فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

شرطا له ، وكان متمكّنا من تحصيل المشكوك فيه ثمّ تعذّر عليه ذلك ، كما إذا كان مكلّفا بعتق الرقبة ، وشكّ في اشتراط الإيمان فيها مع تمكّنه من تحصيلها ، ثمّ تعذّر عليه ذلك وتمكّن من تحصيل الكافرة ، فعلى القول بالاحتياط عند الشكّ في الأجزاء والشرائط يجب عليه الإتيان بفاقد المشكوك فيه كالكافرة في المثال ، لأنّ اقتضاء الاحتياط الإتيان بالمشكوك فيه عند التمكّن منه لا يثبت كونه جزءا من المأمور به أو شرطا له ، حتّى يقتضي تعذّر الجزء أو الشرط تعذّر الكلّ أو المشروط ، لأنّ غاية ما تدلّ عليه قاعدة الاشتغال وجوب الإتيان بالمشكوك فيه عند التمكّن منه من باب المقدّمة العلميّة ، فإذا تعذّر عليه وجب عليه الإتيان بالباقي تحصيلا لليقين بالبراءة عن التكليف بالمجمل ، بل استصحاب التكليف الثابت أوّلا يثبت ذلك إن قلنا باعتبار الاصول المثبتة.

ومنها : أنّه لو ضاق الوقت في الموقّت ، ودار الأمر بين ترك المشكوك الشرطيّة أو الجزئيّة وترك معلوم الجزئيّة أو الشرطيّة ، فعلى القول بوجوب الاحتياط يتعيّن ترك المشكوك فيه ، لفرض عدم دلالة قاعدة الاشتغال على جزئيّته أو شرطيّته حتّى يعارض تركه ترك غيره ، بل غايتها الدلالة على وجوب الإتيان به ، لاحتمال جزئيّته أو شرطيّته في الواقع ، ولا ريب أنّ ترك ما يحتملهما لا يعارض ترك ما علمت جزئيّته أو شرطيّته عند دوران الأمر بينهما.

ومنها : أنّه لو لم يتمكّن المريض من الإتيان بتمام المأمور به ، واضطرّ إلى ترك بعض أجزائه أو شرائطه ، فالكلام فيه كسابقه.

ومنها : أنّه لو نذر الإتيان بعبادة أو شرط عليه ذلك في ضمن عقد لازم ، ثمّ شكّ في جزئيّة شيء له أو شرطيّته له ، لا يحصل الوفاء بالنذر والشرط إلّا بالإتيان بالمشكوك فيه ، وإن قلنا بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، لما عرفت من أنّها لا تنفي الجزئيّة والشرطيّة ، وأنّ غايتها نفي العقاب من جهة ترك المشكوك فيه ، والمفروض أنّ المنذور والمشروط هي العبادة الواقعيّة ، فلا يحصل الوفاء بهما إلّا

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

بما ذكرناه.

ومنها : أنّهم قد اشترطوا في لزوم وقف المسجد إيقاع صلاة فيه ، فعلى القول بالصحيح إذا صلّى أحد فيه صلاة وترك فيها ما شكّ في كونه جزءا لها ، لا يلزم بها الوقف ، لما عرفت من عدم دلالة أصالة البراءة على نفي الجزئيّة ، والفرض أنّ شرط لزومه إيقاع صلاة واقعيّة أو ظاهريّة فيه. اللهمّ إلّا أن يريدوا بها ما كان مبرئا للذمّة ولو بإعمال الاصول فيها ، لا ما كان صلاة في الواقع والظاهر.

الأمر الثاني : أنّه إذا علم اعتبار شيء في عبادة أو غيرها ، وشكّ في كون اعتباره فيها ، من حيث كون وجوده شرطا في صحّتها ، أو عدمه مانعا منها ، فأصالة عدم الشرطيّة تعارضها أصالة عدم المانعيّة ، لما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله من كون كلّ واحدة منهما موردا لأصالة البراءة. ولا يترتّب عليه ثمرة مع فرض كون الشبهة حكميّة ، للقطع بصحّة العبادة مع الإتيان به وببطلانها مع الإخلال به ، سواء كان وجوده شرطا في الواقع أم عدمه مانعا كذلك.

نعم ، تظهر الثمرة فيما كانت الشبهة موضوعيّة ، وذلك لأنّه قد ثبت فيما كان لباس المصلّي من أجزاء الحيوان أن يكون من مأكول اللحم ، فإذا تردّد الأمر بين كون ذلك شرطا وعدمه مانعا ، وصلّى في لباس مردّد بينهما بحسب الموضوع ، فعلى الشرطيّة يحكم ببطلانها ، لعدم العلم بتحقّق شرطها ، بل الأصل عدم تحقّق العبادة المشروطة في الخارج. ولذا قال في محكيّ المنتهى : «لو شكّ في كون الصوف أو الشعر أو الوبر من مأكول اللحم لم تجز الصلاة ، لأنّها مشروطة بستر العورة بما يؤكل لحمه ، والشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط» انتهى. وعلى المانعيّة يحكم بصحّتها ، لأصالة عدم المانع. ولعلّه إليه ينظر ما أورده على ما عرفته من المنتهى في محكيّ البيان والمدارك والذخيرة ، بأنّه يمكن أن يقال : إنّ الشرط ستر العورة ، والنهي إنّما تعلّق بالصلاة في غير المأكول ، فلا يثبت إلّا مع العلم بكون الساتر كذلك. وأيّدوه بعموم أدلّة البراءة.

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو كان عدم المانع شرطا لم يجد الأصل المذكور في المقام ، إذ أصالة عدم المانع غير مجد في إحراز الشرط. ولذا قد استشكل بعض من عاصرناه في الصلاة في الماهوت المصنوع في بلاد الإفرنج في أمثال زماننا ، لما وصل إليه من مزجهم به الصوف من غير مأكول اللحم ، لا يقال : الأصل عدم المزج. لأنّا نقول : إن اريد عدم المزج بهذا الثوب فهو غير مسبوق بالعدم. وإن اريد عدم المزج مطلقا فهو إنّما يثبت عدم المزج في هذا الثوب على القول بالاصول المثبتة.

فإن قلت : إن بنيت على هذا لم تصحّ الصلاة في شيء من الأثواب وإن كان مصنوعا في بلاد الإسلام ، لاحتمال سقوط شعر واحد من غير المأكول اللحم في الصوف أو القطن أو الكتّان المصنوع منه ، ولا سبيل إلى سدّ هذا الاحتمال إلّا الأصل المذكور.

قلت : نعم ، إلّا أن هذا احتمال لا يعتني به العقلاء ، والاطمئنان حاصل بالعدم في الغالب. مع أنّه يمكن أن يقال : إذا كان العمل مبنيّا على نسج الثوب من أجزاء ما يؤكل لحمه ، فمجرّد احتمال سقوط شعر أو شعرات من غير مأكول اللحم فيه ، أو احتمال مزجه فيه من بعض الصانعين أو غيرهم ، غير مضرّ في المقام إن سلّم إضراره في غيره ، لاستمرار السيرة عليه في جميع الأصقاع والأعصار. نعم ، يمكن أن يقال بمثله في الماهوت أيضا ، لشهادة التجّار بعدم بنائهم على المزج ، وهذه الشهادة وإن لم تفد في خصوص الثوب الذي اريد إيقاع الصلاة فيه ما لم تتعلّق به ، إلّا أنّه يأتي فيه أيضا ما عرفته من سيرة المسلمين ، سيّما الورعين من العلماء ، لأنّا ما سمعنا إلى الآن أحدا يجتنب عن ثوب لأجل هذا الاحتمال مع قيامه في أغلب الموارد ، ولعلّ الاعتناء به يعدّ من الوسواس.

الأمر الثالث : أنه إذا دار الأمر بين كون شيء واجبا نفسيّا أو غيريّا ، فهل الأصل يقتضي الأوّل أو الثاني؟ قولان.

اعلم أنّ هنا صورا :

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : أن يعلم كونه نفسيّا ، وشكّ في كونه غيريّا أيضا ، كالإقرار بالأئمّة عليهم‌السلام والإيمان بهم والإذعان بإمامتهم ، إذ لا ريب في وجوبه النفسي ، فإذا حصلت الشبهة في اشتراط صحّة العبادات به كان ممّا نحن فيه.

الثانية : عكس الاولى كغسل الجنابة ، إذ لا شكّ في وجوبه للصلاة ، وإنّما الشكّ في وجوبه لنفسه ، وكذلك الوضوء بناء على ما قيل من أنّ المستفاد من الذكرى كونه واجبا نفسيّا ، فينشأ منه احتمال وجوبه النفسي مع الاتّفاق على وجوبه للصلاة.

الثالثة : دوران الأمر بينهما.

والأوليان خارجتان ممّا نحن فيه ، لجريان أصالة البراءة عن الوجوب الغيري في الاولى والنفسي في الثانية من دون معارضة شيء. وإنّما الإشكال في الثالثة بناء على المختار من جريان أصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، إذ على القول بوجوب الاحتياط لا بدّ من الإتيان بمحتمل الشرطيّة أو الجزئيّة في الصلاة مثلا تحصيلا لليقين بالبراءة. وأمّا على المختار فربّما يقال بوجوب الاحتياط هنا ، نظرا إلى تعارض أصالتي البراءة عن الوجوب النفسي والغيري ، وبعد تساقطهما للتعارض لا بدّ من الإتيان بالمشكوك فيه ، تحصيلا لليقين بالبراءة عمّا ثبت التكليف به واحتمل اشتراطه فيه.

والأقرب أن يفصّل في المقام بنفي الآثار المرتّبة على خصوص الوجوب النفسي أو الغيري ، ويلتزم بوجوب الاحتياط في الآثار المشتركة بينهما ، لما تقرّر في محلّه من نفي الأثر الزائد المرتّب على مورد خصوص كلّ من المتعارضين. فإذا شكّ في كون غسل الجنابة واجبا نفسيّا وكونه غيريّا ، وأجنب مع ظنّ الموت قبل دخول وقت الصلاة ، فعلى تقدير كونه واجبا نفسيّا يتضيّق وقته ، بخلافه على تقدير كونه غيريّا ، بل لا وجوب له على هذا التقدير قبل دخول وقت المشروط به ، وحينئذ ينفى وجوبه النفسي المحتمل بالأصل السالم من المعارض. وإذا تضيّق وقت

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاة مع ظنّ السلامة ينفى وجوبه الغيري المحتمل المضيّق بسبب تضيّق المشروط به بالأصل ، لأنّ التضيّق في الأوّل من آثار الوجوب النفسي ، وفي الثاني من آثار الوجوب الغيري ، فينفى في كلّ من المقامين بالأصل السالم من المعارض.

فإن قلت : إنّ نفيه في المقامين مخالف للعلم الإجمالي بأحدهما ، وهو باطل كما في الشبهة المحصورة.

قلت : قياسه على الشبهة المحصورة قياس مع الفارق ، لأنّ العمل بالأصل في كلّ من المشتبهين فيها مخالف لخطاب معلوم تفصيلا ، وهو قوله : اجتنب عن النجس مثلا ، بخلاف ما نحن فيه ، لعدم العلم بخطاب تفصيلي فيه بالفرض. ومجرّد العلم بوجود خطاب في المقام في الجملة مفيد إمّا للوجوب النفسي أو الغيري غير مجد ، لعدم العلم بتنجّزه عند العمل بكلّ من الأصلين ، لأنّه حين نفي الوجوب النفسي المحتمل المضيّق بسبب ظنّ الموت لا يعلم بتوجّه خطاب إليه ، لاحتمال كونه غيريّا ، وكذلك عند نفي الوجوب الغيري المضيّق ، لاحتمال كونه نفسيّا لا يتوجّه خطابه إليه حين تضيّق وقت الصلاة. ومجرّد حصول العلم الإجمالي له بمخالفة أحد الخطابين بالعمل بالأصل في هذه الواقعة أو سابقتها لا يوجب بطلان العمل بالأصلين ، لأنّه إنّما يوجبه مع تنجّز التكليف بالواقع لا مطلقا ، وقد عرفت خلافه.

وعلى ما ذكرناه فإذا دخل وقت الصلاة وظنّ الموت ، وصلّى من دون غسل عملا بالأصل كما عرفت ، وانكشف بطلان ظنّه بظنّ السلامة إلى آخر الوقت ، لا يجوز له نفي وجوبه بعد انكشاف بطلان ظنّه ، لما عرفت من معارضة الأصلين حينئذ. نعم ، لا تجب إعادة الصلاة حينئذ ، لكون الشكّ في صحّة المأتيّ بها شكّا بعد الفراغ ، فيجب فعل الغسل حينئذ من دون صلاة تحصيلا لليقين بالبراءة.

نعم ، على ما ذهب إليه صاحب الفصول من اشتراط اتّصاف المقدّمات بالوجوب الغيري بترتّب ذيها عليها فعلا ، يمكن نفي وجوبه حينئذ أيضا ، لفرض عدم وجوب الإعادة في مفروض المقام ، فلا يتّصف الغسل بالوجوب حينئذ من

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

جهتها ، فلا يبقى إلّا مجرّد احتمال الوجوب النفسي المنفي بالأصل. وأمّا على المختار من عدم اشتراط ذلك فيه فيتعارض الأصلان فيه على ما عرفت.

نعم ، يمكن أن يقال على المختار أيضا : إنّ وجوب الاحتياط في موارده إنّما هو لأجل احتمال العقاب في ترك الموافقة القطعيّة ، والفرض فيما نحن فيه عدم ترتّب عقاب على ترك الغسل من جهة احتمال وجوبه الغيري ، لما قرّرناه في محلّه من عدم ترتّب العقاب على ترك الواجبات الغيريّة من حيث هي ، والفرض في المقام عدم ترتّبه على ترك الغسل من حيث كون تركه مفضيا إلى ترك الصلاة ، لما عرفت من عدم وجوب إعادتها في المقام ، فلا يبقى منشأ لاحتمال العقاب إلّا مجرّد احتمال الوجوب النفسي المنفي بالأصل السالم من المعارض.

هذا كلّه فيما احتمل كونه واجبا نفسيّا أو غيريّا ، مع عدم وجود إطلاق دليل لفظي فيه ولا فيما احتمل اشتراطه به. وأمّا مع وجوده في أحدهما أو فيهما فالأصل يقتضي كون المشكوك فيه واجبا نفسيّا ، لا جزءا أو شرطا لغيره. أمّا فيما ورد دليل مطلق على وجوب شيء ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بناء على كون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ، وثبت بالإجماع مثلا وجوب شيء آخر مثل غسل الجنابة ، وشكّ في كونه جزءا أو شرطا لها ، فأصالة عدم تقيّد إطلاق الدليل الأوّل تقتضي كون هذا الشيء واجبا نفسيّا. وأمّا في صورة العكس ، كما إذا ثبت وجوب الصلاة بالإجماع ، وورد قوله : اغتسل للجنابة ، فأصالة عدم تقيّد إطلاق هذا الأمر بما اشترط وجوب الصلاة به ـ من الوقت أو غيره من شرائط وجوبها ـ تقتضي كون الأمر بالغسل للوجوب النفسي.

نعم ، لو ثبت كون الغسل مثلا واجبا نفسيّا ، وشكّ في كونه شرطا للصلاة ، فأصالة عدم تقيّد إطلاقه أو ظهوره بحسب الإطلاق لا تنفي كونه واجبا غيريّا. أمّا الأوّل فإنّ غايته عدم اشتراط وجوبه بتحقّق شرائط وجوب الصلاة ، والفرض ثبوته بدونه ، وصحّة الإتيان به مع عدم تحقّق شرائط وجوبها ، لأنّ المفروض ثبوت

٢٨٦

المطلب الثالث : في اشتباه الواجب بالحرام بأن يعلم أنّ أحد الفعلين (١٨٦٦) واجب والآخر محرّم واشتبه أحدهما بالآخر. وأمّا لو علم أنّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ، فهو خارج عن هذا المطلب ؛ لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشكّ في التكليف.

______________________________________________________

كونه واجبا نفسيّا ، والشكّ في اشتراط صحّة الصلاة به. وأمّا الثاني فإنّ غايته ظهوره في كونه واجبا نفسيّا ، والفرض ثبوته لا نفي كونه غيريّا أيضا. وأمّا فيما ورد فيه عليهما دليل مطلق فالأمر فيه أوضح من سابقيه ، لجريان ما ذكرناه فيهما هنا أيضا. والله أعلم. ولتحقيق المقام بأزيد من ذلك مجال قد قرّرناه في مبحث المقدّمة.

الأمر الرابع : أنّه إذا ثبت كون شيء شرطا لآخر ، وتردّد بين كونه شرطا واقعيّا أو علميّا وذكريّا ، فقد تقدّم الكلام فيه في ذيل الكلام فيما ثبتت جزئيّة شيء وشكّ في كونه جزءا ركنيّا وغيره ، فراجع.

١٨٦٦. كالظهر والجمعة بناء على وجوب إحداهما وحرمة الاخرى ذاتا لا تشريعا. وحاصل ما ذكره : أنّ موضوع البحث هنا إنّما هو فيما تعدّد الموضوع ، بأن كان هنا فعلان ، ودار الأمر بين وجوب أحدهما وحرمة الآخر ، سواء كانت الشبهة ناشئة من فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو كانت الشبهة موضوعيّة ، لاتحاد الدليل في الحكم بالتخيير في ذلك كلّه. وأمّا إذا اتّحد الموضوع ، بأن دار الأمر في فعل بين كونه واجبا وحراما ، فهو خارج من هذا المطلب ، وداخل في مسائل الشكّ في التكليف ، وقد أوضحه المصنّف رحمه‌الله في أوّل هذا المقصد.

ثمّ إنّ موضوع الكلام في المقام كما عرفت إنّما هو في المتباينين ، لعدم صحّة فرضه فيما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر ، سواء كانا ارتباطيّين أم استقلاليّين ، مع كون أحدهما واجبا والآخر حراما ، واشتبه أحدهما بالآخر حكما أو موضوعا ، إذ مع فرض وجوب الأكثر عددا أو جزءا أو حرمته لا يعقل حرمة الأقلّ

٢٨٧

والحكم فيما نحن فيه (١٨٦٧) : وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيّرا في ذلك ؛ لأنّ الموافقة الاحتماليّة في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعيّة في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر ؛ ومنشأ ذلك أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع ، والله أعلم.

______________________________________________________

أو وجوبه. وإن فرض ثبوت مثله في مورد فلا بدّ من حمله على كونهما من المتباينين بأخذ الأقلّ بشرط لا ، فتدبّر. ولذا أسقط الكلام فيه هنا ، وتعرّض له في المطلب الثاني.

١٨٦٧. اعلم أنّ في المقام وجوها أقواها ما اختاره المصنّف رحمه‌الله من التخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ابتداء. وأوسطها القول بالتخيير بينهما ابتداء واستدامة. وأزيفها وجهان :

أحدهما : التخيير بين فعلهما معا وتركهما كذلك ، بأن يفعلهما تحصيلا للقطع بالموافقة للوجوب الواقعي ، المعلوم إجمالا وإن لزم منه القطع بارتكاب الحرام الواقعي ، أو يتركهما تحصيلا للقطع بموافقة الحرام الواقعي ، وإن لزم منه القطع بترك الواجب الواقعي.

وثانيهما : القول بوجوب تركهما معا ، تغليبا لجانب الحرام كما ورد في الأخبار. مضافا إلى ما تقرّر في العقول من كون دفع المضرّة أولى من جلب المنفعة.

وفيه : أنّ ترك المصلحة الملزمة في الواجب أيضا مشتمل على المفسدة. هذا إن سلّمنا الأولويّة المذكورة ، وإلّا فالأمر أوضح. مع أنّ الظاهر أنّ من قال بالأولويّة المذكورة إنّما قال بها فيما كان كلّ واحدة من المفسدة والمصلحة محتملتين ، كما لو دار الأمر في فعل واحد بين كونه واجبا وحراما ، لا معلومين كما فيما نحن فيه ، وإلّا فلا أظنّ أحدا يقول بأولويّة دفع المفسدة هنا. ولكنّه كما ترى. ويرد على سابقه : أنّ ما ورد في الأخبار ـ مع تسليم صحّة سنده ـ هو تغليب جانب الحرمة على الإباحة دون الوجوب كما فيما نحن فيه.

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ويدلّ على الوجه الأوّل من الوجهين وسابقه : أنّه مقتضى دوران الأمر بين المحذورين ، وعدم إمكان الموافقة القطعيّة. مضافا في سابقه إلى إطلاق أخبار التخيير في تعارض النصّين ، لأنّها بإطلاقها تدلّ على المدّعى في بعض موارده (*) بالمطابقة ، وفي الباقي بتنقيح المناط.

ويرد على الأوّل : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون الموافقة الاحتماليّة في كلا الاحتمالين أولى من الموافقة القطعيّة في أحدهما مع القطع بالمخالفة في الآخر.

فإن قلت : إنّ هذا مسلّم على الوجه الأوّل من الوجهين ، لأنّ ترك كلّ من الفعلين معا أو فعلهما كذلك مستلزم للمخالفة العمليّة للواقع في كلّ واحدة من الواقعتين ، بخلاف سابقه ، لأنّ المخالفة فيه إنّما تلزم من ضمّ الواقعتين ، بأن أتى بأحد الفعلين وترك الآخر تارة وعكس اخرى ، لا في خصوص كلّ واحدة منهما. ولا دليل على قبح هذه المخالفة ، بناء على جواز المخالفة الالتزاميّة مطلقا ، سواء تعدّدت الواقعة أم اتّحدت ، بخلاف المخالفة العمليّة اللازمة في خصوص كلّ واقعة. وحينئذ نقول : إنّ أولويّة الموافقة والمخالفة الاحتماليّتين على القطعيّتين منهما إنّما تسلّم بالنسبة إلى الوجه الأوّل من الوجهين على ما عرفت دون سابقة ؛ لأنّ عدم العلم فيه بالمخالفة مع احتمال الموافقة والمخالفة إذا قلنا بكون التخيير فيه ابتدائيّا ، يعارضه العلم بالموافقة فيه إذا قلنا بكون التخيير فيه استمراريّا حينئذ.

وبالجملة ، إنّ مفسدة عدم العلم بالموافقة مع الموافقة والمخالفة الاحتماليّتين كما أنّها منجبرة بمصلحة عدم العلم بالمخالفة ، كذلك مفسدة القطع بالمخالفة مع استمرار التخيير منجبرة بالقطع بمصلحة الموافقة.

قلت : إنّ المحرّك للعقل إلى امتثال الأحكام هو خوف المفسدة في مخالفتها لا تحصيل المنفعة في موافقتها ، ولا ريب أنّ إيقاع العمل على وجه لا يقطع معه

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «هي صورة تعارض النصّ ، والباقي صورة فقد النصّ وإجماله والشبهة الموضوعيّة. منه».

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بترتّب المفسدة عليه أولى من إيقاعه على وجه يقطع فيه بذلك. ومن هنا يظهر وجه قوّة ما اخترناه. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الأولويّة المذكورة إنّما تتمّ إذا لم تكن المفسدة المقطوع بها متداركة بالمصلحة الملزمة القطعيّة التي في تركها مفسدة موازنة للمفسدة المقطوع بها ، إلّا أن يتمسّك ببناء العقلاء على تقديم الموافقة الاحتماليّة على الموافقة القطعيّة في موارد دوران الأمر بين الموافقة والمخالفة الاحتماليّتين والقطعيّتين.

ويرد على الثاني : أنّ ما دلّ من الأخبار على التخيير فيما تعارض فيه نصّان أحدهما مبيح والآخر حاظر غير شامل للمقام. وأمّا ما يشمله منها ـ كمرفوعة زرارة ـ فغايته إثبات التخيير ابتداء لا استدامة ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في بعض المسائل السابقة ، مع الإشارة إلى منع صحّة استصحاب التخيير في نظائر المقام ، فراجع.

ثمّ إنّه قد بقي بعض الكلام في المقام متعلّقا بالشبهة الموضوعيّة ممّا دار الأمر فيه بين الواجب والحرام ، كالإناءين المشتبهين ، إذ يجب التوضّؤ من الطاهر منهما ، ويحرم من النجس ، فمع اشتباههما يدور الأمر فيه بين الواجب والحرام ، بناء على حرمة استعمال النجس ذاتا لا تشريعا ، لما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في غير موضع من عدم منافاة الحرمة التشريعيّة لإمكان الاحتياط.

والتحقيق أنّا وإن قلنا بجواز المخالفة القطعيّة في الشبهة المحصورة ، إلّا أنّه لا يجوز القول بها هنا ، لأنّ الاحتياط هنا وإن لم يجب من جهة اشتباه الحرام بغيره ، كما لم يكن واجبا عند اشتباهه بالمباح ، إلّا أنّه يجب القول به هنا من جهة اشتباه الواجب بغيره ، كما كان واجبا عند اشتباهه بغير الحرام ، كما في صورة اشتباه القبلة ، لأنّ من قال بجواز المخالفة القطعيّة في الشبهة المحصورة لم يقل بها في الشبهة الوجوبيّة ، وإن لم يظهر وجه الفرق بينهما. وأمّا إن قلنا بوجوب الموافقة القطعيّة فيها فلا بدّ من الحكم بالتخيير هنا كما أسلفناه.

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه فيما دار الأمر فيه في فعلين بين كون أحدهما واجبا والآخر حراما. وإن دار الأمر فيه في أفعال بين كون أحدها واجبا والآخر حراما والثالث مباحا ، فإن قلنا بجواز المخالفة القطعيّة في الشبهة المحصورة ، يجب الإتيان بالجميع هنا من باب المقدّمة لامتثال الواجب المعلوم إجمالا.

وإن قلنا بوجوب الموافقة القطعيّة فيها كما هو المختار ، ففي القول بالتخيير هنا ، بأن يلتزم بوجوب أحدها وحرمة الآخر وإباحة الثالث ، أو تقديم جانب الحرمة في الجملة ، بأن يجعل أحدها واجبا والآخران حرامين ، أحدهما أصالة والآخر مقدّمة له ، أو التخيير في الثالث بين تركه مقدّمة للحرام والإتيان به مقدّمة للواجب ، وجوه آتية مع فرض كون الشبهة حكميّة أيضا.

ولا مسرح للأوّل ، لأنّ المباح إنّما يتّصف بالإباحة الفعليّة مع عدم عروض عنوان محرّم أو موجب في الظاهر ، لوضوح عدم منافاة الإباحة الذاتيّة للوجوب أو الحرمة العرضيّة. ولا ريب أنّه مع دوران الأمر بين الأحكام الثلاثة في المقام يحصل القطع بعروض طلب إلزامي ـ وإن كان غيريّا ـ من باب المقدّمة للفعل المباح ، فهو إمّا واجب من باب المقدّمة للواجب المعلوم إجمالا ، أو حرام كذلك ، ومع عدم العلم بخصوص العنوان العارض له ، وعدم إمكان الاحتياط فيه ، يثبت التخيير في جعله مقدّمة لأحدهما بحكم العقل. ومن هنا يظهر الوجه الثالث ، وكونه أقوى من الأوّل. وأمّا الثاني فهو مبنيّ على ترجيح جانب الحرمة على الوجوب ، نظرا إلى أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة ، وقد عرفت ما فيه ، فإذن الأقوى هو الأخير.

ثمّ إنّه يظهر ممّا عرفت من اختصاص الكلام في المقام بما كانت الحرمة فيه ذاتيّة ، أنّ ما عزي إلى الأصحاب من دعوى كون ما ورد من الأمر بإراقة الإنائين والتيمّم بعدها واردا عندهم على طبق القاعدة ، نظرا إلى حرمة استعمال النجس ، وكون مقدّمة الحرام حراما ، فيجب إراقتهما من باب المقدّمة ، محلّ نظر ، لأنّ ذلك إن كان مبنيّا على حرمة استعمال النجس من باب التشريع ، بأن كان استعماله في

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

الطهارة حراما كذلك ، ففيه ما عرفت من عدم منافاة الحرمة التشريعيّة للاحتياط ، فيجب التوضّؤ حينئذ من كلّ منهما ، لاراقتهما والتيمّم بعدها. ولا ينافيه قصد القربة بكلّ منهما ، لصحّة أن ينوي التقرّب بما هو صحيح واقع بالطاهر في الواقع ، بأن ينوي عند كلّ وضوء أنّي أتوضّأ تقرّبا بهذا أو بما توضّأت أو أتوضّأ بعد إلى الله تعالى.

فإن قلت : إنّ التوضّؤ بهما مستلزم لتنجّس البدن لا محالة ، فتبطل الصلاة حينئذ من هذه الجهة.

قلت : يمكن التخلّص عنه بالصلاة بعد كلّ وضوء مع غسل أعضاء الوضوء من الإناء الثاني قبل التوضّؤ منه ، للقطع بحصول وضوء صحيح وصلاة مع الطهارة الواقعيّة حينئذ لا محالة ، كما حكي عن العلّامة في المنتهى. مع أنّه يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى تكرار الصلاة حينئذ ، للقطع بورود نجاسة ومطهّر عليه ، والشكّ إنّما هو في المتأخّر منهما ، ومع تعارض أصالتي التأخّر تبقى قاعدة الطهارة بلا معارض ، كما أشار إليه العلّامة الطباطبائي في منظومته :

وإن تعاقبا على رفع الحدث

لم يرتفع وليس هكذا الخبث

فيحكم بصحّة الصلاة الواقعة بعدهما.

نعم ، يرد عليه أنّ القطع حينئذ حاصل بحصول تنجّس بدنه وورود المطهّر عليه ، وكذا القطع حاصل بتأثير التنجّس ، لأنّه إن كان قبل ورود المطهّر فهو رافع للطهارة السابقة ، وإن كان بعد ورود المطهّر فهو واضح ، بخلاف ورود المطهّر ، لعدم العلم بتأثيره ، لاحتمال وروده قبل ورود النجس عليه ، وحينئذ تستصحب النجاسة اليقينيّة ، وهو حاكم على قاعدة الطهارة ، ولا يعارضه استصحاب الطهارة الحاصلة قبل ورود المطهّر والمنجّس ، للعلم بارتفاعه بورود المنجّس عليها.

وهذا الوجه وإن حكي عن جماعة من المتأخّرين ، إلّا أنّه يمكن التخلّص عنه أيضا فيما كانت أعضاء الوضوء متنجّسة أوّلا أو أريق من ماء الإنائين في ثالث ، و

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

تغمس أعضاء الوضوء فيه ليحصل القطع بتنجّسها ، ثمّ تغسل من أحد الإنائين ويتوضّأ منه ، ثمّ تغسل من الآخر ويتوضّأ منه أيضا ، إذ ينعكس الأمر حينئذ ، فيكون المقام من موارد استصحاب الطهارة دون النجاسة ، للقطع بتأثير المطهّر في رفع النجس مطلقا ، سواء كان واردا قبل المنجّس أو بعده ، بخلاف ورود المنجّس ، لاحتمال تعاقب المنجّسين.

وإن كان مبنيّا على حرمة استعمال النجس ذاتا لا تشريعا ، ففيه : أنّك قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة عند اشتباه الواجب بالحرام الذاتي هو القول بالتخيير لا تقديم جانب الحرمة. وبالجملة ، إنّ موثّقة عمّار الواردة في إراقة الإنائين والتيمّم بعدها واردة على خلاف القاعدة من وجهين ، وحينئذ إن عملنا بها كان الحكم ثابتا على خلاف مقتضى القواعد ، وإلّا فلا بدّ من العمل بما قدّمناه. والله أعلم.

٢٩٣

المصادر

(١) القاموس المحيط ج ٤ : ص ٢٢٩.

(٢) المبسوط ج ١ : ص ١٠٠ ؛ التذكرة ج ٣ : ص ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) الوسائل ج ١١ : ص ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

(٤) الوسائل ج ٤ : ص ٦٨٣ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

(٥) المعتبر ج ٢ : ص ٣٧٩.

(٦) الفصول الغرويّة : ص ٥٠.

(٧) البقرة (٢) : ٢٦٤.

(٨) البقرة (٢) : ٢٦٢.

(٩) سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٣٣.

(١٠) ثواب الأعمال : ١١.

(١١) الوسائل ج ٥ : ص ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

(١٢) الوسائل ج ٥ : ص ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع فى الصلاة ، الحديث ١.

(١٣) الوسائل ج ٩ : ص ٤٣٨ ، الباب ٣٤ من أبواب الطواف ، الحديث ١١.

(١٤) الوسائل ج ٤ : ص ٦٨٣ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

(١٥) الوسائل ج ٥ : ص ٣٤٦ ، الباب ٣٢ من أبواب الخلل الواقع فى الصلاة ، الحديث ٣.

(١٦) عوالى اللآلى ج ٤ : ص ٥٨ ، الحديث ٢٠٦.

(١٧) عوائد الأيّام : ٢٦٥.

(١٨) عوائد الأيّام : ٢٦٥.

(١٩) رياض المسائل ج ٢ : ص ١٥٤.

(٢٠) تهذيب الأحكام : ج ١ ، ص ٣٦٣ ، الحديث ١٠٩٧.

٢٩٤

خاتمة فيما يعتبر

في العمل بالأصل

٢٩٥
٢٩٦

خاتمة فيما يعتبر في العمل بالأصل والكلام تارة في الاحتياط واخرى (١٨٦٨) في البراءة. أمّا الاحتياط فالظاهر أنّه لا يعتبر (١٨٦٩) في العمل به أمر زائد على تحقّق موضوعه ، ويكفي في موضوعه إحراز الواقع المشكوك فيه به

______________________________________________________

١٨٦٨. إنّما خصّ الكلام بالبراءة والاحتياط لكون أصالة التخيير في مواردها قسما من أصالة البراءة. والاستصحاب إن كان مثبتا فهو في معنى الاحتياط ، وإن كان نافيا فهو في حكم البراءة من حيث جواز العمل به قبل الفحص وعدمه. هكذا قيل. ولا يخلو من تأمّل ، لأنّ الفحص قد اشترط في الاستصحاب من حيث جواز العمل به ، وفي الاحتياط من حيث عدم تحقّق موضوعه بدونه ، كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله ، ومقتضى إلحاق المثبت منه بالاحتياط كون الفحص شرطا في تحقّق موضوعه أيضا ، لا في جواز العمل به. فالأولى أن يقال : إنّ عدم تعرّضه لأصالة التخيير لما عرفت ، وللاستصحاب ، إمّا لعدم كونه مقصودا بالبحث في هذا المقصد ، وإمّا لما سيشير إليه عند الفراغ من الكلام في وجوب الفحص في العمل بأصالة البراءة من حكم سائر الاصول العمليّة.

١٨٦٩. مرجع ما ذكره إلى دعوى عدم اشتراط العمل بأصالة الاحتياط بشيء أصلا سوى تحقّق موضوعه ، فوجوب الفحص فيه شرط لتحقّق موضوعه ، وفي أصالة البراءة لجريانها وجواز العمل بها. وتوضيحه : أنّ الكلام في جواز العمل بالاحتياط إمّا في التوصّليات أو التعبّديات. وعلى الثاني : إمّا مع إمكان الفحص أو

٢٩٧

ولو كان على خلافه دليل اجتهادي بالنسبة إليه ، فإنّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء لا يمنع من الاحتياط فيه ؛ لعموم أدلّة رجحان الاحتياط (١٨٧٠) ، غاية الأمر عدم وجوب الاحتياط. وهذا ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال.

إنّما الكلام يقع في بعض الموارد من جهة تحقّق موضوع الاحتياط وإحراز الواقع ، كما في العبادات المتوقّفة صحّتها على نيّة الوجه ، فإنّ المشهور أنّ الاحتياط فيها غير متحقّق إلّا بعد فحص المجتهد عن الطرق الشرعيّة المثبتة (*) لوجه الفعل ، و

______________________________________________________

عدمه. وعلى تقدير إمكانه : إمّا بعد الفحص أو قبله. وعلى الأخير : إمّا أن لا نقول باعتبار قصد الوجه أو نقول به. وهو فيما عدا الأخير غير مشروط بشيء أصلا ، لعدم اعتبار قصد الوجه في التوصّليات ولا في التعبّديات مع عدم إمكان الفحص معه أو بعده ، وهو واضح. وأمّا الأخير فالفحص فيه شرط في تحقّق موضوعه لا في جواز العمل به.

١٨٧٠. لأنّ حسن الاحتياط في جميع موارده ناش من القطع بإحراز الواقع به وعدمه بدونه ، ولا يرتفع موضوعه إلّا مع العلم بالواقع تفصيلا ، ولا ريب أنّ الأدلّة الاجتهاديّة لا ترفع احتمال مخالفة العمل بمؤدّاها للواقع.

فإن قلت : نعم ، إلّا أنّ أدلّة اعتبارها تفيد تنزيل مؤدّياتها منزلة الواقع وترتيب جميع آثار الواقع عليها ، فكما لا يجوز الاحتياط مع العلم بالواقع تفصيلا ، كذلك مع قيام الأدلّة الاجتهاديّة على حكم في مورد.

قلت : نعم ، إلّا أنّ مقتضى أدلّة اعتبارها ترتيب الآثار الشرعيّة المرتّبة على الواقع على مؤدّياتها ، وعدم جواز الاحتياط مع العلم بالواقع تفصيلا إنّما هو من الآثار العقليّة المرتّبة على العلم بالواقع ، لما عرفت من ارتفاع موضوعه حينئذ. ومن هنا يندفع ما قيل في عدم جواز إيقاع العقد على المطلّقة الرجعيّة ، من أنّه كما لا يجوز العقد على المعقودة ، كذلك المطلّقة الرجعيّة ، لأنّها في حكمها ، فيثبت لها

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المثبتة» ، المبيّنة.

٢٩٨

عدم عثوره على طريق منها ؛ لأنّ نيّة الوجه حينئذ ساقطة قطعا.

فإذا شكّ في وجوب غسل الجمعة واستحبابه ، أو في وجوب السورة واستحبابها ، فلا يصحّ له الاحتياط بإتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعيّة ؛ لأنّه لا يتمكّن من الفعل بنيّة الوجه ، والفعل بدونها غير مجد بناء على اعتبار نيّة الوجه ؛ لفقد الشرط ، فلا يتحقّق قبل الفحص إحراز الواقع. فإذا تفحّص : فإن عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه أو استحبابه ، وإن لم يعثر عليه فله أن يعمل بالاحتياط ؛ لأنّ المفروض سقوط نيّة الوجه لعدم تمكّنه منها ، وكذا لا يجوز للمقلّد الاحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده ، نعم يجوز له بعد الفحص. ومن هنا قد اشتهر بين أصحابنا : أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد غير صحيحة وإن علم إجمالا بمطابقتها للواقع ، بل يجب أخذ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد (١).

ثمّ إنّ هذه المسألة ـ أعني بطلان عبادة تارك الطريقين ـ يقع الكلام فيها في مقامين ؛ لأنّ العامل التارك في عمله لطريقي الاجتهاد والتقليد : إمّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط وإحراز الواقع ، وإمّا أن لا يكون كذلك (١٨٧١).

والمتعلّق (*) بما نحن فيه هو الأوّل ، وأمّا الثاني فسيجيء الكلام فيه في شروط البراءة. فنقول : إنّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط على قسمين ؛ لأنّ إحرازه للواقع : تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا وغير ذلك من موارد الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، واخرى يحتاج إلى التكرار كما في

______________________________________________________

جميع آثار المعقودة ، لعموم المنزلة. ووجه الاندفاع : أنّ عدم جواز عقد المعقودة إنّما هو لعدم تأثير العقد المتعقّب لعقد صحيح عقلا ، وعموم المنزلة لا يثبت هذا الأثر العقلي.

١٨٧١. بأن كان بانيا على العمل بأحد المحتملات ، طابق الواقع أم لا.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «والمتعلّق» ، فالمتعلّق.

٢٩٩

المتباينين كالجاهل بوجوب القصر والإتمام في مسيرة (*) أربع فراسخ ، والجاهل بوجوب الظهر و (**) الجمعة عليه. أمّا الأوّل ، فالأقوى فيه الصحّة ، بناء على عدم اعتبار نيّة (١٨٧٢) الوجه في العمل. والكلام في ذلك قد حرّرناه في الفقه في نيّة الوضوء.

نعم ، لو شكّ في اعتبارها ولم يقم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم بتحقّق الإطاعة بدونها ، كان مقتضى الاحتياط اللازم الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل ، حتّى على المختار من إجراء البراءة في الشكّ في الشرطيّة ؛ لأنّ هذا الشرط ليس على حدّ سائر الشروط (١٨٧٣) المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر ، حتّى إذا شكّ في تعلّق الإلزام به من الشارع حكم العقل بقبح المؤاخذة المسبّبة عن تركه والنقل بكونه مرفوعا عن المكلّف ، بل هو على تقدير اعتباره شرط لتحقّق الإطاعة وسقوط المأمور به وخروج المكلّف عن العهدة ، ومن المعلوم أنّ مع الشكّ في ذلك لا بدّ من الاحتياط وإتيان المأمور به على وجه يقطع معه بالخروج عن العهدة.

وبالجملة : فحكم الشكّ في تحقّق الإطاعة والخروج عن العهدة بدون الشيء غير حكم الشكّ في أنّ أمر المولى متعلّق بنفس الفعل لا بشرط أو به بشرط كذا. والمختار في الثاني البراءة والمتعيّن في الأوّل الاحتياط.

______________________________________________________

١٨٧٢. قد تقدّم شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام فيما علّقناه على فروع حجيّة القطع ، فراجع.

١٨٧٣. قد قرّرنا الكلام في الفرق بين شرائط المأمور به وشرائط امتثال الأمر عند الكلام في فروع حجيّة القطع ، وقد اخترنا هناك التفصيل في المسألة ، فراجع.

وأمّا الوجه في كون قصد الوجه من شرائط تحقّق الإطاعة دون المأمور به ، فإنّ اتّصاف المأمور به بالوجوب أو الاستحباب المستفاد من الأمر فرع استجماعه للأجزاء والشرائط المعتبرة فيه ، فاعتبار الأجزاء والشرائط فيه مقدّم على تعلّق

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «مسيرة» ، سير أو سيره.

(**) في بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

٣٠٠