فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

إلّا أنّ الكلام يقع في موارد : الأوّل : أنّه (*) هل يجوز ارتكاب (١٥٧٨) جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث يلزم العلم التفصيلي ، أم يجب إبقاء مقدار الحرام؟ ظاهر إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأوّل ، لكن يحتمل أن يكون مرادهم عدم وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب ، وهذا غير بعيد عن مساق كلامهم. فحينئذ لا يعمّ معقد إجماعهم لحكم ارتكاب الكلّ ، إلّا أنّ الأخبار لو عمّت المقام دلّت على الجواز. وأمّا الوجه الخامس ،

______________________________________________________

مذهبه. ولو قال : سيّما وأنّ المسألة فرعيّة يكتفى فيها بالظنّ اتّفاقا ، كان أولى.

١٥٧٨. تحقيق هذا المطلب يتوقّف على ملاحظة الأدلّة المتقدّمة على تقدير تماميّتها. أمّا الأوّل فإنّ إطلاقهم القول بجواز الارتكاب هنا وإن كان يحتمل أن يكون في مقابل حكمهم بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، ويؤيّده عدم وجدان مصرّح بجواز المخالفة القطعيّة هنا ـ إلّا أنّ تعرّضهم لنقل الخلاف في جواز المخالفة القطعيّة في المحصورة ، وعدم تعرّضهم للخلاف هنا مع إطلاقهم القول بجواز الارتكاب ، ربّما يرشد إلى كون الجواز هنا من المسلّمات عندهم ، لأنّه ربّ مسألة وإن لم يتعرّضوا لها إلّا أنّه تظهر فتواهم فيها من قرائن أحوالهم ، فلو كان هنا مخالف لتعرّضوا لنقله أيضا لا محالة.

وبالجملة ، إنّهم قد تعرّضوا للفرق بين المحصور وغير المحصور ، وكذا لحكم المحصور من حيث وجوب الموافقة القطعيّة ، وكذلك لحكم غير المحصور من حيث الموافقة القطعيّة. وأمّا من حيث جواز المخالفة القطعيّة فلم يقع تصريح منهم بذلك نفيا وإثباتا ، فيحتمل فيه الأمران ، إلّا أنّ ما ذكرنا فيه أقرب ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

نعم ، يحتمل على ما ذكرناه أيضا أن يكون عدم تعرّضهم لجواز ارتكاب جميع أطراف الشبهة غير المحصورة لأجل ندرة وقوع ارتكاب جميعها ، لا لأجل ما قدّمناه.

وأمّا الثاني فإن كان المدار في العسر على الشخصي منه فهو لا يدلّ على جواز

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «أنّه» ، في أنّه.

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

المخالفة القطعيّة ، لجواز الاكتفاء فيه حينئذ بما يندفع به العسر ، فلا دليل على جواز ارتكاب غيره. وإن كان المدار فيه على النوعيّ منه ، كما هو مقتضى الآية والروايات على ما تقدّم ، فلا ريب في اقتضائه للجواز ، إلّا أنّه قد تقدّم عدم تماميّة هذا الدليل في جميع موارد المدّعى.

وأمّا الثالث فلا ريب أنّ مقتضى أخبار الحلّ جواز ارتكاب الجميع. وقد صرّح المصنّف رحمه‌الله في الشبهة المحصورة بأنّ مقتضاها إمّا جواز المخالفة القطعيّة أو الموافقة القطعيّة ، إلّا أنّه قد تقدّم عدم تماميّة هذا الدليل أيضا.

وأمّا الرابع فظاهره قوله : «أمن أجل مكان واحد ...» هو عدم جواز الارتكاب. نعم ، قوله : «فما علمت أنّ فيه ميتة» قرينة لإرادة جواز ارتكاب الجميع. لكن قد تقدّم ضعف دلالة الرواية.

وأمّا الخامس فهو واضح الدلالة على الجواز. ولكن قد تأمّل المصنّف رحمه‌الله في تماميّته كما تقدّم.

وأمّا السادس فهو أيضا مقتض للجواز ، إلّا أنّه قد تقدّم كونه أخصّ من المدّعى.

فهذه الأدلّة ـ على تقدير تماميّة أصلها ـ وإن اتّفقت في الدلالة على جواز المخالفة القطعيّة ، ولذا اختارها بعض سادة مشايخنا ، إلّا أنّها غير ناهضة لإثبات ذلك ، إمّا لقصور في أصلها كما في ما عدا الأوّل ، أو في الدلالة على المدّعى هنا كما في الأوّل. فمقتضى العلم الإجمالي بوجود الحرام بين المشتبهات ـ كما حقّقه المصنّف رحمه‌الله ـ هو عدم جواز المخالفة القطعيّة ، وإن لم يكن عازما عليها من أوّل الأمر ، ومعه بطريق أولى.

ثمّ إنّ القول بعدم وجوب الاحتياط في غير المحصور أو جواز المخالفة القطعيّة فيه ، لا بدّ من تخصيصه بما إذا لم يكن الحرام المعلوم إجمالا أهمّ في نظر الشارع ومتميّزا عن سائر المحرّمات امتيازا تامّا ، وإلّا فالظاهر وجوب الاحتياط في مثله ، و

٢٢

فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك (١٥٧٩) من أوّل الأمر ، وأمّا معه فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام فيستحقّ العقاب.

فالأقوى في المسألة : عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من أوّل الأمر ؛ فإنّ قصده قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام.

والتحقيق (١٥٨٠) عدم جواز ارتكاب الكلّ ؛ لاستلزامه طرح الدليل الواقعي الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعي كالخمر في قوله : «اجتنب عن الخمر» ؛ لأنّ هذا التكليف لا يسقط من المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات ، غاية ما ثبت في غير المحصور : الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات ، فيكون البعض المتروك بدلا ظاهريّا عن الحرام الواقعي ؛ وإلّا فإخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله : «اجتنب عن كلّ خمر» ، اعتراف بعدم حرمته واقعا وهو معلوم البطلان.

هذا إذا قصد الجميع (١٥٨١) من أوّل الأمر لأنفسها. ولو قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر استحقاق العقاب للحرمة من

______________________________________________________

إن كانت الشبهة غير محصورة ، بل لا إشكال فيه في بعض الموارد ، كما إذا اشتبه إمام مفترض الطاعة بين غير محصور من الكفّار مهدوري الدم ، فلا يجوز الجهاد معهم ، ولا قتل واحد منهم يحتمل كونه ذلك الإمام. ويدلّ عليه بناء العقلاء وصريح الوجدان ، ولم أر من تنبّه لذلك ، فلا تغفل.

١٥٧٩. أي : على ارتكاب الكلّ.

١٥٨٠. يعني : أنّ التحقيق أنّ عدم الجواز ليس لأجل صدق المعصية كما ذكر ، بل لأجل استلزامه طرح ... إلى آخر ما ذكره. ومقتضى هذا التحقيق عدم جواز ارتكاب الجميع مع عدم العزم عليه أيضا من أوّل الأمر.

١٥٨١. أي : قصد من أوّل الأمر ارتكاب كلّ واحد بنفسه ، لا لأجل المقدّمة والتوصّل إلى الحرام الواقعي ، وإلّا فالظاهر استحقاق العقاب إلى آخر ما ذكره.

٢٣

أوّل الارتكاب بناء على حرمة التجرّي. فصور ارتكاب (١٥٨٢) الكلّ ثلاث ، عرفت كلّها.

الثاني : اختلف عبارات الأصحاب (١٥٨٣) في بيان ضابط المحصور وغيره ، فعن الشهيد والمحقّق الثانيين (٦) والميسيّ وصاحب المدارك : أنّ المرجع فيه إلى العرف ، فهو فما كان غير محصور في العادة ، بمعنى أنّه يعسر عدّه ، لا ما امتنع عدّه ؛ لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر. وفيه ـ مضافا إلى أنّه إنّما يتّجه إذا كان الاعتماد (١٥٨٤) في عدم وجوب الاجتناب على الإجماع المنقول على جواز

______________________________________________________

١٥٨٢. إحداها : ارتكاب الجميع من دون عزم عليه من أوّل الأمر. الثانية : ارتكابه مع العزم عليه من أوّل الأمر. الثالثة : ارتكابه بقصد التوصّل به إلى الحرام الواقعي ، بأن جعل ارتكاب الكلّ مقدّمة لارتكابه. وإلى الاولى أشار بقوله : «لكن مع عدم العزم على ذلك». وإلى الثانية بقوله : «وأمّا معه فالظاهر». وإلى الثالثة بقوله : «ولو قصد نفس الحرام».

١٥٨٣. لا ريب أنّ اختلافهم في ضابط المحصور وغيره ليس بحسب مفهومهما اللغوي ، لتبيّنه لغة ، حتّى إنّه قد يقال : إنّه لا مصداق لغير المحصور في الخارج بحسب الحقيقة اللغويّة ، إذ كلّ موجود محصور لا محالة. وإنّما الخلاف في بيان المراد منهما في كلمات العلماء ، فحملهما جماعة على ظاهر ما يتفاهم منهما عرفا. وفسّرهما بعض آخر بلازم معناهما. وعلى كلّ تقدير ، فالشبهة إنّما هي في مفهومهما ـ يعني : في المعنى المراد منهما ـ لا في مصداقهما بعد تبيّن مفهومهما. نعم ، قد يظهر خلاف ذلك من بعض كلماتهم ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

١٥٨٤. فيه إشارة إلى دفع ما أورد على الجماعة من أنّ جعل المرجع في المحصور وغير المحصور هو العرف إنّما يتمّ إذا وقع هذان اللفظان في الكتاب أو السّنة ، وليس كذلك ، لأنّهما إنّما وقعا في كلمات القوم. والكشف عن مفهومهما عرفا لا يستلزم كون هذا المفهوم العرفي موضوعا للحكم الشرعيّ ، وغايته أن يعتبر

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك في مقام نسبة الفتوى إليهم ، لا في مقام تعيين موضوع الحكم الشرعيّ.

ووجه الدفع : أنّهما وإن لم يقعا موضوعين في الكتاب والسنّة لحكم شرعيّ ، إلّا أنّهما وقعا في معاقد إجماعاتهم المستفيضة ، أو أنّ تحصيل الإجماع إنّما هو من عبارات من عبّر بهذين اللفظين ، وذلك كاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم بهما. ومن هنا قد صرّح غير واحد بكون الإجماعات المنقولة ـ على القول باعتبارها ـ في حكم الأخبار ، تلاحظ في أسنادها الصحّة والضعف والإرسال والإضمار ونحوها ، وفي دلالتها العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتعارض وعلاجه وغيرها من أحكام الدلالة ، فيعامل معها معاملة الأخبار ، لكشفها عن صدور معقدها عن المعصوم عليه‌السلام. فنقل الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة بمنزلة رواية العدل ذلك عن المعصوم عليه‌السلام. فهو يكشف عن وقوع هذا اللفظ في كلامه موضوعا لهذا الحكم. فكما أنّ في الأخبار مع عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة تقدّم الحقيقة العرفيّة على اللغويّة مع العلم بوجودها في عصر الإمام عليه‌السلام ، بل ومع الشكّ فيه ، قضيّة لتشابه الأزمان وغلبة توافق العرفين ، وإن كانت أصالة تأخّر الحادث قاضية بخلافه ، كذلك في ما نحن فيه. فكلّ مورد علم صدق عنوان غير المحصور أو عنوان المحصور عرفا ، وإلّا فالفقيه يستعمل ظنّه ، فإن حصل الظنّ بشيء منهما ، وإلّا يرجع إلى مقتضى الاصول ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله عن فوائد الشرائع. فلا يرد حينئذ ما يتوهّم من عدم اعتبار ظنّ الفقيه في الموضوعات ، لأنّه إنّما لا يعتبر في الموضوعات الصرفة دون المستنبطة ، وما نحن فيه من قبيل الثاني دون الأوّل.

هذا غاية توجيه ما وجّه به المصنّف رحمه‌الله كلمات الجماعة. والظاهر أنّ مراده بدعوى كشف الإجماع عن إناطة الحكم في كلام المعصوم عليه‌السلام بالعبارة التي وقع التعبير بها عن معقده هو كشفه عن إناطة الحكم في كلامه بها أو بما يرادفها ، لأنّ تعبير مدّعي الإجماع بلفظ غير المحصور مثلا إنّما هو لأجل التعبير عن مراده ، لا

٢٥

الارتكاب في غير المحصور أو على تحصيل الإجماع من اتّفاق من عبّر بهذه العبارة الكاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم عليه‌السلام بها ـ : أنّ تعسّر العدّ غير متحقّق فيما مثّلوا به لغير المحصور كالألف مثلا ؛ فإنّ عدّ الألف لا يعدّ عسرا.

وربّما قيّد المحقّق الثاني عسر العدّ بزمان قصير ، قال في فوائد الشرائع ـ كما عن حاشية الإرشاد ـ بعد أن ذكر أنّ غير المحصور من الحقائق العرفيّة :

إنّ طريق ضبطه أن يقال : لا ريب أنّه إذا اخذ مرتبة عليا من مراتب العدد كألف مثلا ، قطع بأنّه ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة ؛ لعسر ذلك في الزمان القصير ، فيجعل طرفا ، ويؤخذ مرتبة اخرى دنيا جدّا كالثلاثة نقطع بأنّها محصورة ؛ لسهولة عدّها في الزمان اليسير ، وما بينهما من الوسائط كلّما جرى مجرى الطرف الأوّل الحق به وكذا ما جرى مجرى الطرف الثاني الحق به ، وما يعرض فيه الشكّ يعرض على القوانين والنظائر ويراجع فيه القلب ، فإن غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين فذاك ، وإلّا عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم الناقل. وبهذا ينضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة والنكاح وغيرهما.

أقول : وللنظر فيما ذكره قدس‌سره مجال. أمّا أوّلا : فلأنّ جعل الألف (١٥٨٥) من غير المحصور مناف لما علّلوا عدم وجوب الاجتناب به من لزوم العسر في الاجتناب ؛

______________________________________________________

لأجل وقوعه في كلام الإمام عليه‌السلام. ويؤيّده عدم ورود لفظ المحصور وغير المحصور في الكتاب والسنّة ، فلا يرد حينئذ منع كشفه عن إناطة الحكم في كلامه بخصوص عبارة معقد الإجماع.

١٥٨٥. يرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّ النسبة بين ما ذكره المحقّق الثاني من الضابط ـ أعني : عسر العدّ في زمان قصير ، كالألف على ما مثّلوا به ـ وعنوان غير المحصور عموم مطلقا ، إذ ربّ ألف من الأشياء يعسر عدّه في زمان قصير ولا يعدّ غير محصور عرفا ، كالأوقية من الحنطة كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، وربّ ألف منها بعسر عدّه كذلك ويصدق عليه عنوان غير المحصور ، كألف دار في البلد.

٢٦

فإنّا إذا فرضنا بيتا عشرين ذراعا في عشرين ذراعا ، وعلم بنجاسة جزء يسير منه يصحّ السجود عليه نسبته إلى البيت نسبة الواحد إلى الألف ، فأيّ عسر في الاجتناب عن هذا البيت والصلاة في بيت آخر؟ وأيّ فرق بين هذا الفرض وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه أو ذراعين ممّا يوجب حصر الشبهة؟ فإنّ سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالا قليلا أو كثيرا. وكذا لو فرضنا أوقية من الطعام تبلغ ألف حبّة بل أزيد يعلم بنجاسة أو غصبيّة حبّة منها ، فإنّ جعل هذا من غير المحصور ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسّر الاجتناب.

وأمّا ثانيا (١٥٨٦) : فلأنّ ظنّ الفقيه بكون العدد المعيّن جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر أو مجرى غيره ، لا دليل عليه.

______________________________________________________

١٥٨٦. هذا مبنيّ على كون مراد المحقّق الثاني بإعمال الظنّ في الموارد المشتبهة إعماله لتشخيص الموضوعات الصرفة ، لأنّها هي التي لا يعتبر فيها ظنّ الفقيه ، وإلّا فنقل الإجماع مستفيض على اعتبار ظنّه في الموضوعات المستنبطة. فنقول في تقريب ما أورده : إنّ ظاهره حيث جعل ضابط غير المحصور ما يعسر عدّه في زمان قصير ، ومع ذلك قد فرض في فوائد الشرائع له مصاديق مبيّنة الاندراج تحته ، وموارد مبيّنة الخروج من تحتها ، ومصاديق مشتبهة ، هو كون موارد الاشتباه من قبيل اشتباه المصاديق الخارجة ، وإلّا فلا ريب في كون ضابط عسر العدّ في زمان قصير مبيّنا بحسب المفهوم.

ويحتمل أن يكون مراده منع اعتبار ظنّ الفقيه مع كون الشبهة في المفهوم ، بناء على ما تقدّم منه عند بيان اعتبار الظنّ في اللغات وعدمه من اختياره عدم الاعتداد به ، وإن عدل عنه في الدورة الأخيرة من مباحثته التي لم تتمّ له ، وأدركه هادم اللذات قبل وصول البحث إلى هنا. وتقريب الإيراد حينئذ وفرض الشبهة في مفهوم الضابط واضح لمن أعطاه الله حظّا من الفطانة.

٢٧

وأمّا ثالثا : فلعدم استقامة الرجوع في مورد الشكّ إلى الاستصحاب حتّى يعلم الناقل ؛ لأنّه إن اريد استصحاب الحلّ والجواز كما هو الظاهر من كلامه ، ففيه : أنّ الوجه المقتضي (١٥٨٧)

______________________________________________________

١٥٨٧. يرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّ الاستصحاب قد يقتضي الحرمة أو النجاسة في بعض الموارد ، كما إذا كان هنا أشياء يشكّ في عدّها غير محصورة وعلمت نجاسة جميعها أو حرمتها ، ثمّ علم إجمالا بعروض الطهارة أو الحلّية لها إلّا النادر منها.

ثمّ إنّا نزيد على ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ببيان محتملات كلام المحقّق الثاني ، فنقول : إنّه إن أراد بالاستصحاب أصالة الإباحة الثابتة للأشياء في نفسها وقبل العلم الإجمالي الحاصل بحرمة بعضها ، يرد عليه : أنّ الإباحة الأصليّة لا تنافي الحرمة العارضة ، لأجل المقدّمة العلميّة للاجتناب عن الحرام المعلوم إجمالا ، كيف لو تمّ ذلك جرى في المحصور أيضا.

وإن أراد به أصالة إباحة الأشياء المشكوك في كونها محصورة ، أو غير محصورة بمعنى استصحاب إباحتها مع وصف هذا الشكّ ، يرد عليه : أنّه لم يعلم إباحتها بهذا الوصف في زمان حتّى يستصحب.

وإن أراد أصالة براءة الذمّة عن وجوب الاجتناب عن هذا الموضوع المشكوك كونه من المحصور أو غيره ، يرد عليه : أنّ مقتضى القاعدة حينئذ وجوب الاجتناب عنه. وتوضيح المقام : أنّه مع اشتباه المحصور بغير المحصور ، إمّا من جهة الاختلاف في تفسير ضابط غير المحصور ، وعدم الاطمئنان بشيء من تفاسيرهما ، وإمّا من جهة اختيار بعضها ووقوع الاشتباه في بعض مصاديقه ، ففي كون المرجع فيه أصالة البراءة حتّى يلحق بغير المحصور ، أو الاشتغال حتّى يلحق بالمحصور ، وجوه :

أحدها : كون المرجع فيه استصحاب البراءة ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله عن فوائد

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الشرائع. والوجه فيه : أنّ من المشتبهات ما هو واجب الاجتناب يقينا ، كالأفراد الواضحة للمحصور ، ومنها ما هو غير واجب الاجتناب كذلك ، كالأفراد الواضحة لغير المحصور ، وما هو مردّد بينهما ، ولا علم لنا بوجود المقتضي للاجتناب عنه ، لأنّ المقتضي له هو كونه من المحصور ، ولم يعلم ذلك فيه.

وثانيها : كون المرجع فيه أصالة الاشتغال ، على نحو ما قرّره المصنّف رحمه‌الله من وجود المقتضي وعدم العلم بالمانع.

وثالثها : التفصيل بين القول بجواز المخالفة القطعيّة في غير المحصور ـ كما اختاره بعض سادة مشايخنا ـ فلا يجب فيه الاحتياط ، وبين القول بعدم جوازها ـ كما اختاره المصنّف رحمه‌الله فيجب. والوجه فيه : أنّ الأوّل مبنيّ على عدم كون العلم الإجمالي في غير المحصور مقتضيا لوجوب الاحتياط ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله في الدليل الخامس لأصل المسألة ، ومع الشكّ في كون المورد من قبيل المحصور وغير المحصور لا يبقى لنا العلم بوجود المقتضي لوجوب الاجتناب ، فيعمل فيه بأصالة البراءة ، لعدم المانع منه حينئذ. والثاني مبنيّ على تسليم وجود المقتضي في غير المحصور ، وإبداء المانع من إجماع أو لزوم عسر ونحوهما ، ومع الشكّ في وجود المانع يعمل المقتضي عمله.

فإن قلت : إنّ الأمر في المقام على القول بعدم جواز المخالفة القطعيّة في غير المحصور دائر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، لأنّ المورد في الواقع إن كان من قبيل المحصور يجب الاجتناب عن جميع أطرافه ، وإن كان من قبيل غير المحصور يجب الاجتناب عن مقدار الحرام خاصّة ، ومع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر يجب الأخذ بالمتيقّن ونفي الزائد بالأصل.

قلت : نعم ، ولكنّه إنّما يتمّ في ما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر في نفس الأحكام دون طرق امتثالها وإطاعتها ، والاحتياط في موارده من قبيل كيفيّة الامتثال للحكم المعلوم إجمالا إذ لا مطلوبيّة له في نفسه مع قطع النظر عن التوصّل

٢٩

لوجوب الاجتناب في المحصور ـ وهو وجوب المقدّمة العلميّة بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردّد بين المشتبهات ـ قائم بعينه في غير المحصور ، والمانع غير معلوم ، فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب إلّا أن يكون نظره إلى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلّة عدم وجوب الاجتناب : من أنّ المقتضي لوجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة ـ وهو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ـ غير موجود ، وحينئذ فمرجع الشكّ في كون الشبهة محصورة أو غيرها إلى الشكّ في وجود المقتضي للاجتناب ، ومعه يرجع إلى أصالة الجواز.

لكنّك عرفت التأمّل في ذلك الدليل ، فالأقوى وجوب الرجوع مع الشكّ إلى أصالة الاحتياط ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع. وكيف كان : فما ذكروه من إحالة غير المحصورة وتميّزه إلى العرف لا يوجب إلّا زيادة التحيّر في موارد الشكّ.

______________________________________________________

به إلى امتثال الحكم المحتمل أو المعلوم إجمالا.

والوجه فيه : أنّ العقل إنّما يستقلّ بقبح التكليف بلا بيان في ما وجب البيان على الشارع ، كما في نفس الأحكام الواقعيّة ، بخلاف طرق امتثالها ، لكون كيفيّة امتثالها موكولة إلى طريقة العقلاء في امتثال أحكام الموالي ، فمع الشكّ في بعض شرائط الامتثال لا يمكن دفع احتماله بأصالة البراءة ، بل العقل مستقل حينئذ بوجوب الاحتياط تحصيلا للبراءة عن التكليف المعلوم تفصيلا أو إجمالا ، ولذا قلنا بكون مقتضى الأصل وجوب تقليد المجتهد الحيّ الأعلم ، وعدم جواز تقليد الميّت وغير الأعلم. بل الأمر كما وصفناه من وجوب الاحتياط في موارد الشكّ على القول بجواز المخالفة القطعيّة أيضا ، لوجود المقتضي وعدم المانع. أمّا الأوّل فلفرض العلم الإجمالي بوجود الحرام بين المشتبهات. وأمّا الثاني فلفرض الشكّ في كون المورد من قبيل غير المحصور حتّى يكون المقتضي مقارنا لوجود المانع ، والأصل عدمه. وما تقدّم من منع وجود المقتضي في غير المحصور على هذا القول ضعيف ، يظهر وجهه ممّا عرفت.

٣٠

وقال كاشف اللثام (١٥٨٨) في مسألة المكان المشتبه بالنجس : لعلّ الضابط أنّ ما يؤدّي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور ، كما أنّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدّي إلى الترك غالبا (٧) ، انتهى. واستصوبه في مفتاح الكرامة. وفيه : ما لا يخفى من عدم الضبط.

ويمكن أن يقال (١٥٨٩) بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ؛ ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كبيرة يعلم بوجود زيد فيها ، لم يكن ملوما وإن صادف زيدا؟

______________________________________________________

١٥٨٨. يقرب منه ما حكي عن بعضهم من جعل الضابط لزوم العسر في الاجتناب وعدمه ، فما يلزم من اجتنابه عسر فهو غير محصور ، وما [لا](*) يلزم فيه ذلك فهو محصور. وأورد عليه بكون الضابط غير حاصر ، إذ ربّ مورد من موارد غير المحصور لا يلزم من الاجتناب فيه عسر ، كما إذا اشتبه إناء في أواني بلد يمكن للمكلّف التحرّز عنها من دون عسر ولو بالسكنى في مكان آخر.

وربّما يجعل المرجع فيه العرف من دون اعتبار عسر عدّه مطلقا أو في زمان قصير. وهو حسن إن كان عنوان المحصور وغير المحصور واردين في الكتاب والسّنة. وقد تقدّم الكلام فيه.

١٥٨٩. لا يذهب عليك أنّ مقتضى هذا الوجه جواز المخالفة القطعيّة ، وهو غير مرضيّ عند المصنّف رحمه‌الله ، وقد تقدّم تصريحه بالتأمّل فيه. مع أنّ هذا الضابط أيضا لا يزيد إلّا التحيّر في موارد الشكّ ، لأنّه كثيرا ما يشكّ في بلوغ أطراف الشبهة إلى حيث لا يعتنى بالعلم الإجمالي فيها عند العقلاء وعدمه ، كما صرّح به في الإحالة إلى العرف وضبطه بعسر العدّ بزمان قصير.

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعني.

٣١

وقد ذكرنا أنّ المعلوم بالإجمال قد يؤثّر مع قلّة الاحتمال ما لا يؤثّر مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ، و (*) مردّد بين أهل بلدة. ونحوه ما إذا علم (١٥٩٠) إجمالا بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب والسنّة أو حصول النقل في بعض الألفاظ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يعتنى فيها بالعلوم الإجماليّة المترتّب عليها الآثار المتعلّقة بالمعاش والمعاد في كلّ مقام.

وليعلم أنّ العبرة في المحتملات كثرة وقلّة بالوقائع التي تقع (١٥٩١) موردا

______________________________________________________

١٥٩٠. عليه يكون وجوب الفحص في العمل بالظواهر إمّا لأجل كون الشبهة فيها من قبيل الكثير في الكثير أو من قبيل المحصور. وعلى تقدير كونها من قبيل غير المحصور يمكن الفرق بينها وبين غيرها من موارد غير المحصور ، بأنّ اعتبار الظواهر من باب الظهور النوعي ، وهذا الظهور يسقط بالعلم الإجمالي بوجود صارف عن بعضها مختف عنّا وإن كانت الشبهة غير محصورة ، بخلاف الأواني الغير المحصورة التي علم بنجاسة بعضها ، لأنّ المانع من إجراء أصالة الطهارة فيها هو العلم الإجمالي بنجاسة بعضها ، ومع عدم الاعتداد به لأجل اتّساع دائرة الشبهة يرتفع المانع من إجراء الأصل. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي الذي لا يعتنى به عند العقلاء لا يصدم في الظهورات العرفيّة أيضا مطلقا. ولعلّه في بعض الموارد لا يخلو من تأمّل إلّا أن يبلغ اتّساع دائرة العلم الإجمالي إلى حيث يعدّ وجوده فيه كالعدم.

وبالجملة ، إنّ مدار الظواهر على الظهور النوعي عرفا ، فإن بقي هذا الظهور مع العلم الإجمالي المذكور فهو ، وإلّا فلا اعتداد بمثله ، سواء كان العلم الإجمالي في مورده معتنى به عند العقلاء أم لا.

١٥٩١. غير خفيّ أنّ مراد من جعل ضابط غير المحصور عسر العدّ مطلقا أو

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

٣٢

للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيلي بالحرام ، فإذا علم بحبّة أرز محرّمة أو نجسة في ألف حبّة ، والمفروض أنّ تناول ألف حبّة من الأرز في العادة بعشر لقمات ، فالحرام مردّد بين عشرة محتملات ، لا ألف محتمل ؛ لأنّ كلّ لقمة يكون فيها الحبّة حرام أخذها ؛ لاشتمالها على مال الغير أو مضغها ؛ لكونه مضغا للنجس ، فكأنّه علم إجمالا بحرمة واحدة من عشر لقمات. نعم ، لو اتّفق تناول الحبوب في مقام يكون تناول كلّ حبّة واقعة مستقلّة كان له حكم غير المحصور.

وهذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور وغيره ، ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوق بشيء منها. فالأولى : الرجوع في موارد الشكّ إلى حكم العقلاء بوجوب مراعاة العلم الإجمالي الموجود في ذلك المورد ؛ فإنّ قوله : «اجتنب عن الخمر» لا فرق في دلالته على تنجّز التكليف بالاجتناب عن الخمر بين الخمر المعلوم المردّد بين امور محصورة وبين الموجود المردّد بين امور غير محصورة ، غاية الأمر قيام الدليل في غير المحصورة على اكتفاء الشارع عن الحرام الواقعي ببعض محتملاته ، كما تقدّم سابقا.

فإذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة ، شكّ في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي في الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض ، فيجب ترك جميع المحتملات ؛ لعدم الأمن من الوقوع في العقاب بارتكاب البعض.

الثالث : إذا كان المردّد بين الامور الغير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الامور المحصورة ، كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة شاة ، فإنّ نسبة مجموع المحرّمات إلى المشتبهات كنسبة الواحد إلى الثلاثة ، فالظاهر أنّه ملحق (١٥٩٢) بالشبهة المحصورة لأنّ الأمر

______________________________________________________

في زمان قصير هو عدّ هذه الوقائع المحتملة ، وحينئذ لا يرد عليه ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله من النقض بأوقية من طعام تبلغ ألف حبّة ، فتدبّر.

١٥٩٢. يعني : حكما ، وإن كان ملحقا بغير المحصور موضوعا. ولا يخفى أنّ دعوى لحوقه موضوعا بالمحصور أو غيره فرع وجود ضابط في التمييز بينهما ، و

٣٣

متعلّق (١٥٩٣) بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، ومحتملات هذا الحرام المتباينة ثلاثة ، فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة ، وأمّا ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات فهي احتمالات لا تنفكّ عن الاشتمال على الحرام.

الرابع : انّا ذكرنا في المطلب الأوّل المتكفّل لبيان حكم أقسام الشكّ في الحرام مع العلم بالحرمة : أنّ مسائله أربع : الأولى منها الشبهة الموضوعيّة.

______________________________________________________

قد زيّف المصنّف رحمه‌الله الضوابط المذكورة لتمييزهما. ومع تسليمهما فهي مختلفة ، لأنّه على ما ذكره المحقّق الثاني من الرجوع فيه إلى العرف ، ففي لحوقه بالمحصور وغيره وجهان ، من فرض عدم حصر آحاد المشتبهات ، ومن أنّ المدار في المحصور وغير المحصور قلّة وكثرة على نسبة مجموع المحرّمات إلى المشتبهات دون آحادها ، ونسبة خمسمائة إلى ألف وخمسمائة كنسبة الواحد إلى الثلاثة ، فيكون من قبيل المحصور ، لأنّ الأمر بالاجتناب إنّما تعلّق بمجموع المحرّمات ، فيعتبر نسبة المجموع إلى المشتبهات. وأمّا على ما نقله عن كاشف اللثام فهو لاحق بغير المحصور ، وهو واضح. وأمّا على ما احتمله المصنّف رحمه‌الله فهو لاحق بالمحصور ، لفرض اعتبار العلم الإجمالي في مورده.

١٥٩٣. توضيحه : أنّ مدار الفرق بين المحصور وغير المحصور من حيث قلّة المحتملات وكثرتها على كون جريان الأصل في أحدها معارضا بجريانه في غيره وعدمه ، فإذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة كان الحرام مجموع الخمسمائة ، ومحتملاته المتباينة التي يحتمل كون واحد منها حراما والباقي مباحا ثلاثة ، لعدم إمكان فرضها أربعة فصاعدا ، لأنّه إذا فرض حرمة الواحد من الأربعة أو الزائد عليها فالباقي أيضا لا ينفكّ عن الحرام الواقعي ، وحينئذ لا يمكن فرض التعارض بين المحتملات في جريان أصالة البراءة ، كما هو المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة. وممّا ذكرناه يظهر توضيح المراد بقوله : «وأمّا ما عدا هذه الثلاثة ...».

٣٤

وأمّا الثلاث الأخر وهي ما إذا اشتبه الحرام بغير الواجب ؛ لاشتباه الحكم من جهة عدم النصّ أو إجمال النصّ أو تعارض النصّين ، فحكمها يظهر ممّا ذكرنا (١٥٩٤) في الشبهة المحصورة (*). لكن أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ، كما إذا تردّد الغناء (١٥٩٥) المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه (١٥٩٦) ، فإنّ مادّتي الافتراق من هذا القسم. ومثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث (١٥٩٧)

______________________________________________________

١٥٩٤. في إطلاقه نظر من وجهين ، أحدهما : أنّ من الشبهات الحكميّة أيضا قد تفرض غير محصورة ، اللهمّ إلّا أن يكون نظره إلى عدم وجوده في الخارج. وثانيهما : أنّ مختار المصنّف رحمه‌الله في تعارض النصّين هو التخيير دون الاحتياط. اللهمّ إلّا أن يكون نظره إلى مقتضى القاعدة مع قطع النظر عن دليل وارد أو حاكم عليها من الأخبار أو غيرها.

١٥٩٥. كما إذا فسّر الغناء تارة بالصوت المطرب ، واخرى بالصوت مع الترجيع ، فمجمع القيدين خارج ممّا نحن فيه ، للعلم بحرمته يقينا ، ومادّتا الافتراق من قبيل ما علم إجمالا بحرمة أحد العنوانين كما في ما نحن فيه.

١٥٩٦. إنّما خصّ المثال بالعموم من وجه لخروج العموم والخصوص مطلقا من محلّ الكلام ، لانحلال العلم الإجمالي فيه على علم تفصيلي وشكّ بدوي ، كما سيصرّح به.

١٥٩٧. في رواية حفص بن غياث عن أبي جعفر عليه‌السلام : «الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة». وفي الرياض : المشهور أنّ المراد بالثالث هو الأذان الثاني بعد أذان آخر واقع في الوقت قبل ظهر الجمعة ، سواء كان بين يدي الخطيب أم على المنارة أم غيرها. وعلّل كونه بدعة بأنّه لم يفعل في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في عهد الأوّلين ، إنّما أحدثه عثمان أو معاوية على اختلاف النقلة ، فيكون بدعة وإحداثا في الدين ما ليس منه. قيل : سمّي ثالثا لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شرع للصلاة أذانا وإقامة ، فالأذان الثاني

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المحصورة» ، الموضوعيّة.

٣٥

يوم الجمعة واختلف في تعيينه. ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من جدّد قبرا (١٥٩٨) أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام» ، حيث قرئ : «جدّد» بالجيم والحاء المهملة والخاء المعجمة ، وقرى «جدث» بالجيم والثاء المثلّثة.

______________________________________________________

بالنسبة إليهما يكون ثالثا. وفي محكيّ المعتبر احتمل كون المراد به أذان العصر ، ولذا قيل بالمنع عنه. وسمّي ثالثا إمّا لما ذكرناه ، وإمّا بالنظر إلى كونه ثالثا بالنسبة إلى أذان الصبح والظهر ، بناء على كون أوّل اليوم من أوّل الفجر الثاني دون طلوع الشمس.

١٥٩٨. الخبر مرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، واختلف في لفظه ومعناه. قيل : هو جدّد بالجيم لا غير ، كما عن محمّد بن الحسن الصفار. وحكي عنه عدم تجديد القبر وتطيين جميعه بعد مرور الأيّام عليه وبعد ما طيّن عليه في الأوّل. وعن سعد بن عبد الله : حدّد بالحاء غير المعجمة ، بمعنى سنّم قبرا. وعن أحمد بن عبد الله (*) البرقي : جدث ، وفسّر بالقبر.

وفي الفقيه بعد نقل الخلاف : «والذي أذهب إليه أنّه جدّد بالجيم ، ومعناه أنّه نبش قبرا ، لأنّه من نبش قبرا فقد جدّده وأحوج إلى تجديده ، وقد جعله جدثا محفورا» انتهى.

وفي التهذيب في معنى قول البرقي : يمكن أن يكون المعنىّ بهذه الرواية ـ يعني : رواية الجدث ـ أن يجعل القبر دفعة اخرى قبرا لإنسان آخر ، لأنّ الجدث هو القبر ، فيجوز أن يكون الفعل مأخوذا منه. ثمّ حكى عن محمّد بن محمّد النعمان أنّه كان يقول : إنّ الخبر بالخاء والدالين ، وذلك مأخوذ من قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) والخدّ هو الشقّ ، يقال : خددت الأرض خدّا أي : شققته. وعلى هذه الرواية يكون النهي يتناول شقّ القبر إمّا ليدفن فيه ، أو على جهة النبش على ما ذهب إليه محمّد بن علىّ. وقال : «وكلّ ما نقلناه من الروايات محتمل ، و

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «في الفقيه بعد نقل قول البرقي : ما أدري ما عنى به. منه دام ظلّه».

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الله أعلم بالمراد والذي صدر عنه الخبر» انتهى.

وفي الرياض بناء على رواية جدّد بالجيم : «ويحتمل قتل المؤمن ظلما ، فإنّه سبب لتجديد القبر. وفي الفقيه بعد ما تقدّم قال : «أقول : إنّ التجديد على المعنى الذي ذهب إليه محمّد بن الحسن الصفّار. والتحديد بالحاء غير المعجمة الذي ذهب إليه سعد بن معاذ. والذي قاله البرقي من أنّه جدث داخل في معنى الحديث ، وأنّ من خالف الإمام في التجديد والتسنّم والنبش واستحلّ شيئا من ذلك فقد خرج من الإسلام. والذي أقول في قوله : «من مثّل مثالا» يعني به : من أبدع بدعة ودعا إليها ووضع دينا فقد خرج» انتهى. وظاهره إرادة الجميع من لفظ الحديث ، وهو كما ترى.

وعن الشهيد في الدروس : «ويكره تجديده بالجيم والحاء والخاء ، فإنّ الاختلاف ليس في كلام الإمام عليه‌السلام ، وما ذكره الإمام أحد تلك الألفاظ لا الجميع» انتهى. ويحتمل ذلك منه لأجل التسامح في أدلّة الكراهة.

ومن أمثلة المقام أيضا ما ورد في الخبر من أنّه لا تعرّب بعد الهجرة. واختلف في تفسير التعرّب ، فقيل : هو العود إلى دار الكفر بعد الإسلام وإن لم يرتدّ. وقيل : هو الارتداد بعد الإسلام. وأورد عليه بما ورد في بعض الأخبار من كونه من الكبائر. وقيل : هو رفع اليد عن الاشتغال بتحصيل الأحكام الشرعيّة والاشتغال بغيرها.

٣٧

المصادر

(١) روض الجنان : ص ٢٢٤.

(٢) جامع المقاصد ج ٢ : ص ٦٦٦.

(٣) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٤) الحج (٢٢) : ٧٨.

(٥) المحاسن ج ٢ : ص ٢٩٦ ، الحديث ١٩٧٦.

(٦) روض الجنان : ص ٢٢٤.

(٧) كشف اللثام ج ٣ : ص ٣٤٩.

٣٨

المطلب الثاني : في اشتباه الواجب بغير الحرام وهو على قسمين ؛ لأنّ الواجب إمّا مردّد بين أمرين متنافيين (*) ، كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظهر والجمعة في يوم الجمعة ، وبين القصر والإتمام في بعض المسائل. وإمّا مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السورة وفاقدتها ؛ للشكّ في كون السورة جزءا. وليس المثالان الاوّلان من الأقلّ والأكثر ، كما لا يخفى.

واعلم أنّا لم نذكر (١٥٩٩) في الشبهة التحريميّة من الشكّ في المكلّف به صور

______________________________________________________

١٥٩٩. لا يذهب عليك أنّ المراد بالأقلّ والأكثر في هذا المطلب ـ أعني : اشتباه الواجب بغير الحرام من مطالب الشكّ في المكلّف به ـ هو الأقلّ والأكثر الارتباطيّان خاصّة ، مثل الشكّ في الأجزاء والشرائط من العبادات. وأمّا الاستقلاليّان ، كقضاء الفوائت المردّدة بين الأقلّ والأكثر ، والدين المردّد بينهما ، فداخلان في الشكّ في التكليف ، لانحلال العلم الإجمالي حينئذ على علم تفصيلي ، وهو العلم بوجوب الأقلّ ، وشكّ بدويّ ، وهو الشكّ في وجوب الزائد على الأقلّ ، ولذا أدرج المصنّف رحمه‌الله هذا القسم في مسائل الشكّ في التكليف. وكذلك المراد بالأقلّ والأكثر في قوله : «لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ....» هو الارتباطيّان دون الاستقلاليّين ، بدليل قوله : «لأنّ الأكثر معلوم الحرمة ...» لأنّ العلم بحرمة الأكثر إنّما هو في

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «متنافيين» ، متباينين.

٣٩

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة (*) إلى الشكّ في أصل التكليف ؛ لأنّ الأكثر معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأقلّ.

أمّا القسم الأوّل : فالكلام فيه يقع في أربعة مسائل على ما ذكرنا في أوّل الباب ؛ لأنّه إمّا أن يشتبه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النصّ المعتبر أو إجماله أو تعارض النصّين أو من جهة اشتباه الموضوع.

أمّا الاولى ، فالكلام فيها إمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم بإجماع أو ضرورة حرمتها ، كما في المثالين السابقين ، فإنّ ترك الصلاة فيهما رأسا مخالف للإجماع بل الضرورة وإمّا في وجوب الموافقة القطعيّة.

______________________________________________________

الارتباطي دون الاستقلالي ، بل الأمر في الاستقلالي بالعكس ، لأنّ الأقلّ فيه معلوم الحرمة دون الزائد عليه.

وبالجملة ، إنّ كلّا من الارتباطي والاستقلالي المذكورين داخل في الشكّ في التكليف ، إلّا أنّ المراد في المقام هو الأوّل بقرينة التعليل. ومثال الارتباطي نقش صورة الحيوان ذي الروح ، لأنّ المتيقّن حرمة نقش تمام الصورة ، والشكّ في حرمة الناقص. ومثال الاستقلالي حرمة قراءة العزائم للحائض ، لأنّ المتيقّن حرمة قراءة نفس آية السجدة دون الزائد عليها.

ومن طريق ما ذكرناه يظهر أنّ الأولى للمصنّف رحمه‌الله أن يصرّح بخروج كلّ من الارتباطيّين والاستقلاليّين من الشبهة التحريميّة ، ويعلّله بما يشملهما معا. ثمّ إنّه سيشير إلى أقسام الأقلّ والأكثر الارتباطيّين عند بيان حكم القسم الثاني من القسمين اللذين ذكرهما. والمراد بالارتباطي ـ كما مرّ في غير موضع ـ ما لم يكن الأقلّ مجزيا عن التكليف ولو بقدره على تقدير وجوب الأكثر في الواقع ، بخلاف الاستقلالي كما يظهر من الأمثلة.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : بجميع أقسامها.

٤٠