دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالقرآن الكريم ، ولم يكن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا قومه ، على دراية بقصة الطوفان هذه ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (١).

ثم أليس كل ما جاء في هذه الدراسة يدل بوضوح على هيمنة القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية ـ فما بالك بالكتابات الإنسانية ـ مصداقا لقوله تعالى ، مخاطبا الحبيب المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ، بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (٢) ، ثم أليس هو الذي «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (٣).

__________________

(١) سورة هود : آية ٤٩.

(٢) سورة المائدة : آية ٤٧.

(٣) سورة فصلت آية ٤٢.

١٠١
١٠٢

الباب الثاني

سيرة إبراهيم الخليل عليه‌السلام في العراق

١٠٣
١٠٤

الفصل الأول

معبودات قوم إبراهيم

لعل من الأفضل أن نشير هنا ، وقبل الحديث عن معبودات قوم إبراهيم ، إلى أننا قدمنا في الجزء الأول من هذه السلسلة وغيرها ، دراسات مفصلة عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، عن : نسبه وعصره ، فضلا عن موطنه الأصلي ، وهجراته في بلاد الشام ومصر والحجاز (١) ، ومن ثم فلسنا في حاجة إلى تكرار ذلك في هذا الجزء الرابع من سلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم» ، والذي سوف تقتصر الدراسة فيه عن دعوة أبي الأنبياء ، إبراهيم الخليل ، عليه‌السلام ، في موطنه الأصلي ، في العراق القديم.

معبودات قوم إبراهيم : ـ من الحقائق المتفق عليها في تاريخ أبي الأنبياء ، عليه‌السلام ، أنه ولد ونشأ في العراق ، كما أنه تلقى وحي ربه وبلّغ رسالاته ، أول ما بلغها ، في العراق كذلك ، وأن قومه إنما كانوا يعبدون الأصنام ، فضلا عن عبادة الكواكب.

هذا ويكاد يتفق المؤرخون أن أهل بلاد الرافدين (بلاد النهرين ـ ميزوبوتاميا ـ بارابوتاميا) قد نسبوا إلى معبوداتهم صفات البشر ، والتي لا تختلف عنها إلا أنها أكثر تجريدا وكمالا ، كما كانت ثياب الآلهة كثياب البشر ،

__________________

(١) قدم المؤلف دراسة مفصلة عن سيدنا إبراهيم عليه‌السلام شملت الموضوعات التالية (١ ـ إبراهيم بين التوراة والقرآن الكريم ٢ ـ اسم الخليل ونسبه ٣ ـ موطن الخليل ٤ ـ عصر الخليل ٥ ـ هجرات الخليل ٦ ـ الرحلة إلى مصر ٧ ـ رحلة الخليل إلى الحجاز ٩ ـ قصة الذبيح ١٠ ـ زوجات الخليل) ، وذلك في كتابين لنا. (انظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ـ الجزء الأول ـ الإسكندرية ١٩٧٨ ص (٤٩ ـ ١٨٤) ، دراسات تاريخية من القرآن الكريم ـ الجزء الأول ـ في بلاد العرب ـ الرياض ١٩٨٠ ص (١١٣ ـ ١٨٣).

١٠٥

ولكن ثياب الآلهة أبهى من ثياب الأمراء ، ويصدر عنها بريق يخطف الأبصار ، وللآلهة أسر وأسلحة ، وصراعها كصراع الناس ، ولكنه بالطبع على نطاق أعظم وأهول ، ومع ذلك فقد ميّز القوم آلهتهم عن البشر بالخلود ، وبأنهم كانوا خيرين دائما ، ولم يكن الشر من عملهم ، بل من أرواح خبيثة تفوق البشر ، ولكنها دون الآلهة.

وكان الثالون الأعظم بين معبودات بلاد النهرين يتكون من : آنو وإنليل وإيا.

(١) آنو : ـ اعتبر القوم منذ أقدم العصور معبودهم «آنو» (وأصله من السومرية آن) بمثابة الإله الأعظم ، وكان دائما يتصدر قوائم الآلهة ، ويلقب خاصة بملك السماوات ، إلى جانب لقبيه إله السماوات وأبي السماوات ، وعرشه في قمة قبة السماء ، وله السلطة العليا ، يخضع له آلهة السماء وآلهة الأرض معا ، وهو الذي يخوّل لملوك الأرض السلطة التي يحكمون بها ، ونظيره «زيوس» لدى اليونان ، وامرأته هي الإلهة «أنتم» ، واسمها مأخوذ من اسمه ، بزيادة تاء التأنيث.

وكانت مدينة «أوروك» (وهي أونوك في السومرية ، وإرك في التوراة ، والوركاء في الوقت الحاضر) هي المركز الرئيسي في العصور القديمة لعبادتهما ، وعند ما انتقل مركز الثقل السياسي من سومر إلى بابل ، أصبح «مردوك» إله بابل ، سيد الآلهة ، وبالتالي فقد حل محل «آنو» ، ومع ذلك فقد أطلق الملك البابلي الشهير «حمورابي» (١٧٢٨ ـ ١٦٨٦ ق. م) على «آنو» لقب الإله العظيم في استهلال قانونه.

هذا وتشير أساطير القوم إلى أن «آنو» إنما كان يسكن قمة قبة السماء (سماء آنو) ، وكان يحرس بوابته معبودان هما : تموز وجيزيدا ، وكان يوضع أمامه : الصولج والعصا والتاج وعصا القيادة ، قبل نشوء الملكية على وجه الأرض ، وحين كان الآلهة في خوف من الطوفان هربوا وصعدوا إلى سماء

١٠٦

آنو ، وجثوا ، كما يفعل الكلب على الحائط ، ورقدوا هناك حتى اشتموا الرائحة الجميلة للضحية.

(٢) إنليل : ـ وهو أكبر معبودات السومريين (ومعنى اسمه المركب «إن ـ ليل» سيد الريح) ولما كانت الريح تهب ، في اعتقادهم ، من الجبل ، فقد سمى «الجبل الكبير» ، ولما كان رمز الجبل في السومرية هو رمز بلد في الأكدية ، فقد لقب إنليل أيضا بسيد البلاد ، وهو لقب حملة من أقدم النصوص السومرية ، واحتفظ به من نقوش بابل وآشور التاريخية والدينية ، وهكذا صار إله الجبل إله الأرض.

ومن ثم فقد فرض إنليل قانونه على سكان الأرض ، وهو قانون ، فيما يزعم القوم ، مكتوب في ألواح القدر ، كما أن إنليل لم يكن يكتف بتحديد مصائر الناس ، وإنما كان أيضا يشرف بنفسه على تنفيذ أحكامه ، وهو أيضا محارب عنيف يلقب بالثور الوحشي ، وهو مستشار الآلهة ، كما أنه هو الذي أحدث الطوفان.

وكانت زوجته «ننليل» ، واسمها مأخوذ من اسمه ، وذلك بوضع (nin) سيدة ، موضع (En) سيد ، وكانت مدينته «نيبور» ، وهي «نفر» الآن (سوم ـ نيبور) في بلاد بابل ، مركز عبادتهما.

(٣) إنكي : ـ كان إنكي هو اسم ثالث إله من الثالوث ، وهو نفسه الإله السامي «إيا» بمعنى «بيت الماء» وإنكي في السومرية بمعنى «سيد الأرض» ، حيث كان القوم يعتقدون ، فيما تروى أساطيرهم ، أن هناك ثلاث أرضين ، الأرض العليا حيث يحكم إنليل ، والأرض السفلى حيث يهيمن المعبود «نرجل» ، والأرض الوسطى التي تقع بين سطح الأرض والأرض السفلى ، وهي مملكة «إنكي» أو «إيا» ، وهو يلقب في النصوص القديمة بملك «إبسو» أي ملك المياه العذبة ، فقد كان السومريون والأكديون يعتقدون أنه يوجد تحت أرضنا ، عند مشارف الأرض الوسطى ، سطح كبير من المياه العذبة

١٠٧

تطفو عليه أرضنا ، وهو الحوض الذي تتدفق منه منابع الجداول والأنهار.

وكان «إيا» (انكي) هو إله السحر والمعوّذ بين الآلهة ، ولا غرو فالماء كان يستعمل في التطهير والقضاء والتنبؤ ، وكان ماء «إبسو» المقدس في معبد مدينة «أريدو» (أبو شهرين الحالين على مبعدة سبعة أميال جنوب غرب مدينة أور) يستخدم كثيرا في طقوس السحر للشفاء أو الوقاية من الأمراض.

وكان «إيا» كذلك إلها للحكمة ، خلق الإنسان من كتلة من الطين (الطمي) ، ثم نفخ فيها نسمة الحياة ، وهو الذي أنقذ البشر من الفناء في زمن الطوفان؟) وعلمهم مختلف الصناعات ، ومنح الذكاء للملوك ، وهو الذي أقام عبادة الآلهة على الأرض.

وكانت زوجته «ننكي» ، ومعنى اسمها في السومرية «سيدة الأرض» ، وقد سميت فيما بعد «دمكينا» ، وكانت مدينة «أريدو» المركز الرئيسي لعبادتهما.

هذا وقد عرف القوم كذلك عبادة الكواكب ، ومن ثم فقد كان هناك ثالوث آخر من أجرام سماوية هي : الشمس والقمر وكوكب الزهرة (١) (نجم الصباح) ، وكان إله القمر يعدّ أقدم آلهة هذا الثالوث ، ويعتبر أبا لإله الشمس وكوكب الزهرة ، وعلى هذا كان إله الشمس أخا للزهرة ، وكانت الزهرة أختا

__________________

(١) سادت جنوب بلاد العرب عبادة ثالوث من الكواكب هي القمر والشمس والزهرة ، ويمثل القمر في هذا الثالوث دور الأب ، كما تمثل الشمس دور الأم ، بينما تمثل الزهرة دور الابن ، وربما كان العرب الجنوبيون متأثرين في هذا الثالوث ببلاد النهرين ، حيث يحتل هذا الثالوث فيها مكانة ممتازة ، وإن كنت أميل إلى أن عبادة التثليث هذه كانت أمرا مشاعا بين سكان المنطقة العربية كلها ، ومن ثم فقد رأيناه في بلاد الرافدين وسورية وفينيقيا ، وإلى حد ما في مصر ، بل إن الرمز الذي اتخذه أهل بابل وآشور وسورية وآسيا الصغرى ، لإله الشمس ، وهو قرص ذو جناحين ، إنما هو رمز الشمس في مصر ، ومع ذلك فربما كان تأثير بلاد الرافدين الديني على جنوب بلاد العرب ، أكبر من تأثير غيرهم من الساميين (محمد بيومي مهران : الديانة العربية القديمة ص ١٩).

١٠٨

له ، وإله الشمس ذكر كأبيه إله القمر ، أما كوكب الزهرة (عشتر) ، وهي تارة نجمة الصباح ، وتارة نجمة المساء ، فقد كان يكتنفها الغموض ، فكانت تارة ذكرا ، وتارة أنثى ، ولكن غلب الجانب الأنثوي ، وقضى على التعارض بين الذكورة والأنوثة بأن اتحدت في شخصها إلهة الحرب (جانب الذكورة) وإلهة الحب (جانب الأنوثة).

(١) إله القمر : ـ يأتي إله القمر عند القوم ، في المرتبة التي تلي «إنكي» (إيا) ، وقد أطلق السومريون والأكديون عليه اسم «سين» وهو اسم سومري نقله الأكديون عن السومريين ، ونظائره السامية هي «ود» لدى عرب الجنوب (١) ، و «سهر» لدى الآراميين ، و «رخ» أو «يرخ» لدى الأموريين ،

__________________

(١) اعتبر عرب الجنوب القمر أبا في الثالوث الكوكبي ، ومن ثم فقد صارت له منزلة خاصة عندهم ، فهو المقدم على غيره ، وهو كبير الآلهة ، وهو الذي ينفرد بالكثرة المطلقة من الأسماء ، والألقاب في الأساطير والطقوس وأسماء الأعلام وغيرها ، وهكذا أصبح الإله القمر مهيمنا على سائر مناحي الحياة ، هيمنة أشبه ما تكون بهيمنة الشمس في الديانات السامية الشمالية ، حتى قيل إن الديانة العربية الجنوبية ديانة قمرية ، وذلك بسبب العوامل الجغرافية والمناخية ، حتى أصبحنا نرى في العربية «القمران» كتعبير يدل على الشمس والقمر.

هذا ويعرف الإله القمر بالإله «ود» عدن المعنيين ، و «المقة» عند السبيئيين ، و «عمّ» في قتبان ، و «سين» في حضرموت ، فأما «ود» فهو في طليعة الآلهة المدونة في نصوص المسند ، وهو إله «معين» الكبير ، فضلا عن قبائل عربية أخرى ، كثمود ولحيان ، كما كان من الأصنام الكبرى في الحجاز عند ظهور الإسلام ، وقد حكى القرآن الكريم عنه بأنه إله جاهلي قديم ، وجد قبل زمن الطوفان ، وقد عبده قوم نبي الله نوح عليه‌السلام ، كما كان المعبود القومي لدويلة أوسان ، وكان معبده الرئيسي في وادي نعمان.

وأما «المقه» إله سبأ الكبير ، ويتكون اسمه من «إل» ، وهو اسم الإله «إيل» الشهير عند الساميين ، ومن «مقهو» بمعنى قوي ، ومن ثم يصبح معنى الإسم «إيل قوي» بمعنى «الله قوي» وقد اتخذ القوم الثور رمزا للإله «المقه» ، وهو من الرموز الدالة على الإله القمر عند الساميين القدامى.

وأما الإسم «عم» فهو من الأسماء السامية الواسعة الانتشار ، والتي كانت من أوصاف الآلهة ، ثم صارت علما على إله قتبان ، وأما «سين» إله حضرموت ، فهو اسم سومري ، وليس ساميا ، نقله الأكديون عن السومريين ، ويبدو أن الآلهة القمرية كانت أكثر من ذلك ، ـ

١٠٩

ولإله القمر عند السومريين اسم آخر هو «ننا» بمعنى رجل السماء ، وقد حرفه الأكديون الساميون إلى «ننر» بمعنى المنير ، ويرمز إليه في كثير من الأحيان بالهلال ، وبجانبه قرص الشمس ، رمزا لإله الشمس ، ونجمة في وسط دائرة ، رمزا لكوكب الزهرة.

والإله «سين» هو سيد الشهر ، ينظم أيام الشهر والسنة ، ومن ثم فهو الذي يقيس الزمن ، وهو الذي ينهى الأيام والشهور والسنين للملوك المذنبين بالدموع والتأوهات ، وكان رمزه الهلال ، هذا وكانت لحركات القمر دور هام في التنبؤ ، وكان خسوف القمر أهول الظواهر وأشدها روعا ، وكان ينسب إلى هجوم محل الإله «سين» من سبع أرواح شريرة في السماء ، وكانت صورة الكارثة تختلف حسب الشهر الذي يقع فيه الخسوف فكانت ترسل الدعوات إلى الإله ، وتقدم إليه القرابين ، وأخيرا يولد من جديد أشد بهاء من ذي قبل منتصرا على الظلمات والموت ، وذلك عن طريق القوس التي يدافع بها عن نفسه ضد القوى التي تعترض مجراه ، أو تحاول حجب نوره.

وكانت زوجته «ننجل» بمعنى السيدة الكبيرة ، وإلى هذا الإسم يرجع الإسم «نكل» الذي يطلقه عليها كل من الآراميين وأهل أوجاريت (تل شمرا) ، وقد أنجبا الإله شمس والإلهة عشتر ، ويعتبر «نسكو» إله النار ، في بعض الأحيان ، ابنا لهما.

وكانت مدينة «أور» (تل المقير ، على مبعدة ١٢٠ ميلا شمال مدينة البصرة) مركز عبادة «سين» وزوجته «ننجل» وولدهما «نسكو» (سدرننا) ، ثم

__________________

ـ فهناك في النقوش العربية الجنوبية «ورخن» ، والظاهر أنه كان يدل على الهلال ، فقد استعملت في اللغات السامية كلها تقريبا ألفاظ مشابهة لهذه اللفظة لمعايير متصلة بالهلال ، منها «يرخ» بالعبرية ، و «يرخا» بالسريانية والآرامية ، و «أرخو» بالآشورية ، و «أرخ» بالبابلية ، و «رخ» بالعربية اليمنية وبالحبشية ، وكلها بمعاني الهلال والقمر والشهر ، ومنها جاء الفعل «أرخ» من العربية الفصحى ، أي حسب الأيام والشهور على دورة القمر ، والإسم «التاريخ» وأخيرا ، فهناك من يرى أن اسم «سيناء لا بد وأن يكون له علاقة بإله القمر «سين».

١١٠

انتقلت عبادتهم جميعا إلى الشمال في «حران» (حاران ، وتقع على نهر بلخ ، على مبعدة ٦٠ ميلا من اتصاله بالفرات) ، وقد انتشرت عبادة القمر من أور إلى كل أرجاء بابل ، ومن «حران» إلى كل من سورية وفينيقيا ، وكان البدو الآراميون والعرب يعبدون إله القمر ، ولا يستبعد أن يكون لاسم «شبه جزيرة سيناء» علاقة بإله القمر «سين».

(٢) إله الشمس : ـ يأتي إله الشمس (شمش) في المرتبة الثانية بعد أبيه إله القمر ، وكان السومريون يسمونه «أوتو» ويسمون الشمس «ببر» وهي تشرق ، أما الساميون فقد أطلقوا على الإله الأكدي اسم الشمس نفسها (شمش) وكان العبرانيون والآراميون ينطقون «شمش» ، والعرب «شمس» (١) ، وأهل أوجاريت «شبش ، وكان عرب الجنوب والأوجاريتيون يعتبرونها إلهة مؤنثة ، بينما كان السومريون والأكديون يعتبرونها إلها ذكرا ، وكان الحيثيون يميزون بين إمله للشمس ، وإلهة للشمس يسمونها «أرنا».

وكان يرمز لإله الشمس في بابل وآشور وسورية وآسيا الصغرى بقرص ذي جناحين ، أي بصورة الشمس في مصر ، ومن ألقابه في بلاد الرافدين «نور العالم» ، هذا وكان إله الشمس ، في نظر القوم ، هو القاضي الأعظم الذي أملى قوانين العدالة على الملوك ، وكانت مدينة «لارسا» في سومر ،

__________________

(١) عبدت الشمس في قتبان وحضرموت وسبأ تحت اسم شمس ، وغالبا ما كانت أسماء الشمس في بلاد العرب الجنوبية تبدأ ب «ذات» ، وكانت إلهة الشمس تسمى عند المعينيين «نكرح» ، وربما بمعنى «ذات حميم» ، كما كانت تسمى عند السبئيين «ذات غضرن» و «ذات حميم» ، بمعنى ذات حرارة في الغالب ، وهذا المعنى قريب من «آل حمون» و «بعل حمون» في العبرية ، وإن فسر البعض «ذات حميم» بمعنى ذات الحمى ، والحمى الموضع الذي يحمى ، ويخصص للإله أو المعبد أو الملك أو سيد القبيلة ، فيكون حرما آمنا لا يجوز لأحد انتهاكه أو التعدي عليه ، وأما في النقوش القتبانية فهي «ذات صهرن» «ذات رحبن» ، فضلا عن اسم آخر للشمس ذكرته الكتابات القتبانية ، وأعنى «إ ث ر ت» ، وهو بعينه اللفظ العبراني «أشرت» ، ويرجح «هومل» ، ويؤيده نقش جلازر رقم ١٦٠٠ ، أن هذا الإسم القتباني إنما يشير عادة إلى آلهة الشمس ، وإلى زوج الإله «ود».

١١١

ومدينة «سبر» من أكبر ، مركزين لعبادة شمش منذ أقدم الأزمان ، وأما زوجته فهي «أيا».

(٣) الإلهة الزهرة : ـ كانت الإلهة الزهرة (عشتر ـ عشتار) أهم إلهة في سومر وأكبر ، وكان السومريون يسمونها «أنينا» بمعنى سيدة السماء ، و «عشتر» هو الإسم الأكدي السامي ، ونظيره «عشتار» لدى الفينيقيين والعبريين ، إلهة أنثى ، و «عنتر» لدى العرب الجنوبيين إله ذكر (١) ، وهي تأتي في المرتبة بعد «سين» أبيها ، و «شمش» أخيها مباشرة ، وهي أخت «أرشكيجل» إلهة العالم السفلى.

وكان يرمز إليها بنجمة ذات ثمانية أشعة أو ستة عشر شعاعا ، منقوشة داخل دائرة ، وهي التي ترشد النجوم إلى طريقها ، وهي نجمة الصباح تارة ، والمساء تارة ، وهي إلهة الحب واللذة حين تكون إلهة المساء ، ترفع إلى عرش الملك من تهواه من البشر ، وقد مجدها الآشوريون كإلهة محاربة ، سلاحها المفضل هو القوس ، وحيوانها الأثير هو الأسد ، نراها واقفة على ظهره في أغلب الصور التي تمثلها ، وقد انتشرت عبادتها في سومر وأكد ، ثم انتقلت من أكد إلى آشور ، ثم امتدت غربا وشمالا وشرقا مع جيوش آشور الفاتحة.

هذا ، وإلى جانب هذه المعبودات الوثنية ، كانت كل قوى الطبيعة ، وكل قوى الخير ، تؤله عند السومريين والبابليين ، كما كان لكل مدينة معبودات ، حتى أصبح عدد المعبودات كثيرا جدا ، غير أن أهمها جميعا ، إنما كان مردوك وآشور.

__________________

(١) كان الإله العربي «عشتر» ذكرا ، بينما كانت نظائره في جميع الأديان السامية الأخرى مؤنثة ، وهكذا رأينا الشعر العربي يذكر الزهرة مذكرة ، وحتى عند العرب الذين عرفهم «نيلوس» كان هذا النجم مذكرا ، ولما كانت العادة أن يقدم القربان من جنس المقرب إليه ، إن كان ذكرا فذكر ، وإن كان أنثى فأنثى ، وحيث نظر للقمر كشيخ كان قربانه رجلا هرما ما ممتلئ الوجه ، وأما هنا فكان ينظر إلى الزهرة كطفل صغير يتفق ومكانته بين العائلة المقدسة ، كابن لإله القمر ، وأمه إلهة الشمس.

١١٢

(١) مردوك : ـ بلغ هذا المعبود الوثني من الشهرة مبلغا ربما بم يبلغه إله وثني آخر من تاريخ الشرق الأدنى القديم ، وقد ارتبط مصيره بمصير مدينة بابل ، والتي كان لها شأن عظيم في التاريخ القديم ، سياسيا وعسكريا ودينيا واجتماعيا ، ويدل على هذه الصلة الوثيقة بين مردوك وبابل قول إرميا ، النبي العبراني ، «قولوا أخذت بابل ، خزي بيل ، تضعضع مردوخ» وذلك عند سقوط بابل عام ٥٣٩ ق. م.

وكان مردوك ، في نظر القوم ، هو ابن انكى البكر ، ومن ثم فقد ورث عنه العلم والسحر ، وصار مثله المعوذين الآلهة ، وكان الساحر عند ما يمارس مهنته إنما يعمل باسم مردوك ، كما يعمل باسم أبيه «أيا» ، وفي الأمور المستعصية كان مردوك يلجأ إلى أبيه انكى طلبا للمعونة ، وكما كان «أيا» إله الحكمة ، كان مردوك أحكم الحكماء ، والخبير بين الآلهة.

هذا ، وكما تبيّن لنا مقدمة قانون حمورابي المكانة العليا التي وصل إليها مردوك في الإمبراطورية البابلية ، تبين لنا قصيدة الخلق البابلية مكانته السامية أيضا ، حيث أسبغت عليه خمسين اسما أو لقبا ، مما جعل «دورم» يزعم أنه في نسبة هذه الأوصاف جميعا إلى إله واحد ، اتجاها إلى التوحيد ، وهو يجد هذا الاتجاه أيضا في عصر الدولة الكلدانية ، إذا صارت الآلهة المختلفة مجرد جوانب من شخص مردوك.

وكانت «صبريانيتم» بمعنى الفضية أو اللامعة كالفضة ، زوجة لمردوك ، وكان الاثنان يبجلان حينما تعلو مكانة بابل ، وعند ما فتح ملوك آشور أرض بابل أبدوا ولاءهم لآلهتها ، وهي في مقدمتها مردوخ وزوجته ، وكذا في أيام الكلدانيين والفرس ، بل ظلا موضع الاجلال بعد ذلك أيام السلوقيين ، سواء في الحياة الخاصة أو الاحتفالات الرحية.

(٢) آشور : ـ وهو الإله القومي للآشوريين ، وكبير آلهتهم الوثنية ،

١١٣

وكانوا ينطقون اسمه «أسور» (بسين مشددة) وقد حل في قصيدة الخلق الآشوري محل مردوك ، كما حل مردوك لدى البابليين محل أنليل إله السومريين من قبل ، مما يشير إلى أن الدين كان عونا للسياسة ، وصدى لمصالح المدن والشهوب والملوك.

وكان معبد الإله الوثني آشور ، وتقع على الضفة الغربية لنهر الدجلة ، على مبعدة ٤٠ ميلا ، جنوب الزاب الأعلى ، وكان معبده يسمى «اشرا» ، ويقيم فيه مع زوجته «ننليل» (ملكة اشرا) ، والتي كانت في الأصل زوجا لإنليل ، فجعلها الآشوريون زوجا لإلههم آشور كذلك ، وكان لآشور معبد آخر خارج المدينة يسمى «أكستو».

وقد أطلق القوم على إلههم لقب «الجبل الكبير» ، وهو ، فيما يزعم القوم ، خالق الآلهة ومنجبها وسيدها وملكها ، ومنه يستمد الملوك الصولجان والتاج والعرش ، وهو ملك الآلهة ، وهو يرأس في معبده مجتمع الآلهة التي تقرر أقدار البشر ، وهو الذي يأمر بخروج ملوك آشور إلى الحرب ، ويكتب لهم النصر ، وإليه يساق المغلوبون من أعدائهم خاضعين ، ويؤتى بتماثيل آلهتهم إلى معبده (١).

__________________

(١) انظر عن هذا الفصل (محمد بيومي مهران : الديانة العربية القديمة ـ الاسكندرية ١٩٧٨ ص ١٩ ـ ٢٨ ، ول ديورانت قصة الحضارة ـ الجزء الثاني ـ ترجمة محمد بدران ـ القاهرة ١٩٦١ ص ٢١١ ـ ٢٢٥ ، سبنيتو موسكاتي : الحضارات السامية القديمة ـ ترجمه وزاد عليه يعقوب بكر ـ القاهرة ١٩٦٨ ص ٧٣ ـ ٧٦ ، ٢٥٢ ـ ٢٦٥ ، ل. ديلابورت : بلاد ما بين النهرين : ترجمه محرم كمال ـ القاهرة ص ١٦٥ ـ ١٧٥ ، ليو أوينهام : بلاد ما بين النهرين ـ ترجمه سعدي فيضي ـ بغداد ١٩٨١ ، محمد أبو المحاسن عصفور : معالم حضارات الشرق القديم ـ الاسكندرية ١٩٦٩ ص ٢١٦ ـ ٢٢٣ ، وكذا P. Dhorme Langues et ecritures Semitiques, paris, ٠٣٩١, P. ٢٢ ـ ٧٦, ٨٦ ـ ٢٠١. وكذا W. R. Smith, Lectures on the Religion of the Semites, London, ٧٢٩١, P. ٦٥ ـ ٩٥. وكذاA J.Gary Near Eastern وكذاHeidel, The Balyonian Genesis, Chicago, ١٥٩١, P. ٠٦ F J. Hastings, ERE, I, P. ٢٨٨ F. وكذاMythology ,London ,٩٦٩١ ,P.٧١ ـ ١٥

١١٤

الفصل الثّاني

دعوة إبراهيم عليه‌السلام

أشرنا آنفا إلى أن قوم إبراهيم إنما كانوا يمارسون عبادة الأصنام ، فضلا عن عبادة الكواكب ، ومن ثم فمن الأفضل هنا أن نناقش موقف أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام من ممارسات قومه الوثنية في شتين ، الواحد : موقف إبراهيم من عبادة الكواكب ، والثاني : موقفه من عبادة الأصنام.

(١) موقف إبراهيم من عبادة الكواكب : ـ قدم لنا القرآن الكريم تلك المناظرة التي دارت بين إبراهيم عليه‌السلام وبين قومه من عبدة الكواكب في الآيات الكريمة من سورة الأنعام ، يقول عز من قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ، وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ، وَتِلْكَ

١١٥

حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١).

والآيات الكريمة تفيد أن إبراهيم ، صلوات الله وسلامه عليه ، تطلع إلى السماء فرأى كوكبا يعبده القوم (ولعله كوكب الزهرة) فيما يعبدون ، فقال : «هذا ربي ، ثم اصطبر قليلا حتى أفل الكوكب ، فقال : لا أحب الآفلين» ، أي أنه لا يحب الآلهة المتغيرة المتحولة التي لا تبقى في مكان واحد ، ولا تستقر على حال.

ثم تطلع بعد ذلك إلى السماء ، فرأى القمر ساطعا يأخذ نوره بالأبصار ، فقال : هذا ربي ، لكنه لم يلبث إلا يسيرا ، ثم أفل واحتجب نوره ، فقال إبراهيم : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.

ثم رأى الشمس في كبد السماء بعد ذلك ، يعم نورها الأرجاء ، تملأ أشعتها الكون دفئا وضياء ، ثم ما لبث أن رآها تأفل ، كما أفل الكوكب ، وكما أفل القمر ، من قبل ، فقال : يا قوم إني بريء مما تشركون (٢).

هذا وقد اختلف المفسرون من وقت هذه الرؤية؟ وفي وقت هذا القول من عمر إبراهيم عليه‌السلام؟ وهل كان ذلك في مقام النظر والاستدلال لنفسه؟ أم كان في مقام المناظرة والحجاج لقومه؟.

وهكذا ذهب فريق إلى أن ذلك الوقت اعتبار ، ولا يترتب عليه حكم ، لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ.

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٧٥ ـ ٨٣ ، وانظر : تفسير الطبري ١١ / ٤٧٠ ـ ٥٠٦ ، في ظلال القرآن ٢ / ١١٣٥ ـ ١١٤٣ ، تفسير النسفي ٢ / ١٩ ـ ٢١ ، تفسير الجلالين ص ١٧٤ ـ ١٧٦ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٠ ـ ٢٤٧ ، صفوة التفاسير ١ / ٤٠١ ـ ٤٠٣ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ١٦٥ ـ ١٦٩ ، تفسير الكشاف ٢ / ٣٠ ـ ٣٣ ، تفسير القرطبي ص ٢٤٥٩ ـ ٢٤٦٧ ، تفسير المنار ٧ / ٤٤٤ ـ ٤٨٦.

(٢) محمد حسني عبد الحميد : أبو الأنبياء إبراهيم الخليل ـ القاهرة ١٩٤٧ ص ٣٩.

١١٦

وقد اعتمد أصحاب هذا الاتجاه على ما روي في التفسير بالمأثور من عبادته ، عليه‌السلام ، لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه ، حتى أراه الله تعالى بعد كمال التمييز حجته على بطلان عبادتها ، والاستدلال بأفولها وتعددها وغير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها ، وأن ذلك كله كان قبل النبوة ودعوتها ، ومنه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحاق فيها أن إبراهيم عليه‌السلام ، ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم «نمرود بن كنعان» أن يقتله ، إذ كان قد أخبره المنجمون بأنه سيولد في قريته غلام يفارق دينهم ، ويكسر أصنامهم فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا ، وفيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم ، كما يشب غيره في شهر ، وفي الشهر كما يشب غيره في سنة ، وأنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته ، أن تخرجه من المغارة ، فأخرجته فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض ، وذكر رؤيته للكواكب فالقمر فالشمس (١).

وكان الله تعالى قد خصّه بالعقل الكامل والنظرة السليمة ، ومن ثم فقد تفكر في نفسه وقال : لا بد لهذا الخلق من خالق ، وهو إله الخلق ، ثم نظر حال تفكره ، فرأى الكوكب وقد ازدهر فقال : هذا ربي على ما سبق إلى وهمه ، وذلك في حالة طفولته ، وقبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه وتعالى ، وقد استدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ، وهذا يدل على نوع من التحيّر ، وذلك لا يكون إلا في حالة الصغر ، وقبل البلوغ وقيام الحجة (٢).

__________________

(١) تفسير المنار ١١ / ٤٦٤ ، وانظر : تفسير النسفي ٢ / ٢٠ ، تفسير الطبري ١١ / ٤٨١ ـ ٤٨٢ ، تفسير القرطبي ص ٢٤٦ ، محمد بيومي مهران : دراسات تاريخية من القرآن الكريم ح ـ ١ ـ ص ١١٦ ـ ١١٧ ، إسرائيل ح ١ ـ ص ٢٨٠.

(٢) محمد حسني : المرجع السابق ص ٤٠.

١١٧

وليس هناك إلى سبيل من شك في أن هذا القول غير صحيح تماما ، لأسباب كثيرة ، منها أن رواية ابن إسحاق وأمثالها ، إنما هي موضوعة لهذه المسألة ، وقد أخذها ابن إسحاق عن بعض اليهود الذي كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص ، ليلبسوا عليهم دينهم ، فتبطل ثقة يهود وغيرهم (١) ، ومنها أن الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، معصومون في كل حال من الأحوال ، ولا يجوز أن يكون لله عزوجل رسول يأت عليه وقت من الأوقات ، إلا وهو بالله عارف ، وله موحد ، ومن كل منقصة منزه ، ومن كل معبود سواه ، سبحانه وتعالى ، بريء ، وإن هذا القول لينقصنه تماما كون الله تعالى قد أتى إبراهيم رشده من قبل ، وأطلعه على أسرار الكون ، وملكوت السماوات والأرض ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) (٢) ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣).

وقال أبو حيان في بحره المحيط : لما أوضح لهم أن الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا ، ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ ، فرأى القمر أول طلوعه ، ثم لما غاب ارتقب الشمس إذ كانت أنور من القمر وأضوأ ، وأكبر جرما ، وأعم نفعا ، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم ، وبيّن أنها مساوية للنجم من صفة الحدوث (٤) ، وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال : فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش ، وفرجت له الأرضون فنظر إليهن ، ورأى مكانه في الجنة ، فذلك قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) (٥).

__________________

(١) تفسير المنار ١١ / ٤٦٤.

(٢) سورة الأنبياء : آية ٥١.

(٣) سورة الأنعام : آية ٧٥.

(٤) تفسير البحر المحيط ٤ / ١٦٧.

(٥) تفسير القرطبي ص ٢٤٥٩ ـ ٢٤٦٠.

١١٨

وهكذا استحق إبراهيم عليه‌السلام ، بصفاء فطرته وخلوصها للحق ، أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون ، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ، وبمثل هذه الفطرة السليمة ، وهذه البصيرة المفتوحة ، وعلى هذا النحو من الخلوص للحق ، ومن إنكار الباطل في قوة ، نرى إبراهيم حقيقة هذا الملك ، ملك السماوات والأرض ، ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون ، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود ، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب ،لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة،إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق (١).

وبديهي أن من يكن هذا مقامه ، لا يعقل بحال من الأحوال ، أن يرى الكوكب فيقول : هذا ربي ، عن عقيدة ، فإبراهيم الخليل لأرشد من أن يعتقد ذلك ، قال الزجاج : هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قاله ، وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» ، وقال عزوجل : (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي لم يشرك قط ، قال : والجواب عندي أنه قال «هذا ربي» على قولكم ، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر ، ونظير هذا قوله تعالى : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) ، وهو جلا وعلا واحد لا شريك له ، والمعنى : أين شركائي على قولكم (٢).

ومن العجيب ، كما يقول صاحب تفسير المنار ، أن ابن جرير اختار هذا القول ، مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه ، وهو الذي جزم به الجمهور ، من أنه كان مناظرا لقومه (٣) ، وقد احتج ابن جرير أولا بالرواية ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ٢ / ١١٣٩.

(٢) تفسير القرطبي ص ٢٤٦١.

(٣) قال أبو جعفر في تفسيره (١١ / ٤٨٣ ـ ٤٨٤) : وأنكر من غير أهل الرواية هذا القول الذي ـ

١١٩

وهي ، كما يقول صاحب تفسير المنار ، لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل ، عليه الصلاة والسلام ، ولو في الصغر ، على أنها مطلقة ، وثانيا : بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر ، يعني قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (١).

وهناك وجه آخر للنظر ، وهو الذي جزم به الجمهور (٢) ، من أن ذلك كان في مقام المناظرة والحجاج لقومه ، وأن هذه الرؤية ، وهذا القول إنما كانا بعد بلوغ إبراهيم عليه‌السلام ، وحين شرفه الله بالنبوة ، وأكرمه بالرسالة ، وقد حدث بين أصحاب هذا الرأي خلاف في تفسير الآية وتأويلها وما تحمل من معان ، فذكروا فيها وجوها :

الوجه الأول : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول ، ويعرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم وعبادتها ، لأنهم

__________________

ـ روي عن ابن عباس وعمن روى عنه ، من أن إبراهيم قال للكوكب أو القمر : هذا ربي ، وقالوا : غير جائز أن يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة ، أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ ، إلا هو لله موحد ، وبه عارف ، ومن كل ما يعبد من دونه بريء ، قالوا : ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر ، لم يجز أن يختصه بالرسالة ، لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله ، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة ، فيحابيه باختصاصه بالكرامة ، قالوا : وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه ، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة ، وزعموا أن خبر الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو الشمس أو القمر «هذا ربي» لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه ، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه ، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام ، إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأ وأحسن وأبهج من الأصنام ، لوم تكن مع ذلك معبودة ، وكانت آفلة زائلة غير دائمة ، فالأصنام التي هي دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم ، أحق أن لا تكون معبودة ولا آلهة ، قالوا : وإنما قال ذلك لهم ، معارضة.

(١) سورة الأنعام : آية ٧٧ ، تفسير المنار ٧ / ٤٦٥.

(٢) انظر : تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٢ ، تفسير القرطبي ص ٢٤٦١ تفسير الكشاف ٢ / ٣١ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ١٦٧ ، تفسير الفخر الرازي ١٣ / ٤٧ ، تفسير المنار ١١ / ٤٦٥.

١٢٠