فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المكلّف به. والفرق بينهما واضح ، لأنّ نفس إلزام المكلّف بشيء ـ سواء كان هذا الشيء في نفسه خفيفا أم ثقيلا ـ لما كان ضيّقا على المكلّف رفعه الشارع عند الجهل به ، وهو لا يستلزم نفي التكليف فيما كان الضيق حاصلا من جهة نفس المكلّف به. ومن هنا يظهر أنّ تمسّك بعضهم بأصالة البراءة فيما لو توقّف الوضوء أو الغسل من الجنابة مثلا على شراء الماء بأضعاف قيمته ليس في محلّه ، لأنّه من موارد قاعدة الضرر والعسر دون البراءة ، كما يظهر ممّا قدّمناه.

وكيف كان ، فالأولى في تقرير وجه النظر ما قرّره بعض مشايخنا من أنّ الطبيعة وإن كانت عين أفرادها ، وأنّ الخصوصيّة من حيث هي غير قابلة لتعلّق حكم بها ، إلّا أنّه مع دوران الأمر بين تعلّق التكليف بالطبيعة وتعلّقه بفرد خاصّ منها ، يعدّ العبد في نظر أهل العرف مكلّفا بالطبيعة يقينا وبالخصوصيّة الخاصّة شكّا ، وإن لم يكن لذلك أصل وحقيقة عند ذوي الأفهام الدقيقة ، إلّا أنّ المحكّم في أمثال المقام هو العرف ، فكان الأمر بالمقيّد عندهم أمر بمتعدّد ، أعني : الطبيعة وقيدها ، فكلّ منهما في نظرهم محلّ للتكليف ومورد له ، ولذا تراهم يزعمون في الأوامر المتعلّقة بالطبائع كون الطبيعة متّصفة بالوجوب العيني والأفراد بالوجوب التخييري العقلي ، وهذا ليس إلّا مبنيّا على ما ذكرنا من مغايرة الطبيعة للخصوصيّة في نظرهم وإن اتّحدا عند التحقيق.

فإذا فرض وجود الطبيعة مع قطع النظر عن الخصوصيّات الخارجة ولو في نظرهم ، وحصل الشكّ في تعلّق التكليف بها لا بشرط حصولها في ضمن فرد خاصّ أو بشرط حصولها كذلك ، ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فينفى وجوب المشكوك فيه بالأصل ، التفاتا إلى ما يقتضيه نظر أهل العرف ، وإغماضا عمّا يقتضيه العقل الدقيق.

ولا بدّ من الالتزام بذلك ، إذ لولاه لم تجر أصالة البراءة في القسم الأوّل أيضا ، أعني : ما كان الشرط فيه منتزعا من أمر خارجي كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ،

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّ شرط الصلاة ليس نفس الوضوء ولا الطهارة الحاصلة منه من حيث هي ، بل الشرط هو وقوع الصلاة في حال طهارة المصلّي ، وهذه الخصوصيّة متّحدة مع طبيعة الصلاة في الوجود الخارجي ، فلا تصلح لتعلّق تكليف بها مغايرا للتكليف بالطبيعة كما أسلفناه. ومجرّد وجود منشأ انتزاع لها غير مجد في المقام ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. فجريان البراءة هنا أيضا لا يتمّ إلّا بالالتزام بما قدّمناه من المسامحة العرفيّة ، لأنّ العرف هو المحكّم في باب الإطاعة والامتثال.

هذا كلّه فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير العقلي. ومن طريق ما بيّنّاه يظهر أنّ الأمر فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير الشرعيّ أشكل ، لأنّ أحد طرفي العلم الإجمالي هناك لما كان هي الطبيعة أمكن أن يقال بكونها متيقّنة والخصوصيّة مشكوكة ، لتغايرهما ذهنا وإن اتّحدتا وجودا ، فينفى المشكوك فيه بالأصل ، بخلافه هنا ، لأنّ الترديد والدوران فيه بين تعلّق التكليف بفرد خاصّ وتعلّقه بأفراد مخصوصة على سبيل التخيير والبدليّة ، فجريان أصالة البراءة في الفرد الخاصّ المعيّن معارض بجريانها في الواحد المخيّر فيه ، وليس هنا جامع متيقّن يؤخذ به ، وينفى وجوب المشكوك فيه بالأصل.

وتوضيح ذلك أنّهم قد اختلفوا في الواجب التخييري على أقوال ، والمتيقّن منها قولان للمعتزلة والأشاعرة ، لأنّ المعتزلة قد ذهبوا إلى تعلّق الوجوب في الواجب التخييري بكلّ واحد من فرديه بالاستقلال ، وأنّ الفرق بين وجوب الفردين تخييرا ووجوبهما عينا هو سقوط التكليف بالإتيان بأحدهما على الأوّل دون الثاني. وذهب الأشاعرة إلى أنّ الواجب هو الكلّي المنتزع من الفردين ، أعني : مفهوم أحدهما. ونحن قد ذكرنا في مبحث الواجب التخييري في الفرق بينه وبين العيني كونهما مختلفين بحسب إنشاء الوجوب ، وأنّ إنشاء التخيير بمنزلة العدول عن إنشاء وجوب أحد الفردين المخيّر فيهما إلى إنشاء وجوب الآخر ، فإذ أخبرنا الشارع بينهما فكأنّه قال : أوجبت عليك هذا بل ذاك ، وهو وإن لم يكن عدولا

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

في الحقيقة بحيث يبقى المعدول عنه بلا حكم ، إلّا أنّه بمنزلة العدول في سقوط وجوب أحدهما بالإتيان بالآخر ، بخلاف الوجوب العيني كما هو واضح.

فإذا دار الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيّ ، فعلى مذهب المعتزلة ـ بل المختار أيضا ـ لا بدّ من الاحتياط بالإتيان بمحتمل التعيين ، لعدم وجود قدر مشترك جامع بين طرفي العلم الإجمالي وجودا أو ذهنا حتّى يؤخذ به وينفى المشكوك فيه بالأصل أمّا على المختار فواضح ، لما عرفت من اختلاف نفس الإنشاءين ، فنفي أحدهما بالأصل ليس بأولى من نفي الآخر به. وأمّا على مذهب المعتزلة ، فإنّ وجوب أحد الفردين بالخصوص مباين لوجوب كلّ منهما مخيّرا فيهما ، فنفي أحدهما أيضا ليس بأولى من نفي الآخر. وعلى التقديرين لا يحصل القطع بالفراغ من التكليف الثابت إلّا بالإتيان بمحتمل التعيين ، فيجب الإتيان به قضيّة لحكم العقل. نعم ، على مذهب الأشاعرة يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي ، وقد عرفت الكلام فيه. وبالجملة ، إنّ القول بالاحتياط في المقام على المختار أو على مذهب المعتزلة لا يخلو من قوّة.

نعم ، يمكن أن يجري هنا أيضا ما تقدّم من المسامحة العرفيّة ، لأنّه مع دوران الأمر بين وجوب إكرام خصوص زيد وبين وجوب إكرامه أو إكرام عمرو ، يعدّ العبد عرفا مكلّفا بإكرام أحدهما يقينا وبإكرام خصوص زيد شكّا.

وقد ظهر من جميع ما قدّمناه أنّ هنا مقامات أربعة : أحدها : الشكّ في الجزئيّة. الثاني : الشكّ في الشرطيّة التي لها منشأ انتزاع. الثالث : الشكّ في شرطيّة ما كان متّحدا مع المأمور به ، مع رجوعه إلى الشكّ في التعيين والتخيير العقلي. الرابع : الصورة بحالها مع رجوع الشكّ إلى الشكّ في التعيين والتخيير الشرعيّ. وقد ظهر أيضا أنّ الأقرب في الجميع هو القول بالبراءة ، وإن أمكن التفصيل بينها بالقول بالبراءة في بعضها والاحتياط في الآخر.

ومن هنا يسقط اعتراضان :

١٨٣

إلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو مقدّمة ، فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد.

والحاصل : أنّ أدلّة البراءة من العقل والنقل إنّما تنفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتّب على تركه مع إتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلا ؛ فإنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك في وجوبه معذور في ترك التسليم لجهله. وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتّى يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور به رأسا. وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين لا الأقلّ والأكثر.

وكأنّ هذا هو السرّ (١٧٤٧) فيما ذكره بعض القائلين بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة كالمحقّق القمّي رحمه‌الله في باب المطلق والمقيّد : من تأييد استدلال العلّامة رحمه‌الله في النهاية على وجوب حمل المطلق على المقيّد بقاعدة «الاشتغال» وردّ ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتّى يستدعي العلم بالبراءة ، بقوله :

______________________________________________________

أحدهما : أنّ صاحب المدارك بعد أن احتاط في التكبير بغير العربيّة ، وفي تقديم لفظ «أكبر» على لفظ «الله» أورد عليه الوحيد البهبهاني بأنّ الاحتياط هنا لا يجتمع مع قوله بالبراءة في سائر المقامات من موارد الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة ، لأنّ مقتضاها عدم شرطيّة العربيّة وتقديم لفظ الجلالة.

وثانيهما : ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن المحقّق القمّي رحمه‌الله من قوله بالاحتياط في باب المطلق والمقيّد ، وقوله بالبراءة في مبحث البراءة والاشتغال. واعترض عليه صاحب الفصول ـ بل يظهر من المصنّف رحمه‌الله أيضا ـ بالتنافي بينهما.

ووجه السقوط : عدم استلزام القول بالبراءة في بعض المقامات القول بها في جميعها ، فتدبّر. نعم ، يرد عليه ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من عدم اجتماع قوله بالاحتياط في مبحث المطلق والمقيّد مع قوله بالبراءة في المتباينين ، لأنّ غاية ما يقال في الأوّل هو رجوع دوران الأمر بين التعيين والتخيير إلى المتباينين كما أسلفناه ، وهو لا يقول بالاحتياط فيهما.

١٧٤٧. لا يخفى أنّ ما ذكره مبنيّ على اتّحاد الكلّي مع الفرد ، وعدم قابليّته

١٨٤

وفيه : أنّ المكلّف به حينئذ هو المردّد بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا مكلّفون بأحدهما ؛ لاشتغال الذمّة بالمجمل ، ولا يحصل البراءة إلّا بالمقيّد ـ إلى أن قال ـ : وليس هنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ؛ لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل ، ولا تفارق لهما ، فليتأمّل (١١) ، انتهى.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عدم خلوّ المذكور عن النظر ؛ فإنّه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلّة البراءة من العقل والنقل ؛ لأنّ المنفي فيها الإلزام بما لا يعلم ورفع كلفته ، ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ، ولا فرق عند التأمّل بين إتيان الرقبة الكافرة وإتيان الصلاة بدون الوضوء. مع أنّ ما ذكر ـ من تغاير منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء واتّحادهما في الرقبة المؤمنة ـ كلام ظاهري ؛ فإنّ الصلاة حال (*) الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط.

وأمّا وجوب إيجاد الوضوء مقدّمة لتحصيل ذلك المقيّد في الخارج ، فهو أمر يتّفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة ، ونظيره قد يتّفق في الرقبة المؤمنة حيث إنّه قد يجب بعض المقدّمات لتحصيلها في الخارج ، بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى

______________________________________________________

لتعلّق حكم آخر به مغاير لحكم الفرد ، كما أوضحناه في الحاشية السابقة. وما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله مبنيّ على كون الفصل علّة تامّة لوجود الطبيعة الموجودة في ضمنه ، وإن كانت موجودة في ضمنه بوجود مغاير لوجوده ، نظرا إلى أنّ المتّصف بالوجوب الغيري حينئذ هي الحصّة الموجودة من الطبيعة في ضمنه ، دون الحصص الأخر الموجودة في ضمن أفراد أخر. فالمأمور بعتق المؤمنة حينئذ لا يكون ممتثلا للأمر بالطبيعة بعتق الكافرة ، لما عرفت من عدم تعلّق الأمر بها في ضمنه وإن كان غيريّا. وبالجملة ، إنّ الفرق بين ما ذكره المصنّف رحمه‌الله وما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله واضح بأدنى تأمّل.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وجود.

١٨٥

الإيمان مع التمكّن إذا لم يوجد غيرها وانحصر الواجب في العتق. وبالجملة : فالأمر بالمشروط بشىء لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي ، بل قد يتّفق وقد لا يتّفق. وأمّا الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له ، فالفرق بين الشروط فاسد جدّا. فالتحقيق : أنّ حكم الشرط بجميع أقسامه واحد ، سواء ألحقناه بالجزء أم بالمتباينين.

وأمّا ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله ، فلا ينطبق على ما ذكره في باب البراءة والاحتياط من إجراء البراءة حتّى في المتباينين ، فضلا عن غيره ، فراجع.

وممّا ذكرنا : يظهر الكلام فيما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ، كما لو دار الواجب في كفّارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه وبين إحدى الخصال الثلاث ، فإنّ في إلحاق ذلك بالأقلّ والأكثر ـ فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيّد أو المتباينين ـ وجهين بل قولين : من عدم جريان أدلّة البراءة في المعيّن ؛ لأنّه معارض بجريانها في الواحد المخيّر ، وليس بينهما قدر مشترك خارجي أو ذهني يعلم تفصيلا وجوبه فيشكّ في جزء زائد خارجي أو ذهني. ومن أنّ الإلزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة على الإلزام بأحدهما في الجملة ، وهو ضيق على المكلّف ، وحيث لم يعلم المكلّف بتلك الكلفة فهي موضوعة عن المكلّف بحكم «ما حجب الله علمه عن العباد» ، وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه بحكم «الناس في سعة ما لم يعلموا». وأمّا وجوب الواحد المردّد بين المعيّن والمخيّر فيه فهو معلوم ، فليس موضوعا عنه ولا هو في سعة من جهته.

والمسألة في غاية الإشكال ؛ لعدم الجزم باستقلال العقل بالبراءة عن التعيين بعد العلم الإجمالي وعدم كون المعيّن المشكوك فيه أمرا خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ، بل هو على تقديره عين المكلّف به ، والأخبار غير منصرفة إلى نفي التعيين ؛ لأنّه في معنى نفي الواحد المعيّن ، فيعارض بنفي الواحد المخيّر ؛ فلعلّ الحكم بوجوب الاحتياط وإلحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوّة ، بل الحكم في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن إشكال ، لكنّ الأقوى فيه الإلحاق. فالمسائل الأربع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء ، فراجع.

١٨٦

ثمّ إنّ مرجع الشكّ في المانعيّة (١٧٤٨) إلى الشكّ في شرطيّة عدمه. وأمّا الشكّ في القاطعيّة ، بأنّ يعلم أنّ عدم الشيء لا مدخل له في العبادة إلّا من جهة قطعه للهيئة الاتصاليّة المعتبرة في نظر الشارع ، فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصاليّة وعدم خروج الأجزاء السابقة عن قابليّة صيرورتها أجزاء فعليّة ، وسيتضح ذلك بعد ذلك إن شاء الله.

ثمّ إنّ الشكّ في (*) الشرطيّة (١٧٤٩) : قد ينشأ عن الشكّ في حكم تكليفي نفسي ، فيصير أصالة البراءة في ذلك الحكم التكليفي حاكما على الأصل في الشرطيّة والجزئية ، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبراءة ، فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم من وجوب ذلك المشكوك (١٧٥٠) في شرطيّته أو عدم وجوبه.

______________________________________________________

١٧٤٨. قد يتوهّم الفرق بين الشروط والموانع ، بإمكان القول بالبراءة في الأولى دون الثانية. وسيجيء الكلام فيه في المسألة الثانية ، فانتظره.

١٧٤٩. قد ضرب على قول «الجزئيّة» في بعض النسخ المصحّحة. والوجه فيه واضح ، لأنّ الأمر بشيء في مركّب إن كان نفسيّا فلا يدلّ على جزئيّته له ، وإن كان غيريّا فلا يكون نفسيّا ، وإن كان نفسيّا وغيريّا فهو ممتنع ، لعدم إمكان تصادق الوجوب النفسي والغيري في مورد. وقد حقّق ذلك في مبحث المقدّمة ، وأشار إليه المصنّف رحمه‌الله في الجواب عمّا أورده على نفسه. وأمّا مثال تسبّب الشكّ في الشرطيّة من الشكّ في حكم تكليفي نفسي ، فمثل الشكّ في إباحة المكان في الصلاة أو لبس الذهب فيها عند من شكّ في جواز اجتماع الأمر والنهي ، أو قال به وشكّ في حكم تقديم جانب الوجوب أو الحرمة.

١٧٥٠. هذا مجرّد فرض ، لكون الشكّ في حكم تكليفي نفسي موردا لأصالة البراءة دون الاشتغال ، فتدبّر.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الجزئيّة أو.

١٨٧

المصادر

(١) ذخيرة المعاد : ص ٢٧٣.

(٢) عدّة الاصول ج ٢ : ص ٧٥٣.

(٣) الفصول الغروية : ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٤) المدّثّر (٧٤) : ٣.

(٥) البقرة (٢) : ٢٣٨.

(٦) المزّمّل (٧٣) : ٢٠.

(٧) الحجّ (٢٢) : ٧٧.

(٨) الفصول الغروية : ص ٣٥٧.

(٩) الفصول الغروية : ص ٥١ ـ ٥٠.

(١٠) الفصول الغروية : ص ٥١ ـ ٥٠.

(١١) القوانين الاصول : ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

١٨٨

وينبغي التنبيه على امور متعلّقة بالجزء والشرط : الأوّل : إذا ثبت جزئيّة شىء وشكّ في ركنيّته ، فهل الأصل كونه ركنا أو عدم كونه كذلك أو مبنيّ على مسألة البراءة (١٧٥١) و (*) الاحتياط في الشكّ في الجزئيّة أو التبعيض بين أحكام الركن ، فيحكم ببعضها وينفى بعضها الآخر؟ وجوه ، لا يعرف الحقّ منها إلّا بعد معرفة معنى

______________________________________________________

١٧٥١. ربّما يقال : إنّ هذا البناء إنّما يتمّ بالنسبة إلى زيادة الجزء عمدا دون نقصه أو زيادته سهوا ، لعدم جريان أصالتي البراءة والاشتغال بالنسبة إلى الجزء المغفول عنه من حيث الزيادة أو النقيصة ، لأخذ الشكّ في موضوعهما ، فلا تجريان في صورة السهو والغفلة ، كما ستقف على توضيحه. وإن اريد إجرائها بالنسبة إلى الإعادة بعد الفراغ من العمل الذي وقع فيه السهو ، مع الالتفات إلى ما وقع فيه من السهو والشكّ في بطلانه به ، يرد عليه : أنّي لا أظنّ أحدا يقول بالبراءة حينئذ ، لأنّ ثبوت التكليف بالأمر المجمل المحتمل بطلانه بما وقع فيه من السهو يقتضي اليقين بالبراءة ، وهي لا تحصل إلّا بالإعادة ، فإن جرت أصالة البراءة من أوّل الأمر وإلّا وجبت الإعادة تحصيلا لليقين بالبراءة.

فإن قلت : كيف تنكر وجود قول بالبراءة في المقام والمحقّق القمّي رحمه‌الله يقول بالإجزاء فيما نحن فيه.

قلت : مع ما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله من كون مقتضى القاعدة هو البطلان ، أنّ

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

١٨٩

الركن ، فنقول : إنّ الركن في اللغة والعرف معروف (١) (١٧٥٢) ، وليس له في الأخبار ذكر حتّى يتعرّض لمعناه في زمان صدور تلك الأخبار ، بل هو اصطلاح خاصّ للفقهاء. وقد اختلفوا في تعريفه (١٧٥٣) بين من قال بأنّه ما تبطل العبادة بنقصه

______________________________________________________

القول بالإجزاء هنا مبنيّ على صدق الامتثال بالمأتيّ به ، وأنّه لا امتثال عقيب الامتثال ، وهو دليل عدم الأمر بالإعادة ، ومعه لا معنى للتمسّك بأصالة البراءة.

١٧٥٢. عن الصحاح والقاموس : ركن الشيء جانبه الأقوى ، وفي العرف ما يكون به قوام الشيء. ولعلّه المراد أيضا بالجانب الأقوى ، وإن كان الأوّل بظاهره أخصّ منه ، لعدم صدقه إلّا فيما كان له جانب وطرف. وفي المصباح : «ركن الشيء جانبه ، فأركان الشيء أجزاء ماهيّته ، والشروط ما توقّف صحّة الأركان عليه» انتهى. وظاهره كون الركن عبارة عن مطلق الجزء مقابل الشروط.

١٧٥٣. قد حكي هنا تعريفان آخران :

أحدهما : أنّ الركن ما تقوّمت به الماهيّة ، وهو المطابق لمعناه العرفي. وعليه فغير الركن بقرينة المقابلة ما لم تنتف الماهيّة بانتفائه. وفيه : أنّ الشارع إذا اعتبر التركيب بين أجزاء وجعلها شيئا واحدا ، فمقتضى التركيب بينها واعتبار كونها أجزاء من الكلّ انتفاء الكلّ بانتفاء كلّ واحد منها وإلّا لم يكن جزءا. اللهمّ إلّا أن يكون المراد بتقوّم الماهيّة تقوّمها في صدق الاسم ، بأن كان الاسم موضوعا للجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، مع إناطة صدق الاسم بوجود جملة مخصوصة منها ، وهي المسمّاة بالركن كما ذكره المحقّق القمّي في ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعمّ.

وهذا هو القول الثاني في الركن ، وهو ما كان مدار صدق اسم المركّب على وجوده. وهو ضعيف أيضا ، لأنّ النسبة بين صدق الاسم ووجود الأركان في مثل الصلاة عموم من وجه ، لعدم صدقها بمجرّد وجود الأركان مع الاكتفاء

١٩٠

عمدا وسهوا (٢) ، وبين من عطف على النقص زيادته. والأوّل أوفق (١٧٥٤) بالمعنى اللغوي والعرفي ، وحينئذ فكلّ جزء ثبت في الشرع بطلان العبادة بالاختلال في طرف النقيصة أو فيه وفي طرف الزيادة ، فهو ركن.

فالمهمّ بيان حكم الإخلال بالجزء في طرف النقيصة أو الزيادة ، وأنّه إذا ثبت جزئيّته فهل الأصل يقتضي بطلان المركّب بنقصه سهوا كما يبطل بنقصه عمدا وإلّا لم يكن جزءا؟

______________________________________________________

فيها بمسمّياتها ، وصدقها مع انتفاء بعض الأركان مع استجماع المأتيّ به لسائر الأجزاء والشرائط. والكلام في ذلك محرّر في محلّه. مع أنّ محلّ الكلام في المقام لا يختصّ بما كان له اسم مخصوص من الشارع ، بل أعمّ منه وممّا لم يثبت له اسم مخصوص ، بأن ورد أمر من الشارع بمركّب ذي أجزاء ، وشكّ في ركنيّة بعض أجزائه ، ولم يثبت من الشارع لهذا المركّب اسم مخصوص. وعلى تقدير الثبوت أعمّ ممّا كان الاسم مبيّن المفهوم كما على القول بالأعمّ ، بأن يعلم وضع ألفاظ العبادات للأعمّ ، وشكّ في ركنيّة بعض أجزائها ، أو مجمل المفهوم من رأس كما على القول بالصحيح.

وبالجملة ، إنّ الكلام في المقام إنّما هو فيما ثبتت جزئيّة شيء وشكّ في ركنيّته أعمّ من المقامات الثلاث ، لوضوح عدم اختصاص البحث في المقام ـ بل في مطلق الشكّ ـ في الجزئيّة أو الشرطيّة بالقول بالأعمّ أو الصحيح أو وجود اسم للمركّب وعدمه.

ثمّ إنّ الركن قد يطلق في غير باب الصلاة على معنى يغاير ما يطلق عليه فيها. قال المحقّق في حجّ الشرائع : «الوقوف بعرفات ركن من تركه عامدا فلا حجّ له ، وإن تركه ناسيا تداركه ما دام وقته باقيا ، ولو فاته الوقوف بها اجتزأ بالوقوف بالمشعر» انتهى ، لأنّ ظاهره الإطلاق على ما تبطل العبادة بالإخلال به عمدا ، وإن لم تبطل بالإخلال به نسيانا ، فتدبّر.

١٧٥٤. فتكون مناسبة النقل فيه أتمّ وأوضح.

١٩١

فهنا مسائل ثلاث (١٧٥٥) : بطلان العبادة بتركه سهوا ، وبطلانها بزيادته عمدا ، وبطلانها بزيادته سهوا.

أمّا الاولى ، فالأقوى فيها (١٧٥٦) أصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا إلّا أن يقوم دليل عامّ أو خاصّ على الصحّة ، لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ، فإذا انتفى انتفى المركّب ، فلم يكن المأتيّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده.

______________________________________________________

١٧٥٥. لم يتعرّض للنقص العمدي ، لما أشار إليه بقوله : «وإلّا لم يكن جزءا». ثمّ إنّ الكلام في كلّ من المسائل الثلاث يقع تارة بحسب الاصول العمليّة ، واخرى بحسب الاصول اللفظيّة. وسيشير في طيّ كلامه إلى كلّ من المقامين.

١٧٥٦. مرجع البحث هنا إلى أنّ ما ثبتت جزئيّته في حال الالتفات فهل الأصل يقتضي كونه جزءا مطلقا حتّى بالنسبة إلى حال النسيان والغفلة عنه ، ليترتّب عليه بطلان الصلاة ووجوب الإعادة في صورة النسيان والغفلة عنه ، أو الأصل يقتضي اختصاص جزئيّته بحال الالتفات.

ثمّ إنّ الكلام إنّما هو فيما لو ثبتت الجزئيّة بدليل لبّي كالإجماع أو لفظي مجمل ، وإلّا فلو ثبتت بمثل قوله : السورة جزء من الصلاة فمقتضى إطلاقه كونه جزءا مطلقا حتّى في صورة النسيان.

ثمّ إنّه يمكن تقرير الدليل على المدّعى بعد منع جريان أصالة البراءة في المقام بوجوه. أمّا منع جريانها فإنّ مقتضاها كما أشرنا إليه في غير موضع هو مجرّد نفي العقاب ، وترتّب العقاب على المنسيّ فرع توجّه خطاب إلى الناسي ، ولا خطاب عليه ولو بالنسبة إلى خصوص المنسيّ في ضمن الخطاب بالكلّ ، وهو واضح ، لقبح خطاب الناسي ، ولا بالنسبة إلى الكلّ ، لفرض النسيان عن بعض أجزائه.

فإن قلت : إنّه مع نسيان المشكوك فيه يمكن إجراء البراءة بالنسبة إلى الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وهو كاف في المقام.

١٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قلت : وجوب الإعادة والقضاء وعدمه فرع كون المشكوك فيه جزءا مطلقا حتّى بالنسبة إلى حال النسيان وعدمه ، وبعد إثبات الجزئيّة مطلقا كما ستعرفه لا معنى لإجراء البراءة بالنسبة إليهما.

وأمّا وجوه الدليل على المدّعى :

فأحدها : الاستصحاب ، لأنّه إذا دخل وقت الصلاة وهو ملتفت إلى جميع أجزائها وشرائطها فلا ريب في توجّه الخطاب بالكلّ إليه حينئذ ، فإذا صلّى ونسي المشكوك فيه ثمّ التفت إليه يمكن استصحاب بقاء الأمر الأوّل ، وهو يقتضي وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه إن قلنا بكونه تابعا للأداء ، بل يمكن إثبات جزئيّة المشكوك فيه به في حال النسيان إن قلنا بالاصول المثبتة ، وهو واضح.

وثانيهما : ما ادّعاه بعض مشايخنا من الإجماع على ركنيّة ما شكّ في ركنيّته.

وثالثها : بناء العقلاء على الركنيّة في أمثال المقام.

ورابعها : دليل العقل. وهذا هو العمدة في المقام عند المصنّف رحمه‌الله ، ولذا اقتصر عليه في مقام الاستدلال ، فنقول في توضيحه : إنّه لا يخلو : إمّا أن يراد بعدم جزئيّة المشكوك فيه في حال النسيان عدم توجّه خطاب فعلي بالنسبة إليه ولو في ضمن الخطاب بالكلّ في حال النسيان ، مع الالتزام بوجود خطاب واقعي فيه منجّز مع الالتفات إليه. وإمّا أن يراد به عدم تعلّق تكليف بالمنسيّ أصلا ، لا ظاهرا ولا واقعا ولا فعلا وشأنا ، كالبهائم بالنسبة إلى التكاليف الشرعيّة. وإمّا أن يراد كون الناسي مكلّفا بما عدا الجزء المنسيّ من الأجزاء والشرائط ، بأن كان ما عداه بدلا عن المجموع المركّب المشتمل على المنسي.

والأوّل عين ما ادّعيناه ، لأنّ مرادنا بجزئيّة المنسي مطلقا حتّى بالنسبة إلى حال النسيان ليس توجّه تكليف به إلى الناسي في حال النسيان كما هو واضح.

ويرد على الثاني أنّ الخصم أيضا لا يلتزم به ، إذ لا مجال لإنكار جزئيّة المنسيّ

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بحسب الواقع ، إذ لا ريب أنّه كنفس الصلاة ، فكما أنّ التكليف بها في الواقع لا يرتفع بالنسيان أو النوم أو نحوهما ، كذلك التكليف بأجزائها ، غاية الأمر أن يكون النسيان مانعا من تنجّز التكليف به لا سببا لارتفاعه في الواقع.

وعلى الثالث أنّه غير معقول كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ الناسي غافل عن نسيانه ، وإنّما يأتي بما يأتي به بقصد أنّه المكلّف به الواقعي ، فكيف يكلّف بالباقي؟ كيف لا ولو كان ملتفتا إلى نسيانه لم يكن ناسيا. فالأولى هو الالتزام بسقوط التكليف عن الناسي بالمركّب الواقعي ، لفرض نسيانه عن بعض أجزائه ، وعدم تكليفه بالباقي ، لعدم تعقّله كما عرفت. ولا فرق في بطلان كون الباقي بدلا من المركّب الواقعي بين دعوى كونه بدلا واقعيّا عنه أو بدلا ظاهريّا منه معتبرا في مقام النسيان ، كما يظهر وجهه ممّا قدّمناه.

نعم ، لو قام دليل آخر على اقتناع الشارع بالمأتيّ به عن امتثال الواقع ، وإن لم يكن مأمورا به في الواقع ولا في الظاهر ، من باب إقامة أمر أجنبيّ مقام الواقعي وجعله بدلا منه ، فلا كلام لنا فيه ، لأنّ الكلام هنا مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجة ، مع أنّه لا دليل عليه أيضا كما ستعرفه. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ما ذكرنا إنّما يتأتى بالنسبة إلى الأجزاء دون الشرائط ، لأنّ التكليف بالباقي عند نسيان بعض أجزاء المركّب إنّما لا يصحّ لكون التكليف مشروطا بالالتفات ، والفرض أنّ الناسي إنّما يأتي بالباقي بقصد التمام. وهذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأجزاء دون الشروط ، لعدم اعتبار الالتفات إلى كون المأتيّ به جامعا للشروط المعتبرة فيه في حصول الامتثال به ، ولذا لو غفل عن كونه متوضّأ فصلّى ثمّ التفت إليه صحّت صلاته ، بخلاف ما لو صلّى راكعا وساجدا فيها من دون قصد إليهما ، لأجل غفلته عن كون الركوع والسجود جزءين من الصلاة ، فلا بأس حينئذ أن يجعل الشارع بعض الشروط شرطا في حال الالتفات دون النسيان.

١٩٤

أمّا عموم جزئيّته لحال الغفلة ؛ فلأنّ الغفلة لا توجب تغيير المأمور به ؛ فإنّ المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجّه إليه قبل الغفلة ، ولم يحدث بالنسبة إليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ؛ لأنّه غافل عن غفلته ، فالصلاة المأتيّ بها من غير سورة غير مأمور بها بأمر أصلا (١٧٥٧). غاية الأمر عدم توجّه الأمر (*) بالصلاة مع السورة إليه ؛ لاستحالة تكليف الغافل ، فالتكليف ساقط عنه ما دام الغفلة ، نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام عنها ، فإذا التفت إليها والوقت باق وجب عليه الاتيان بها بمقتضى الأمر الأوّل.

فإن قلت : عموم جزئيّة الجزء لحال النسيان يتمّ فيما لو ثبت (١٧٥٨) الجزئيّة بمثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» دون ما لو قام الإجماع مثلا على جزئيّة شىء في الجملة واحتمل اختصاصها بحال الذكر ، كما انكشف ذلك بالدليل في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحّة الصلاة المنسيّ فيها بعض الأجزاء على وجه يظهر من الدليل كون صلاته تامّة ، مثل قوله عليه‌السلام : «تمّت صلاته ، ولا يعيد» ، وحينئذ فمرجع الشكّ إلى الشكّ في الجزئيّة حال النسيان ، فيرجع فيها إلى البراءة أو الاحتياط على الخلاف. وكذا لو كان الدالّ على الجزئيّة حكما تكليفيّا مختصّا بحال الذكر وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا ، فإنّه يقتصر في تقييده على مقدار قابليّة دليل التقييد أعني حال الذكر ؛ إذ لا تكليف حال الغفلة ، فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي نظير الشرط المنتزع منه في اختصاصه بحال الذكر كلبس الحرير ونحوه.

قلت : إن اريد بعدم جزئيّة ما ثبت جزئيّته في الجملة في حقّ الناسي إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه ، فهو غير قابل لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى

______________________________________________________

١٧٥٧. لا بالأمر الأوّل ولا بأمر آخر.

١٧٥٨. لأنّ إطلاق الخطاب الوضعي يقتضي الجزئيّة مطلقا حتّى في صورة النسيان ، بخلاف ما لو ثبتت الجزئيّة بالإجماع أو بخطاب تكليفي ، لأنّ الأوّل حيث كان لبيّا يقتصر فيه على المتيقّن ، وهو كون المشكوك فيه جزءا في حال الالتفات

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «عدم توجّه الأمر» ، عدم استمرار الأمر الفعلى.

١٩٥

المغفول عنه إيجابا وإسقاطا. وإن اريد به إمضاء الخالي عن ذلك (١٧٥٩) الجزء من الناسي بدلا عن العبادة الواقعيّة ، فهو حسن ؛ لأنّه حكم في حقّه بعد زوال غفلته ، لكن عدم الجزئيّة بهذا المعنى عند الشكّ ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البراءة والاحتياط ؛ لأنّ هذا المعنى حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البراءة بل الأصل فيه العدم بالاتّفاق. وهذا معنى ما اخترناه من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا بمعنى عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا عنه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للإجزاء في شىء ؛ لأنّ تلك المسألة مفروضة فيما إذا كان المأتيّ به مأمورا به بأمر شرعيّ ، كالصلاة مع التيمّم أو بالطهارة المظنونة ، وليس في المقام أمر بما أتى به الناسي أصلا.

وقد يتوهّم : أنّ في المقام أمرا عقليّا ؛ لاستقلال العقل بأنّ الواجب في حقّ الناسي هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في إتيان المأمور به بالأمر العقلي. وهو فاسد (١٧٦٠) جدّا ، لأنّ العقل ينفي تكليفه بالمنسي ولا يثبت له تكليفا بما عداه من الأجزاء ، وإنّما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة الواقعيّة غفلة عن عدم كونه إيّاها ؛ كيف والتكليف عقليّا كان أو شرعيّا يحتاج إلى الالتفات ، وهذا الشخص غير ملتفت إلى أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلّف بما عداه.

______________________________________________________

خاصّة. والثاني من حيث اختصاص التكاليف بحال الالتفات لا يشمل صورة النسيان.

١٧٥٩. وإن لم يكن مأمورا به أصلا ومشمولا للأمر من رأس. ولا منافاة بينه وبين رضا الشارع به بدلا من الواقع لمصلحة راعاها فيه.

١٧٦٠. حاصله : أنّ غاية ما يدلّ عليه العقل هو العذر في ترك تمام المركّب المنسيّ بعض أجزائه ، لا الأمر بالإتيان بالباقي. ويدلّ عليه أيضا أنّ الباقي لو كان مأمورا به فلا بدّ أن يكون مأمورا به بأمر ظاهري ، ولا بدّ في امتثال الأمر الظاهري من الإتيان بالمأمور به بعنوان كون الواقع مجهولا ، لأخذ الجهل بالواقع في موضوعه ، ولا أقلّ من اعتبار عدم الإتيان به بعنوان كونه مأمورا به في الواقع ، والمفروض أنّ الناسي إنّما يأتي بالباقي بعنوان كون المأتيّ به مأمورا به في الواقع. ومع التسليم نمنع كون الأمر الظاهري مفيدا للإجزاء كما قرّر في محلّه.

١٩٦

ونظير هذا التوهّم توهّم أنّ ما يأتي به الجاهل المركّب باعتقاد أنّه المأمور به ، من باب إتيان المأمور به بالأمر العقلي. وفساده يظهر ممّا ذكرنا بعينه.

وأمّا ما ذكره من أنّ دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف ، وهو ـ لاختصاصه بغير الغافل ـ لا يقيّد (*) الأمر بالكلّ إلّا بقدر مورده ، وهو غير الغافل ، فإطلاق الأمر بالكلّ المقتضي لعدم جزئيّة هذا الجزء له بالنسبة إلى الغافل بحاله ، ففيه : أنّ التكليف المذكور إن كان تكليفا نفسيّا ، فلا يدلّ على كون متعلّقه جزءا للمأمور به حتّى يقيّد به الأمر بالكلّ ، وإن كان تكليفا غيريّا فهو كاشف عن كون متعلّقه جزءا ؛ لأنّ الأمر الغيري إنّما يتعلّق بالمقدّمة ، وانتفائه بالنسبة إلى الغافل لا يدلّ على نفي جزئيّته في حقّه ؛ لأنّ الجزئيّة غير مسبّبة (١٧٦١) عنه بل هو مسبّب عنها.

______________________________________________________

١٧٦١. هذا واضح ، لأنّ وجوب الفعل للغير والأمر به لذلك يكشف عن أخذ هذا الفعل في الغير شطرا أو شرطا قبل تعلّق الأمر الغيري به ، فلا ينوط أخذه في الغير على أحد الوجهين على وجود الأمر ، فإذا انتفى الأمر لأجل النسيان تبقى الجزئيّة أو الشرطيّة بحالها.

لا يقال : إنّ انتفاء الأمر وإن لم يستلزم انتفاء الجزئيّة أو الشرطيّة ، إلّا أنّه لا يثبت حينئذ بقاء أحد الأمرين أيضا ، لاحتمال اختصاص جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته بحال الالتفات.

لأنّا نقول : إنّ الجواب عن هذا قد ظهر ممّا أجاب به المصنّف رحمه‌الله عمّا أورده على نفسه ، لما حقّقه هناك من عدم تعقّل كون الباقي في حال النسيان مأمورا به بالأمر بالمركّب ولا بأمر آخر ، إلّا على وجه الإمضاء والرضا بالبدليّة الذي لا دليل عليه.

وهذا الجواب وإن كان آتيا في كلّ ما ثبتت الجزئيّة فيه بالإجماع أو بخطاب تكليفي ، إلّا أنّ المصنّف رحمه‌الله أشار هنا بقوله : «وأمّا ما ذكره من أنّ دلالة ...» إلى

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : إطلاق.

١٩٧

ومن ذلك يعلم الفرق (١٧٦٢) بين ما نحن فيه وبين ما ثبت اشتراطه من

______________________________________________________

جواب آخر عمّا ثبتت الجزئيّة بخطاب تكليفي ، فهو رحمه‌الله إمّا قد أجاب أوّلا بجواب مشترك بين ما ثبتت الجزئيّة بالإجماع أو بخطاب تكليفي. ثمّ أجاب عمّا تثبت الجزئيّة بخطاب تكليفي بعدم استلزام انتفاء الأمر لانتفاء الجزئيّة حال النسيان. نعم ، إنّ وجه عدم التعقّل إنّما يتأتّى في الأجزاء دون الشروط ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «أمّا الاولى فالأقوى فيها ...».

ثمّ إنّ جميع ما قدّمناه إنّما هو فيما كان الأمر بالجزء والشرط إلزاميّا غيريّا. وإن كان إرشاديّا فدلالته على جزئيّة متعلّقه أو شرطيّته في الواقع من دون مدخليّة الالتفات وعدمها واضحة ، فتدبّر.

١٧٦٢. وتحقيق المقام هو الفرق بين ما ثبتت الشرطيّة لأجل القول بعدم اجتماع الأمر والنهي فيما تعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر ، واجتمعا في مورد مع تعدّد الجهة ، وبين ما ثبتت الشرطيّة لأجل القول بدلالة النهي على الفساد في العبادات ، فيما تعلّق الأمر بعنوان كلّي والنهي ببعض أفراده ، أو دلّ الدليل بأمر غيري على أخذ شيء في المأمور به شطرا أو شرطا ، بكون مقتضى الأوّل هو القول بالشرطيّة حين الالتفات ، ومقتضى الثاني هو القول بالشرطيّة في الواقع. وذلك لأنّه لا ريب في اختصاص الأحكام التكليفيّة بحال الالتفات ، فإذا قلنا باشتراط إباحة المكان في الصلاة لأجل القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، فلا بدّ من تخصيص الشرطيّة بحال الالتفات إلى النهي دون الغفلة عنه ، ومرجعه إلى تقييد إطلاق وجوب الصلاة بحال الالتفات إلى النهي ، بخلاف ما لو ورد الأمر بالصلاة ، والنهي عن إيقاعها في مكان مغصوب ، لكونه من قبيل المطلق والمقيّد ، وحكمهما كون المقيّد مقيّدا لموضوع المطلق ، فلا يرتفع التقييد بارتفاع النهي ، لأنّه إذا فرض كون النهي غيريّا وكاشفا عن أخذ عدم الخصوصيّة الملحوظة في المنهيّ عنه في موضوع الدليل المطلق ، فهو يستلزم كون متعلّق الأمر في المطلق هي الطبيعة

١٩٨

الحكم التكليفي (١٧٦٣) كلبس الحرير ؛ فإنّ الشرطيّة مسبّبة عن التكليف ـ عكس ما نحن فيه ـ ، فينتفي بانتفائه. والحاصل أنّ الأمر الغيري بشيء لكونه جزءا وإن انتفى في حقّ الغافل عنه من حيث انتفاء الأمر بالكلّ في حقّه ، إلّا أنّ الجزئيّة لا تنتفي بذلك.

وقد يتخيّل : أنّ أصالة العدم على الوجه (١٧٦٤) المتقدّم وإن اقتضت ما ذكر ، إلّا أنّ استصحاب الصحّة حاكم عليها. وفيه : ما سيجيء في المسألة الآتية : من فساد التمسّك به في هذه المقامات ، وكذا التمسّك بغيره ممّا سيذكر هناك.

فإن قلت : إنّ الأصل الأوّلي وإن كان ما ذكرت إلّا أنّ هنا أصلا ثانويّا يقتضي إمضاء ما يفعله الناسي خاليا عن الجزء والشرط المنسيّ عنه وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع (١٧٦٥) عن امّتي تسعة : الخطأ والنسيان ...» (٣) ، بناء على أنّ المقدّر ليس (١٧٦٦) خصوص المؤاخذة ، بل جميع الآثار الشرعيّة المترتّبة على الشيء المنسي لو لا النسيان ؛ فإنّه لو ترك السورة لا للنسيان يترتّب حكم الشارع عليه بالفساد ووجوب الإعادة ، وهذا مرفوع مع ترك السورة نسيانا. وإن شئت قلت : إنّ جزئيّة السورة مرتفعة حال النسيان.

______________________________________________________

المقيّدة في الواقع. ونحوه الكلام فيما دلّ الدليل بالأمر الغيري على أخذ شيء في شيء شطرا أو شرطا ، إذ لا بدّ حينئذ أن يكون المرتفع بسبب نسيان الشرط هو الأمر المتعلّق به دون شرطيّته.

١٧٦٣. يعني : النفسي منه.

١٧٦٤. يعني : أصالة عدم إمضاء الشارع ، واكتفائه بما أتى به الناسي في إثبات عموم الجزئيّة.

١٧٦٥. قد استدلّ به الشيخ في محكيّ المبسوط على عدم وجوب الإعادة على من نسي نجاسة ثوبه أو بدنه.

١٧٦٦. إمّا لتبادر العموم من نفس الرواية ، أو بضميمة رواية المحاسن المتقدّمة في الشبهة البدويّة التحريميّة ، لأنّ استدلال الإمام فيها بالنبويّ على عدم

١٩٩

قلت بعد تسليم إرادة (١٧٦٧) رفع جميع الآثار : إنّ جزئيّة السورة (١٧٦٨) ليست من الأحكام المجعولة لها شرعا ، بل هي ككلّية الكلّ ، وإنّما المجعول الشرعيّ وجوب الكلّ ، والوجوب مرتفع حال النسيان بحكم الرواية ، ووجوب الإعادة بعد التذكّر مترتّب على الأمر الأوّل ، لا على ترك السورة.

______________________________________________________

لزوم الحلف المستكره عليه يدلّ على عدم اختصاصه بالأحكام الطلبيّة ، وكونه أعمّ منها ومن الوضعيّة.

١٧٦٧. فإن قلت : كيف تدّعي أنّ المقدّر هو خصوص المؤاخذة ، والنبويّ وارد في مقام بيان الامتنان على هذه الأمّة ، وليس في رفع مؤاخذة الامور التسعة منّة عليهم ، لكونها مرفوعة بحكم العقل عن سائر الأمم أيضا؟

قلت : مع منع قبح المؤاخذة على جميع الامور التسعة ، لعلّ المقصود رفع مؤاخذة الجميع باعتبار المجموع ، إنّه يحتمل أن يكون المرفوع عنهم هو وجوب المحافظة على الوقوع فيها ، بأن يتذكّر محفوظه مرارا لئلّا ينساه ، ويحافظ على مقدّمات سائر الامور التسعة لئلّا يقع فيه. ولعلّ هذه المحافظة كانت واجبة على سائر الأمم ، وكانوا مؤاخذين بتركها ، فرفع وجوبها عن هذه الأمّة امتنانا عليهم. وهذا وإن كان خلاف الظاهر ، إلّا أنّ الحمل على إرادة العموم أبعد منه.

وأمّا رواية المحاسن المتقدّمة في الحاشية السابقة ، فمع اختصاصها بالثلاثة من التسعة ، مخالفة لمذاهب الإماميّة ، فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك باطل عندنا مع الاختيار أيضا ، وظاهر الرواية بطلانه من جهة الإكراه لا من حيث هو. وقد تقدّم شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الشبهة البدويّة التحريميّة.

١٧٦٨. توضيحه : أنّ الشارع إذا أمر بامور متعدّدة مرتّبة مرتبطة في دخول كلّ واحد منها في المراد ، بأن كان المطلوب الإتيان بالمجموع من حيث هو لا كلّ واحد بنفسه ، فالعقل يأخذ هذه الامور ويلاحظها تارة من حيث الإتيان بها على نحو ما أمر به الشارع فيصفها بالصحّة ، واخرى من حيث الإخلال ببعضها فيصفها

٢٠٠