فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

لكنّ الإنصاف : أنّ الشكّ في تحقّق الإطاعة بدون نيّة الوجه غير متحقّق ؛ لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنيّة الوجه الثابت عليه في الواقع مطيعا وإن لم يعرفه (١٨٧٤) تفصيلا ، بل لا بأس بالإتيان به بقصد القربة (١٨٧٥) المشتركة بين الوجوب والندب من غير أن يقصد الوجه الواقعي المعلوم للفعل إجمالا ، وتفصيل ذلك في الفقه. إلّا أنّ الأحوط : عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط ؛ لشهرة القول بذلك (١٨٧٦) بين الأصحاب ، ونقل غير واحد (٢) اتّفاق المتكلّمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما (١٨٧٧) ، ونقل السيّد الرضيّ قدس‌سره إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها ، وتقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس‌سره له على ذلك في

______________________________________________________

الأمر به ، وقصد الوجه من الوجوب أو الاستحباب متأخّر عن تعلّق الأمر به كما هو واضح ، فلو كان قصد الوجه من شرائط المأمور به لزم الدور الباطل ، لأنّ اتّصاف المأمور به بالوجوب أو الاستحباب المستفاد من الأمر متوقّف على تقدّم اعتبار جميع الأجزاء والشرائط في المأمور به ، والفرض أنّ هذا الشرط متأخّر في الوجود عن اتّصافه بهما ، فلو كان من شرائط المأمور به لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو باطل.

١٨٧٤. يعني : الوجه ، بأن كان الفعل في نظره مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

١٨٧٥. يعني : القربة المطلقة وإن لم يقصد الوجه الواقعي.

١٨٧٦. أي : بوجوب قصد الوجه ، وقد حكيت دعوى الشهرة عليه عن مجلس درس صاحب الرياض وشريف العلماء أستاذ المصنف قدس‌سره.

١٨٧٧. المراد بالإتيان بالفعل بوجهه هو الإتيان به بقصد أنّه واجب أو مندوب ، وبوجه وجوبه وندبه الإتيان به بقصد كون وجوبه أو استحبابه لطفا ، أو الإتيان به بقصد الشكر ، أو لأجل أمر الآمر ، أو المركّب من جميعها أو من

٣٠١

مسألة الجاهل بالقصر (٣) ، بل يمكن أن يجعل (١٨٧٨) هذان الاتّفاقان المحكيّان من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ، فضلا عن كونهما منشأ للشكّ الملزم للاحتياط ، كما ذكرنا.

وأمّا الثاني وهو ما يتوقّف الاحتياط فيه على تكرار العبادة ، فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار العبادة ، بناء على عدم اعتبار نيّة الوجه ، لكنّ الإنصاف عدم العلم بكفاية هذا النحو من الإطاعة الإجمالية ، وقوّة احتمال اعتبار الإطاعة التفصيليّة في العبادة ، بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه. ولذا يعدّ تكرار العبادة لإحراز الواقع مع التمكّن من العلم التفصيلي به أجنبيّا عن سيرة المتشرّعة ، بل من أتى بصلوات غير محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة ـ بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ، ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصحّ السجود عليه ، مائة صلاة ـ مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ، يعدّ في الشرع والعرف لاعبا بأمر المولى.

والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصّل ، نعم ، لو كان ممّن لا يتمكّن (١٨٧٩) من العلم التفصيلي ، كان ذلك منه محمودا مشكورا. وببالي : أنّ صاحب الحدائق قدس‌سره يظهر منه دعوى الاتّفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي.

______________________________________________________

بعضها ، على اختلاف الآراء على ما ذكره في الروضة.

١٨٧٨. يمكن منعه ، لأنّ مستند المجمعين هو عدم حصول الإطاعة من دون قصد الوجه ، ومع القطع ببطلان مستندهم لا يمكن الاستكشاف به عن رضا المعصوم. واحتمال وجود دليل تعبّدي عليه عندهم بعيد جدّا.

١٨٧٩. فرعان : الأوّل : أنّه لو لم يكن متمكّنا من العلم التفصيلي عند اشتباه القبلة أو الثوبين المشتبهين أو نحوهما وأتى ببعض المحتملات ، ثمّ تمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بالواقع ، فهل يجب عليه تحصيل العلم ، أو يجوز له الاكتفاء بالإتيان

٣٠٢

ولقد بالغ الحلّي في السرائر حتّى أسقط اعتبار الشرط المجهول تفصيلا ولم يجوّز التكرار المحرز له ، فأوجب الصلاة عاريا على من عنده ثوبان مشتبهان ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النصّ به لكن من طريق الآحاد ؛ مستندا في ذلك إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه.

وكما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على إحراز الواقع بالتكرار ، كذا لا يجوز بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فإن طابق الواقع وإلّا أعاده.

ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم ، ثمّ اتّفق له ما يوجب تردّده في الصحّة ووجوب الإتمام وفي البطلان ووجوب الاستئناف ، ففي جواز الإتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والإعادة مع المخالفة وعدمه ، وجهان (١٨٨٠) : من اشتراط العلم بالصحّة

______________________________________________________

بالمحتمل الباقي؟ وجهان ، من مطلوبيّة الإطاعة التفصيليّة بحسب الإمكان ، لأنّ المانع هو عدم التمكّن وقد ارتفع ، ومن أنّ المانع من تكرار العمل هو بناء العقلاء أو الإجماع المتوهّم ، وشيء منهما غير حاصل في المقام. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المانع ـ كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله ـ هو عدّ العبد في العرف والشرع لاعبا بأمر مولاه ، ولا فرق فيه بين التمكّن عن الفحص في ابتداء العمل وبين التمكّن منه بعد الإتيان ببعض المحتملات ، سيّما إذا كانت المحتملات الباقية كثيرة. وقد تقدّم فيما علّقناه على صدر الكتاب ما ينفعك هنا.

الثاني : أنّه إذا لم يتمكّن من العلم التفصيلي وأتى ببعض المحتملات وانكشفت قبل الإتيان بالباقي مطابقة المأتيّ به للواقع ، فهل يجب الإتيان بالباقي للأصل أو لا؟ لأنّ وجوب الإتيان بالمحتملات إنّما كان من باب المقدّمة ، فإذا ظهرت مطابقة بعضها للواقع سقط وجوب المقدّمة. وهذا هو الأظهر.

١٨٨٠. ظاهر كلمات الأكثر الحاكمين ببطلان تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ربّما يشمل المقام ، ولكنّ الأظهر هو الوجه الأوّل ، كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله. وتمكن استفادته من الأخبار أيضا ، لأنّ الرواة ربّما سألوا الإمام عليه‌السلام عن حكم ما وقع في أثناء العمل من الخلل وأجابهم بالصحّة ، لأنّ مثل هذا الجواب

٣٠٣

حين العمل كما ذكرنا ؛ ولذا لم يجوّز هذا من أوّل الأمر. وبعبارة اخرى : الجزم بالنيّة معتبر في الاستدامة كالابتداء ، ومن أنّ المضيّ على العمل (*) متردّدا بانيا على استكشاف حاله بعد الفراغ ؛ محافظة على عدم إبطال العمل ـ المحتمل حرمته واقعا على تقدير صحّته ـ ليس بأدون من الإطاعة التفصيليّة ، ولا يأباه العرف ولا سيرة المتشرّعة. وبالجملة فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا من السيرة العرفيّة والشرعيّة غير جار في المقام.

______________________________________________________

وإن كان واردا في مقام حكم آخر ، وهو عدم مانعيّة ما وقع في أثناء العمل ، إلّا أنّ الاحتياط والبناء على الفحص والسؤال بعد الفراغ لو كانا مفسدين للعبادة لوجب عليه التنبيه عليه ، فعدم التعرّض للفساد من هذه الجهة يدلّ على عدمه.

تنبيه : اعلم أنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من حكم الاحتياط فيما استلزم تكرار العمل وعدمه فيما كانت العبادة من قبيل الأفعال واضح. وأمّا إن كانت من قبيل التروك كالصوم ، ففي جواز ترك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط فيها وعدمه وجهان ، من اعتبار قصد الوجه عند المشهور ، فيجب قصد الوجوب عند ترك ما يحرم فعله فيبطل بدونه ، ومن أنّ المقصود من تحريم ما حرّم ارتكابه في الصوم حصول تركه في الخارج ، ولذا أفتوا بصحّة صوم من جهل بتروك الصوم إذا قصد الاجتناب عمّا يعلم إجمالا بتحقّق ترك ما يحرم ارتكابه فيه بتركه. وبالجملة ، أنّ الظاهر ثبوت الفرق عند المشهور بين العبادات الفعليّة والتركيّة ، بكفاية قصد الوجه الواقعي الحاصل مع الاحتياط في الثانية دون الاولى.

ثمّ إنّ جميع ما تقدّم إنّما هو في العبادات. وأمّا المعاملات فلا إشكال في جواز الاحتياط فيها حتّى عند المشهور ، وإن استلزم تكرار العمل أيضا ، لعدم اعتبار قصد الوجه ـ بل القربة ـ فيها ، لكونها واجبات توصّلية ، والمقصود منها حصول وجودها في الخارج بأيّ نحو اتّفقت ، فإذا وجدت ولو بين امور متعدّدة

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : ولو.

٣٠٤

ويمكن التفصيل بين كون الحادث الموجب للتردّد في الصحّة ممّا وجب على المكلّف تعلّم حكمه قبل الدخول في الصلاة لعموم البلوى ، كأحكام الخلل الشائع وقوعها وابتلاء المكلّف بها ، فلا يجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء المضيّ والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ ؛ لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره ، فهو في مقام الإطاعة كالداخل في العمل متردّدا. وبين كونه ممّا لا يتّفق إلّا نادرا ؛ ولأجل ذلك لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول للوثوق بعدم الابتلاء غالبا ، فيجوز هنا المضيّ في العمل على الوجه المذكور. هذا بعض الكلام في الاحتياط.

وأمّا البراءة : فإن كان الشكّ الموجب للرجوع إليها من جهة الشبهة في الموضوع ، فقد تقدّم أنّها (١٨٨١) غير مشروطة بالفحص عن الدليل المزيل لها ، وإن كان من جهة الشبهة في الحكم الشرعيّ ، فالتحقيق أنّه ليس لها إلّا شرط واحد وهو الفحص عن الأدلّة الشرعيّة.

والكلام يقع تارة في أصل الفحص واخرى في مقداره. أمّا وجوب أصل الفحص ، وحاصله عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في التعلّم ، فيدلّ عليه وجوه : الأوّل : الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلّة. الثاني : الأدلّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، مثل آيتي النفر للتفقّه وسؤال أهل الذكر والأخبار الدالّة (١٨٨٢) على وجوب تحصيل العلم وتحصيل التفقّه والذمّ على ترك السؤال.

الثالث : ما دلّ على مؤاخذة (١٨٨٣) الجهّال بفعل المعاصي المجهولة المستلزم

______________________________________________________

ترتّبت عليها آثارها بلا إشكال.

١٨٨١. سيجيء تفصيل الكلام فيه.

١٨٨٢. في الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وفي الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام لحمران بن أعين في شيء سأله : «إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون» إلى غير ذلك من الأخبار.

١٨٨٣. منه ما دلّ أيضا على وجوب الاحتياط حتّى يسألوا ويعلموا ، مثل

٣٠٥

لوجوب تحصيل العلم ؛ لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب : مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن غسّل مجدورا أصابته جنابة فكزّ فمات (١٨٨٤) : «قتلوه ، قتلهم الله ، إلّا سألوا ، إلّا يمّموه». وقوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء : «ما كان أسوأ حالك لو متّ على هذه الحالة» ، ثمّ أمره بالتوبة وغسلها (٤) ، وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٥) من أنّه : «يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلّا عملت؟ وإن قال : لا ، قيل له : هلّا تعلّمت حتّى تعمل؟» (٦). وما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ :) «نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يقاتل معه ، (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لم نعلم من الحقّ ، فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (٧) أي دين الله وكتابه واسعا متّسعا ، فتنظروا فيه ، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحقّ (٨).

الرابع : أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام الذي نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى وأتى بطومار يدّعي أنّ الناظر فيه يطّلع على صدق دعواه أو كذبها ، فتأمّل (١٨٨٥).

______________________________________________________

قوله في صحيحة عبد الرحمن بن حجّاج : «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا».

١٨٨٤. الكزاز داء يتولّد من شدّة البرد. وقيل : هو نفس البرد ، ومنه حديث «من أمر بالغسل فكزّ فمات» ذكره الطريحي.

١٨٨٥. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى الفرق بين المثال وما نحن فيه ، لأنّ المثال من قبيل دعوى النبوّة ، فإنّ من ادعى الرسالة من الله تعالى ودعا الناس إلى النظر إلى معجزته ، فعدم جواز العمل بأصالة البراءة عن وجوب تصديقه من دون فحص عن صدقه بالنظر في معجزته ، إنّما هو لاستلزامه لإفحام الأنبياء ، لا لعدم جواز العمل بها قبل الفحص ، لأنّا لو قلنا بجواز العمل بها قبله في الأحكام الفرعيّة

٣٠٦

والنقل الدالّ على البراءة في الشبهة الحكميّة معارض بما تقدّم من الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط حتّى يسأل عن الواقعة ، كما في صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة ، وما دلّ على وجوب التوقّف بناء على الجمع بينها وبين أدلّة البراءة بحملها على صورة التمكّن من إزالة الشبهة.

الخامس : حصول العلم (١٨٨٦) الإجمالي لكلّ أحد ـ قبل الأخذ في استعلام المسائل ـ بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة ؛ لما تقدّم من أنّ مجراه الشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.

______________________________________________________

لا يلزم منه القول بها قبله في مسألة النظر إلى المعجزة ، لما ذكرناه من المحذور فيها.

١٨٨٦. هذا الدليل أخصّ من المدّعى ، لوضوح كونه أعمّ من صورة وجود العلم الإجمالي وممّا ثبت جميع أحكام الفقه بالأدلّة القاطعة أو الظنون الخاصّة إلّا موردا واحدا شكّ في حكمه ، إذ لا شكّ في عدم جواز العمل فيه أيضا بأصالة البراءة قبل الفحص كما هو مقتضى الأدلّة السابقة.

نعم ، ربّما يظهر من السيد الصدر فيما حكي عنه اختصاص مورد وجوب الفحص بصورة العلم الإجمالي بوجود الدليل الناقل. قال : «الظاهر جواز العمل بهذا الأصل لكلّ مكلّف في كلّ زمان ، إلّا أن يعلم أنّ الحكم ناقل عن الأصل ومقتضاه ، والذمّة مشغولة به ، ولكن لم يصل إليه ، فحينئذ يجب الفحص والسؤال. وعلى تقدير تسليم وجوب الفحص على كلّ مكلّف عن كلّ ما يمكن أن يصدر عنه في جميع عمره من الأفعال والتروك ، فنقول بجواز العمل بالأصل في مجموع زمان الفحص إلى أن يظهر الناقل عنه. نعم ، التوقّف في بعض الأفعال والتروك إلى تمام زمان الفحص ثمّ العمل بما ظهر من الفحص هو الأولى. ودعوى الإجماع المعتبر في أمثال هذه المسائل حالها غير خفيّة» انتهى. وهو كما ترى مخالف للأدلّة المتقدّمة.

٣٠٧

فإن قلت (*) : هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في أوّل الأمر ولو بعد الفحص ؛ لأنّ الفحص لا يوجب جريان البراءة مع العلم الإجمالي. قلت : المعلوم إجمالا وجود التكاليف الواقعيّة في الوقائع التي يقدر (١٨٨٧) على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها ، فيرجع فيها إلى البراءة.

______________________________________________________

١٨٨٧. لا بدّ حينئذ إمّا من دعوى كون الأخبار المندرسة ـ التي هي أضعاف ما بأيدينا من الأخبار ـ واردة في القصص والحكايات والسنن والمكروهات ، وإمّا من دعوى كونها مؤكّدة لما بأيدينا إن كانت متضمّنة للأحكام الإلزاميّة كلّا أو بعضا ، وهما كما ترى. ومن هنا قد ادّعي كون دعوى الاختصاص الآتية مجازفة ، فإنّها مبنيّة على ما ذكرناه.

فإن قلت : إنّ دعوى اشتمال الأخبار المنطمسة على جملة من الأحكام الإلزاميّة سوى ما بأيدينا اليوم أيضا مجازفة ؛ إذ لا سبيل لنا إلى هذا العلم.

قلت : نعم ، إلّا أنّا ندّعي اندراج الأخبار المندرسة في أطراف العلم الإجمالي المدّعى ، لا كونها موردا له بالاستقلال. والحاصل : أنّا لا ندّعي علمين إجماليّين ، أحدهما متعلّق بالأخبار المندرسة ، والآخر بالأخبار التي بأيدينا ، بل ندّعي حصول العلم الإجمالي بوجود أحكام إلزاميّة في مجموع ما صدر عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، بحيث لا تختصّ أطرافه بما بأيدينا اليوم من الأخبار.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه وإن كان متّجها ، إلّا أنّه ينافي ما ذكره في

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : «فإن قلت : إذا علم المكلّف بعدّة امور من الواجبات والمحرّمات يحتمل انحصار التكليف فيها ، كان الشكّ بالنسبة إلى مجهولاته شكّا في أصل التكليف.

وبتقرير آخر : إن كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلا موجبا لكون الشكّ في الباقي شكّا في أصل التكليف ، فلا مقتضي لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البراءة ؛ وإلّا لم يجز الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص ؛ إذ الشكّ في المكلّف به لا يرجع فيه إلى البراءة ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي».

٣٠٨

ولكن هذا لا يخلو عن نظر ؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو (١٨٨٨) بين جميع الوقائع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك ، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة ، مع أنّ هذا الدليل (١٨٨٩) إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها ، فتأمّل وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريّين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة بالعلم الإجمالي.

______________________________________________________

الجواب عن أحد دليلي الأخباريّين على عدم جواز العمل بظواهر الكتاب ، وهو حصول العلم الإجمالي بورود مخصّصات ومقيّدات وقرائن مجازيّة على عموماتها ومطلقاتها وسائر ظواهرها ، فراجع.

١٨٨٨. حاصله : منع ما ادّعاه في الجواب عمّا أورده على نفسه من السؤال في تقريب الدليل المذكور ، وحينئذ يبقى السؤال واردا على الدليل المذكور.

١٨٨٩. حاصله : أنّه مع تسليم اختصاص أطراف العلم الإجمالي بما بأيدينا اليوم من الأخبار ، نقول : إنّ الدليل المذكور لا يقتضي وجوب الفحص عن جميع ما بأيدينا ، لأنّ غايته هو وجوب الفحص عن مقدار من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيه ، ويرتفع العلم الإجمالي بالفحص عنه ، لأنّا لو فرضنا الأخبار التي بأيدينا اليوم ألفا ، وفرضنا الوقائع التي علمنا إجمالا بوجود أحكامها في هذه الأخبار مردّدة بين أربعين وخمسين واقعة ، وتفحّصناها ووجدنا أحكام أربعين واقعة فيها ، لا يبقى حينئذ علم إجمالي بوجود أحكام باقي الوقائع الذي لم يتفحّص عن أحكامه في هذه الأخبار. نظير ما لو علمنا بوجود شياه محرّمة في قطيع غنم ، لأنّا إذا علمنا بحرمة خمسة أو عشرة معيّنة منها على وجه يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها يرتفع العلم الإجمالي عن الباقي ، وحينئذ لا يبقى مقتض لوجوب الفحص في العمل بأصالة البراءة في الباقي. وإليه يرجع أيضا ما أوردناه في الحواشي السابقة من كون الدليل أخصّ من المدّعى.

٣٠٩

وكيف كان فالأولى ما ذكر في الوجه الرابع من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص ، كما لا يعذر الجاهل بالمكلّف به العالم به إجمالا. ومناط عدم المعذوريّة في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما يأمن معه من ترتّب الضرر. ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة وعدم معذوريّته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ، لا إلى أنّه شكّ (١٨٩٠) في المكلّف به. هذا كلّه ، مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الإجماع القطعي كفاية. ثمّ إنّ في حكم أصل البراءة كلّ أصل عملي (١٨٩١) خالف الاحتياط.

بقي الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع ترك الفحص (١٨٩٢) والكلام فيه

______________________________________________________

وأشار المصنّف رحمه‌الله بالأمر بالتأمّل ـ وبالمراجعة إلى ما ذكره في الردّ على استدلال الأخباريّين ـ إلى ما ذكره هناك أوّلا : من منع كون العلم الإجمالي بأحكام جميع الوقائع موجبا للفحص في العمل بأصالة البراءة عن مدارك جميعها ، لعدم ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه ، بل به على حسب تأدية الطرق المتمكّن من الوصول إليها ، لوضوح عدم وجوب الفحص عمّا لم يثبت التكليف به. وثانيا : من كون قيام الأدلّة الاجتهاديّة على جملة من أطراف العلم الإجمالي موجبا لارتفاعه عمّا لم تقم عليه. وأنت خبير بأنّا قد علّقنا على ردّ الاستدلال المذكور هناك ما يزيّف الأوّل ويصحّح الثاني ، ويوضحه بما لا مزيد عليه.

١٨٩٠. لوضوح كون الشكّ فيه في التكليف ـ وهو وجوب النظر ـ دون المكلّف به. والوجه في عدم جواز التمسّك فيه بأصالة البراءة مع كون الشكّ فيه في التكليف ، ما أشرنا إليه ـ عند بيان وجه التأمّل الذي أمر به عند تقرير الدليل الرابع على وجوب الفحص ـ من استلزامه لإفحام الأنبياء.

١٨٩١. جار في الشبهة الحكميّة ، كالاستصحاب في الجملة ، وقاعدة الطهارة كذلك.

١٨٩٢. بناء على وجوبه.

٣١٠

إمّا في استحقاقه العقاب وإمّا في صحّة العمل الذي اخذ فيه بالبراءة. أمّا العقاب : فالمشهور أنّه على مخالفة الواقع لو اتّفقت ، فإذا شرب العصير العنبيّ من غير فحص عن حكمه ، فإن لم يتّفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتّفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلّم.

أمّا الأوّل (١٨٩٣) ؛ فلعدم المقتضي للمؤاخذة ، عدا ما يتخيّل من ظهور أدلّة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي. وهو مدفوع : بأنّ المستفاد من أدلّته بعد التأمّل إنّما هو وجوب الفحص (١٨٩٤) لئلا يقع في مخالفة الواقع ، كما لا يخفى ، أو ما يتخيّل من قبح التجرّي ، بناء على أنّ الإقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة كالإقدام على ما يعلم كونه كذلك ، كما صرّح به جماعة منهم الشيخ في العدّة (٩) وأبو المكارم في الغنية. لكنّا قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل (١٨٩٥).

______________________________________________________

١٨٩٣. أي : عدم العقاب إذا لم يتّفق كونه حراما.

١٨٩٤. فيكون الأمر به إرشاديّا ، والمصلحة فيه الوصول إلى الأدلّة التي جعلها الشارع طرقا إلى الواقع ، والمقصود من جعلها أيضا ـ كما سيجيء ـ هو الوصول إلى الواقع ومطابقة العمل له ، فمطلوبيّة الفحص وكذا العمل بالطرق إنّما هي للغير ، ولا عقاب على الواجبات الغيريّة كما قرّر في محلّه. ويؤيّده أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما تعلّقت بالعناوين الواقعيّة ، مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ). ومقتضاه ـ على ما هو الحقّ من كون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ـ كون العقاب مترتّبا على نفس الواقع دون مقدّماته ، فتأمّل. مضافا إلى أنّ قوله عليه‌السلام فيما تقدّم من الأخبار : «قتلوه قتلهم الله ، إلّا سألوه ألا يمّموه» ـ وهكذا غيره ممّا تقدّم وما يأتي من رواية عمّار ـ ظاهر فيما ذكرناه ، من كون السؤال لأجل عدم الوقوع في مخالفة الواقع ، وكون العقاب مرتّبا على نفس مخالفة الواقع مع التقصير في السؤال.

١٨٩٥. يعني : من حيث قبح التجرّي ، وكذا من حيث ترتّب العقاب عليه وعدمه.

٣١١

وأمّا الثاني (١٨٩٦) ؛ فلوجود المقتضي ، وهو الخطاب الواقعي الدالّ على وجوب الشيء أو تحريمه ، ولا مانع منه عدا ما يتخيّل : من جهل المكلّف به وهو غير قابل للمنع عقلا ولا شرعا.

أمّا العقل ، فلا يقبح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي ، وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه.

وأمّا النقل (١٨٩٧) ، فقد تقدّم (١٨٩٨) عدم دلالته على ذلك ؛ فإنّ الظاهر منها ـ ولو بعد ملاحظة ما تقدّم من أدلّة الاحتياط ـ الاختصاص بالعاجز (١٨٩٩). مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدّمة في الوجه الثالث المؤيّدة بغيرها ، مثل رواية تيمّم عمّار المتضمّنة لتوبيخ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه بقوله : «أفلا صنعت كذا» (١٠).

وقد يستدلّ أيضا بالإجماع على مؤاخذة الكفّار على الفروع مع أنّهم جاهلون بها. وفيه : أنّ معقد (١٩٠٠) الإجماع تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاصول ومؤاخذتهم عليها بالشروط المقرّرة للتكليف ، وهذا لا ينفي دعوى اشتراط العلم بالتكليف في حقّ المسلم والكافر.

وقد خالف فيما ذكرنا (١٩٠١) صاحب المدارك (١١) تبعا لشيخه المحقّق الأردبيلي (١٢) ؛ حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلّم بقبح تكليف الغافل وفهم منه بعض

______________________________________________________

١٨٩٦. يعني : ترتّب العقاب على مخالفة الواقع.

١٨٩٧. من أخبار البراءة.

١٨٩٨. في الوجه الثالث.

١٨٩٩. يعني : اختصاص النقل من أخبار البراءة بالعاجز عن معرفة الحكم بالفحص والسؤال.

١٩٠٠. فدعوى الإجماع على مؤاخذة الكفّار فرع دعواه على مؤاخذة المسلمين مع ترك الفحص ، فنفي مؤاخذة الكفّار لأجل دعوى اشتراط العلم في تنجّز التكليف لا ينافي دعوى الإجماع على المساواة.

١٩٠١. قال المقدّس الأردبيلي في شرح الإرشاد : «واعلم أيضا أنّ سبب

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بطلان الصلاة في الدار المغصوبة مثلا هو النهي عن الصلاة فيها المستفاد من عدم جواز التصرّف في مال الغير ، وأنّ النهي مفسد للعبادة ، فلا تبطل صلاة المضطرّ ولا الناسي ، بل ولا الجاهل ، لعدم النهي حين الفعل ، ولأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون ، وإن كان في الواقع مقصّرا ومعاقبا بالتقصير ، ولعلّ قول المصنّف رحمه‌الله : وإن جهل المراد به ، عدم علمه بالبطلان لا التحريم ، وإن كان ظاهر كلامه غير ذلك ، وفهم من غير هذا المحلّ» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه. وهو صريح في كون الجاهل المقصّر معاقبا من جهة ترك الفحص والسؤال.

وقال السيد السند صاحب المدارك في شرح قول المحقّق. وإذا أخلّ المصلّي بإزالة النجاسة عن بدنه أو ثوبه أعاد في الوقت وخارجه : «إذا أخلّ المصلّي بإزالة النجاسة التي تجب إزالتها في الصلاة عن ثوبه وبدنه ، فإمّا أن يكون عالما بالنجاسة ذاكرا لها حالة الصلاة ، أو ناسيا ، أو جاهلا. فهنا مسائل ثلاث. الأولى : أن يسبق علمه بالنجاسة ، ويصلّي ذكرا لها ، ويجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه. قال في المعتبر : وهو إجماع من جعل طهارة البدن والثوب شرطا. وإطلاق كلام الأصحاب يقتضي أنّه لا فرق في العالم بالنجاسة بين أن يكون عالما بالحكم الشرعيّ أو جاهلا ، بل صرّح العلّامة وغيره بأنّ جاهل الحكم عامد ، لأنّ العلم ليس شرط في التكليف. وهو مشكل ، لقبح تكليف الغافل.

والحاصل : أنّهم إن أرادوا بكون الجاهل كالعامد أنّه مثله في وجوب الإعادة في الوقت فهو حقّ ، لعدم حصول الامتثال المقتضي لبقاء المكلّف تحت العهدة. وإن أرادوا أنّه كالعامد في وجوب القضاء فهو على إطلاقه مشكل ، لأنّ القضاء فرض مستأنف ، فيتوقّف على الدليل ، فإن ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلّا فلا. وإن أرادوا أنّه كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل ، لأنّ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تكليف بما لا يطاق. نعم ، هو مكلّف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل أو الشرع ، فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

هو واضح» انتهى كلامه زيد إكرامه.

وقال في الذخيرة بعد نقل ما عرفته من المدارك : «وبالجملة ، الظاهر أنّ التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنظر والسعي والتعلّم ، وإلّا لزم تكليف الغافل أو التكليف بما لا يطاق ، والعقاب يترتّب على ترك النظر ، لكن لا يبعد أن يكون متضمّنا لعقاب التارك مع العلم. ولا يخفى أنّه يلزم على هذا أن لا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام ، وإنّما يكونون مخاطبين بمقدّمات الأحكام ، وهذا خلاف ما قرّره الأصحاب. وتحقيق هذا المقام من المشكلات ، والغرض الفقهي متعلّق بحال الإعادة والقضاء ، وهما ثابتان في المسألة المذكورة بعموم الأخبار السابقة» انتهى كلامه وعلا في الخلد مكانه.

قوله : «وإلّا لزم تكليف الغافل» يعني : أنّ التكليف بالفعل إن كان جائزا قبل خروج الوقت لزم تكليف الغافل ، وإن كان بعده لزم التكليف بما لا يطاق. وفي قوله : «هذا خلاف ما قرّره الأصحاب» اعتراف بكون العقاب عند المشهور مرتّبا على مخالفة الواقع دون مقدّماته.

ثمّ إنّ المستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله في بيان مراد هذه الجماعة وجهان :

أحدهما : أن يكون العقاب مرتّبا على ترك المقدّمة المفضي إلى ترك ذيها ، وهي الفحص والسؤال ، لا على ترك ذيها. وظاهرهم حينئذ كون وجوبهما نفسيّا لا من باب المقدّمة ، كما فهمه المحقّق الخونساري ، ولذا أورد على صاحب الذخيرة ـ فيما حكي عنه ـ بأنّ مقتضاه الالتزام بترتّب الثواب عليها أيضا دون ذيها. وإلى هذا الوجه أشار المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه أيضا بقوله : «ومن هنا قد يلتجئ ...». وسيأتي الكلام فيه.

وثانيهما : كون العقاب مرتّبا على ترك ذي المقدّمة ، لكن حين ترك المقدّمة المفضي تركها إلى تركه ، مع ارتفاع خطابه أيضا حين تركها. وهذا الوجه محكي عن صاحب الذخيرة في رسالته التي أفردها في مقدّمة الواجب. وعليه لا بدّ من

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ارتكاب نوع مسامحة في كلماتهم ، لأنّ قول الأردبيلي : «وإن كان معاقبا بالتقصير» وكذا قول صاحب المدارك : «فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول» لا بدّ أن يحمل على إرادة تحقّق العقاب حين ترك المقدّمة ، لا على ترتّبه على تركها. وكذلك قول صاحب الذخيرة : «إنّ التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنظر والسعي» لا بدّ أن يحمل على إرادة بقاء التكليف ما دامت المقدّمة غير متروكة ، وارتفاعه حين تركها المفضي إلى ترك ذيها ، لا كون المقدّمة متعلّقا للطلب النفسي.

وهنا وجه ثالث ، وهو ترتّب العقاب على ترك المقدّمة نفسيّا ، لا من جهة كون تركها المفضي إلى ترك ذيها علّة تامّة لتركه ، مع الالتزام بارتفاع خطابه حين تركها. والأوّل بعيد عن ظاهر كلماتهم ، لأنّ التعبير بلفظ المقدّمة ربّما يأبى عن إرادة الوجوب النفسي ، لأنّ جهة الغير مأخوذة في مفهوم المقدّمة.

والمستفاد من كلامه أيضا في بيان مراد المشهور وجوه :

أحدها : أن يكون العقاب مرتّبا على ترك ذي المقدّمة المغفول عنه حين الغفلة عنه ، مع الالتزام ببقاء خطابه حينئذ أيضا.

وثانيها : الصورة بحالها إلّا في الالتزام بارتفاع خطابه حين ترك المقدّمة.

وثالثها : أنّ يكون العقاب مرتّبا على ترك ذيها حين تركها ، مع الالتزام بارتفاع خطابه حين تركها كما تقدّم. ثمّ استظهر كون مرادهم هو الوجه الأوّل بوجهين ، وسنشير إلى توضيحهما وتوضيح ما يتعلّق بسائر كلمات المصنّف رحمه‌الله بعد الفراغ من أدلّة القولين.

فنقول : قد استدلّ على المشهور بوجوه :

أحدها : أنّ مقتضى الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة المتعلّقة بالعناوين الواقعيّة ـ مثل الصلاة والصوم والزكاة والخمس ، وكذا في باب المعاملات مثل الخمر والنجس ونحوهما ـ كون العقاب مرتّبا على مخالفة هذه العناوين ، لا على ترك مقدّماتها وإن كان مفضيا إلى تركها.

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيها : أنّ المكلّف إذا التفت إلى وجود واجبات ومحرّمات في الشرع مطلوب منه فعلها أو تركها في آن من الآنات ، وعلم بذلك إجمالا ، وترك الفحص والسؤال عن تفاصيلها ، لا يعذر بمجرّد غفلته عنها في وقت العمل ، لأنّ المسلّم من قبح تكليف الجاهل هو الجاهل المحض ، لا الملتفت العالم بها إجمالا ولو عرضت له الغفلة بعده ، ولذا نفى العلّامة فيما حكاه صاحب المدارك في عبارته المتقدّمة كون العلم شرطا في التكليف ، لأنّ مراده لا بدّ أن يكون ما ذكرناه لا الجاهل المحض. وحاصله : نفي كون العلم التفصيلي شرطا في التكليف.

وثالثها : إجماعهم على تكليف الكفّار بالفروع ، وكونهم معاقبين بها مع جهلهم بها ، ولذا قد عرفت أنّ صاحب الذخيرة مع ميله إلى كون التكليف متعلّقا بالمقدّمات ، قد استشكل فيه لأجل هذا الإجماع المقتضي لتعلّق التكليف بنفس الأحكام المجهولة.

وأنت خبير بأنّ الظاهر أنّ فتوى الأصحاب بكون الكفّار مكلّفين بالفروع إنّما هو في قبال فتوى أبي حنيفة بكونهم مكلّفين بالاصول دون الفروع ، وحينئذ لا يمكن أن يستفاد من إطلاقهم لكونهم مكلّفين بالفروع كون العقاب مرتّبا على مخالفة نفس الأحكام المجهولة حين مخالفتها ، أو حين ترك مقدّماتها المفضي إلى تركها ، أو على نفس ترك المقدّمات ، أو غير ذلك ممّا تقدّم ، فلا وجه حينئذ لاستشكال صاحب الذخيرة فيما جنح إليه أوّلا لأجل هذا الإجماع.

ورابعها : قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ.) والتقريب فيه واضح ، لأنّ اعتذارهم عن كونهم معذّبين في السقر بترك الصلاة والإطعام دليل واضح على كون العقاب مرتّبا على مخالفة نفس الواجبات والمحرّمات دون مقدّماتها.

وخامسها : ما تقدّم في الدليل الثالث من أدلّة وجوب الفحص عن الأخبار

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الظاهرة في كون وجوب الفحص والسؤال لمجرّد الوصول إلى الواقع ، وأنّ مدار الثواب والعقاب على نفس إطاعة الواجبات والمحرّمات ومخالفتها لا على مقدّماتها. وهذه جملة أدلّتهم.

وأنت خبير بأنّ مطلوبهم في المقام ـ أعني : صورة ترك المكلّف الفحص والسؤال ، مع إفضاء تركهما إلى مخالفة الواقع من الواجبات والمحرّمات ـ مركّب من أمرين : أحدهما : بقاء خطاب التكليف الواقعي إلى زمان تحقّق المخالفة ، والآخر : ترتّب العقاب حين تحقّق المخالفة. والأدلّة المذكورة لا تثبت شيئا منهما ، لأنّ غايتها ترتّب العقاب على مخالفة نفس التكاليف الواقعيّة لا على ترك مقدّماتها.

وأمّا دلالتها على بقاء خطاباتها إلى زمان تحقّق المخالفة ، وكذا كون ترتّب العقاب حين تحقّقها فلا ، لعدم منافاتها لترتّب العقاب. وكذا ارتفاع خطاباتها حين ترك مقدّماتها المفضي إلى مخالفتها.

وإن أرادوا من ترتّب العقاب على مخالفتها هذا المعنى ، كما أسلفناه عند بيان الوجوه المحتملة في كلماتهم ، يرد عليه أوّلا : عدم دلالة الأدلّة المذكورة على خصوص هذا المعنى أيضا. وثانيا : أنّه مناف لكلماتهم في الفروع من الوجهين اللذين أشار إليهما المصنّف قدس‌سره.

هذا ، وأمّا ما ذهب إليه الجماعة فقد عرفت أنّ صاحب المدارك استدلّ عليه بقبح تكليف الجاهل بما هو جاهل به ، وأنّه تكليف بما لا يطاق ، فلا بدّ أن يكون مكلّفا بالفحص والسؤال ، ومعاقبا على تركهما ، لا على ترك الفعل المجهول الحكم.

وهو إن أراد بذلك كون الفحص والسؤال واجبين بالوجوب النفسي كما هو ظاهرهم ، ففيه : منع قبح تكليف الجاهل مطلقا ، لأنّ المسلّم منه تكليف الجاهل محضا ، لا مع الالتفات إلى الأحكام الواقعيّة والعلم بها إجمالا وكونها مطلوبة منه وإن عرضت الغفلة بعده ، لأنّه مع هذا الالتفات والعلم يصحّ من الشارع الحكيم تكليفه بما في الواقع من الأحكام وإن لم يعرف تفصيلها ، ولا قبح فيه أصلا. و

٣١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

حينئذ يجب عليه بحكم العقل والنقل الفحص والسؤال عن مفصّلاتها ، فإذا ترك ذلك وعرضت له الغفلة عنها بالكلّية ، وخالف الأحكام الواقعيّة بعضا أو كلّا ، لا يقبح من الشارع مؤاخذته على هذه المخالفة.

وإن أراد أنّه مع الالتفات يتنجّز التكليف بالواقع ، ويبقى هذا التكليف ما دام الالتفات باقيا ، ويرتفع خطاب الواقع حين عروض الغفلة ، ويستحقّ العقاب لأجل ترك الفحص والسؤال وإن لم يجبا بالوجوب النفسي ، لا لأجل مخالفة الواقع.

ففيه أوّلا : أنّه مع الاعتراف بتنجّز التكليف بالواقع بالالتفات لا وجه لدعوى كون العقاب على ترك الفحص ، إذ لا مانع من ترتّب العقاب على مخالفة الواقع حين ترك الفحص المفضي إلى تركه ، نظرا إلى كونه مخالفة حكميّة للواقع كما ستعرفه ، بل لا معنى لما ذكر أصلا كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ مقتضى ترتّب العقاب على ترك المقدّمة هو ترتب الثواب عليها أيضا لا على الواجبات النفسيّة ، وهو خلاف المعهود من الشرع الأنور ، فيلزم حينئذ إهمال التكاليف الواقعيّة ، وجعل المدار في الثواب والعقاب على مقدّماتها.

وثالثا : أنّه خلاف ظاهر الأدلّة كتابا وسنّة ، كما تقدّم عند بيان أدلّة المشهور.

وإن أراد ترتّب عقاب مخالفة الواقع حين ترك الفحص المفضي إلى مخالفته ، نظرا إلى كونه مخالفة حكميّة للواقع ، فهذا الوجه وإن لم يخالف الأدلّة ، بل يعاضده الاعتبار ، لأنّه نتيجة مقدّمات أربع ، الاولى : كون الفحص مطلوبا لأجل الوصول إلى الواقع ، وأنّه لا عقاب ولا ثواب على الواجبات الغيريّة. الثانية : كون الالتفات والعلم إجمالا بأنّ في الواقع واجبات ومحرّمات ـ مطلوب منه فعل الاولى وترك الثانية ـ منجّزين للتكليف بالواقع. الثالثة : قبح خطاب الغافل. الرابعة : لغويّة ترقّب حصول زمان المخالفة إذا ارتفع خطاب الواقع قبله بالغفلة ونحوها كما هو الفرض ، لصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لأجل ترك مقدّمته. إلّا أنّه لا يبقى حينئذ

٣١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مغايرة بين هذا الوجه ومذهب المشهور ، لاحتمال إرادتهم ذلك أيضا كما تقدّم.

مع أنّ فيه إشكالا من جهة اخرى ، وهو استلزامه لنفي كثير من الأحكام أو أكثرها من الفسّاق والكفّار ، لكونها مشروطة بالعلم والقدرة أو زمان خاصّ أو حالة خاصّة ، وهكذا ، ولا ريب في عدم تنجّز التكليف بالواجبات المشروطة قبل تحقّق شروط وجوبها ، فإذا حصلت الغفلة عنها قبل تحقّقها أو حينه يرتفع التكليف عنها من رأس. أمّا قبل تحقّق شروط وجوبها فواضح. وأمّا بعده فلفرض عروض الغفلة ، ولا ريب في غفلة الكفّار في أغلب أوقاتهم عن إجماليّات أحكامنا ، وكذا الفسّاق من الفرقة الناجية في كثير من أوقاتهم ، فيلزم ارتفاع هذه الأحكام عنهم.

اللهمّ إلّا أن يتفصّى عن هذا الإشكال بالتزام تنجّز التكليف بجميع الأحكام الواقعيّة بالالتفات إليها ، لكن كلّ بحسبه ، فالواجبات المطلقة على وجه الإطلاق ، والمشروطة على وجه التعليق والاشتراط ، نظير ما لو قال الشارع : يجب عليك هذا الفعل عند تحقّق الشرط الفلان. فمع توجّه الخطاب إليه فعلا بالإتيان بالواجب المشروط بعد تحقّق شرطه تجب عليه بحكم العقل المحافظة على مقدّمات هذا الفعل ، فلا يعذر مع ترك بعض مقدّماته المفضي إلى تركه ، نظير ما لو قال : أوجبت عليك الآن أن تزور الحسين عليه‌السلام في القابل ، إذ تجب عليه حينئذ المحافظة على جميع ما تتوقّف عليه الزيارة في القابل ، فيجب عليه الآن تحصيل ما لا يمكن تحصيله من مقدّماتها في القابل.

ويدلّ عليه أيضا بناء العقلاء ، لأنّ المولى إذا أمر عبده بخياطة ثوب في الغد ، وفرض عدم تمكّنه من تحصيل الخيوط والإبرة في غد ، فإذا لم يحصّلهما اليوم ، واعتذر في غد بأنّ الخياطة لم تكن واجبة عليّ قبل الغد حتّى يجب تحصيل مقدّماتها كذلك ، وتحصيلها اليوم أيضا متعذّر ، لم يسمع منه ذلك واستحقّ اللوم والذمّ عندهم.

وقد سمّى صاحب الفصول هذا القسم من الواجب واجبا معلّقا ، لأنّه قد قسّمه

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى منجّز ومعلّق. قال في مبحث المقدّمة : «وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ، ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة ، وليسمّ منجّزا ، وإلى ما يتعلّق وجوبه به ، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، وليسمّ معلّقا كالحجّ ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ، ويتوقّف فعله على مجيء وقته ، وهو غير مقدور له. والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل» انتهى.

وممّا ذكرناه تظهر صحّة دعوى كون الكفّار معاقبين على الفروع بمجرّد التفاتهم واحتمالهم لحقّية دين الإسلام ـ بل لحقّية دين آخر سوى دينه ـ في آن من الآنات وإن عرضت لهم الغفلة بعده في تمام عمرهم ، إذ بمجرّد هذا الاحتمال يستقلّ العقل بوجوب الفحص عن سائر الأديان ، وبمجرّد ترك الفحص وعروض الغفلة بعده يترتّب عليه مؤاخذة جميع ما يترتّب عليه من مخالفة أحكام الدين الحقّ.

هذا كلّه مع أنّه يمكن منع غلبة الغفلة على الكفّار عن حقّية دين الإسلام كما تقدّم في تقرير الإشكال ، لأنّهم لانغمارهم في المعاصي وكثرة متابعتهم لتسويلات الشيطان تعرض لهم كثيرا حالة شبيهة بحال الغفلة لا يقبح معها التكليف ، لا أنّه تحصل لهم الغفلة بالمرّة بحيث يقبح تكليفهم في هذه الحالة.

وتحقيق ما ينبغي أن يقال في المقام : أنّه إذا ترك الفحص والسؤال ثمّ تعذّر عليه ذلك ، فإن كان ملتفتا إلى الواقع ومتمكّنا من الاحتياط ، ولكنّه ترك الاحتياط وبنى في مقام العمل على مقتضى البراءة ، يعاقب على مخالفة الواقع. وإن لم يكن متمكّنا منه مع التفاته إلى الواقع ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، أو كان غافلا عن الواقع بالمرّة ، يترتّب عليه عقاب مخالفة الواقع حين ترك الفحص المفضي إليها ، لقبح تفويت الخطابات الواقعيّة من المكلّف باختياره. ومن هنا يظهر وجه النظر في إطلاق قول المشهور والجماعة على جميع احتمالاتهما ، إذ على كلّ تقدير لا بدّ من التفصيل بما عرفت.

٣٢٠