فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

وقد يفصّل (١٩٦٧) فيها بين ما كان تأريخ واحد من الكرّية والملاقاة معلوما ، فإنّه يحكم بأصالة تأخّر المجهول بمعنى عدم ثبوته في زمان يشكّ في ثبوته فيه ،

______________________________________________________

الملاقاة في زمان الكرّية ، إذ الكلام في المقام إنّما هو فيما جهل تاريخ كلّ من الكرّية والملاقاة ، فلا وجه لجعل المقام موردا للأوّل. وظاهره ـ سيّما مع تخصيص الاعتراض على المفصّل بحكمه بالطهارة مع التقارن في صورة جهل تاريخهما ـ هو الحكم بالنجاسة في صورة العلم بتاريخ الملاقاة ، لأجل أصالة عدم الكرّية في زمان الملاقاة ، وبالطهارة في صورة العكس ، لأجل أصالة عدم حدوث الملاقاة في زمان الكرّية. وفيه نظر يظهر وجهه ممّا علّقناه على أمره بالتأمّل.

١٩٦٧. المفصّل صاحب الفصول. ويظهر أيضا من العلّامة الطباطبائي في منظومته فيما علم بحدوث كلّ من الطهارة والحدث وشكّ في المتقدّم منهما. قال :

وإن يكن يعلم كلّا منهما

مشتبها عليه ما تقدّما

فهو على الأظهر مثل المحدث

إلّا إذا عيّن وقت الحدث

وحاصله : الحكم بكونه محدثا مع الجهل بتاريخ كلّ منهما ، لتعارض أصالة عدم حدوث كلّ منهما في زمان حدوث الآخر. وكذا مع العلم بتاريخ الطهارة ، لأصالة عدم حدوث الحدث في زمان الطهارة.

نعم ، يحكم بكونه متطهّرا مع العلم بتاريخ الحدث ، لأصالة عدم حدوثها في زمانه. ومن هنا تنحلّ عقدة الإشكال عن معنى بيت آخر له رحمه‌الله في خلل الوضوء ، قبل البيتين المذكورين بفاصلة بيتين آخرين ، وهو قوله :

والشكّ في جفاف مجموع الندى

يلغى إذا ما الوقت في الفعل بدا

لأنّ حاصله أنّه إذا شكّ في تحقّق جفاف مجموع الندى في العضو السابق على العضو الذي هو فيه وعدمه ، يبطل وضوئه إذا لم يعلم وقت الفعل ووقت الجفاف ، للشكّ حين العمل في تحقّق شرطه الذي هو الموالاة بين أفعال الوضوء.

٣٨١

فيلحقه حكمه من الطهارة والنجاسة ، وقد يجهل التأريخان بالكلّية ، وقضيّة الأصل في ذلك التقارن ، ومرجعه إلى نفي وقوع كلّ منهما في زمان يحتمل عدم وقوعه فيه ، هو يقتضي ورود النجاسة على ما هو كرّ حال الملاقاة ، فلا ينجس به (٢٧) ، انتهى.

وفيه : أنّ تقارن ورود (١٩٦٨) النجاسة والكرّية موجب لانفعال الماء ؛ لأنّ الكرّية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرّية على ما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» ، فإنّ الضمير المنصوب راجع إلى الكرّ المفروض كرّيته ، فإذا حصلت الكرّية حال الملاقاة كان المفروض للملاقاة غير كرّ ، فهو نظير ما إذا حصلت الكرّية بنفس الملاقاة فيما إذا تمّم الماء النجس كرّا بطاهر ، والحكم فيه

______________________________________________________

وكذا إذا علم بوقت الجفاف دون الفعل ، كما إذا شكّ في حال مسح الرجلين في أنّه في حال غسل اليد اليسرى هل كانت يده اليمنى جافّة أم لا؟ مع علمه بحصول الجفاف حين طلوع الشمس مثلا ، إذ الأصل عدم حدوث غسل اليد اليسرى قبل زمان حصول الجفاف ، بل حين حدوثه أيضا ، ومقتضاه الحكم بالبطلان ، لعدم حصول شرط الصحّة.

وأمّا إذا علم وقت الفعل دون الجفاف ، كما إذا علم بحصول غسل اليد اليسرى عند طلوع الشمس ، وشكّ في تقدّم الجفاف عليه وتأخّره عنه ، فحينئذ يلغى الشكّ ويحكم بالصحّة ، إذ الأصل عدم حدوث الجفاف في زمان غسل اليد اليسرى وهذا المعنى محكيّ عن الناظم قدس‌سره. وقد استصعب جماعة من الأعلام فهم معناه ، وقد حكي أنّ صاحب الجواهر بعد أن تأمّل فيه ليلة من الليالي صرّح بأنّه إمّا مجمل أو معمّى لا يفهم منه معنى.

١٩٦٨. حكي الحكم بالتقارن عن الشهيد الثاني أيضا. ويرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ، ومضافا إلى أنّ التقارن من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم أيضا ، يمكن استصحاب عدمها ـ أنّ إثبات التقارن باستصحاب عدم تقدّم كلّ من الحادثين على الآخر لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة.

٣٨٢

النجاسة ، إلّا أنّ ظاهر المشهور فيما نحن فيه (١٩٦٩) الحكم بالطهارة ، بل ادّعى المرتضى قدس‌سره عليه الإجماع ، حيث استدلّ بالإجماع على طهارة كرّ رئي فيه نجاسة لم يعلم تقدّم وقوعها على الكرّية ، على كفاية تتميم (١٩٧٠) النجس كرّا في زوال نجاسته.

وردّه الفاضلان (٢٨) وغيرهما بأنّ الحكم بالطهارة هنا لأجل الشكّ في ثبوت (*) التنجيس (**) ؛ لأنّ الشكّ مرجعه (١٩٧١) إلى الشكّ في كون الملاقاة مؤثّرة ـ لوقوعها قبل الكرّية ـ أو غير مؤثّرة ، لكنّه يشكل بناء على أنّ الملاقاة سبب

______________________________________________________

١٩٦٩. يمكن أن يستدلّ لهم بوجوه :

أحدها : أن يكون الحكم تعبّديا ثابتا بالإجماع على خلاف القاعدة كما ادّعاه المرتضى. وفيه : أنّ ظاهر المشهور ورود الحكم على وفق القاعدة.

وثانيها : أن يكون الحكم مبنيّا على اعتبار الاصول المثبتة ، فبعد تعارض الأصلين يرجع إلى قاعدة الطهارة.

وثالثها : أن تكون القلّة شرطا في الانفعال ، وبعد تعارض الأصلين يحصل الشكّ في تحقّق شرط الانفعال حين الملاقاة ، فيحكم بالطهارة لقاعدتها.

ورابعها : كون الكرّية مانعة من الانفعال ، وبعد تعارض الأصلين يحصل الشكّ في تحقّق المانع حين الملاقاة ، فيحكم بالطهارة لقاعدتها. وإليه أشار المصنّف رحمه‌الله فيما يأتي من كلامه بقوله : «إلّا أنّ الاكتفاء بوجود السبب» إلى آخر ما ذكره. وستعرف الوجه في أمره بالتأمّل فيه ، وستقف على ما ينبغي أن يقال في تحقيق المقام.

١٩٧٠. تقريب الاستدلال فيه هو اتّحاد الطريق والمناط في الموردين ، وهو حصول التقارن بين الكرّية والملاقاة.

١٩٧١. لأنّه نتيجة تعارض الأصلين.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «ثبوت» ، حدوث سبب.

(**) في بعض النسخ : بدل «التنجس» ، النجس.

٣٨٣

للانفعال ، والكرّية مانعة ، فإذا علم بوقوع السبب في زمان (*) لم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب.

إلّا أنّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالأصل محلّ تأمّل ، فتأمّل (١٩٧٢).

______________________________________________________

١٩٧٢. يظهر وجه التأمّل والإشكال فيه ممّا أسلفناه في ذيل ما نقلناه عن المصنّف رحمه‌الله في كتاب الطهارة عند شرح قوله : «ففي الرجوع إلى طهارة الماء للشكّ في كون ملاقاته مؤثّرة» إلى آخر ما ذكره ، فراجع.

ولكنّك خبير بأنّ الأولى في الاعتراض على المشهور أن يقال : بأنّ الانفعال في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء» مرتّب على عدم الكرّية دون القلّة ، وعدم الانفعال على حصول الكرّية ، فأصالة عدم حدوث الكرّية إلى زمان حصول الملاقاة فيما علمت الكرّية والملاقاة وشكّ في المتقدّم منهما ، تقتضي كون الملاقاة مؤثّرة في الانفعال. وأمّا أصالة عدم حدوث الملاقاة إلى زمان حصول الكرّية فلا يترتّب عليها أثر ، لعدم ترتّب عدم الانفعال على عدم الملاقاة إلى زمان حصول الكرّية ، بل على حصول الملاقاة في زمان الكرّية ، لأنّ هذا وإن كان لازما عقليّا لعدم حدوث الملاقاة إلى زمان حصول الكرّية ، إلّا أنّ الأصل المذكور لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة. وبالجملة ، إنّ الأصلين إذا لم يترتّب على مقتضى أحدهما أثر شرعيّ لا يعارض ما ترتّب عليه ذلك ، كما قرّر في محلّه.

تنبيه : اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد تبع المحقّق القمّي فيما نقله عن صاحب الوافية ، والموجود فيها بعد بيان جملة من معاني الأصل هكذا : «اعلم أنّ هنا قسما من الأصل كثيرا ما يستعمله الفقهاء ، وهو أصالة عدم الشيء ، وأصالة عدم تقدّم الحادث ، بل هما قسمان. والتحقيق أنّ الاستدلال بالأصل ـ بمعنى النفي والعدم ـ إنّما يصحّ على نفي الحكم الشرعيّ بمعنى عدم التكليف ، لا على إثبات الحكم

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : و.

٣٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الشرعيّ ، ولهذا لم يذكره الاصوليّون في الأدلّة الشرعيّة. وهذا يشترك فيه جميع أقسام الأصل المذكورة ، مثلا إذا كان أصالة براءة الذمّة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة اخرى ، فحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها».

ثمّ ساق الكلام في ذكر جملة من أمثلة أصالة البراءة وأصالة العدم ممّا كان إجرائهما فيه مستلزما لثبوت التكليف من جهة اخرى ، إلى أن قال : «وكذا في أصالة عدم تقدّم الحادث ، فيصحّ أن يقال في ماء وجد فيه نجاسة بعد الاستعمال ، ولم يعلم هل وقعت النجاسة قبل الاستعمال أو بعده؟ الأصل عدم تقدّم النجاسة ، فلا يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل رؤية النجاسة. ولا يصحّ إذا كان شاغلا للذمّة ، كما إذا استعملنا ماء ثمّ ظهر أنّ هذا الماء كان قبل ذلك نجسا ، ثمّ طهر بإلقاء كرّ عليه دفعة ، ولم يعلم أنّ الاستعمال هل كان قبل تطهيره أو بعده؟ فلا يصحّ أن يقال : الأصل عدم تقدّم تطهيره ، فيجب إعادة غسل ما لاقى ذلك الماء في ذلك الاستعمال ، لأنّه إثبات حكم بلا دليل ، لأنّ حجّية الأصل في النفي باعتبار قبح تكليف الغافل ووجوب إعلام المكلّف بالتكليف ، فلذا يحكم ببراءة الذمّة عند عدم الدليل ، فلو ثبت حكم شرعيّ بالأصل يلزم إثبات حكم من غير دليل ، وهو باطل إجماعا» انتهى.

ثمّ إنّه بعد أن أورد شطرا من الكلام في البين قال : «اعلم أنّ لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة وبأصالة العدم وبأصالة عدم تقدّم الحادث شروطا ، أحدها : ما مرّ من عدم استلزامه لثبوت حكم شرعيّ من جهة اخرى. وثانيها : أن لا يتضرّر بسبب التمسّك به مسلم ، وذكر في بيانه ما يقرب ممّا نقله المصنّف رحمه‌الله. وثالثها : أن لا يكون الأمر المتمسّك فيه بالأصل جزء عبادة مركّبة ، فلا يجوز التمسّك به لو وقع الاختلاف في الصلاة هل هي ركعتان أو أكثر أو أقلّ في نفي الزائد؟ وعلى هذا القياس ، بل كلّ نصّ بيّن فيه أجزاء ذلك المركّب كان دالا على عدم جزئيّة ما لم يذكر فيه ، فيكون نفي ذلك المختلف فيه حينئذ منصوصا لا معلوما بالأصل ، كما

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يخفى» انتهى.

وغير خفيّ أنّ ما ذكره مثالا لأصالة عدم تقدّم الحادث غير منطبق على ما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله مثالا لها ، وهو المثال الثالث من الأمثلة التي نقلها ، لأنّ ما ذكره مفروض فيما كان المشكوك فيه تقدّم وقوع النجاسة على الاستعمال ، وكذا تقدّم الاستعمال على التطهير ، وفيما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله تقدّم الكرّية على ملاقاة النجاسة.

وأقول في تحقيق ما ذكره من مثال الشكّ في تقدّم الكرّية على الاستعمال : إنّ واحدا منهما إمّا أن يكون معلوم التاريخ ، بأن يعلم أنّ الماء النجس الملقى عليه الكرّ والمستعمل منه كان إلقاء الكرّ عليه وقت طلوع الشمس ، ووقع الشكّ في تقدّم الاستعمال على زمان إلقاء الكرّ عليه وتأخّره عنه ، أو علم زمان الاستعمال ووقع الشكّ في تقدّم إلقاء الكرّ عليه وتأخّره عنه ، أو يجهل تاريخ كلّ منهما. وعلى التقادير : إمّا أن يكون المغسول به نجسا أو طاهرا. ولا بدّ من الحكم بطهارة المغسول على بعض التقادير الستّة ، وبنجاسته على بعض آخر.

وأمّا إذا كان المغسول به نجسا ، وكان تاريخ الكرّية معلوما ، فقد يتوهّم أنّ اللازم حينئذ هو الحكم بطهارة المغسول ، لأصالة عدم تقدّم الاستعمال على الكرّية ، ويلزمه حصول الغسل بالكرّ.

وفيه ما لا يخفى ، لعدم ترتّب طهارة الثوب المغسول به على الأصل المذكور ، فإنّ حصول الطهارة مرتّب في الأدلّة على الغسل في الكرّ ، لا على عدم تقدّم الاستعمال على إلقاء الكرّ. نعم ، هو لازم عقلي له ، والأصل المذكور لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة ، فلا بدّ حينئذ من استصحاب نجاسته.

وأمّا إذا علم تاريخ الاستعمال ، فأصالة عدم تحقّق إلقاء الكرّ في زمان الاستعمال تقتضي بقاء نجاسة الثوب ، وعدم ارتفاعها بالغسل بالماء المذكور. وإن شئت قلت : الأصل بقاء نجاسته إلى زمان الاستعمال.

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا إذا جهل تاريخهما ، فإمّا أن يقال حينئذ بأنّ مقتضى إجراء الأصلين هو الحكم بمقارنة الاستعمال لإلقاء الكرّ ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله عن المفصّل فيما علم بحدوث الملاقاة والكرّية وشكّ في المتقدّم منهما ، وحكي أيضا عن الشهيد الثاني كما أسلفناه ، أو لا يقال بذلك ، لما أسلفناه هناك من كون المقارنة من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، فهي بنفسها مورد للأصل ، والأصلان إنّما يثبتانها على القول بالاصول المثبتة.

وعلى الأوّل لا بدّ من الحكم ببقاء نجاسة الثوب ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله فيما اعترض به على المفصّل. نعم ، على هذا القول لا بدّ من فرض الكلام فيما نحن فيه فيما لم تكن المقارنة مقارنة لبقاء الثوب في الماء بعد إلقاء الكرّ ، بأن يفرض إخراج الثوب حين حصول المقارنة ، وإلّا فلا بدّ من الحكم بزوال نجاسته.

وعلى الثاني لا بدّ من الحكم ببقاء النجاسة أيضا ، لأنّ مجهولي التاريخ لا يزيد على صورتي العلم بالتاريخ ، لعدم خروجه منهما ، وقد عرفت أنّ مقتضاهما الحكم بالنجاسة.

وأمّا إذا كان المغسول طاهرا ، فحينئذ إن كان تاريخ إلقاء الكرّ معلوما يحكم بطهارة الثوب ، لما عرفت من عدم ترتّب أثر شرعيّ على أصالة عدم تقدّم الاستعمال على إلقاء الكرّ ، فيستصحب طهارته.

وإن كان تاريخ الاستعمال معلوما يحكم بتنجّسه ، لما عرفت من أنّ مقتضى أصالة عدم تقدّم إلقاء الكرّ بمعنى عدم حدوثه في زمان احتمل فيه تنجّسه بالملاقاة. ولا تعارضها أصالة بقاء طهارة الثوب ، لحكومتها عليها ، لأنّ مقتضى الاولى كون الثوب مغسولا بالماء المتنجّس ، فيرتفع الشكّ في بقاء طهارته.

وفيه نظر ، لأنّ الحكم بتنجّسه موقوف على إثبات نجاسة الماء في زمان الغسل بالدليل أو الأصل. والأوّل مفروض العدم. والثاني لا يثبتها ، لأنّ غاية ما هنا هو استصحاب عدم إلقاء الكرّ إلى زمان الاستعمال ، واستصحاب بقاء النجاسة

٣٨٧

الثاني : أن لا يتضرّر بإعمالها مسلم ، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابّته. فإنّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة «الإتلاف» وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» ؛ فإنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع ، وإلّا فالضرر غير منفي ، فلا علم حينئذ ـ ولا ظنّ ـ بأنّ الواقعة غير منصوصة ، فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النصّ ، بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعيّ بالضارّ ، ولكن لا يعلم أنّه مجرّد التعزير أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح (٢٩).

ويرد عليه : أنّه إن كانت (١٩٧٣) قاعدة «نفي الضرر» معتبرة في مورد الأصل ، كانت دليلا كسائر الأدلّة الاجتهاديّة الحاكمة على البراءة ، وإلّا فلا معنى للتوقّف في الواقعة

______________________________________________________

إلى زمانه ، وشيء منهما غير مفيد في المقام ، لأنّ استصحاب عدم إلقاء الكرّ إلى زمان الاستعمال لا يثبت كون الماء الموجود حين الاستعمال غير كرّ إلّا بالملازمة العقليّة التي لا يثبتها الأصل. مضافا ـ فيه وفي الثاني ـ إلى أنّ الموضوع في الزمان السابق هو الماء القليل ، ولم يعلم بقائه إلى زمان الاستعمال ، فلا مجرى للأصل حينئذ ، لعدم العلم ببقاء موضوعه حتّى يقال بحكومته على أصالة طهارة الثوب.

وإن جهل تاريخهما ، فلا بدّ من الحكم بطهارة الثوب حينئذ ، لأنّ أصالة عدم حدوث الاستعمال في زمان إلقاء الكرّ لا يترتّب عليه أثر شرعيّ كما تقدّم ، فلا تعارض أصالة طهارة الثوب. ولا تعارضها أيضا أصالة عدم حدوث إلقاء الكرّ في زمان الاستعمال ، كما عرفته فيما كان الاستعمال معلوم التاريخ.

١٩٧٣. مضافا إلى عدم تمسّك أحد بقاعدة الضرر في إثبات الضمان ، سوى ما يظهر من بعض كلمات صاحب الرياض. ويؤيّده حصرهم أسباب الضمان في اليد والإتلاف والتسبيب.

ثمّ إنّ ما أورده عليه المصنّف رحمه‌الله تبعا لغير واحد من أواخر المتأخّرين يرجع إلى وجوه :

٣٨٨

وترك العمل بالبراءة.

ومجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة «الإتلاف» أو «الضرر» لا يوجب رفع اليد عن الأصل. والمعلوم تعلّقه بالضارّ فيما نحن فيه هو الإثم والتعزير إن كان متعمّدا ، وإلّا فلا يعلم وجوب شيء عليه ، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلّة الضرر. كما لا وجه لما ذكره (١٩٧٤) من تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناء على أنّ المثبت لأجزاء العبادة هو النصّ. فإنّ النصّ قد يصير مجملا ، وقد لا يكون نصّ في المسألة ، فإن قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف بالأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر فلا مانع منه ، وإلّا فلا مقتضي له ، وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة.

______________________________________________________

أحدها : أنّ مجرّد احتمال اندراج ما نحن فيه تحت قاعدة الضرر والإتلاف لا يوجب رفع اليد عن الأصل المحكّم في المقام.

الثاني : أنّه على تقدير القطع بالاندراج لا وجه لتخصيص الشرط بعدم التضرّر ، إذ كما يعتبر في العمل بأصالة البراءة عدم كون موردها موردا للقاعدتين ، كذلك يعتبر أيضا عدم كونه موردا لسائر القواعد.

الثالث : منع دلالة قاعدة الضرر على الضمان ، بل الضارّ إن قصد بفعله الإضرار على الغير فهو آثم قطعا ، وإلّا فلا إثم عليه أيضا. قال في الجواهر : «إنّ استفادة الضمان من القاعدة المزبورة متوقّفة على الانجبار بفتوى الأصحاب ، إذ لا اقتضاء لها إلّا عدم مشروعيّة ما فيه الضرر والضرار في الإسلام على معنى النهي عن إيجاده ، وهو إنّما يقتضي حرمة ذلك ، لا الجبر بالضمان المتوقّف على إرادة انتفاء وجوده في الدين ، المنزّل على إرادة جبر ما يحصل منه فيه بالغرامة ، لأنّه أقرب المجازاة إلى نفيه ، بل يمكن دعوى إرادة ذلك حقيقة من النفي بلا تجوّز ، إلّا أنّ ذلك كلّه كما ترى لا يصلح دليلا لذلك من دون انجبار بفتوى الأصحاب فضلا عن الفتوى بخلافه» انتهى.

١٩٧٤. هذا إشارة إلى الاعتراض على ثالث الشروط بما هو واضح.

٣٨٩

المصادر :

(١) روض الجنان : ص ٢٤٨ ؛ القوانين ج ٢ : ص ١٤٠ ـ ١٤٤.

(٢) مشارق الشموس : ص ٩٠.

(٣) رسائل الشريف المرتضى ج ٢ : ص ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

(٤) الوسائل ج ٢ : ص ٩٥٧ ، الباب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، الحديث ١.

(٥) الأنعام (٦) : ١٤٩.

(٦) أمالي الطوسى : ص ٩ المجلس الأوّل.

(٧) النساء (٤) : ٩٧.

(٨) تفسير القمّى ج ١ : ص ١٤٩.

(٩) عدّة الاصول ج ٢ : ص ٧٤٢ ـ ٧٤٣.

(١٠) الوسائل ج ٢ : ص ٩٧٧ ، الباب ١١ من أبواب التيمّم ، الحديث ٨.

(١١) مدارك الأحكام ج ٢ : ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ؛ ج ٣ : ص ٢١٩.

(١٢) مجمع الفائدة والبرهان ج ٢ :

ص ١١٠.

(١٣) المنتهى ج ٤ : ص ٢٣٠.

(١٤) مفتاح الكرامة ج ٢ : ص ١٩٩.

(١٥) التذكرة ج ٢ : ص ٣٩٩.

(١٦) المدارك ج ٢ : ص ٣٤٥.

(١٧) القوانين ج ٢ : ص ٢٤٨.

(١٨) المعالم : ص ٢٠١.

(١٩) القوانين ج ١ : ص ٤٦٠.

(٢٠) المبسوط ج ١ : ص ٢١٠.

(٢١) التحرير ج ١ : ص ٦٢.

(٢٢) التحرير ج ١ : ص ٦٣.

(٢٣) الذكرى ج ١ : ص ٥١.

(٢٤) الوافية : ص ٢٠٩.

(٢٥) القوانين ج ٢ : ص ٤٦ ـ ٤٧.

(٢٦) الوسائل ج ١ : ص ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢.

(٢٧) الفصول الغرويّة : ص ٣٥٤.

(٢٨) المعتبر ج ١ : ص ٥٢.

(٢٩) الوافية : ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

٣٩٠

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

٣٩١
٣٩٢

وحيث جرى ذكر حديث «نفي الضرر والضرار» ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة ، فنقول : قد ادّعى فخر الدين (١٩٧٥) في الايضاح في باب الرهن تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، فلا نتعرّض من الأخبار

______________________________________________________

١٩٧٥. قد اعترف المصنّف رحمه‌الله في بعض رسائله المفردة لهذه القاعدة بعدم عثوره في الايضاح بهذه الدعوى من الفخر ، ولكنّي وجدتها في أواخر باب الرهن في مسألة إقرار الراهن بعتق العبد المرهون قبل الرهن ، قال : «وثالثها : العتق ، فنقول : يجب عليه فكّ الرهن بأداء الدين ، فإذا تعذّر وبيع في الدين وجب افتكاكه ، فإن بذله للمشتري بقيمته أو أقلّ وجب فكّه ، ولو بذله بالأزيد ولو بأضعاف قيمته فالأصحّ وجوب فكّه عليه ، لوجوب تخليص الحرّ ، فإنّه لا عوض له إلّا التخليص ، ولا يمكن إلّا بالأزيد من القيمة ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. واحتمال عدمه ـ لإمكان استلزامه الضّرر ، بأن يحيط بمال الراهن ، والضرر منفي بالحديث المتواتر ـ ضعيف ، ولا وجه له عندي» انتهى ، فتدبّر.

وقد جمع في أواخر كتاب المعيشة من الكافي بابا لهذه القاعدة ، وكثرة الأخبار الواردة فيها أغنت عن ملاحظة سندها ، وتمييز صحيحها عن ضعيفها ، وسليمها عن سقيمها ، فلا وجه لرميها بالضعف في أخبارها كما صدر عن بعضهم. نعم ، لا بدّ حينئذ من إيراد الكلام في دلالتها ، وفي مقدار مدلولها ، وفي ملاحظة معارضها ، إذ لا بدّ في تأسيس كلّ قاعدة من الكلام فيه من جهات : من جهة الإثبات ، ومن جهة دلالة الدليل المثبت لها ، ومن جهة معارضاتها.

٣٩٣

الواردة (١٩٧٦) في ذلك إلّا لما هو أصحّ ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ، وهي الرواية

______________________________________________________

١٩٧٦. من هذه الأخبار الواردة النبويّ المشهور بين العامّة والخاصّة : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». وهو مرويّ في كتب الفقهاء ، وأرسلها في التذكرة والذكرى ونهاية ابن الأثير عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي بعض الكتب مرويّ بدون لفظ «في الإسلام».

ومنها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله في كتاب المكاسب في مسألة حرمة الغشّ قال : «وفي رواية العيون قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأسانيد منّا : ليس من المسلمين من غشّ مسلما أو ضرّه أو ماكره». ومنها رواية طلحة بن زيد عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم». ومنها رواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار».

ومنها : ما رواه في التهذيب عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء واشترك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضي أنّ البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير ، قال : لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ ، فإن قال : لا اريد إلّا الرأس والجلد ، فليس له ذلك ، هذا الضرار ، وقد أعطي حقّه إذا أعطي الخمس».

ومنها : ما روي عن محمّد بن الحسين قال : «كتبت إليه ـ يعني : أبا محمّد عليه‌السلام ـ رجل كان له رحى على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى ، أله ذلك؟ فوقّع : يتّق الله عزوجل ، ويعمل في ذلك المعروف ، ولا يضارّ لأخيه المؤمن».

ومنها : ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع البئر ، وبين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال : لا ضرر ولا ضرار». ومنها : الأخبار

٣٩٤

المتضمّنة (١٩٧٧) لقصّة سمرة بن جندب مع الأنصاري ، وهي ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق (١٩٧٨) ، وكان

______________________________________________________

المتضمّنة أنّ من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن. ومنها : الأخبار الواردة في العيون الضارّة بعضها ببعض.

وقد يستدلّ على المدّعى أيضا بالعقل والكتاب. والأوّل كما ترى. والثاني أيضا مثله. اللهمّ إلّا أن يريد به ما دلّ منه على نفي العسر والحرج ، ولكن صدق الضرر عليهما مطلقا كما ترى.

١٩٧٧. ما نقله أوّلا رواه ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام. ويقرب منها ما رواه الحذّاء عنه عليه‌السلام ، إلّا أنّه ليس فيها لفظ الضرر والضرار ، بل فيها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا ، اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه». وما نقله ثانيا رواه ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وهذه الروايات كما ترى صريحة في ذمّ سمرة وعدم قبوله قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن روضة الكافي : أنّه ـ يعني سمرة بن جندب ـ ضرب ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رأسها فشجّها ، فخرجت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكت. وعن شرح ابن أبي الحديد على النهج : أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم على أن يروي أنّ هذه الآية نزلت في عليّ عليه‌السلام : «من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ـ إلى قوله ـ لا يحبّ الفساد». وأنّ هذه نزلت في ابن ملجم لعنه الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فلم يقبل ، فبذل مأتي ألف فلم يقبل ، فبذل ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل أربعمائة ألف فقبل ، وروى ذلك. وفيه : أنّ سمرة بن جندب عاش حتّى حضر مقتل الحسين عليه‌السلام ، وكان من شرطة ابن زياد ، وكان أيّام مسير الحسين عليه‌السلام إلى العراق يحرّض الناس على الخروج إلى قتاله.

١٩٧٨. قال الطريحي : العذق كفلس النخلة بحملها. وأمّا العذق بالكسر فالكباسة ، وهي عنقود التمر ، والجمع أعذاق كأحمال.

٣٩٥

طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار ، وكان يجئ ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري. فقال الأنصاري : يا سمرة ، لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها ، فإذا دخلت فاستأذن. فقال : لا أستأذن في طريقي إلى عذقي. فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأتاه ، فقال له : إنّ فلانا قد شكاك وزعم أنّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل. فقال : يا رسول الله ، أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ عنه ولك عذق في مكان كذا. قال : لا. قال : فلك اثنان. فقال : لا اريد. فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله يزيد حتّى بلغ عشر أعذق. فقال : لا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ عنه ولك عشر أعذق في مكان كذا ، فأبى. فقال : خلّ عنه ولك بها عذق في الجنّة. فقال : لا اريد. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. قال عليه‌السلام : ثمّ أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلعت ، ثمّ رمي بها إليه. وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انطلق فاغرسها حيث شئت ...» (١).

وفي رواية اخرى موثّقة : «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ـ وفي آخرها ـ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار ...» (٢).

وأمّا معنى اللفظين (١٩٧٩) : فقال في الصحاح : الضرّ خلاف النفع ، وقد ضرّه و

______________________________________________________

ثمّ إنّ في المقام بحثا ، وهو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف أمر بقلع عذق سمرة استنادا إلى قاعدة الضرر واندراج الواقعة فيها؟ لأنّ تردّد سمرة إلى عذقه كما أنّه كان ضررا على الأنصاري ، كذلك قلع عذقه ضرر عليه ، فكيف قدّم أحد الضررين على الآخر مع تساويهما في الاندراج تحت القاعدة؟

والجواب ـ مع عدم قدح هذا الإشكال في الاستدلال ـ أنّ سمرة كان قاصدا للإضرار على الأنصاري ، ولم يكن مقصوده مجرّد الانتفاع بعذقه وإن استلزم ضرر الأنصاري ، ولا ريب في حرمة الإضرار مع قصده. ومن هنا يظهر شمول الرواية لصورة قصد الإضرار ، ولكن ليس المورد مخصّصا لعموم اللفظ.

١٩٧٩. لا إشكال في معنى الضر ، وأنّه ضدّ النفع. والمستفاد ممّا نقله عن

٣٩٦

ضارّه بمعنى. والاسم الضّرر. ثمّ قال : والضّرار المضارّة (٣). وعن النهاية الأثيريّة : في الحديث : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». الضرّ ضدّ النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضرارا ، وأضرّ به يضرّه إضرارا ، فمعنى قوله : «لا ضرر» لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه. والضّرار فعال من الضرّ ، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه.

والضّرر فعل الواحد ، والضّرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضّرار الجزاء عليه. وقيل : الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به. والضّرار أن تضرّه من غير أن تنتفع. وقيل : هما بمعنى. والتكرار للتأكيد (٤) ، انتهى. وعن المصباح : «ضرّه يضرّه» من باب قتل : إذا فعل به مكروها وأضرّ به. يتعدّى بنفسه (١٩٨٠) ثلاثيّا وبالباء رباعيّا. والاسم الضرر. وقد يطلق على نقص في الأعيان. وضارّه مضارّة وضرارا بمعنى ضرّه ، انتهى. وفي القاموس : «الضرّ ضدّ النفع ، وضارّه يضارّه وضرارا. ثمّ قال : والضرر سوء الحال. ثمّ قال : والضرار الضيق» ، انتهى.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ المعنى بعد تعذّر إرادة (١٩٨١) الحقيقة عدم

______________________________________________________

الصحاح أنّ المصدر هو الضر ، واسم المصدر هو الضرر ، وأنّ المجرّد والمفاعلة منه بمعنى واحد. وقيل : الضر بالفتح ضدّ النفع ، وبالضمّ الهزال وسوء الحال. وأمّا لفظ الضرار ففي مفهومه إجمال كما يظهر ممّا نقله عن النهاية ، إلّا أنّه لا يضرّ بالاستدلال بالأخبار بعد تبيّن مفهوم لفظ الضرر. وقيل : الضرر هو الاسم ، والضرار هو المصدر ، فيكون منهيّا عن الفعل الذي هو المصدر ، وعن إيصال الضرر الذي هو الاسم. ويظهر من النهاية كون الضرار مصدرا للمجرّد ، كما أنّه مصدر للمفاعلة.

١٩٨٠. مثل : كبّه وأكبّ به. وقد ذكر في آخر المصباح في فصل تعدية الثلاثي اللازم أربعة عشر موضعا تعدّى فيها الثلاثي وقصر رباعيّه ، ولم يذكر مادّة الضرر منها هناك.

١٩٨١. لوجود الحقيقة في الشرع والعادة بديهة ، وبعد تعذّر إرادتها اختلفوا في المعنى المراد من اللفظ على وجوه :

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من أنّ المراد نفي الضرر المشروع ، بمعنى عدم جعل الشارع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيّا كان أو وضعيّا ، فكلّ حكم تكليفي أو وضعي يلزم من جعله أو إمضائه شرعا ضرر على أحد ، من قبل الله تعالى أو من قبل العباد ، فهو منفي شرعا ، وغير مجعول لله تعالى ، ولا ممضى عنده.

وهذا أظهر الوجوه في معنى الرواية ، إذ لا يرد عليه سوى لزوم المجازيّة في الظرف ، أعني : قوله «في الإسلام» إذ لا بدّ حينئذ من أخذ لفظ «في» بمعنى السببية ، لأنّ المراد بالإسلام هو الأحكام الشرعيّة والضرر مرتّب عليها ومسبّب عنها ، لا مستقرّ فيها حتّى يتمّ معنى الظرفيّة. ولكن لفظ «في الإسلام» لم يرد إلّا في بعض الروايات المتقدّمة. مع أنّ هذا المحذور أهون من سائر المحاذير الواردة على سائر الوجوه ، لمساعدة فهم العرف عليه.

وأمّا ما أورده عليه المصنّف رحمه‌الله من منافاته للفقرة الثانية ، أعني : قوله «ولا ضرار» بمعنى المجازاة أو فعل الاثنين ، فمع ورود هذا الإشكال على كلّ تقدير ، وعدم اختصاصه بهذا الوجه ، أنّه إنّما يرد على تقدير أخذه بأحد المعنيين المذكورين وهو غير متعيّن ، لاحتمال التأكيد فيه كما تقدّم. وبالجملة ، أنّا قد أشرنا إلى أنّ لفظ الضرار في الرواية مجمل ، وأنّه غير مصادم للاستدلال بالفقرة الاولى ، أعني : قوله «لا ضرر» لظهوره عرفا ولغة في ضدّ النفع.

وكيف كان ، فالاستدلال بالرواية على هذا الوجه على إثبات حكم وضعي ، إنّما هو باعتبار كون نفي الحكم الضرري مستلزما لحكم وضعي ، مثل نفي لزوم البيع مع الغبن ، لاستلزامه الخيار للمشتري ، وجواز العقد بالنسبة إليه ، ونفي براءة ذمّة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر المستلزم لضمانه ، وهكذا.

وثانيها : ما احتمله المصنّف رحمه‌الله من أخذ النفي بمعنى النهي ، بأن كان إنشاء التحريم مرادا من الجملة. وهذا المعنى محكيّ عن البدخشي. قال : «الضرر والضرار ممنوع منه شرعا ، وتحقيق ذلك أنّ النفي هاهنا بمعنى النهي ، بقرينة أصل الضرر الواقع»

٣٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

انتهى. ويؤيّده قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضيّة سمرة : «إنّك رجل مضارّ» حيث ذمّه على فعل الضرر.

وثالثها : أن يكون النفي باقيا على ظاهره ، ويكون مدخوله مقيّدا بالإذن من الشارع ، والمعنى : لا ضرر مأذونا فيه شرعا ، ولا ضرار كذلك في الإسلام ، فكلّ فعل يكون فيه ضرر على الغير يكون غير مأذون فيه شرعا ، فيكون حراما. فيرجع هذا المعنى إلى سابقه.

ويردّ عليهما أوّلا : أنّ حمل الجملة الخبريّة على معنى الإنشاء وكذا التقدير فيها خلاف الظاهر ، ولو بمعونة ملاحظة نظائرها مثل قوله : لا عسر ولا حرج في الدين ، مضافا إلى أصالة عدمهما.

وثانيا : أنّ حمل النفي على إرادة معنى التحريم لا يتمّ في رواية الشفعة المتقدّمة ، إذ ليس فيها فعل يتعلّق به التحريم. مع أنّ الصادق عليه‌السلام قد أثبت الشفعة فيها بقاعدة الضرر ، لأنّه إذا باع أحد الشريكين حصّته من المال المشترك فيه ، فالفعل الذي يمكن تعلّق النهي به إمّا إيقاع العقد أو إبقائه. والأوّل غير حرام بلا إشكال. والثاني لا يعقل تعلّق النهي به ، لأنّ الإبقاء إنّما هو فعل الله تعالى دون المكلّف. مع أنّ حرمة الإبقاء لا تستلزم ثبوت الشفعة ، لعدم المنافاة بين حرمة إبقائه وعدم ثبوت حقّ الشفعة للشفيع ، نظير عدم استلزام حرمة بيع الزاد والراحلة على المستطيع للفساد. وكذا لو باع ثوبا واشترط في ضمن العقد أن يبيعه ثوبا آخر ، فإنّ بيع الثوب الآخر من الغير حرام لأجل وجوب الوفاء بالشروط ، ولا تستلزم حرمته الفساد. والوجه في ذلك كلّه عدم تعلّق النهي بذات المعاملة وأركانها ، لتعلّق النهي في الأوّل بتفويت الحجّ ، وفي الثاني بعدم الوفاء بالشرط.

وثالثا : أنّ العلماء قد استدلّوا خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل بهذه القاعدة في باب الخيارات ، من خيار الغبن والعيب ونحوهما. ولا حرمة في البيع المغبون فيه ولا في بيع المعيب ، كيف لا وقد يجهل المتبايعان بالغبن والعيب ، ولا معنى للتحريم حينئذ.

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ورابعا : أنّ متعلّق الحرمة هو أفعال العباد دون الأحكام ، مع أنّ العلماء ربّما يستدلّون على الأعمّ منهما ، ولذا ترى أنّهم يقولون بعدم وجوب الوضوء فيما استلزم استعمال الماء الضرر ، استنادا إلى هذه القاعدة ، وكذا بعدم وجوب الحجّ مع العلم أو الظنّ بالضرر في الطريق ، ولا معنى لحرمة إيجاب الوضوء والحجّ على الله تعالى عن ذلك.

هذا ، ويمكن دفع ما عدا الأوّل بحمل النهي على بيان الحرمة التشريعيّة دون الذاتيّة ، بأن يراد بتحريم الضرر تحريم الالتزام بالحكم الذي يترتّب عليه الضرر ، لوضوح حرمة الالتزام بالحكم المنفي شرعا. ولعلّه لأجل ذلك قد صرّح المصنّف رحمه‌الله برجوع المعنى الثاني إلى الأوّل ، لوضوح ثبوت الحرمة على المعنى الأوّل أيضا ، لما عرفت من استقلال العقل بقبح الالتزام بالحكم المنفي شرعا ، غاية الأمر أنّ الحرمة على المعنى الأوّل تكون ثابتة بحسب العقل ، وعلى المعنى الثاني مصرّحا بها في الرواية.

وخامسا : أنّ حمل نفي الضرر على إرادة النهي عنه لا يناسبه تقييده بقوله «في الإسلام» إذ الإسلام عبارة عن نفس أحكامه سبحانه ، فيصير المعنى حينئذ : يحرم فعل الضرر في الأحكام ، ولا ريب في هجنته (*).

ورابعها : وهو ما يستفاد ممّا نقله المصنّف رحمه‌الله عن الفاضل التوني ، أن يكون المراد نفي الضرر المجرّد عن التدارك والجبران في الإسلام ، لا بدعوى حذف قيد الجبران ، بل بدعوى كون الضرر المتدارك غير ضرر ادّعاء ، كدعوى دخول الشجاع في جنس الأسد على مذهب السكاكي ، فلا حذف حتّى ينفى بالأصل ، إذ كما أنّ ما يحصل بإزائه نفع ـ كدفع مال بإزاء عوض مساو له أو أزيد ـ لا يسمّى ضررا ، كذلك الضرر المقرون بحكم الشارع بلزوم تداركه منزّل منزلة عدمه ، وإن لم يسلب عنه مفهوم الضرر حقيقة بمجرّد حكم الشارع بالتدارك.

فإتلاف المال بلا تدارك ضرر صاحبه إن وجد في الخارج فهو منفي ، فلا بدّ أن

__________________

(*) المصباح : الهجنة في الكلام العيب.

٤٠٠