دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

كانوا يرون أن الأمر كله إليها ، لا إلى الله خالقهم ، فأراهم إبراهيم تعظيمه ما يعظمون ، فلما أفل الكوكب ، وأفل القمر ، وأفل الشمس ، أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة والأفول ، ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية (١) ، ويقول الأستاذ النجار : ويرى فريق من الناس أنها تدرج في تكوين العقيدة ، ذلك أن القوم كانوا يعبدون الأصنام ينحتونها على أسماء الكواكب كالشمس والقمر ونحوهما ، فأراد أن يلزمهم أن الكواكب والشمس والقمر لا تصلح لأن تكون آلهة ، وإنما الإله هو الذي خلقهن وخلق السماوات والأرض ، وبيده ملكوت كل ما فيهما ، وأن التماس الصحة والعافية والرزق من غيره تعالى باطل (٢).

ويقول الإمام ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبيّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم ، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وبيّن في المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيّرة ، وهي القمر وعطارد والشمس والمريخ والمشتري وزحل ، وأشدهم إضاءة وأشرفهن عندهم : الشمس ثم القمر ثم الزهرة ، فبيّن أولا صلوات الله وسلامه عليه ، أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ، ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة ، لماله في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن

__________________

(١) محمد حسنى : المرجع السابق ص ٤٠ ـ ٤١.

(٢) عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ـ القاهرة ص ٨٠.

١٢١

الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال ، ومثل هذه لا تصلح للإلهية ، ثم انتقل إلى القمر فبيّن فيه مثل ما بيّن في النجم ، ثم انتقل إلى الشمس كذلك ، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع : «قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن ، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ، أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، وخالق كل شيء ، وربه ومليكه وإلهه ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١).

وقال الإمام الزمخشري : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب ، فأراد أن ينبههم على ضلالهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى ألا يكون شيء منها إلها ، وأن وراءها محدثا أحدثها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها ، وقوله : «هذا ربي» قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق ، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة (٢) ، وقال أبو حيان في بحره : لما أوضح لكم أن هذا الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا ، ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ ، فرأى القمر أول طلوعه ، ثم لما غاب ارتقب الشمس إذ كانت أنور من القمر وأضوأ ، وأكبر

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٢) تفسير الكشاف ٢ / ٣١.

١٢٢

جرما وأعم نفعا ، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم ، وبيّن أنها مساوية للنجم في صفة الحدوث (١).

وأما الوجه الثاني : فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، قال هذا على سبيل الاستفهام الإنكاري والتوبيخ للقوم ، وتقديره أهذا ربي الذي تزعمون ، وقد جرى العرف على إسقاط حرف الاستفهام ، وهو كثير في كلامهم ، ومن هذا القبيل ، قوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) ، يعني أفهم الخالدون ، والمعنى فيما نحن بصدده ، أيكون هذا ربا ، ودلائل النقص فيه ظاهرة. ويقول الإمام النسفي : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى شيئا منها ليس بإله ، لقيام دليل الحدوث فيها ، ولأن محدثا أحدثها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ، فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه قال : «هذا ربي» أي قال لهم : هذا ربي في زعمكم ، أو المراد أهذا استهزائهم ، وإنكار عليهم ، والعرب تكتفي عن حرف الاستفهام بنغمة الصوت ، والصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه ، مع علمه أنه مبطل ، فيحكي قوله ، كما هو ، غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحوار ، وأنجى من الشعب ، ثم يكر عليه بعد حكايته ، فيبطله بالحجة ، فلما أفل قال : «لا أحب الآفلين» أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال ، لأن ذلك من صفات الأجسام ، «فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي ، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» ، نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلها ، فهو ضال ، وإنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال ، لأن الاحتجاج به أظهر ، لأنه انتقال مع

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ٤ / ١٦٧.

١٢٣

خفاء واحتجاب ، فلما رأى الشمس بازغة قال : «هذا ربي» ، وإنما ذكره لأنه أراد الطالع ، أو لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر ، لأنهما شيء واحد معني ، وفيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث ، ولهذا قالوا : في صفات الله تعالى علام ، ولم يقولوا علامة ، وإن كان الثاني أبلغ ، تفاديا من علامة التأنيث ، «فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» ، أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها (١).

وأما الوجه الثالث : لو كان إلها ، كما تزعمون ، لما غاب ، فهو كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ، يعني عند نفسك وبزعمك ، وقد جرى العرب على إضمار القول ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا).

وأما الوجه الرابع : أن في هذه الآية إضمارا تقديره : يقولون : هذا ربي ، أي يقولان : ربنا تقبل منا (٢).

على أن هناك أخيرا وجها خامسا ، يذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى قال في حق إبراهيم : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، هذا فضلا عن تشبيه إراءة الله تعالى إياه هذا الملكوت وما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه وقومه في عبادة الأصنام ، ومن إسناد هذه الإراءة إلى الله تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها ، ومن تعليل الإراءة بما تقدم ، ومن التعقيب على ذلك بمحاجة قومه ، وقوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم (٣) ، كل هذا وغيره ، فضلا عن منزلة إبراهيم العالية عند الله تعالى ، واتخاذ إياه خليلا ، وأنه كان أمة قانتا لله

__________________

(١) تفسير النسفي ٢ / ١٩ ـ ٢٠.

(٢) محمد حسني : المرجع السابق ص ٤١.

(٣) تفسير المنار ٧ / ٤٦٥.

١٢٤

حنيفا ، ثم أمر الله تعالى لأشرف خلقه سيدنا ومولانا وجدنا محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن اتبع ملة إبراهيم (١) ، كل ذلك وغيره من أوصاف إبراهيم من القرآن الكريم ، إنما يؤكد ، التأكيد كل التأكيد ، أنه من المحال ، بحال من الأحوال ، أن يعبد إبراهيم الكواكب ، ويتخذها ربا ، وأما قوله : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» ، فإن الأنبياء ، عليهم‌السلام لا يسألون الله التثبيت ، ومنه قوله : «واجنبني وبنّي أن نعبد الأصنام».

وأخيرا ، وكما يقول ابن كثير في تفسيره : كيف يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) (٢) ، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «كل مولود يولد على الفطرة» ، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله إني خلقت عبادي حنفاء» ، وقال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى) ، فإذا كان في حق سائر الخلق ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، ناظرا في هذا المقام ، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بلا شك ولا ريب ، ومما يؤيده أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك ، لا ناظرا ، قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ، وَسِعَ رَبِّي كُلَ

__________________

(١) انظر : سورة النساء : آية ١٢٥ ، الأنعام : آية ١٦١ ، هود : آية ٧٥ : النحل : آية ١٢٠ ، ١٢٣ ، الأنبياء : آية : ٥١ ، الممتحنة : آية ٤.

(٢) سورة الأنبياء : آية ٥١ ـ ٥٢ ، وانظر : العمران : آية ٩٥ ، النساء : آية ٩٥ ، النساء : آية ١٢٥ ، الأنعام : آية ١٦١ ، النحل : آية ١٢٠ ـ ١٢٣.

١٢٥

شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ، وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ، وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١).

وهكذا يختم القرآن الكريم هذا الفصل من قصة إبراهيم مع قومه (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) يعني ما جرى بين إبراهيم وقومه ، واستدل به على حدوث الكواكب والشمس والقمر بالأفول ، وكانت هذه هي الحجة التي ألهمها الله تعالى إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه ، ولقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه ، وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله ، ولا أنه صاحب القوة والسلطان في الكون ، ولكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة ، فلما واجههم إبراهيم بأن من كان يخلص نفسه لله ، لا يخاف من دونه ، فأما من يشرك بالله فهو أحق بالمخافة ، لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها الله له وألهمه إياها ، سقطت حجتهم ، وعلت حجته ، وارتفع إبراهيم على قومه عقيدة وحجة ومنزلة ، وهكذا يرفع الله من يشاء درجات ، متصرفا في هذا بحكمته وعلمه (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢).

وهكذا يبدو واضحا من هذه المناظرة التي دارت بين إبراهيم وقومه ، أن الأنبياء ، عليهم‌السلام ، قد عمدوا إلى طرق خاصة في الإقناع ، وأن أبي الأنبياء ، عليه‌السلام ، قد عمد إلى طريقة تدل على صفاء ذهنه ، وسرعة بديهته ، وهي طريقة المجاراة والتظاهر بالتصديق ، ليصل إلى غايته ، وهي إظهار فساد تلك العبادات ، وكاشفة عابديها بأن آلهتهم غير جديرة بالعبادة أو

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٨٠ ـ ٨٣ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤ (بيروت ١٩٨٦).

(٢) في ظلال القرآن ٢ / ١١٤٢.

١٢٦

التقديس ، لأنها آلهة زائفة يقوم دليل الحدوث فيها ، ذلك بأن لها محدثا أحدثها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها (١).

(٢) موقف إبراهيم من عبادة الأصنام : ـ كان قوم إبراهيم ، كما أشرنا من قبل ، يعبدون الأصنام ، كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم ، ومن ثم فقد أرسله الله تعالى إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ، أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ، فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢).

__________________

(١) محمد حسني : المرجع السابق ص ٤٣.

(٢) سورة العنكبوت : آية ١٦ ـ ٢٧ ، وانظر : تفسير النسفي ٣ / ٢٥٢ ـ ٢٥٦ ، تفسير القرطبي ص ٥٠٥١ ـ ٥٠٥٦ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٥٥ ـ ٤٥٨ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٧٢٦ ـ ٢٧٣٣ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٦٤٩ ـ ٦٥٦ (وانظر : عن موقف إبراهيم من عبادة الأصنام : سورة ـ

١٢٧

وهكذا تشير هذه الآيات الكريمة بوضوح إلى دعوة أبي الأنبياء ، سيدنا إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسومة الخطوط واضحة المعالم ، بشر فيها وأنذر ، غير أن القوم قد تملكهم الغرور ، وركبوا رءوسهم ، وقد عزّ عليهم أن يرجعوا إلى الحق أو يثوبوا إلى الرشد ، وهم يحسبون أن آلهتهم تنجيهم من عذاب أليم ينتظرهم ، ولم تكن تلك الآلهة التي أصموا آذانهم عن كلمة الحق فيها ، غير نصب وأوثان من خشب وحجارة لا تنفع ولا تضر ، لكنهم كانوا يعظمونها ويقدسونها ، ويقدمون لها القرابين ، ويركعون أمامها ويسجدون ، ومن ثم فقد أعدوا عدتهم لمقاومة دعوة إبراهيم ، حفاظا على أوثانهم وأصنامهم.

وهنا لعل من الأفضل هنا أن نناقش موقف إبراهيم عليه‌السلام منهم ومن أوثانهم ، وكذا موقفهم منه ، عليه‌السلام ، في شقين ، الأول مع أبيه ، والآخر مع قومه :

(أ) بين إبراهيم وأبيه : ـ كان والد إبراهيم في طليعة عابدي الأصنام وصانعيها من الأخشاب ، والداعين لها ، وكان يعرضها على الناس ليشتريها منه من يرغب فيها ، وقد عزّ على إبراهيم أن يكون والده (١) زعيما من زعماء المشركين ، وإماما من أئمة الإفك المبين ، وهو أقرب قومه إليه ، وأولى الناس بتصديق دعوته ، والإيمان برسالته ، فرأى إبراهيم عليه‌السلام من واجبه أن يبصر والده بأمره ، ويحذره عاقبة كفره بما فيه الخير له ، برأيه ، وحرصا على أن يكون مسلكه سليما ، فيتبع الدين القويم والطريق المستقيم ، وقرر أن تكون مفاتحته والده في الأمر بالحسنى ، إذ ما كان له أن يرشده إلى الحق بغيرها ، وهو المؤمن بما للأبوة من جليل القدر ، ورفعة الشأن.

__________________

ـ الأنعام : آية ٧٤ ، مريم : آية ٤١ ـ ٤٨ ، الشعراء : آية ٦٩ ـ ٨٩ ، الصافات : آية ٨٣ ـ ٩٩).

(١) انظر الآراء التي دارت حول «آزر» وهل هو والد الخليل أم عمه؟ (محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٥٣ ـ ٦١.

١٢٨

ويقص علينا القرآن الكريم ، كيف بدأ النبي الكريم دعوته مع أبيه بلهجة تسيل أدبا ورقة ، يهديه بها صراطا مستقيما ، فأشار إلى الأصنام مبينا أنها لا تنفع ولا تضر ، ولا تسمع ولا ترى ، ولا تشعر بعابد يعبدها ، أو عاص يعصاها ، ثم بيّن لأبيه أنه ليس مخترعا للدعوة ، وأنها من لدن عليّ قدير ، وأنه قد تلقى من العلم ما لم يتلق أبوه ، وأنه لا ضرر عليه إذا اتبع ملة ولده أو عمل برأيه ، واختتم نصحه برجاء تقدم به إلى أبيه أن يحذو حذوه ، ويسلك سبيله ، وإلا فالطريق التي يسلكها غير طريق الهدى ، هي طريق ملأى بالأشواك ، وهي طريق الشيطان الرجيم ، وهو عدو لا يرشد إلى خير ، ولا يبتغي إلا إيقاع الناس في الشر وإهلاكهم ، فقد عصى ربه فطرده وأبعده عن رحمته ، فتوعّد الناس بالإغواء والضلالة (١).

ولكن «آزر» رفض الدعوة ، بل وأصر على عناده ، وصمم على كفره ، وتجاهل بنوته ، وأنكر إشفاقه به ، ونصحه له ، وهدّده إن لم ينته عن دعوته هذه ليرجمنه ، وليهجرنه مليا ، وكان آزر في ذلك مغمضا عينيه عن اعتبارات النبوة ، متجاهلا إياها ، فاستنكر النصيحة ، وسفه الرأي ، وسخر من الشرعة الجديدة ، فما كان من الخليل ، تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ، إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وأن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

ولنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة مريم ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ، قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، قالَ

__________________

(١) محمد حسني : المرجع السابق ص ٣١.

١٢٩

سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (١).

وهكذا تشير هذه الآيات الكريمة إلى شخصية إبراهيم الرضي الحليم ، تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي يحكي القرآن الكريم ترجمتها بالعربية ، وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه (٢) ، ويصف الله تعالى خليله إبراهيم بأنه كان صديقا نبيّا ، فجمع الله له بين الصديقية والنبوة ، فالصديق كثير الصدق ، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله ، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به ، وذلك يستلزم العمل العظيم الواصل إلى القلب ، المؤثر فيه الموجب لليقين ، والعمل الصالح الكامل ، ولا غرو فإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، أفضل الأنبياء والمرسلين قاطبة بعد سيدنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب (٣).

وقال الإمام الرازي في التفسير الكبير : وإيراد الكلام يلفظ «يا أبت» في كل خطاب ، دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب ، وإرشاده إلى الصواب ، وقد رتب إبراهيم الكلام في غاية الحسن ، لأنه نبهه أولا إلى بطلان عبادة الأوثان ، ثم أمره باتباعه في الاستدلال وترك التقليد الأعمى ، ثم ذكره بأن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام ، مع رعاية الأدب والرفق ، وقوله «إني أخاف» دليل على

__________________

(١) سورة مريم : آية ٤١ ـ ٤٨ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٣ / ١٩٨ ـ ٢٠٠ ، تفسير القرطبي ص ٤١٤٩ ـ ٤١٥٣ ، تفسير النسفي ٣ / ٣٦ ـ ٣٨ ، تفسير ابن ناصر السعدي ٥ / ٥٣ ـ ٥٦ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣١٠ ـ ٢٣١٣ ، صفوة التفاسير ٢ / ٢١٨ ـ ٢١٩ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٢٥ ـ ٢٢٧ ، تفسير البيضاوي ٢ / ١٦ ـ ١٨.

(٢) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣١١.

(٣) عبد الرحمن بن ناصر السعدي : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ٥ / ٥٤ (مكة المكرمة ١٣٩٨ ه‍).

١٣٠

شدة تعلق قلبه بمصالحه ، قضاء لحق الأبوة (١).

غير أن أباه ، كما يقول الإمام البيضاوي ، قابل استعطافه ولطفه بالفظاظة وغلظة العناد ، فناداه باسمه ، ولم يقابل قوله «يا أبت» ب «يا ابني» وقدّم الخبر وصدره بالهمزة لانكار نفس الرغبة ، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل (٢).

وهكذا تشير الآيات الكريمة بوضوح ، كيف راعى إبراهيم الخليل المجاملة والرفق والخلق الحسن كما أمر ، ففي الحديث «أوحى إلى إبراهيم إنك خليلي ، حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار» ، فطلب من أبيه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه ، موقظ لإفراطه وتناهيه ، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة ، وهم الأنبياء ، كان محكوما عليه بالغي المبين ، فكيف بمن يعبد حجرا أو شجرا لا يسمع ذكر عابده ، ولا يرى هيآت عبادته ، ولا يدفع عنه بلاء ، ويقضي له حاجة ، ثم ثني بدعوته إلى الحق مترفقا به ، متلطفا ، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكنه قال : إن معي شيئا من العلم ليس معك ، وذلك علم الدلالة على الطريق السّوى ، فهب أني وإياك في مسير ، وعندي معرفة بالهداية دونك ، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه ، ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم وزينها لك ، فأنت عابده في الحقيقة ، ثم ربع بتخويفه العاقبة وما يجره ما هو فيه من التبعية والوبال ، مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به ، وأن العذاب لاحق به ، بل قال أخاف أن يمسك عذاب بالتفكير المشعر بالتقليل ، كأنه قال إني أخاف أن يصيبك نفيا من عذاب الرحمن ، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٢٦.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ / ١٧.

١٣١

جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب ، كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه ، وصدّر كل نصيحة بقوله : يا أبت ، توسلا إليه واستعطافا ، وإشعارا بوجوب احترام الأب ، وإن كان كافرا (١).

غير أن الخلاف بين أبي الأنبياء وأبيه إنما كان عميق الجذور ، فإذا أبو إبراهيم يقابل الدعوة بالاستنكار والتهديد والوعيد ، بل ويأمر ولده بالهجرة ، ما دام راغبا عن آلهته ، حيث لا أمل في اتفاق ، ولم يغضب إبراهيم الحليم ، ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه «قال : سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ، وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا» ، وهكذا يرد الخليل عليه‌السلام على تهديد أبيه «سلام عليك» ، فلا جدال ولا أذى ، ولا رد للتهديد والوعيد ، سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولى الشيطان ، بل يرحمك فيرزقك الهدى ، وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي ، وإذا كان وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتزلك أنت وقومك ، وأعتزل ما تدعون من دون الله من الآلهة ، وأدعو ربي وحده ، بسبب دعائي لله ، ألا يجعلني شقيا (٢).

وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام ، وبعد أن بنى المسجد الحرام ، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام ، في قوله «ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب» (٣).

ولم يجد سيدنا إبراهيم من بين القوم من يؤمن به ، إلا ابن أخيه لوط ، عليه‌السلام ، يقول سبحانه وتعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى

__________________

(١) تفسير النسفي ٣ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣١٢.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٢٠٠.

١٣٢

رَبِّي ، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ، ومن ثم فقد اعتزل إبراهيم أهله ، وودع والده ، ثم هجره لحكمة هي حرصه على أن لا يكون في إقامته مع أبيه معنى الرضا بعصيانه وكفرانه.

ويكتب الله ، جل جلاله ، لخليله عليه‌السلام ، وكذا لابن أخيه لوط ، النجاة من القوم الكافرين ، بعد أن أعدوا العدة لإحراقه (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٢).

وليس في هذه الآيات الكريمة ما يشير إلى هجرة أبي إبراهيم معه ، ولو / آمن أبوه به ، ثم هاجر معه ، لكان ذلك حدثا هاما جديرا بالتنصيص عيه ، تكريما له ولإبراهيم في نفس الوقت ، ولم يكن ابن أخيه لوط أقرب إليه من أبيه ، حتى ينال وحده شرف الهجرة ، ومثوبة التوحيد (٣).

بل إن القرآن الكريم ليشير بصراحة ووضوح إلى أن إبراهيم إنما تبرأ من أبيه ، بعد ما تبيّن له أنه عدو لله قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٤) ، هذا فضلا عن أن القرآن الكريم قد أمر المسلمين أن يقتدوا

__________________

(١) سورة العنكبوت : آية ٢٦.

(٢) سورة الأنبياء : آية ٦٨ ـ ٧١ ، وانظر : تفسير البيضاوي ٢ / ٧٦ ـ ٧٧ ، تفسير القرطبي ص ٤٣٤٣ ـ ٤٣٤٥ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٨٧ ـ ٢٣٨٨ ، تفسير النسفي ٣ / ٨٣ ـ ٨٥ ، صفوة التفاسير ٢ / ٢٦٧ ـ ٢٦٩ ، زاد المسيرة ٥ / ٣٦٧ ـ ٣٦٩ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٤ ـ ٢٩٦.

(٣) محمود عمارة : اليهود في الكتب المقدسة ـ القاهرة ١٩٦٩ ص ١٢ ـ ١٣.

(٤) سورة التوبة : آية ١١٤ ، وانظر : تفسير الطبري ١٤ / ٥١١ ـ ٥٣٦ ، تفسير القرطبي ص ٣١١٢ ـ ٣١١٥ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٦١٠ ـ ٦١٤ ، تفسير المنار ١١ / ٤٥ ـ ٤٩ ، مسند الإمام أحمد ٢ / ١١٦ (طبعة دار المعارف) ، صفوة التفاسير ١ / ٥٦٥ ـ ٥٦٦ ، في ظلال القرآن ٣ / ١٧٢١ ـ ١٧٢٢.

١٣٣

بإبراهيم والذين معه ، إلا من استغفاره ، قال تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (١).

وحكمة تحريم الاستغفار للمشركين أن الله تعالى لا يغفر الشرك أبدا ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) ، ومن ثم فطلب الغفران للمشركين معدوم الفائدة ، ويوهم أمرا بالملإ ، وهو أنه يجوز شرعا أن يغفره ، ولما كان هذا الخطر يعارضه استغفار سيدنا إبراهيم لأبيه ، وقد كان من الكافرين ، وأحكام الأصول لا نسخر فيها ، فيشعر استغفاره ذلك بجوازه ببيّن الله عذره في ذلك الاستغفار بأنه استغفر لوالده بناء على وعد من الوالد أن يتوب ، فلما تبيّن له أنه عدو لله ولم يتب ، تبرأ منه ، فليس ما فعله دليلا للجواز ، لأنه إنما يكون دليلا إذا استغفر له ، وهو يعلم أنه كافر ، فالحكم بأن الله لا يغفر الشرك وأن طلبه غير جائز لم يتغير ، فلا يجوز طلبه ، ولا ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يطلبوه ، ولو لأقاربهم (٢).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أمرين ، يختلف القرآن فيهما عن التوراة ، الواحد : أن أبا إبراهيم لم يهاجر أبدا مع النبي الكريم ، فضلا عن عدم الإيمان به ، والآخر : أن الهجرة إنما كانت «إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين» ، وليست هذه الأرض بحال من الأحوال «حران» (حاران) ،

__________________

(١) سورة الممتحنة : آية ٤ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، تفسير روح المعاني ٢٨ / ٦٩ ـ ٧٣ ، تفسير الطبري ٢٨ / ٦٢ ـ ٦٣ ، تفسير الطبرسي ٢٨ / ٤٧ ـ ٤٩ ، تفسير الزمخشري ٤ / ٩٠ ، تفسير القاسمي ١٦ / ٥٧٦٥ ـ ٥٧٦٦ ، تفسير القرطبي ص ٦٥٣٥ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٥٤٣ ـ ٥٤.

(٢) محمد حسني : المرجع السابق ص.

١٣٤

كما ذهب إلى ذلك كعب الأحبار ، وإنما هي موضع خلاف بين المفسرين ، فيما بين مكة وبيت المقدس ومصر (١) ، وكلها أماكن حط الخليل رحاله فيها بعد هجرته من حاران ، موطنه الأصلي ، وليس أور التي في منطقة الفرات الأدنى ، ومن ثم فقد كانت هجرة الخليل من حاران إلى كنعان ، ثم مصر ، فكنعان فالحجاز ، فكنعان مرة ثالثة ، حيث استقر هناك في حبرون (مدينة الخليل الحالية) (٢).

(ب) بين إبراهيم وقومه : ـ لا ريب في أن جدنا الأكبر ، سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، إنما كان عظيما بكل ما وسعته هذه الكلمة من معان ، ولم تكن الشدائد التي وقفت في طريقه ، والأهوال التي اعترضت سبيله ، لتقل من غربه أو توهن من عزمه ، فلقد كان ، عليه‌السلام ، في أحرج موقف حيال من بعث بالحق إليهم ، ذلك أن قومه وأهله ، وعلى رأسهم أبوه ، كل أولئك قد نقم عليه دعوته وضاق به صدرا وضاعف من دقة موقفه إزاء المناوءيين ، تلك الغلطة التي بدت في لهجة أبيه ، وذلك التهديد الذي قابل به دعوته ، وأمره إياه بهجره وإصراره على ما هو فيه من ضلال وعبادة أصنام ، كما رأينا من قبل ، قد حزت كل هذه الأحداث في نفس إبراهيم ، لكنها لم تكن لترجعه القهقري ، أو لتدخل على قلبه اليأس ، أو لتفقده الأمل في نصر الله تعالى ، فصمد كالطود الراسخ ، وزاده الإصرار من جانب الكفار ، قوة على قوة ، وإيمانا مع إيمان ، فاعتزل أباه ، واعتز بالله ، ومضى في طريقه غير وجل أو هياب ، موطنا النفس على تحمل المكاره ، مستنصرا بخالقه وباعثه إلى الناس رسولا نبيّا (٣).

__________________

(١) انظر : تفسير القرطبي ص ٤٣٤٥ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٧٦ ـ ٧٧ ، ابن كثير : قصص الأنبياء ١ / ١ ـ ١ ـ ٢ ـ ١ (القاهرة ١٩٦٨) ، تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٦.

(٢) انظر : عن موطن الخليل وهجراته (محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٦١ ـ ١٣٢).

(٣) محمد حسني : المرجع السابق ص ٤٨.

١٣٥

وهكذا كانت مواقف إبراهيم مع قومه متعددة ، فتارة يحاج والده ، وتارة يحاج الجمهور ، وتارة يحاج الملك ، وتارة يفعل ما يستفزهم إلى محاجته ، كتكسير الأصنام ليحاجوه في شأنها ، إلى أن أوقدوا النار لتحريقه ، فنجاته منها ، بعد أن ألقى فيها (١).

ويقص علينا القرآن الكريم ، في آيات كريمة من سورة مريم (٢) ، كيف بدأ إبراهيم الخليل عليه‌السلام دعوته مع أبيه يهديه بها صراطا مستقيما ، كما أشرنا من قبل ، وكيف أن أباه قد رفض الدعوة ، وهدده إن لم ينته عنها ليرجمنّه وليهجرنه مليا ، فما كان من أبي الأنبياء ـ تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ـ إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وإلا أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم بين الخليل وقومه ، حين بذل أبو الأنبياء الجهد ، كل الجهد ، لصرفهم عن عبادة الأوثان ، والاتجاه إلى عبادة الله ، الواحد القهار ، إلا أن القوم ظلوا في طغيانهم يعمهون ، مما دفع الخليل إلى أن يجرب معهم وسائل حسنة ، ومن ثم فقد حطم الأصنام وترك كبيرهم ، لعل القوم يفكرون في هذا الموقف الجديد ، أملا في أن يهديهم الله سواء السبيل ، فيعرفوا أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ، ولا تمنع عنها ضرا ، فضلا عن أن يكون ذلك للقوم أنفسهم ، إلا أن هذه العقول المتحجرة ، لم تزد على أن تلجأ إلى العنف لنصرة أصنامها ، ولم تجد لها مخرجا من الموقف الجديد ، إلا أن تلقي بإبراهيم في نار ، ظنوا أنها ستكون القاضية على الخليل ، وأنها الحل السعيد لمشكلتهم ، مع هذا الذي سفه عقولهم وحطم أصنامهم ، دون أن يفكروا مرة في مقابلة الحجة بالحجة ، ودون أن يرجعوا إلى الحق ما دام الحق مع إبراهيم ، وتلك ـ ويم الله ـ عادة من طمس الله على قلوبهم ، وأعمى أبصارهم ، في كل زمان ومكان ، لا

__________________

(١) عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ٨١.

(٢) سورة مريم : آية ٤١ ـ ٤٨.

١٣٦

يعرفون إلا القوة الطاغية ضد العقول المستنيرة ، التي تبغي لهم الخير والفلاح.

ولنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ، قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ، قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ، قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ، فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ، قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ، قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ، قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ، قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ، قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ؛ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ، قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (١).

وتقدم لنا الآيات الكريمة كما يقول صاحب الظلال حلقة من سيرة أبي الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليه ، تبدأ بالإشارة إلى سبق هداية إبراهيم إلى الرشد ، ويعني به الهداية إلى التوحيد ، فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة «الرشد» في هذا المقام ، ثم تشير إلى محاجة إبراهيم قومه «إذ قال

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية ٥١ ـ ٧٠ ، وأنظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩١ ـ ٢٩ ، تفسير القرطبي ص ٤٣٣ ـ ٤٣٤٥ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٨٢ ـ ٢٣٨٨ ، صفوة التفاسير ٢ / ٢٦٦ ـ ٢٦٨ ، تفسير النسفي ٣ / ٨١ ـ ٨٤ تفسير الخازن ٣ / ٢٤٠ ـ ٢٤٢ ، تفسير ابن ناصر السعدي ٥ / ١١٨ ـ ١٢٢ ، تفسير الجلالين ص ٤٢٥ ـ ٤٢٧.

١٣٧

لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون» ، فكانت قولته هذه دليل رشده ، فقد سمى تلك الأحجار والخشب باسمها ، فقال «هذه التماثيل» ، ولم يقل إنها آلهة واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة ، وكلمة «عاكفون» تفيد الانكباب الدائم المستمر ، وهم لا يقضون وقتهم كله في عبادتها ، ولكنهم يتعلقون بها ، فهو عكوف معنوي لازمني ، وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذه التماثيل.

وكان جوابهم وحجتهم أن «قالوا إنا وجدنا آباءنا له عابدين» ، وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة ، في مقابل حرية الإيمان ، وانطلاق للنظر والتدبر ، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية ، فالإيمان بالله طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية ، والوراثات المتحجرة التي لا تقوم على دليل «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ، وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها ، ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها ، فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم ، إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق.

وعند ما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير ، وبهذه الصراحة في الحكم ، راحوا يسألون : «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» ، وهو سؤال المزعزع العقيدة الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه ، لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه ، ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد ، فهو لا يدري أي الأقوال حق ، والعبادة تقوم على اليقين ، لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل ، وهذا هو هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير.

فأما خليل الرحمن ، صلوات الله وسلامه عليه ، فهو مستيقن واثق عارف بربه ، متمثل له في خاطره وفكره ، يقولها كلمة المؤمن المطمئن

١٣٨

لإيمانه «قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» ، فهو رب واحد ، رب السموات والأرضين ، ربوبية ناشئة عن كونه الخالق ، فهما صفتان لا تنفكان ، فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة ، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب ، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق ، وأن الخالق هو الله ، ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق وأن الخالق هو الله ، ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا وهم يعلمون.

ثم يعلن إبراهيم عليه‌السلام لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار ، أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمرا لا رجعة فيه «وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» ، ويترك ما اعترفه من الكيد للأصنام مبهما لا يفصح عنه ، ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه ، ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدا ، فتركوه ، «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» ، وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة ، إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم ، لعلهم يسألونه كيف وقعت الواقعة ، وهو حاضر ، فلم يدفع عن صغار الآلهة ، ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها ، فيرجعون إلى صوابهم ، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت.

وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا ، إلا ذلك الكبير ، ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ، ولا إلى أنفسهم يسألونها ، إن كانت هذه الآلهة فكيف وقع لها ما وقع ، دون أن تدافع عن نفسها شيئا ، وهذا كبيرهم كيف لم يدفع عنها؟ ذلك لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير ، ولأن التقليد قد غلّ أفكارهم عن التأمل والتدبر ، فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حط آلهتهم ، وصنع بها هذا الصنيع «قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ، وعندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه

١٣٩

عبادة التماثيل ، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ».

ويبدو من هذا أن إبراهيم عليه‌السلام كان شابا صغير السن ، حينما آتاه الله رشده ، فاستنكر عبادة الأصنام وحطمها ، ولكن أكان قد أوحى إليه بالرسالة في ذلك الحين؟ أم هو إلهام هداه إلى الحق قبل الرسالة ، فدعا إليه أباه ، واستنكر على قومه ما هم فيه؟ وهذا هو الأرجح ، فيما يرى صاحب الظلال ، وهناك احتمال أن يكون قولهم «سمعنا فتى» يقصد به إلى تصغير شأنه ، بدليل تجهيلهم لأمرهم في قولهم «يقال له إبراهيم» ، للتقليل من أهميته ، وإفادة أنه مجهول لا خطر له؟ قد يكون هذا هو المراد ، وهذا ما نميل إليه ونرجحه ، ولكن الأستاذ سيد قطب ، يرجح أنه كان فتى حديث السن في ذلك الحين.

ثم أرادوا التشهير به ، وإعلان فعلته على رءوس الأشهاد «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ، قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» ، فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة ، وهي جذاذ مهشمة ، ومن ثم فقد أراد إبراهيم أن يسخر منهم «قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ».

ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا ، وردهم إلى شيء من التدبر والتفكير «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام ، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ، ومن ثم فإن الخليل عليه‌السلام يجيبهم بعنف وضيق ، على غير عادته وهو الصبور الحليم ، لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم «قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا

١٤٠