلم التفصيلي ومرجع ما ذكره هنا في كيفيّة قصد التقرّب أو الوجه إلى الطريقة الثانية من الطريقين اللتين ذكرهما.

١٦٣١. الظاهر أنّ مقصوده الإشارة إلى ما حقّقه في سائر مصنّفاته. نعم ، قد ذكر شطرا من الكلام في أدلّة التسامح في بعض مسائل الشكّ في التكليف ، إلّا أنّا قد أشرنا عند شرح قوله : «له في ذلك طريقان ....» إلى أنّ ما ذكره هناك ينافي ما بنى عليه تحقيق الكلام هنا. ثمّ إنّ تحقيق الكلام في كون الوضوء والغسل حسنين

٦٥

صيرورة المقدّمة بسببه عبادة ، وذكرنا ورود الإشكال من هذه الجهة على كون التيمّم من العبادات على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ؛ فإنّه لا منشأ حينئذ لكونه منها إلّا الأمر المقدّمي به من الشارع.

فإن قلت : يمكن إثبات (١٦٣٢) الوجوب الشرعيّ المصحّح لنيّة الوجه والقربة

______________________________________________________

بالذات دون التيمّم موكول إلى الفقه.

وأمّا صحّة التقرّب بالأمر الغيري وعدمها ، وكذا صحّة ترتّب الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته وعدمها ، فقد استوفينا الكلام في ذلك في مبحث المقدّمة ، وذكرنا هناك أنّ ظاهر الفقهاء كون قصد التقرّب في الوضوء والغسل لأجل الأمر الغيري المتعلّق بهما ، وذكرنا أيضا الإشكال فيه في صيرورة التيمّم بمجرّد الأمر الغيري به عبادة ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضا هنا ، فمن أراد أن يصدع الحقّ فعليه بمراجعته.

١٦٣٢. هذا من جملة الأدلّة التي استدلّوا بها على المختار ، كما أشرنا إليه في بعض الحواشي السابقة. وقد قرّر التمسّك به بوجهين :

أحدهما : ما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله من أنّه إذا علم بالوجوب وتردّد الواجب بين أمرين فالأصل بقاء الشغل ، وعدم الخروج من عهدة التكليف بالإتيان بأحدهما ، فيثبت وجوب الأوّل منهما بالإجماع ، إذ الفرض هنا حرمة المخالفة القطعيّة ، ووجوب الآخر بالأصل.

ويرد على التمسّك بالإجماع ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمه‌الله ـ أنّ هذا الإجماع ليس بحجّة ، لكون المسألة عقليّة ، لأنّ مستند المجمعين هو العقل كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، لا ورود دليل تعبّدي على ذلك ، ولا اعتداد بالإجماع في المسائل العقليّة ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل عند بيان أدلّة القول بحرمة التجرّي ، وأوضحناه هناك. والفرق بينه وبين ما أورده المصنّف رحمه‌الله هو عدم

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الاعتداد بالإجماع فيما علم بمستند الجمعين ، وبضعفه (*) ومبني على ما ذكرنا عدم الاعتداد به في المسائل العقليّة مع قطع النظر عن مستندهم. وعلى كلّ تقدير لا يمكن إثبات الوجوب الشرعيّ به.

ثمّ إنّ ظاهر المصنّف رحمه‌الله تسليم كون هذا الإجماع اصطلاحيّا ، إلّا أنّه ادّعى عدم إمكان الاستكشاف به عن خطاب شرعيّ بعد العلم بمستند المجمعين ، وضعف دلالته على الوجوب الشرعيّ الذي هو المدّعى. ويمكن أن يقال بعد تسليم صحّة الاستكشاف به عن خطاب شرعيّ : إنّ هذا الخطاب لا يزيد على خطابات وجوب الاحتياط ، فكما أنّها إرشاديّة لا يثبت بها الوجوب الشرعيّ ، كذلك المستفاد من الإجماع. ومرجع ما ذكرناه مع ما ذكره المصنّف رحمه‌الله إلى منع حجيّة هذا الإجماع أوّلا ، ومنع الاستكشاف به عن خطاب شرعيّ ثانيا ، ومنع استفادة الوجوب الشرعيّ من الخطاب الشرعيّ المستفاد منه ثالثا.

وأمّا التمسّك بالاستصحاب فيرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمه‌الله ـ أنّه إنّما يتمّ لو سلّم الخصم ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه ، والمحقّق القمّي رحمه‌الله ينكر ذلك ، ويدّعي أنّ القدر المتيقّن من تعلّق التكليف بالواقع هو حرمة ترك كلّ من الأمرين لا أحدهما لو صادف الواقع ، كما هو صريح ما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ، ولذا استظهرنا منه في بعض الحواشي السابقة كون النزاع في المقام صغرويّا.

نعم ، لا يرد هذا الإيراد على ما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله هنا ، من التمسّك بالاستصحاب لإثبات كيفيّة النيّة بعد الفراغ من أصل وجوب الاحتياط. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ هذا الدليل إقناعي لا إلزامي ، لأنّ مقتضى الخطاب الشرعيّ ثبوت التكليف بنفس الواقع ، بناء على ما هو الحقّ من وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة لا

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، والعبارة مغلوطة من الناسخ ، ولعلّ الصحيح هكذا : وتضعيفه مبنيّ على ما ذكرنا من عدم ....

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المعلومات بالتفصيل ، كيف لا ومقتضى وضعها للمعاني المعلومة جواز المخالفة القطعيّة ، والمفروض هنا الفراغ من بطلانه. وعدم تسليم المحقّق المذكور ثبوت التكليف كذلك لا يضرّ بعد تبيّن خلافه.

وثانيهما : أنّه إذا علم بالواقع تفصيلا بالسماع من الإمام عليه‌السلام أو غيره ، ثمّ عرض الاشتباه بالنسيان مثلا ، وتردّد الواجب بين أمرين ، فالأصل بقاء الشغل ، وعدم الخروج من عهدة التكليف الثابت بالواقع بالإتيان بأحدهما. وإذا ثبت وجوب الاحتياط في مثل هذه الصورة ، ثبت في غيرها ممّا اشتبه فيه الواجب من أوّل الأمر ـ كما في أمثال زماننا ـ بعدم القول بالفصل. ولا يرد عليه ما أوردناه على التقرير الأوّل من عدم تسليم الخصم ثبوت التكليف بالواقع.

نعم ، يرد عليه أوّلا : إمكان التفصيل في المقام ، لعدم العلم بإجماعهم على عدم الفصل ، لعدم عنوان المسألة بالقيود المأخوذة في موضوعها في كلمات كثير من العلماء.

وثانيا : إمكان قلب الإجماع على مذاق المحقّق القمي رحمه‌الله ، على ما تقدّم من منعه من ثبوت التكليف بالواقع فيما لم تكن الشبهة مسبوقة بالعلم التفصيلي ، وأنّ المتيقّن منه هو وجوب عدم ترك كلّ واحد من المشتبهين ، لا وجوب الإتيان بنفس الواقع على ما هو عليه كي يجب الاحتياط. فنقول فيما لم يكن العلم الإجمالي فيه مسبوقا بالعلم التفصيلي : إنّ مقتضى استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر أو الجنون عدم ثبوت التكليف إلّا بحرمة ترك كلا الأمرين لا وجوب كليهما ، وإذا ثبت التخيير هنا بحكم الاستصحاب ، ثبت فيما كان مسبوقا بالعلم الإجمالي بعدم القول بالفصل ، فتأمّل.

فإن قلت : إنّ غاية الأمر هنا تعارض الاستصحابين ، والاستصحاب الوجودي مقدّم على العدمي ، كما هو المصرّح به في كلماتهم.

قلت : لا دليل على الترجيح بذلك ، ولم أر مصرّحا به من الفقهاء المعتنين بالفقه ، سوى ما حكاه بعض مشايخنا عن صاحب المناهل. ولا دليل عليه ، لشمول أدلّة

٦٨

في المحتملين ؛ لأنّ الأوّل منهما واجب بالإجماع ولو فرارا عن المخالفة القطعيّة ، والثاني واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعيّ الظاهري ؛ فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال وعدم الإتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه. قلت : أمّا المحتمل المأتيّ به أوّلا فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ، وإنّما وجب لاحتمال تحقّق الواجب به الموجب للفرار عن المخالفة أو للقطع بالموافقة إذا أتي معه بالمحتمل الآخر ، وعلى أيّ تقدير فمرجعه إلى الأمر بإحراز الواقع ولو احتمالا.

وأمّا المحتمل الثاني فهو أيضا ليس إلّا بحكم العقل من باب المقدّمة ، وما ذكر من الاستصحاب ، فيه ـ بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل (١٦٣٣) من أوّل الأمر بوجوب الجميع و (*) بعد الإتيان بأحدهما يكون حكم العقل

______________________________________________________

الاستصحاب لكلّ منهما على نهج واحد ، فلا مرجّح لإدراج أحدهما تحتها دون الآخر. مع أنّه يمكن ترجيح الاستصحاب العدمي هنا على الوجودي بالتعدد ، وقد صرّح والده صاحب الرياض بالترجيح به في مبحث الحيض.

١٦٣٣. حاصل هذا الوجه : أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما لم يكن الشكّ في بقاء الحكم السابق علّة تامّة لثبوته في حال الشكّ ، وإلّا كان ثبوت الحكم في مورد الشكّ يقينيّا ، فلا يبقى شكّ في الحالة الثانية في الظاهر حتّى يستصحب فيه الحكم السابق ، ولذا لا يجري استصحاب الاشتغال في مورد قاعدته ، لكون الشكّ في ارتفاع الحكم بعد العلم إجمالا أو تفصيلا بثبوته علّة تامّة لحكم العقل بوجوب تحصيل اليقين بالفراغ. وما نحن فيه من جزئيّات هذه الكلّية ، لأنّه إذا علم بوجوب شيء في الواقع وتردّد عندنا بين أمرين ، فالشكّ في الخروج من عهدة التكليف بعد الإتيان بأحدهما علّة تامّة لحكم العقل بتحصيل العلم بالفراغ بالإتيان بالآخر ، وإلّا لم يكن حاكما بوجوب الإتيان بالجميع من أوّل الأمر ، فلا مجرى حينئذ لاستصحاب الشغل لإثبات وجوب الآخر.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، إذ.

٦٩

باقيا قطعا ؛ وإلّا لم يكن حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض ـ أنّ مقتضى الاستصحاب (١٦٣٤) وجوب البناء على بقاء الاشتغال حتّى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوب تحصيل اليقين بارتفاعه فلا يدلّ عليه الاستصحاب ، وإنّما يدلّ عليه العقل المستقلّ بوجوب القطع بتفريغ الذمّة عند اشتغالها ، وهذا معنى الاحتياط ، فمرجع الأمر إليه.

وأمّا استصحاب وجوب ما وجب سابقا في الواقع أو استصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي ، فشيء منهما لا يثبت (١٦٣٥) وجوب المحتمل الثاني حتّى يكون وجوبه شرعيّا إلّا على تقدير القول بالاصول المثبتة ، وهي منفيّة كما قرّر في محلّه.

ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ؛ فإنّ الاستصحاب بنفسه مقتض هناك لوجوب الإتيان بالظهر الواجب في الشرع على الوجه الموظّف ، من قصد الوجوب والقربة وغيرهما. ثمّ إنّ بقيّة الكلام في ما يتعلّق بفروع هذه المسألة تأتي في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية : ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره من جهة إجمال النصّ بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل كقوله : «ائتني بعين» وقوله تعالى : (حافِظُوا

______________________________________________________

ومن هنا يظهر أنّ الأظهر عدم جريان الاستصحاب أيضا فيما لو شكّ في فعل الظهر قبل خروج الوقت ، وإن كان ظاهر المصنّف رحمه‌الله تسليم جريانه. اللهمّ إلّا أن يقال بكونه مبنيّا على مذاق المشهور في أمثال المقام.

١٦٣٤. الأظهر عدم جريان هذا الاستصحاب ، لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه ، لما سيجيء في محلّه من عدم جريانه فيما لم يترتّب فيه أثر شرعيّ على المستصحب ، ولا أثر لاشتغال الذمّة هنا سوى وجوب تحصيل اليقين بارتفاعه ، والفرض أنّه من آثاره العقليّة دون الشرعيّة.

١٦٣٥. لأنّ استلزام بقاء وجوب ما وجب سابقا ، أو عدم الإتيان بالواجب الواقعي لوجوب المشتبه الآخر ، وكونه هو الواجب الواقعي عقلي ، والاصول لا تثبت اللوازم العقليّة.

٧٠

عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٣) ، بناء على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الروايات (١٦٣٦) وغيرها كما في بعض آخر.

والظاهر أنّ الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الأولى والمختار فيها هو المختار هناك ، بل هنا أولى ؛ لأنّ الخطاب هنا تفصيلا متوجّه إلى المكلّفين ، فتأمّل (١٦٣٧).

وخروج الجاهل لا دليل عليه ؛ لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على استعلامه من دليل منفصل ، فمجرّد الجهل لا يقبّح توجيه الخطاب.

ودعوى : قبح توجيهه إلى العاجز عن استعلامه تفصيلا القادر على الاحتياط فيه بإتيان المحتملات ، أيضا ممنوعة ؛ لعدم القبح فيه أصلا.

وما تقدّم من البعض ـ من منع التكليف بالمجمل ؛ لاتّفاق العدليّة على استحالة تأخير البيان ـ قد عرفت منع قبحه (١٦٣٨) أوّلا ، وكون الكلام فيما عرض له الإجمال ثانيا.

ثمّ إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القميّ قدس‌سره والمحقّق الخوانساري في ظاهر بعض كلماته ، لكنه قدس‌سره وافق المختار في ظاهر بعضها الآخر ، قال

______________________________________________________

١٦٣٦. رواه في المجمع عن عليّ عليه‌السلام قال : «إنّها الجمعة يوم الجمعة ، والظهر سائر الأيّام». وعن التهذيب والكافي عن الباقر عليه‌السلام في الصلاة الوسطى قال عليه‌السلام : «هي صلاة الظهر ، وهي أوّل صلاة صلّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي وسط النهار ، ووسط صلاتين بالنهار : صلاة الغداة وصلاة العصر». قال عليه‌السلام : «وفي بعض القراءات : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» الحديث.

١٦٣٧. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى منع الأولويّة ، لعدم أثر لوجود هذا الخطاب المجمل عند العقل ، لأنّ اعتبار وجود الخطاب المبيّن عنده إنّما هو لأجل كونه طريقا إلى الواقع ، فإذا علم بوجود أحد الحكمين في الواقع لا يفرّق فيه عند العقل بين كون سبب هذا العلم الإجمالي هو الإجماع ، كما في مسألة فقدان النصّ ، أو الخطاب المجمل كما في هذه المسألة.

١٦٣٨. يعني : فيما تمكّن المكلّف من الإطاعة ولو بالاحتياط.

٧١

في مسألة التوضّؤ بالماء المشتبه بالنجس ـ بعد كلام له في منع التكليف في العبادات إلّا بما ثبت من أجزائها وشرائطها ـ ما لفظه : نعم ، لو حصل يقين بالتكليف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين امور ، فلا يبعد القول بوجوب تلك الأمور جميعا حتّى يحصل اليقين بالبراءة (٤) انتهى. ولكنّ التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهور (١٦٣٩) كلامه في الموافقة ؛ لأنّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين بما هو مبيّن ، وأمّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين بل ولا الظنّ بتكليفنا بذلك الخطاب ، فمن كلّف به ، لا إجمال فيه عنده ، ومن عرض له الإجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد ، لأنّ اشتراك غير المخاطبين معهم فيما لم يتمكّنوا من العلم به عين الدعوى.

______________________________________________________

١٦٣٩. لأنّ مفروض كلامه هو الحكم بوجوب الاحتياط فيما كان الإجمال في خطاب الشارع ذاتيّا لا عرضيّا لبعض الامور الخارجة ، فهو إنّما يقول بوجوب الاحتياط في الأوّل ، وما ذكره المصنّف رحمه‌الله من وجوب الاحتياط فيه إنّما هو الثاني ، ولعلّه يقول بالتخيير فيه ، كما أشار المصنّف رحمه‌الله إلى وجهه.

فإن قلت : إنّ ما ذكره من الوجه غير وجيه ، لأنّ المحقّق الخوانساري يسلّم وجوب الاحتياط فيما كان الخطاب مجملا بالنسبة إلى المخاطبين ، ولا بدّ له أن يسلّم ذلك أيضا فيما عرض الإجمال للغائبين لبعض الامور الخارجة ، لأنّ الأحكام إنّما تختلف باختلاف موضوعاتها. فإذا فرض كون إجمال الخطاب سببا لوجوب الاحتياط في حقّ المشافهين ، فلا بدّ أن يكون سببا له في حقّ الغائبين أيضا ، وإن فرض كون الخطاب المفروض إجماله للغائبين مبيّنا للمشافهين ، لأنّ المناط في اشتراكهم في التكليف هو تحقّق موضوع ثبت له حكم للمشافهين عند الغائبين ، وإن لم يتحقّق هذا الموضوع للمشافهين أصلا ، كما إذا ثبت وجوب القصر للمسافر في حقّ المشافهين ، فمتى اتّصف أحد من الغائبين بعنوان هذا الموضوع وجب عليه القصر ، وإن لم تتّفق مسافرة أحد من المشافهين.

٧٢

فالتحقيق أنّ (١٦٤٠) هنا مسألتين :

______________________________________________________

قلت : نعم ، إلّا أنّ الاشتراك في التكليف إنّما هو مع العلم باتّحاد الصنف ، ولعلّ كون إجمال الخطاب سببا لوجوب الاحتياط إنّما هو فيما كان المكلّف مخاطبا بهذا الخطاب.

فإن قلت : لو بنيت على هذا انهدمت قاعدة الاشتراك ، لوجود هذا الاحتمال في جميع الموارد.

قلت : عدم مدخليّة توجيه الخطاب في اختلاف الصنف إنّما هو فيما علم عدم المدخليّة فيه كما هو الغالب ، وإلّا فمع احتمالها نمنع انعقاد الإجماع على الاشتراك.

١٦٤٠. هذا بيان لميزان الفرق بين موضوع مسألتي إجمال النصّ وفقدانه ، بتخصيص موضوع الاولى بما كان مجملا بالنسبة إلى المخاطب ، وتخصيص موضوع الثانية بما لم يرد فيه نصّ أصلا ، أو ورد خطاب مجمل بالعرض إذا قلنا بعدم شمول الخطاب للغائبين ، لأنّ عروض الإجمال يجعل الخطاب في حكم فقد النصّ ، لعدم العلم حينئذ بالخطاب المبين الصادر عن الشارع ، ولا العلم بالخطاب المجمل المتوجّه إلينا. فإذا قال الشارع : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وقامت قرينة على إرادة خصوص الظهر أو الجمعة ، فهو في قوّة قوله : صلّ الظهر ، أو قال : صلّ الجمعة. فإذا فقدت القرينة فمرجع الشكّ إلى أنّ الصادر عن الشارع هو قوله : صلّ الظهر أو صلّ الجمعة. وليس هذا من قبيل تعارض النصّين أيضا ، لعدم العلم بصدور كلا الخطابين عن الشارع ولو بطريق شرعيّ كما هو المعتبر فيه ، بل المعلوم إجمالا صدور أحدهما وعدم صدور الآخر ، فهو داخل في موضوع فقدان النصّ مع العلم بنوع التكليف.

وعلى التحقيق المذكور لا يكون المحقّق الخوانساري مخالفا في هذه المسألة ، فتختصّ مخالفته بالمسألة السابقة ، أعني : فقدان النصّ ، بخلاف المحقّق القمّي رحمه‌الله

٧٣

إحداهما : أنّه إذا خوطب شخص بمجمل هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟ الثانية : أنّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلا وفهموه من خطاب هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر الغائبين ، فهل يجب علينا تحصيل القطع بالاحتياط بإتيان ذلك الأمر أم لا؟ والمحقّق حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني.

فظهر من ذلك أنّ مسألة إجمال النصّ إنّما يغاير المسألة السابقة ـ أعني عدم النصّ ـ فيما فرض خطاب مجمل متوجّه إلى المكلّف ، إمّا لكونه حاضرا عند صدور الخطاب وإمّا للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب. أمّا إذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الإجمال بالنسبة إلى الغائبين ، فالمسألة من قبيل عدم النصّ لا إجمال النصّ ، إلّا أنّك عرفت أنّ المختار فيهما وجوب الاحتياط ، فافهم.

المسألة الثالثة : ما إذا اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصّين كما في بعض مسائل القصر والإتمام. والمشهور فيه التخيير (١٦٤١) ؛ لأخبار التخيير السليمة عن المعارض حتّى ما دلّ على الأخذ بما فيه الاحتياط ؛ لأنّ المفروض عدم موافقة (١٦٤٢) شىء منهما للاحتياط. إلّا أن يستظهر من تلك الأدلّة : مطلوبيّة الاحتياط عند تصادم الأدلّة ، لكن قد عرفت فيما تقدّم أنّ أخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ودلالة لأخبار التخيير.

______________________________________________________

لمخالفته في كلتا المسألتين.

١٦٤١. المقصود من التعرّض لهذه المسألة إنّما هو بيان كونها من موارد الاحتياط أو التخيير الذي هو في معنى البراءة. وهذا وجه المناسبة لذكرها في مسائل الشكّ في التكليف والمكلّف به ، لأنّ الغرض منه استيفاء جميع موارد البراءة والاحتياط. وأمّا سائر الوجوه أو الأقوال في تعارض النصّين ، من التساقط أو الوقف والاحتياط في مقام العمل أو غير ذلك ، فبيانها موكول إلى مبحث التعادل والترجيح ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في المسألة الثالثة من مطالب الشكّ في التكليف. فلا يرد حينئذ ما يتوهّم من أولويّة ذكرها في مبحث التعادل والترجيح ، وكذا تعرّضه أيضا لسائر الوجوه أو الأقوال في المقام.

١٦٤٢. لأنّ المفروض تعارض النصّين على وجه التباين الكلّي بحيث لا يمكن

٧٤

المسألة الرابعة : ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق. والأقوى هنا أيضا (١٦٤٣) وجوب الاحتياط كما في الشبهة المحصورة ، لعين ما مرّ فيها : من تعلّق الخطاب بالفائتة واقعا مثلا وإن لم يعلم تفصيلا ، ومقتضاه ترتّب العقاب على تركها ولو مع الجهل ، وقضيّة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وجوب المقدّمة العلميّة والاحتياط بفعل جميع المحتملات.

______________________________________________________

الجمع بينهما.

١٦٤٣. بل هنا أولى ، لعدم تأتّي بعض أدلّتهم على القول بالتخيير في الشبهة الحكميّة هنا ، لأنّ منها منع انعقاد الإجماع على الاشتراك في التكليف هنا ، وذلك لأنّا قد أسلفنا في بعض الحواشي السابقة أنّهم قد تمسّكوا للقول بوجوب الاحتياط بقاعدة الاشتراك في التكليف ، نظرا إلى أنّه مع تردّد الواجب بين أمرين لا ريب في كون الحاضرين مكلّفين بهذا التكليف المعلوم إجمالا ، فلا بدّ للغائبين حينئذ من الاحتياط ، ليحصل اليقين بالفراغ ممّا ثبت بقاعدة الاشتراك. وأجيب عنه ـ على القول بالتخيير ـ بمنع ثبوت الاشتراك إلّا فيما ثبت العلم به تفصيلا.

وأنت خبير بأنّه على تقدير تسليمه في الشبهة الحكمية لا يتأتّى هنا ، لفرض العلم بالتكليف تفصيلا وإن وقع الاشتباه في مصداق متعلّقه.

ومنها : دعوى قبح الخطاب بالمجمل ، كما تمسّك به المحقّق القمّي رحمه‌الله ، لأنّه مع تسليم تأتّي هذه الدعوى في الشبهة الحكميّة فلا مسرح لها في المقام ، لفرض تبيّن الخطاب ، وعدم وجوب إزالة الشبهة عن المصاديق الخارجة على الشارع ، وهو واضح.

هذا ويؤيّد المختار ـ بل يدلّ عليه ـ بناء العقلاء الذين هم المرجع في معرفة كيفيّة امتثال الأحكام الشرعيّة ، إذ لا ريب في عدم تفرقتهم في إيجاب تحصيل القطع بالفراغ من التكليف المبيّن بين تبيّن مصاديقه واشتباهه ، كما هو واضح لمن لاحظ

٧٥

وقد خالف في ذلك الفاضل القميّ رحمه‌الله فمنع وجوب الزائد على واحدة من المحتملات مستندا في ظاهر كلامه (١٦٤٤) إلى ما زعمه جامعا لجميع صور الشكّ في المكلّف به :

______________________________________________________

الأمثلة العرفيّة وتتبّع مواردها. فالعلم التفصيلي بالخطاب كما أنّه مقتض عندهم للموافقة القطعيّة عند تبيّن مصاديقه ، كذلك مع اشتباه بعض مصاديقه وتردّده بين أمرين أو امور.

١٦٤٤. يمكن أن يستدلّ عليه بوجهين آخرين ، يمكن استفادتهما أيضا من التأمّل في أطراف كلام المحقّق القمّي رحمه‌الله.

أحدهما : منع المقتضي لوجوب الاحتياط ، لأنّه في مثل الفائتة المردّدة بين الظهر والجمعة أو الماء المردّد بين المطلق والمضاف وغيرهما ، إمّا هو الإجماع أو الأدلّة اللفظيّة. ويرد على الأوّل : أنّ القدر المتيقّن منه حرمة المخالفة القطعيّة ، بأن ترك القضاء أو الوضوء رأسا ، لا وجوب الموافقة القطعيّة بالإتيان بكلا الأمرين. وعلى الثاني : أنّه إنّما يتمّ على القول بوضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة. وفيه منع ، لإمكان دعوى وضعها للمعلومات الذهنيّة ، كما هو مذهب جماعة. ومع التسليم فهي منصرفة مطلقا أو في خبر الأوامر إليها.

وأنت خبير بأنّ الأوّل إنّما يتمّ إن كان المستند في المقام هو الإجماع ، وليس كذلك ، بل هو مع بناء العقلاء وغيره كما عرفت. وأمّا الثاني فضعفه ظاهر ، لأنّ الحقّ كون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة دون المعلومة. ودعوى الانصراف إليها ضعيفة ، لعدم المنشأ له في المقام. مع أنّه لو تمّ أفاد جواز المخالفة القطعيّة ، والفرض هنا الفراغ من بطلانه.

وثانيهما : أنّ مقتضى الجمع بين الإجماع على حرمة المخالفة القطعيّة وأدلّة البراءة المقتضية لها هو القول بالتخيير في المقام.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ إن كانت أدلّة البراءة شاملة لصور العلم الإجمالي ، و

٧٦

من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة. وأنت خبير (١٦٤٥) بأنّ الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شىء ؛ لأنّ المكلّف به مفهوم معيّن طرأ الاشتباه في مصداقه لبعض العوارض الخارجيّة كالنسيان ونحوه ، والخطاب الصادر لقضاء الفائتة عامّ في المعلومة تفصيلا والمجهولة ، ولا مخصّص له بالمعلومة لا من العقل ولا من النقل ، فيجب قضائها ، ويعاقب على تركها مع الجهل كما يعاقب مع العلم.

ويؤيّد ما ذكرنا ما ورد من وجوب (١٦٤٦) قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضة معلّلا ذلك ببراءة الذمّة على كلّ تقدير ، فإنّ ظاهر التعليل يفيد عموم

______________________________________________________

ليست كذلك ، لأنّها إن شملت كلا المشتبهين فهو ينافي العلم الإجمالي المدلول على اعتباره بالاعتبار ومفهوم أدلّة البراءة ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله في المقام الثاني في مقامي المسألة الاولى. وإن شملت أحدهما المعيّن فهو ترجيح بلا مرجّح. وإن شملت أحدهما لا بعينه فهو مستلزم لاستعمالها في معنى التخيير في موارد العلم الإجمالي ، وفي الإباحة التعيينيّة في موارد الشبهات البدويّة ، وهو غير جائز.

١٦٤٥. يرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أمّا أوّلا : فإنّه مع تسليم كون الخطاب بمشتبه المصداق من قبيل الخطاب بالمجمل ، أنّه إنّما يتمّ إن قلنا بشمول الخطاب للمعدومين ، وهو ممنوع بتسليم الخصم.

ويدفعه : أنّا ننقل الكلام إلى المشافهين ، إذ لا ريب في عروض الاشتباه للمصاديق ولو في بعض الموارد عندهم أيضا ، فإذا ثبت التخيير لهم مع اشتباه مصداق المكلّف به ولو في بعض الموارد ، ثبت لنا أيضا بقاعدة الاشتراك في التكليف. اللهمّ إلّا أن يمنع حصول العلم بذلك في حقّ المشافهين.

وأمّا ثانيا : أنّ التكليف مع اشتباه مصداق المكلّف به لو كان قبيحا لما وقع شرعا ، كما في اشتباه القبلة واشتباه الثوب الطاهر بالنجس ، لما ورد من وجوب الاحتياط فيهما.

١٦٤٦. هو المرويّ عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن رجل أنّه

٧٧

مراعاة ذلك في كلّ مقام اشتبه عليه الواجب ؛ ولذا تعدّى المشهور عن مورد النصّ ـ وهو تردّد الفائتة بين رباعيّة وثلاثية وثنائية ـ إلى الفريضة الفائتة من المسافر المردّدة بين ثنائيّة وثلاثيّة ، فاكتفوا فيها بصلاتين.

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ممّا كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب كالقبلة واللباس وما يصحّ السجود عليه وشبهها ، بناء على دعوى سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ؛ ولذا أسقط الحلّي وجوب الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحكم بالصلاة عاريا ، بل النزاع فيما كان (١٦٤٧) من هذا

______________________________________________________

نسي صلاة من الصلوات الخمس لا يدري أيّها هي ، قال عليه‌السلام : «يصلّي ثلاثة وأربعة وركعتين ، فإن كانت الظهر والعصر والعشاء كان قد صلّى ، وإن كانت المغرب والغداة فقد صلّى». إنّما جعلها مؤيّدة لا دليلا لعدم صراحتها في عليّة اليقين بالتكليف لوجوب تحصيل اليقين بالفراغ ، إذ لو كان كذلك لوجب الأمر بالإتيان بخمس صلوات ، لعدم حصول اليقين بالفراغ بالثلاث ، فلا بدّ أن يكون التعليل بحصول الفراغ بالثلاث تعبّديّا ، بمعنى اقتناع الشارع عن الواقع بما يناسبه ، لأنّ الفائتة إن كانت هي الظهر مثلا فقد قنع الشارع عنها بالإتيان بأربع ركعات مع التخيير فيها بين الجهر والإخفات. ولا ريب في عدم حصول اليقين بالفراغ من الواقع بمثلها ببطلان الظهر أداء وقضاء مع الجهر فيها ، فلا بدّ أن يكون الحكم بمثلها تعبّديّا. وحينئذ إن سلّمنا جواز التعدّي لأجل هذه العلّة إلى الفائتة عن المسافر المردّدة بين الثنائيّة والثلاثيّة ، فلا ريب في عدم جواز التعدّي إلى غيرها ، كما إذا تردّد الفائت بين الحجّ والصوم أو غيرهما.

١٦٤٧. توضيح المقام : أنّه مع اشتباه مصداق المكلّف به بغيره قد يتردّد الأمر بين ذاتهما ، كتردّد الفائتة بين الظهر والعصر ، وقد يتردّد الأمر بينهما باعتبار الاشتباه والتردّد في بعض شرائط المكلّف به مع العلم بمصداقه تفصيلا ، من غير

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

جهة ما وقع فيه التردّد من بعض شرائطه ، كما مثّل به المصنّف رحمه‌الله. وكلا القسمين داخلان في موضوع النزاع في المسألة الرابعة. وإذا قرّر النزاع في ثانيهما على نحو ما قرّره في تلك المسألة ، فلا بدّ أن يقال في مورد اشتباه القبلة أو اللباس مثلا : هل يجب الاحتياط بالصلاة إلى الجهات الأربع وفي الثوب الطاهر والنجس ، أو يتخيّر في الصلاة إلى الجهات وفي أحد الثوبين؟ إلّا أنّ المصنّف رحمه‌الله قد ادّعى أنّ ما كان من قبيل الثاني ينبغي أن يقرّر النزاع في أصل ثبوت الشرطيّة وعدمه ، معلّلا ذلك بأنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط.

ولعلّ الوجه فيه أنّ مرجع القول بالتخيير عند اشتباه بعض الشروط إلى نفي الشرطيّة ، لعدم ترتّب أثر على أحدهما بالخصوص ، بخلاف ما لو جهل أصل المكلّف به ، كالفائتة المردّدة بين الظهر والعصر ، لأنّ أثر القول بالتخيير فيه هو عدم جواز المخالفة القطعيّة.

وأنت خبير بعدم صلوح ذلك للفرق ، لأنّ أثر القول بالتخيير عند اشتباه بعض الشروط أيضا قد يظهر في عدم جواز المخالفة القطعيّة فيها ، كما إذا تردّدت القبلة بين جهتين أو اشتبه الثوب النجس بالطاهر ، فلا يجوز الصلاة إلى غيرهما من الجهات وفي غيرهما من الثياب. نعم ، قد لا يمكن تحصيل القطع بمخالفة الشرط الذي اشتبه مصداقه إلّا بمخالفة مشروطه ، كما فيما لو تردّدت القبلة بين الجهات الأربع ، إلّا أنّ ذلك بمجرّده لا يصلح للفرق مطلقا.

لا يقال : إنّه لا دليل على القول بالتخيير هنا إلّا الوجهان اللذان أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله ، وهما يقتضيان سقوط الشرطيّة لا التخيير بين المشتبهين.

لأنّا نقول : إنّ ما نقله عن المحقّق القمّي رحمه‌الله من الدليل على القول بالتخيير فيما اشتبه مصداق الواجب ، يقتضيه فيما اشتبه مصداق الشرط أيضا كما لا يخفى.

فالاولى في التعليل أن يقال : إنّ للقائل بوجوب الاحتياط فيما اشتبه مصداق

٧٩

القبيل ينبغي أن يكون على هذا الوجه ؛ فإنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها إلى القبلة بدلا عن القبلة الواقعيّة.

ثمّ الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول : إمّا انصراف أدلّته إلى صورة العلم به تفصيلا ، كما في بعض الشروط نظير اشتراط الترتيب بين الفوائت. وإمّا دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر ، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب وندب المندوب حين فعله ، وهذا يتحقّق مع القول بسقوط الشرط المجهول. وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلّي.

وكلا الوجهين ضعيفان : أمّا الأوّل : فلأنّ مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي للفعل بهذا الشرط ؛ وإلّا لم يكن من الشكّ في المكلّف به ؛ للعلم حينئذ بعدم وجوب الصلاة إلى القبلة الواقعيّة المجهولة بالنسبة إلى الجاهل. وأمّا الثاني : فلأنّ ما دلّ على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النيّة إنّما يدلّ عليه مع التمكّن ، ومعنى التمكّن القدرة على الإتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجهه ـ من الوجوب والندب ـ حين الفعل ، أمّا مع العجز عن ذلك فهو المتعيّن للسقوط دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنيّة.

______________________________________________________

الواجب أن يمنع أصل الشرطيّة هنا ، فلا معنى لدعوى وجوب الاحتياط حينئذ ، فلا بدّ أن يقرّر النزاع في أصل الشرطيّة. ولكنّ الإنصاف أنّ الاولى مع ذلك أن يقرّر النزاع تارة في أصل الشرطيّة ، للوجهين اللذين ذكرهما ، واخرى في ثبوت التخيير ، لما نقله عن المحقّق القمّي رحمه‌الله ، فتدبّر.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في المقام جار بعينه في الشبهة الحكميّة ممّا علم فيه الوجوب وتردّد الواجب بين أمرين. والقسمان السابقان آتيان فيها أيضا. والأوّل كتردّد الواجب بين الظهر والجمعة ، والثاني كتردّد شرط الصلاة بين أمرين مع العلم بأصل الثبوت في الجملة. وهنا أيضا يمكن منع الشرطيّة ، لأنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله لذلك من الوجهين وإن لم يتأتّ أوّلهما هنا ، إلّا أنّ ثانيهما جار

٨٠