دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

ولهذا فقد قيده نوح بحبل طويل ربطه في الفلك ، وأخذ الحيوان يخب من ورائها ، وبالمثل كان المارد «عوج بن عنق» ملك باشان من الضخامة بحيث لم يجد مكانا في الفلك ، فجلس على ظهره وبذلك أنقذ ، أما عن الناس الذين كانوا مع نوح في الفلك فهم زوجته «نعمة» ابنة «أنوش» وأولاده الثلاثة وزوجاتهم.

على أن مشكلة المشاكل التي كان على نوح أن يواجهها هي مشكلة توزيع المؤن ، إذ كان عليه أن يطعم حيوان النهار نهارا ، وحيوان الليل ليلا ، كما كان عليه أن يقدم الطعام للمارد «عوج» من خلال ثقب في سقف السفينة ، ورغم أنه كان يقضي ليله ونهاره صاعدا هابطا في السفينة لإطعام ما فيها ومن فيها ، فإنه لم يسلم من الأذى ، ذلك أن الأسد الذي كان هادئا نسبيا لإصابته بالحمى طوال الوقت كان فظا للغاية ، وذات مرة لم يقدم له نوح الغذاء الكافي ، فما كان منه إلا أن ضرب نوحا بكفه ضربة أصابته بالعرج سائر أيام حياته (١).

وهناك رواية لكاتب مسيحي ـ ربما عاش في فترة الفتح الإسلامي ـ عثر عليها من بين مخطوطات دير سانت كاترين في سيناء ، تقدم لنا تفصيلات مثيرة عن نظام الفلك الداخلي ، فالقطعان والوحوش قد سكنت جوف السفينة ، كما سكنت الطيور الدور الأوسط منها ، وخص نوح سطح النزهة في السفينة له ولأسرته بعد أن عزل الرجال عن النساء ، فأقام نوح وأولاده في الجانب الشرقي من هذا السطح ، كما أقامت الزوجات مع أطفالهن في الطرف الغربي منه ، وكان الحاجز بين هؤلاء وأولئك جثة آدم التي كانت قد انتشلت من قبر غمرته المياه ، كما تخبرنا الرواية بعد ذلك بأبعاد السفينة على وجه التحديد بالذراع وعن اليوم والشهر الذي ركب فيه الركاب الفلك (٢).

٢ ـ قصة الطوفان : بين التوراة وقصص السومريين والبابليين :

يكاد يتفق العلماء ـ من أمثال ليوناردو ولي (٣) ، وأدولف لودز (٤) ، وستانلي

__________________

(١) راجع عن هذه الصور الغريبة وأمثالها : جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٦ ـ ١١٩.

(٢) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٩.

(٣) ٤٣ Sir Leonard Woolley ,Excavations At Ur ,P ..

(٤) Adolphe Lods, Israel, from its Beginnings to the Middle ofthe Eight Century, P. ٦٨٤.

٦١

كوك (١) ، وجورج بارتون (٢) ، وجاك فينجان (٣) ، ويونجر (٤) ، وول ديورانت (٥) ، وجيمس فريزر (٦) ـ على أن قصة الطوفان ، كما جاءت في التوراة ، ليست قصة عبرية أصيلة ، وإنما أخذها الإسرائيليون من ميزوبوتاميا ، ولكن القصة لم تنقل بطريقة عمياء ، وإنما تصرفوا فيها بطريقة تتفق وأهداف كتابهم المقدس ، ذلك لأن القصة التوراتية هي نفس القصة التي وجدت على ألواح مكتوبة منذ فترة ترجع إلى ما قبل عصر إبراهيم ـ عليه‌السلام (٧) ـ بل إن الرواية البابلية أقدم من الرواية العبرية بما يقرب من أحد عشر أو اثني عشر قرنا ، فضلا عن أن الحكاية العبرية في جوهرها ـ كما لاحظ تسيمرن ـ تقضي بأن يكون البلد المشار إليه قابلا لحدوث الفيضان مثل بابل ، الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في أن الحكاية نشأت أصلا في بابل ، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فلسطين ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن القصتين تتفقان لا في الأحداث الأساسية فحسب ، بل إن وجوه الاتفاق بين القصتين تتعدد حتى تشمل التفصيلات الجزئية ، بحيث لا يمكننا أن نرجع ذلك إلى محض الصدفة (٨) ، أو حتى إلى توارد الأفكار ، يتبين لنا إلى أي حد اعتمدت قصة الطوفان في التوراة على قصص سومر وبابل الخاص بالطوفان.

ولعل سؤال البداهة الآن : إذا كان ذلك كذلك ، وإذا كانت قصة الطوفان في التوراة تعتمد على قصص الطوفان في بلاد النهرين ، فمتى وكيف تمّ ذلك؟

يقول (ه. ج. ويلز) : إنه من الراجح أن العهد القديم (التوراة) قد جمع لأول مرة

__________________

(١) S. A. Cook, in the Cambridge Ancient History, III, Cambridge, ٥٦٩١, P. ١٨٤.

(٢)George A. Barton, Archaeology and the Bible, ٧٣٩١, P. ٠٢٣.

(٣)Jack Finegan, Light from the Ancient past, the Archaeological Background of Judaism and Christianity, Princeton, ٩٦٩١, P. ٠٣.

(٤)Merrill. F. Unger, Unger\'s Bible Dictionary, Chicago, ٠٧٩١, P. ٢٧٣.

(٥) ول ديورانت : قصة الحضارة ـ الجزء الثاني ـ ترجمة محمد بدران ـ القاهرة ١٩٦١ ص ٣٦٨.

(٦) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٣ ـ ١١٩.

(٧) Sir Leonard Woolley ,op.cit.,P.٤٣.

(٨) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٣ / ، ١١٥.

٦٢

في بابل ، ثم ظهر في التاريخ في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد ، ذلك لأن اليهود قد جمعوا هناك أثناء السبي البابلي تاريخهم بعضه إلى بعض ، وطوروا تقاليدهم ونموها ، ومن ثم فقد أصبح الذين آبوا إلى أورشليم بأمر كيروش الثاني (٥٥٨ ـ ٥٢٩ ق. م) شعبا يختلف اختلافا عظيما في الروح والمعارف عن ذلك الشعب الذي خرج منها مأسورا ، وذلك لأنهم تعلموا الحضارة هناك من البابليين (١).

ويقدم العلماء الكثير من الأدلة على تأثير الأدب البابلي في التوراة ، وإن كانوا يختلفون على وقت هذا التأثير وطريقته ، فهناك من يرى أن ذلك إنما كان على أيام الأسر البابلي (٢) (٥٨٦ ـ ٥٣٩ ق. م) ، بينما يذهب رأي آخر إلى أن ذلك ربما كان في القرن الثامن والسابع ق. م ، أثناء فترة اتصال الإسرائيليين الفعلي بالآشوريين ، ذلك لأن قصة الطوفان هذه ـ على ما يبدو ـ لم تكن موجودة في الروايتين المبكرتين في المصدر «اليهوي» ، ذلك لأن واحدة منهما تعتبر أبناء «لامك» الثلاثة من زوجتيه «عادة» و «صلة» أساسا لتقسيمات الجنس البشري ، وأما الأخرى ، فإن اختراع النبيذ ـ فيما ترى هذه الرواية ـ لهو أبرز حادث في حياة نوح (٣).

وهناك رأي ثالث يذهب إلى أن الروايتين ـ السومرية والبابلية ـ إنما تسربت إلى بني إسرائيل منذ زمن طويل عن طريق مصادر سومرية وسامية كانت منتشرة في جميع بلاد الشرق الأدنى القديم (٤) ، لدرجة أن أصبحت معها في متناول الأقوام جميعا ينتحلها هذا أو ذاك ، فيأخذ عنها الرواة كل على هواه ، تمجيدا لذكرى أسلاف ، وقد تكون ـ في أغلب الأحايين ـ لا تمت إلى بني إسرائيل أو إلى بني يهوذا أصلا ، إلا أنها صارت بمرور الزمن شائعة مشتركة بين شعوب المنطقة جميعا (٥) ، فقد مضى الزمن الذي كانت تعالج فيه الأصول الإسرائيلية بعزلة عما كان يتحوطها من مؤثرات ، وإنما تداخلت مع غيرها ، نهبا لتفاعلات اجتاحت المنطقة كلها ، فرسمت مسار التاريخ

__________________

(١)H. G. Wells, A Short History Of the World) Pelican Book (, ٥٦٩١, P. ٣٧, ٨٧.

(٢) S.A.Cook ,op.cit.,P.١٨٤.

(٣) A.Lods ,op.cit.,P.٦٨٤. وكذا تكوين ٤ : ٢٠ ـ ٢٢ ,٥ : ٢٩.

(٤) ول ديورانت : المرجع السابق ص ٣٦٨.

(٥) A.Lods ,op ـ cit ,P.٠٦١ ـ ١٦١

٦٣

في الشرق القديم جميعا (١) ، بخاصة في الفترة التي كتب اليهود فيها توراتهم (٢).

وهكذا يمكننا القول أن كتاب التوراة قد تعرفوا على التراث البابلي ـ عن طريق الروايات الشفوية أو المدونة ـ وذلك إبان قيام دولتهم في كنعان ، وربما أثناء السبي البابلي أو بعده ، ويحق لنا أن نفترض أن العلاقة الوثيقة بين البلدين التي مهد لها الغزو البابلي في فلسطين ، ربما أدت على نحو ما إلى انتشار الأدب البابلي في فلسطين ، كما أدى السبي إلى انتشار الأدب اليهودي في بابل ، وبناء على وجهة النظر هذه ، فإن بعض التفصيلات التي تختلف فيها الرواية الكهنوتية عن الرواية اليهوية ، وتتفق فيها مع الرواية البابلية ، ربما نقلها الكتاب الكهنوتيون مباشرة عن المصادر البابلية ، وهذه التفصيلات تتعلق ببناء السفينة وطلائها بالقار أو القطران اللذين يعدان بصفة خاصة من منتجات بابل ، على أن احتمال معرفة العبريين لحكاية الطوفان الكبير قبل أن يؤخذوا في الأسر بزمن طويل ، وقرب حكايتهم في شكلها من الحكاية البابلية ، هذا الاحتمال تؤيده كل التأييد الحكاية اليهوية في سفر التكوين التي يمكن أن ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد والتي لا يمكن أن تتأخر بحال من الأحوال عن القرن الثامن ق. م (٣).

وأيا ما كان الأمر ، فهناك إجماع بين العلماء على أن هناك تأثيرات بابلية في التوراة ـ فضلا عن التأثيرات المصرية الواضحة (٤) ـ كما أن الأساطير البابلية مثل قصة الطوفان قد وجدت في بابل قبل أن توجد في التوراة ، ولكنها لم تنقل بطريقة عمياء (٥).

وربما كانت المقارنة السطحية بين الحكايتين اليهودية والبابلية كافية لأن تؤكد لنا أن كلتا الحكايتين لم تنشأ في الأصل مستقلة ، بل من المؤكد أن إحداهما قد اعتمدت

__________________

(١)George Mendenhall, Biblical History in Transition in the Bible and the Ancient. Near East) vid n. ٣٢ (P. ٥٣.

(٢) راجع مراحل كتابة التوراة في كتابنا إسرائيل ص ٢٤ ـ ٤٥.

(٣) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٥ ، ١١٦.

(٤) راجع أمثلة لهذه التأثيرات في كتابنا إسرائيل ص ١٥١ ـ ١٥٩.

(٥) ١٨٤ J.Gray ,op.cit.,P.٤٠١ وكذلك S.A.Cook ,op.cit.,P.

٦٤

على الأخرى ، ذلك لأنه من الجلي أن بين الرواية العبرية والبابلية عناصر مشتركة كثيرة ، وربما رجعا كلاهما إلى مصدر واحد (١).

وإذا ما أردنا أن نقدم أدلة على ذلك ، وجدنا عدة مقابلات بين قصة الطوفان في التوراة ، وبينها في الأدب الميزوبوتامي القديم ، فمن ذلك (أولا) أن الطوفان هنا وهناك بسبب إلهي ، وذلك حين قررت القوى الإلهية أن تقضي على الجنس البشري عن طريق طوفان عظيم ، ومنها (ثانيا) أن البطل هنا وهناك ينال تحذيرا مما هو مؤكد أن يكون ، فيبني فلكا للخلاص ، وهذا الفلك يطليه بالقار حتى لا ينفذ إليه الماء ، ويحضر معه حيوانات وطيور ويدخلها إلى الفلك ، فينقذ نفسه وينقذ معه صنوف الكائنات الحية جميعا ، ومنها (ثالثا) أن الطوفان هنا وهناك كان لأن القوم قد فسدوا ، وأن الشر قد انتشر بينهم ، وأن المبادئ الخلقية قد لطخت تماما ، ومن ثم فالطوفان للقضاء على بذرة البشر (٢).

ومنها (رابعا) أن بطل القصة هنا وهناك كان رجلا كريم الخلق ، نقي السريرة ف «زيوسودرا» في القصة السومرية يوصف بالتقوى ، وبأنه ملك متواضع يخشى الإله ، والأمر كذلك بالنسبة إلى نوح التوراة ، فقد كان «رجلا بارا كاملا في أجياله ، وسار مع الله» (٣) ، ومنها (خامسا) أن الأمطار الغزيرة قد هطلت هنا وهناك ، ومن ثم فقد تجمع الطوفان بمقدار كبير ، ودام أياما يختلف عددها قلة أو كثرة ، وكان في كلتا الحالتين بأسباب طبيعية ، ريح عاتية وأمطار مستمرة ، وعواصف مرعبة في القصة البابلية ، و «انفجار كل ينابيع الغمر العظيم ، وانفتاح طاقات السماء» في القصة التوراتية ، ومنها (سادسا) أن البطل هنا وهناك قد أنقذ هو وعائلته ، وكذا الحيوانات التي صاحبته في السفين ، وإن كان عدد الناجين في القصة البابلية ، أكثر منه في القصة التوراتية ، ومنها (سابعا) أن السفينة الضخمة ـ والمكونة من عدة طوابق ـ تظهر هنا

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس ـ ج ٢ ـ ص ٥٨٤.

(٢) ٢٧٣ M.F.Unger ,op.cit.,P ..

(٣) راجع كتابنا اسرائيل ص ١٤٥.

٦٥

وهناك ، وإن كانت السفينة البابلية قد احتاجت في تحريكها إلى خمسة أمثال ما احتاجته سفينة التوراة (١).

ومنها (ثامنا) أن الفلك يستقر على قمة جبل ـ نيزير (نيصير) في القصة البابلية ، و «أراراط» في التوراة ـ ومنها (تاسعا) أن البطل هنا وهناك يرسل طيورا لاستكشاف حالة الجو ، ولمعرفة مدى انحسار مياه الطوفان عن الأرض ، وفي كلتيهما عادت الحمامة إلى السفين ، لأنها لم تجد مكانا تستقر فيه ، أما الغراب فلم يعد في كلتا الحالتين ، ومنها (عاشرا) أن البطل هنا وهناك يقدم تقدمة بعد خروجه من السفين شكرا على إنقاذه ، وفي كلتا الحالتين اشتمت الآلهة رائحة الشواء الطيبة ، فسكن غضبها ، وتنسمت رائحة الرضا (٢).

ومنها (حادي عشر) أن البطل هنا وهناك ينال البركات بعد الكارثة ، فضلا عن الأمان في المستقبل ، ففي القصة السومرية ، ينفث الإله في «زيوسودرا» روح الخلود ، ويستقر في دلمون ، حيث تشرق الشمس ، أي حيث القوة القاهرة للموت (٣) ، وفي القصة البابلية يصبح «أوتنابيشتم» وزوجته مخلدين ، ويعيشان بعيدا عند مصاب الأنهار ، وفي التوراة يبارك الله نوحا وبنيه ويعقد معهم ميثاقا ويمنحهم خشية ورهبة على كل الحيوانات والطيور (٤).

ومنها (ثاني عشر) أن الإله هنا وهناك يندم على إهلاك البشر بالطوفان ، ففي القصة البابلية يندم أنليل لأنه «أحدث الطوفان دون روية ، وقاد الناس إلى التهلكة» ، بل إن الآلهة نفسها قد لامته على ذلك ، وتمنت لو أرسل أسدا أو ذئبا أو مجاعة أو طاعونا ، فأهلك بني البشر الآثمين ، «فعلى الآثم وزر إثمه ، وعلى المعتدي وزر

__________________

(١) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٤ وكذاM.F.Unger ,op.cit.,P.٢٧٣.

(٢). ٣٧٢.P ،. ، وكذا جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٤.

(٣).E. O. James, Mythes et Rites dans le Proche ـ Orient Ancien, Paris, ٠٦٩١, P. ٧٤٢.

(٤) تكوين ٩ : ١ ـ ٢ ، ١١.

٦٦

اعتدائه» (١) ، وفي التوراة يندم الرب كذلك على إحداث الطوفان ويعزم على ألا يلعن الأرض من أجل الإنسان أبدا ، وألا يميت بعد اليوم كل حي ، بل ويقطع الرب على نفسه ميثاقا «لا يكون طوفان ليخرب الأرض» ، ويضع للميثاق علامة ، هي «القوس في السماء ، فيذكر وعده ولا يأتي بطوفان يغرق الأرض أبدا» (٢).

ومنها (ثالث عشر) التركيز على الشخص العاشر فيما قبل الطوفان ، ففي القصة البابلية ـ وفقا لرواية بيروسوس ـ أن البطل الذي أنقذ من الطوفان ، إنما كان ملك بابل العاشر ، وفي قصة التوراة إنما هو «نوح» الرجل العاشر في سلسلة العشرة الرؤساء الآباء من آدم إلى نوح (٣) ـ عليهما‌السلام ـ.

وهكذا تتعدد وجوه الشبه بين الحكايتين البابلية والعبرية في مجموعهما ، فإذا شئنا بعد ذلك أن نتعمق التفصيلات ، فإننا نجد أن الحكاية البابلية أقرب إلى الحكاية اليهوية منها إلى الكهنوتية ، فكل من الرواية البابلية واليهوية تعطي أهمية للعدد سبعة ، فقد حذر نوح في الرواية اليهوية من حدوث الطوفان سبعة أيام على التوالي ، كما أخذ معه في السفينة سبعا من كل صنف من صنوف الحيوانات الطاهرة ثم إن المدة الزمنية بين إطلاقه طائرا وآخر كانت سبعة أيام ، وبالمثل دام الطوفان في الرواية البابلية حتى بلغ قمته سبعة أيام ، كما أن البطل فيها وضع مجموعات أوعية التضحية فوق الجبل ، وكانت كل مجموعة تكون من سبعة أوعية. على أننا نجد من ناحية أخرى أن الحكاية الكهنوتية في سفر التكوين تقترب من الحكاية البابلية في بعض التفصيلات المحددة ، أكثر من اقتراب الرواية اليهوية منها ، ففي كل من الروايتين ، أصدرت الآلهة تعليمات محددة إلى البطل لبناء السفينة ، ومن ثم فقد بنيت السفينة في كل منهما من عدة طوابق وقسم كل طابق إلى عدة حجرات ، كما أنها طليت في كل منهما بالقار أو القطران ورست

__________________

(١) انظر في هذا المجال ما جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وما جاء في سورة الزلزلة «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» ، ثم انظر ما جاء في التوراة «أنا الرب إله غيور،أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي»(خروج ٢٠ : ٥ ـ ٦)

(٢) تكوين ٩ : ٨ ـ ١٧.

(٣) رشيد الناضوري : المرجع السابق ص ٢٤٩ وكذاG.A.Barton ,op.cit.,P.٠٢٣ وكذاJ.Finegan ,op.cit.,P.٣.

٦٧

كل منهما على جبل ، واستقبل البطلان بركة الإله عند خروجهما (١).

ولعل أفضل ما نختم به أوجه الشبه بين الروايتين البابلية والتوراتية لقصة الطوفان ، أن نقدم نصوصا من الروايتين جنبا إلى جنب (٢) ، ثم نترك للقارئ الحكم في أمر هذه الشبه.

رقم

ملحمة جلجاميش

التوراة

(١)

(٢)

(٣)

(٤)

(٥)

(٦)

يا رجل شورباك ،يا ابن «وبار ـ توتو»

اقتلع بيتك ، وابن الفلك ، دع

أملاكك وانقذ حياتك ، دع الروح

حية ، واحمل على ظهر الفلك بذرة

كل شيء حي ، الفلك التي ستبنيها

تكون أبعادها حسب هذا المقياس.

وفي اليوم الخامس أقيم هيكلها

(السفينة) وكانت مساحة أرضيتها

فدانا كاملا ، وارتفاع كل حائط من

جدرانها ١٢٠ (ذراعا؟)

وجعلت فيها ست أسطح ، قسمتها إلى

سبع طوابق

وجعلت أرضيتها تسعة أجزاء

ست سار من القار صببته في الفرن

وحملتها بكل ما أملك من الكائنات

الحية ، وكل عائلتي وذوي قرباي

أركبتهم الفلك ، وكذا حيوان الحقل

ووحوش الحقل وكل الصناع أركبتهم معي

فقال الله لنوح ... اصنع لنفسك فلكا

من خشب «جفر» ، ومن كل حي

من كل ذي جسد ، اثنين من كل

تدخل الفلك لاستبقائها معك حية ،

تكون ذكرا وأنثى (تكوين ٦ :١٣ ـ / ٢٠)

ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك

وخمسين ذراعا عرضه وثلاثين ذراعا

ارتفاعه (تك ٦ : ١٥)

مساكن سفلية ومتوسطة تجعله (تك

١٦:٦)

تجعل الفلك مساكن (تك ٦ : ١٤)

وتطليه من داخل ومن خارج بالقار

(تك ٦ : ١٤)

فدخل نوح وامرأته وبنوه ونساء بنيه معه إلى

الفلك من وجه مياه الطوفان ، ومن البهائم

الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة ، ومن

الطيور وكل ما يدب على الأرض ، دخل

اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ، ذكرا

وأنثى (تك ٧ : ٧ ـ ٩)

__________________

(١) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٤ ، ١١٥.

(٢) انظر كذلك. ٣٥ ـ ٧٥.W.Keller ,op.cit.,P.

٦٨

رقم

ملحمة جلجاميش

التوراة

(٧)

(٨)

(٩)

(١٠)

(١١)

(١٢)

(١٣)

(١٤)

ودخلت إلى الفلك وأوصدت بابه

ومع انبثاق الفجر ، ظهرت من الأفق

غمامة سوداء وأرعد «أداد» من

داخلها ... ووصل الذعر من أداد

عنان السماء ، وقد حول النور إلى ظلام

واستمرت ريح الفيضان تهب ستة

أيام وست ليال وعاصفة الجنوب

تكتسح الأرض

وفي اليوم السابع سكنت عاصفة

الجنوب

عن الحرب التي شنتها كجيش

وهدأ البحر ، وسكنت العاصفة

وتوقف الطوفان

وتحول الناس إلى طين ، وتشققت

الأرض كأنها جرة

وفتحت طاقة في الفلك وسقط الضوء

على وجهي

واستوت الفلك على جبل نيصير

وأمسك جبل نيصير بالفلك ، ولم

يدعها تتحرك

وأغلق الرب عليه (تك ٧ : ١٦)

وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان

صارت على الأرض ... في ذلك اليوم

انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت

طاقات السماء (تك ٧ : ١٠ ـ ١١)

وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض

وتكاثرت المياه ... وتعاظمت المياه وتكاثرت

جدا على الأرض ... فتغطت جميع الجبال

الشامخة التي تحت كل السماء(تك/:١٧ ـ ١٩)

وأجاز الله ريحا على الأرض فهدأت

السماء (تك ٨ : ١)

وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء

فامتنع المطر من السماء ، ورجعت المياه

عن الأرض رجوعا متواليا ، وبعد مائة

وخمسين يوما نقصت المياه (تك ٨: ٢ ـ ٣)

فمات كل ذي جسد كان يدب على

الأرض ... وجميع الناس (تك ٧ : ٢١)

وفتح نوح طاقة الفلك التي كان قد عملها

(تك ٨ : ٦)

واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم

السابع عشر من الشهر على جبل أراراط

(تك ٨ : ٤)

ويقدم لنا «الدكتور جون إلدر» خلافات بين القصتين ، ففي التوراة يحدث الطوفان كعقاب من الله لمحو الأشرار ، وفي القصة البابلية يحدث الطوفان لهوى في نفس

٦٩

الآلهة القساة ، وفي التوراة يخلص نوح من معه لأنه إنسان بار ، وفي القصة البابلية ينال البطل النجاة لأن له نصيرا من بين الآلهة الكثيرة ، فقصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية ، ولكن البابليين يقدمون لنا أحط دركات الديانات التي تنادي بتعدد الآلهة ، وهكذا نرى الفارق العظيم بين فكرة الوحي السامية في قصة التوراة ، وبين الفكرة الخرافية المليئة بالخيالات والأوهام والمتناقضات في القصة البابلية ، مع أنها خلاصة أرقى ما وصل إليه الفكر البشري في دولة ساميّة متحضرة (١).

والحق أن ما يقوله الدكتور «جون إلدر» ليس هو الحق كل الحق ، ذلك لأن الطوفان كان في القصتين عقابا من الإله لمحو الأشرار ، فكما أخبر نوح بأن الطوفان كان لأن الرب أراد أن يمحو الإنسان الذي خلقه لأن شره كثر في الأرض (٢) ، فكذلك أخبر «زيوسودرا» أن الآلهة أرادت بالطوفان أن «تقضي على بذرة الشر» ، وكما أن نوحا قد أنجي لأنه إنسان بار ، فالأمر كذلك بالنسبة إلى «زيوسودرا» ، لأنه كان ملكا صالحا تقيا ، يخشى الإله ، كما كان يتلهف شوقا إلى الاتصال بالوحي الإلهي في الأحلام وفي تلاوة التعاويذ والأدعية ـ وهي صفات لو كان الدكتور إلدر غير متعصب في حكمه ، لعرف أن التوراة لم تسبغها على نوح ، الأمر الذي لم يظهر بما يتفق ومكانة النبي الكريم في غير القرآن الكريم ـ بخاصة إذا علمنا أن القصة السومرية ـ وليست قصة التوراة ـ هي التي تقدم لنا بطل الطوفان (زيوسودرا) وهو يجلس إلى جانب حائط ، يستمع إلى صوت وحي إلهه ، وهو يبلغه القرار بإهلاك البشر (٣).

وأما أن قصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية ، وأن الأخرى ليست كذلك ، فذلك أمر نتفق فيه معه بحذر ، كما أن أحدا لم يقل ـ بل حتى لم يفكر ـ في أن ديانة السومريين ـ ـ والبابليين من بعدهم ـ كانت ديانة توحيدية ، ومع ذلك ألا يرى «الدكتور جون إلدر» أن قصة التوراة لا تقدم لنا ديانة توحيدية ـ كما نعرف التوحيد الآن ـ. صحيح أن ديانة السومريين والبابليين ديانة وثنية ، بل ومغرقة في الوثنية كذلك ، ولكن صحيح

__________________

(١) جون إلدر : الأحجار تتكلم : ص ٣٤ ، ٣٥ وانظر كذلك.M.F.Unger ,op.cit.,P.٢٧٣ ـ ٣٧٣.

(٢) تكوين ٦ : ٥ ـ ١٢.

(٣) صمويل نوح كريمر : من ألواح سومر ـ ترجمة طه باقر ص ٢٥٤ ـ ٢٥٦ ، القاهرة ١٩٥٧.

٧٠

كذلك ـ رغم أن دعوة موسى عليه‌السلام كانت دعوة توحيد ، وأن كليم الله دعا إلى عبادة الله الواحد الأحد ـ أن توراة اليهود المتداولة اليوم ، لا تقدم لنا بين صفحاتها ما يتفق ودعوة الوحدانية ، وتنزيه الله ـ جل وعلا ـ عن صفات البشر (١).

وإلا فهل من التوحيد ـ الذي يريد لنا الدكتور إلدر أن نفهمه من توراة اليهود ـ أن يوصف الله ـ جل وعلا ـ بالحزن والأسف لخلقه الإنسان ، كما جاء في سفر التكوين (٢) (٦ : ٦ ـ ٧) ، وهل من التوحيد أن يكون لله ـ جل جلاله ـ أولاد منذ بدء الخليقة ، وأنهم قد فتنوا بجمال بنات الناس ، «فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا» ، ثم تحدر من هؤلاء وأولئك نسل رزقه الله بسطة في الجسيم ، وهم الجبابرة الذين سكنوا في الأرض قبل الطوفان (٣) ، وهل من التوحيد أن تكون قوس قزح (٤) التي تظهر في الأفق غبّ المطر ، أنشأها الله لتكون تذكرة له بألا يعود إلى إغراق الأرض أبدا (٥) ، وهل من التوحيد أن يوصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ في التوراة (٦) ، بأن نفسه ترتاح من رائحة الدخان المتصاعد من المحرقات ، وأنه يغضب كل الغضب إذا لم تقدم له في الصورة التي يرتضيها (٧).

__________________

(١) راجع في ذلك صفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ كما تقدمها التوراة (كتابنا إسرائيل ص ٥٧ ـ ٦٩).

(٢) لبيان أمثلة كثيرة ترددت في التوراة في هذا الصدد انظر كتابنا «اسرائيل» ص ٦٤ ـ ٦٥.

(٣) تكوين ٦ : ١ ـ ٥.

(٤) و «قزح» هذا من أسماء الشيطان ، ولهذا فقد نهى الحبيب المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن هذه التسمية ، مؤثرا تسميتها بقوس الله (راجع ص ٤١ من كتاب محنة التوراة على أيدي اليهود لمؤلفه عصام حفني ناصف).

(٥) تكوين ٩ : ١٣ ـ ١٥.

(٦) تكوين ٨ : ٢٠ ـ ٢١ ، لاويون ١ : ١ ـ ٩ ، ١٠ : ١ ـ ٢ ، وكذلك إبراهيم خليل : إسرائيل والتلمود ص ٨٦ ، ٨٧.

(٧) ويرد القرآن الكريم على مزاعمهم هذه بقوله تعالى : «لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ، كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (الحج : آية ٣٧) وإذ يقول عزوجل في هدي الحج من الأنعام : «فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (الحج : آية ٢٨).

٧١
٧٢

الفصل الثّالث

قصّة الطّوفان في القرآن الكريم

يزخر القرآن الكريم بالكثير من القصص الذي ساقه الله لتأكيد قيم دينية شتى فهو يحارب الوثنية ويدعو إلى الوحدانية ، ويؤكد المعاني الخلقية السامية ، ويضرب الأمثال ، ثم هو يطمئن صاحب الرسالة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ويواسيه في الشدائد ، مذكرا إياه بما لاقه إخوة كرام له من عنت الضالين وبغي الكافرين ، فما وهنوا وما استكانوا ، وما ضعفوا وما تخاذلوا ، ولكنهم صبروا وصابروا ، ومن هنا يخاطب الله رسوله الكريم في كتابه الكريم ، (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١).

والقرآن الكريم في كل ما جاء به من قصص ـ وإن لم يكن كتاب تاريخ يقدم لنا تفصيلات عن الأحداث التي يتعرض لها ، إلا في عرض القصة حيث يقتضيه السياق ـ تعليم للمصلحين ، وتربية للهداة ، ولكنه في كل ذلك «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (٢) ثم «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (٣) و «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (٤).

وإن في القرآن الكريم لقصصا شتى من غير قصص الدعوة ، أو قصص الجهاد في تبليغ الرسالة ، ولكنها تراد كذلك لعبرتها ، ولا تراد لأخبارها التاريخية ، ومنها قصة

__________________

(١) سورة هود : آية ١٢٠.

(٢) سورة فصلت : آية ٤٢.

(٣) سورة آل عمران : آية ٦٢.

(٤) سورة يوسف : آية ١١١.

٧٣

يوسف ، وكذا قصة إسماعيل عليها‌السلام ، فقصة يوسف قصة إنسان قد تمرس منذ طفولته بآفات الطبائع البشرية ، من حسد الإخوة إلى غواية المرأة إلى ظلم السجن ، إلي تكاليف الولاية وتدبير المصالح في إبان الشدة والمجاعة ، وقصة إسماعيل تتخللها هذه التجارب الإنسانية من عهد الطفولة كذلك ، فيصاب بالغربة المنقطعة عن العشيرة وعن الزاد والماء ، وإن كان الأخطر من ذلك كله أن تكتب عليه التجارب الإنسانية ضريبة الفداء ، وهي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت ـ في معظم مجتمعات الشرق القديم ـ لا تتورع عن الذبائح البشرية ، وبين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة ، ولكنها تتورع عن ذبح الإنسان ، ثم يكتب لهذا الغلام الوحيد بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم ، أن تنمي إليه أمة ذات شعوب وقبائل تتحول على يديها تواريخ العالم على مدى الأيام (١).

على أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم قصتان مسهبتان في أجزائه لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعرق أمم الحضارة الإنسانية ، وهما أمة وادي النهرين وأمة وادي النيل ، ومن أجل ذلك كانت قصة إبراهيم وموسى عليهما‌السلام أو فى القصص بين جميع قصص الأنبياء ، وكانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم (٢).

وفي قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ نرى كيف ينقاد الجهلاء للأمر والسطوة ، ولا ينقادون للحجة والدليل ، ويريدون من صاحب الدعوة أن يكون ملكا ، أو تكون عنده خزائن الأرض ، ويقولون له «قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» (٣) ، كما نرى كذلك أن المسيطرين على أقدار القوم يكرهون التغيير ، ويتشبثون بالقديم ، ويأخذون على النبي الكريم أن يتبعه أناس من غير ذوي السيادة والجاه «وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين» (٤).

__________________

(١) عباس العقاد : الإسلام دعوة عالمية ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ٢١٨ ـ ٢١٩ ، وانظر كذلك قصة التضحية البشرية في كتابنا إسرائيل ص ٢٠٧ ـ ٢٠٩ ، قصة يوسف في مصر ص ٢٢٥ ـ ٢٤٥.

(٢) عباس العقاد : المرجع السابق ص ٢١٨.

(٣) سورة هود : آية ٣٢.

(٤) سورة هود : آية ٢٧.

٧٤

وأما الطوفان ـ موضوع هذا الفصل ـ فلقد تحدث القرآن الكريم عنه ، حين تعرض لقصة نوح عليه‌السلام ، في سور كثيرة منها سورة الأعراف (٥٩ ـ ٦٤) ويونس (٧١ ـ ٧٣) وهود (٢٥ ـ ٤٩) والأنبياء (٧٦ ـ ٧٧) والمؤمنون (٢٣ ـ ٣٠) والشعراء (١٠٥ ـ ١٢٢) والعنكبوت (١٤ ـ ١٥) والصافات (٧٥ ـ ٨٢) والقمر (٩ ـ ١٧) ثم سورة كاملة ، هي سورة نوح ، فضلا عن ذكره في مواضع متفرقة من القرآن الكريم ، كما في سورة النساء والأنعام والتوبة وإبراهيم والإسراء والأحزاب و «ص» وغافر والشورى و «ق» والذاريات والنجم والحديد والتحريم.

وفي كل هذه السور الكريمة ، كان نوح ـ شأنه في ذلك شأن غيره من المصطفين الأخيار ـ يدعو قومه إلى عبادة الله الواحد القهار ، «وكان قومه قد صوروا بعض الصالحين منهم ، ثم وضعوا لهم الصور والتماثيل لإحياء ذكرهم والاقتداء بهم ، ثم عبدوا صورهم وتماثيلهم» (١) ، واستمر نوح في دعوته ، يحثهم ليل نهار على عبادة الله تعالى وحده ، إلا أن القوم «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (٢) ، إذ كبر عليهم أن يكون داعي الهدى ، وحامل لواء التوحيد ، واحدا منهم ، لا يمتاز عليهم بإمارة ، ولا يفضلهم بغنى أو ثروة ، كما أنفوا أن ينضموا إلى جماعة المهتدين من الضعفاء.

ويبذل النبي الكريم الجهد كل الجهد ، بغية أن يؤمن القوم بربهم ، وأن يكفوا عن عبادة الأصنام ، ويطول الزمن ، ونوح يغاديهم بالنصح ويراوحهم بالعظة سرا وعلانية ، ومع ذلك كله ، فالذين أجابوا الدعوة ، إنما كانوا قلة نادرة ، فيشتكي نوح إلى ربه عجزه وقلة حيلته ، وما يلاقيه على أيدي السفهاء من قومه من عنت وهوان ، فيناديه ربه «لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (٣) ، ويدعو نوح ربه «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (٤).

__________________

(١) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ، الجزء السابع ص ٤٥٤ وما بعدها ، الجزء الثامن ص ٤٣٦ ، القاهرة القاهرة ١٩٧٤ (طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب) ، وكذلك : صحيح البخاري.

(٢) سورة نوح : آية ٧.

(٣) سورة هود : آية ٣٦.

(٤) سورة نوح : آية ٢٧ ، ٢٨.

٧٥

ويجيب العليّ القدير دعوة النبي الكريم ، فيأمره أن يصنع الفلك «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ، قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ، وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (١) ، وهكذا أنقذ الله نوحا ومن آمن معه ، وأهلك الكافرين من قومه «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (٢) ثم أمر الله نوحا أن «اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» (٣).

هذه هي الخطوط الرئيسية بإيجاز شديد لقصة نوح عليه‌السلام ـ كما أخبر عنها ربي جلّ جلاله في القرآن الكريم ـ وهي هنا إذا ما قورنت بغيرها من القصص الذي تعرض لقصة الطوفان ، سواء أكان ذلك من القصص الإنساني أو السماوي ، لبان لنا بوضوح الفرق الشاسع ـ بغير حدود ـ بين ما أنزله الله على مولانا وسيدنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبين ما كتبته أقلام ناقصة معرفة أحيانا ، ومتعصبة أحيانا أخرى ، وساذجة في أغلب الأحايين ، وإن كان بعضها يزعم لها أصحابها ما يزعمون من قداسة.

والقرآن الكريم حين تناول قصة الطوفان تناولها بما يتفق وأغراض القصص القرآني ، دونما حاجة إلى تفصيلات لا يقتضيها سياق القصة ، ثم جاء المفسرون والمؤرخون الإسلاميون وحاولوا تفسير هذه القصة بإسهاب وتفصيل ، إلا أن هذا التفصيل لعبت فيه الإسرائيليات دورا عكّر صفوها في كثير من الأحايين ، فيرون مثلا أن الله أمر نوحا أن يغرس شجرا ليصنع منه السفينة ، وأن النبي الكريم قد غرس هذا الشجر ، ثم انتظره مائة عام ، ثم نجره في مائة أخرى على رواية ، وفي أربعين على رواية أخرى (٤) ، ولست أدري من أين جاءوا بهذا الأرقام ، وما هو المصدر الذي اعتمدوا عليه.

والأمر كذلك بالنسبة إلى طول السفينة ، فهي ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين

__________________

(١) سورة هود : آية ٤٠.

(٢) سورة هود : آية ٤٤.

(٣) سورة هود : آية ٤٨.

(٤) الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير : ـ البداية والنهاية في التاريخ ج ١ (القاهرة ١٩٣٢) ص ١١٠ ، وكذلك الإمام القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ـ دار الشعب ١٩٧٠ ـ ص ٣٢٥٩ ، وكذلك الإمام الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١ ص ١٨١ (حيث يذكر رواية ثالثة تذهب إلى أنها أربعمائة عام).

٧٦

ذراعا ـ فيما ترى التوراة على رأي ، وفيما يرى ابن عباس على رأي آخر ـ وهي ستمائة ذراع في عرض ثلاثمائة ، فيما يرى الحسن البصري ، وهي ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ، فيما يرى ابن عباس ، وهي ثمانون ذراعا في عرض خمسين على رواية رابعة ، وهي ألفا ذراع في عرض مائة ذراع على رواية خامسة ، بل وذهبت رواية سادسة إلى أنها سفينة عظيمة لم يكن لها نظير من قبل ، ولن يكون لها نظير من بعد ، هذا فضلا عن أن الرواية قد تنسب أحيانا إلى شخص معين ، بينما تنسب في مرة ثانية إلى شخص آخر ، وإن كانت الروايات جميعا تكاد تتفق على أن ارتفاع السفينة إنما كان ثلاثين ذراعا ـ وهو رأي التوراة ـ إلا واحدة تنسب إلى الكلبي وقتادة وعكرمة رأت أنها ثلاثمائة ذراع (١) ، وهكذا بات من الصعب علينا أن نصل إلى رأي نطمئن إلى أنه القول الفصل ، ذلك لأن هذه الروايات لا تقدم لنا دليلا على صحتها وضعف غيرها حتى نستطيع أن نختار الأقوى حجة منها.

وهناك رواية تنسب إلى ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنه ـ تقسم السفين إلى ثلاثة بطون ، الأسفل للوحوش والسباع والدواب ، والأوسط للطعام والشراب ، والأعلى لنوح ومن معه ، فضلا عن جسد آدم معترضا بين الرجال والنساء ـ والذي دفنه بعد ذلك في بيت المقدس ـ كما كان معهم إبليس في الكوثل (مؤخر السفينة) (٢).

واختلف المؤرخون الإسلاميون كذلك في أمر التنور ، فهناك من يذهب إلى أنه «وجه الأرض» أي صارت الأرض عيونا تفور ، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار (٣) ، وهناك من ذهب إلى أنه تنور الخبز ، وكان من حجارة لحواء حتى صار لنوح ، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنه مسجد الكوفة ، وذهب رأي رابع ـ ينسب

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ص ١٠٩ ، ١١٠ ، وكذلك الطبري : المرجع السابق ص ١٨٠ ـ ١٨٤ ، وكذلك القرطبي المرجع السابق ص ٣٢٥٩ ، وكذلك ابن الأثير : الكامل في التاريخ ج ١ (بيروت ١٩٦٥) ص ٧٠.

(٢) القرطبي : المرجع السابق ص ٣٢٦ ، وكذلك محمد بن سعد كاتب الواقدي ـ الطبقات الكبرى ج ١ (دار التحرير ـ القاهرة ١٩٦٨) ص ١٧.

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ص ١١١ ، تفسير القرآن العظيم ج ٤ (دار الشعب ـ القاهرة ١٩٧١) ص ٢٥٤.

٧٧

إلى الإمام علي رضي‌الله‌عنه ـ إلى أنه فلق الصبح وتنوير الفجر ـ أي إشراقة وضياؤه ـ ورغم أن هذه الرواية ـ فيما يرى ابن كثير ـ غريبة ، فإنها الرواية الأكثر قبولا ، فيما نظن ، فضلا عن أنها الرواية الوحيدة التي تتفق إلى حد ما مع النصوص القديمة ، وأما مكان التنور ، فهو موضوع خلاف كذلك ، فهناك من يراه في الهند ، وهناك من يراه في الكوفة ، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنه في الجزيرة ، بل ويتجه رأي رابع إلى أن هذه الآراء جميعا ليست بمتناقضة ، لأن الله عزوجل أخبرنا أن الماء جاء من الأرض ومن السماء «ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ، وفجرنا الأرض عيونا» فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة (١).

ومما هو جدير بالذكر أن «ابن بطوطة» يذكر أن بالكوفة مسجدا صغيرا محلقا عليه أيضا بأعواد الساج ، يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنور ، إيذانا بطوفان نوح عليه‌السلام ، وفي ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح عليه‌السلام ، وإزاءه بيت يزعمون أنه متعبد إدريس عليه‌السلام ، ويتصل بذلك فضاء متصل بالجدار القبلي يقال إنه موضع إنشاء سفينة نوح عليه‌السلام ، هذا ويذكر «ستون لويد» ـ وهو من كبار علماء الآثار الآشورية ـ أنه بالجامع الكبير بالكوفة مقصورة في باطن الأرض تعرف باسم السفينة حيث يعتقد المسلمون أن الفلك قد استقر بها ، ويرى أن موقعها على صخرة مطلة على ساحل البحر القديم أفضل مكان بلا شك لرسو السفينة من قمة جبل «أرارات» ، ويرى الدكتور محمد عبد القادر ، أننا إذا نظرنا إلى خريطة العراق ، لوجدنا أن الكوفة تتوسط المنطقة التي حدث بها الطوفان ، والممتدة تقريبا من أبو حبة (سيبار) في الشمال إلى أبو شهرين (أريدو) في الجنوب ، كما أنها قريبة نسبيا من فارة (شورباك) المذكورة في القصة السومرية والتي كانت يوما ما على الفرات ، فالقصة المتواترة في الكوفة والتي رواها ابن بطوطة وغيره من الرحالة ـ وكانوا لا يعلمون عند ما كتبوا بالقصص السومري والأكدي القديم ـ كان لها أساس قوي من الصحة (٢).

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ص ١١١ ، تفسير القرآن العظيم ص ٢٥٤ ، وكذلك الطبري : المرجع السابق ص ١٨٦ ـ ١٨٧. وكذلك ابن الأثير : المرجع السابق ص ٧٠.

(٢) محمد عبد القادر : المرجع السابق ص ٩٧ ، وكذلكSeton Lioyd, Foundstions in the Rust) Pelican (٥٥٩١, P. ٠٣.

٧٨

وقد اختلف المؤرخون الإسلاميون كذلك في عدد من ركب الفلك ، فذهب رأي إلى أنهم ثمانون نفسا (١) ، وذهب رأي آخر إلى أنهم اثنان وسبعون نفسا ، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنهم كانوا ثلاثة عشرة ، وذهب رأي رابع إلى أنهم كانوا عشرة فقط ، بينما ذهب رأي خامس إلى أنهم كانوا ثمانية ـ نوح وامرأته وبنوه الثلاثة ونساؤهم ـ وأخيرا ذهب رأي سادس إلى أنهم سبعة فقط (٢).

والأمر كذلك بالنسبة إلى مدى ارتفاع الماء على أعلى جبل في الأرض ، فذهب رأي إلى أن ذلك إنما كان خمسة عشر ذراعا ، وذهب رأي آخر إلى أنها ثمانون ذراعا ، وأنه لم يبق من الأحياء عين تطرف إلا نوح ومن معه في الفلك ، وإلا عوج بن عنق ، فيما يزعم أهل التوراة (٣) ، وفي الواقع إن هذه رواية متأخرة ليست في التوراة ، فضلا عن أنها تتعارض مع رأي هؤلاء العلماء في أن الطوفان عام ، كما أن طول عوج بن عنق ـ إن كان هناك من يسمى عوج بن عنق ـ يتعارض مع ما جاء في الصحيحين عن المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من «أن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لو رحم الله من قوم نوح أحدا ، لرحم أم الصبي».

ويذهب المفسرون إلى أن الطوفان قد غطى كل بقاع الأرض إلا الكعبة الشريفة ، ذلك لأن سفينة نوح ـ فيما يرون ـ قد طافت بالأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء ، حتى أتت الحرم فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا ، ورفع الله البيت الذي بناه آدم عليه‌السلام ـ وهو البيت المعمور والحجر الأسود ـ على جبل أبي قبيس (٤) ،

__________________

(١) راجع رواية ياقوت الحموي (معجم البلدان ٣ : ٢٣) عن قرية الثمانين وأنها عند جبل الجودي قرب جزيرة ابن عمر التغلبي فوق الموصل.

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ص ١١١ ـ ١١٢ ، تفسير القرآن العظيم ص ٢٥٥ وكذلك القرطبي ص ٣٢٦٣ ، وكذلك الطبري ص ١٨٧ ـ ١٨٩ ، وكذلك الطبقات الكبرى ص ١٨ ، وكذلك ابن الأثير ص ٧٠.

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ص ١١٢ ، وكذلك الطبري ص ١٨٥ ، وكذلك الطبقات ص ١٧ ، وكذلك ابن الأثير ص ٧٠.

(٤) الطبري ص ١٨٥ ، وكذلك الطبقات ص ١٧.

٧٩

وذهب رأي آخر إلى أن الله أمر جبريل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة ، وخبأ الحجر الأسود بجبل أبي قبيس ، فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله في موضعه (١) ، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن البيت لم يجيء في خبر صحيح عن المعصوم أنه كان مبنيا قبل أيام الخليل ، وأن الروايات التي ذهبت إلى أن آدم قد نصب عليه قبّة ، وأن الملائكة قالوا قد طفنا قبلك بهذا البيت ، وأن السفينة قد طافت به أربعين يوما (أو أسبوعا) ، كل هذه الأخبار مأخوذة عن بني إسرائيل (٢).

والواقع أن هناك خلافا على وقت بناء الكعبة ، فهناك رواية تنسب بناءها إلى الملائكة قبل أن يبرأ الله عزوجل الأرض ، وقبل أن يخلق آدم بألفي سنة (٣) ، وهناك رواية أخرى تنسب بناءها إلى آدم عليه‌السلام (٤) ، بينما ينسب ابن قتيبة ـ في رواية ثالثة ـ بناء الكعبة إلى شيث بن آدم (٥) ، وليس في كل هذا خبر صحيح يعول عليه وإنما اقتبسوه من مجمل الآية «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ» ، فظاهر التعبير أن القواعد كانت موجودة ، وأن كل عمل إبراهيم وإسماعيل إنما كان رفعها وليس تأسيسها ، وليس في لغة العرب ما يمنع من أن يراد برفع القواعد ابتداء بناء البيت ، على ضرب من التوسع في التعبير (٦).

وأما الرواية الرابعة ـ وهي ما نميل إليه ونرجحه ، فهي رواية للطبري (٧) ـ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ تقول إن إبراهيم جاء فوجد إسماعيل يصلح نبلا له من وراء زمزم ، فقال إبراهيم : يا إسماعيل إن ربك قد أمرني أن أبني له بيتا ، فقال له إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك ، فقال إبراهيم : قد أمرك أن تعينني عليه ، قال : إذا أفعل ، فقام معه ، فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان

__________________

(١) ابن الأثير : المرجع السابق ص ٧٠.

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ص ١٦٣.

(٣) العمري : مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ج ١ ص ٩٣ (طبعة دار الكتب ١٩٢٤ م).

(٤) نفس المرجع السابق ص ٩٣ ، وراجع : علي حسني الخربوطلي : الكعبة على مر العصور ص ٧ ، القاهرة ١٩٦٧.

(٥) ابن قتيبة : المعارف ص ١٠ (المطبعة الحسينية ، ١٩٣٤).

(٦) أحمد حسن الباقوري : مع القرآن ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ٤٧.

(٧) الطبري : المرجع السابق ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

٨٠