دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

ثانيا : قصص الطوفان البابلية

١ ـ ملحمة جلجاميش :

لقد ظل العالم لا يعرف شيئا عن قصة الطوفان البابلية إلا من خلال رواية «بيروسوس» التي كتبت باللغة اليونانية ـ والتي سوف نتحدث عنها فيما بعد ـ إلى أن عثر «ه. رسام H. Rassam» في عام ١٨٥٣ م على نسخة من رواية الطوفان البابلية في مكتبة «آشور بانيبال» (٦٦٨ ـ ٦٢٦ ق. م) الشهيرة في العاصمة الآشورية «نينوى» ترجع إلى القرن السابع ق. م.

وفي الثالث من ديسمبر ١٨٧٢ م أعلن «سيدني سمث» نجاحه في جمع القطع المتناثرة من ملحمة جلجاميش بعضها إلى بعض ، مكتوبة في اثني عشر نشيدا ، أو بالأحرى لوحا ، ومحتوية على قصة الطوفان في لوحها الحادي عشر (١).

وأما «جلجاميش» هذا فهو واحد من الملوك الذين ورد اسمهم في ثبت ملوك الوركاء في عهد أسرتها الأولى التي لا نعرف عنها شيئا سوى أسماء ملوكها ، وقد صار بعضهم ـ مثل جلجاميش ـ موضوعا لقصص وملاحم شعرية ، ويرجح العلماء الآن أن هؤلاء الملوك قد حكموا في العراق ـ في مدينة الوركاء ـ قبل عصور فجر الأسرات أو في بدايته (٢) ، على أننا نستطيع أن نعين تاريخا تقريبيا لعهد «جلجاميش» هذا عن طريق قطعة من المرمر موجودة بالمتحف العراقي ـ وإن كانت مجهولة الأصل ـ كتب عليها «مي ـ براج ـ سي» ملك كيش ، وقد ثبت أنه الملك الثاني والعشرين من أسرة كيش الأولى «إن مي ـ براج ـ سي» هو في نفس الوقت والد «أجا» ملك كيش الذي حارب ضد «جلجاميش» خامس ملوك الوركاء ـ كما تحدثنا أسطورة جلجاميش وأجا السومرية (٣) ـ ويرى «جورج روكس» أن «إن ـ مي ـ براج ـ سي» هو أقدم حاكم

__________________

(١) ١٧٣ M.F.Unger ,Unger\'s Bible Dictionary ,P .. وكذا : جيمس فريزر : المرجع السابق ص ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) طه باقر : مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج ١ ص ٤٥٩.

(٣) ٤٤ ـ ٧٤S.N.Kramer ,in ANET ,p .. وكذا نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص ٢٦٥ ـ ٢٦٧.

٤١

سومري معروف لنا ، وإذا ما اعتبرنا أن «سرجون الأكدي» كان يعيش في الفترة (٢٣٧١ ـ ٢٣١٦ ق. م) ، فإنه من الممكن تقدير تاريخ حكم «إن ـ مي ـ براج ـ سي» هذا بحوالي عام ٢٧٠٠ ق. م ، كما يمكن اعتبار ذلك التاريخ بداية للعصر التاريخي في العراق القديم (١) ، ومن ثم فإن جلجاميش كان يعيش بعد هذا التاريخ بفترة ليست بعيدة على أي حال.

وقد اشتهر جلجاميش في آداب العراق القديم منذ أقدم عصور التاريخ ، وصار موضوعا لعدة ملاحم سومرية وبابلية ، تدور حول مغامراته وأعماله البطولية ، حتى صار أشبه ما يكون بأبطال اليونان في عهد الأشعار الهومرية ، وهرقل والإسكندر في المآثر العربية ، ونمرود الوارد في التوراة (٢) ، وإن كانت ملحمته المشهورة بقصة جلجاميش ، والتي يؤلف خبر الطوفان جزءا منها ، أشهر ما عرف عنه من قصص وملاحم.

وهاك ملخصا لها :

تبدأ قصة الطوفان بعد أن ينتهي جلجاميش من قصته التي فقد في أخرياتها صديقه «أنكيدو» ، ذلك أن جلجاميش كان ملكا حكيما واسع المعرفة ، شجاعا جريئا ، ولكنه كان ظالما مستبدا ، ومن ثم فإن الآلهة قد خلقت له «أنكيدو» ليدافع عن الناس ضد ظلمه ، إلا أن الصراع بينهما لم يحسم في مصلحة واحد منهما ، ومن ثم فقد تمّ الصلح بينهما ، وقام الاثنان بمغامرات كثيرة ، ثم مات أنكيدو فجأة ، فحزن جلجاميش لفقده ، ثم أسلمه الحزن إلى المرض ، وظل خائفا يترقب مصيره المحتوم ، وإن كان في الوقت نفسه بدأ يفكر في وسيلة يتقي بها غائلة الموت ، وهكذا هداه تفكيره إلى البحث عن جده «أوتنابيشتم» بن «وبار ـ توتو» ليسأله عن كيفية إمكان أن يكون الإنسان الفاني مخلدا ، إذ كان على يقين من أن «أوتنابيشتم» على علم بهذا الأمر ، ذلك لأن الآلهة قد رفعته إلى مصافها ، وجعلته يسكن بعيدا في مكان ما متمتعا بنعمة الخلود.

ويتحمل جلجاميش من أجل بغيته هذه رحلة مضنية خطيرة ، يلتقي في أثنائها

__________________

(١) محمد أبو المحاسن عصفور : معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم ص ٣٤٩ ـ ٣٥٠. وكذا

George Roux, Ancient Iraq,) Penguin Books (, ٦٦٩١, P. ٩١١ ـ ٠٢١.

وكذاSir Leonard Woolley ,op.cit.,P.٤١.

(٢) طه باقر : المرجع السابق ص ٤٥٩.

٤٢

برجل وامرأة في شكل ثعبانين يحرسان جبلا ، كما يخترق طريقا مفزعا مظلما لم تطأه قدما إنسان فان من قبل ، ثم يعبر بحرا مترامي الأطراف ، وأخيرا يلتقي بإحدى الإلهات فيطلب منها أن تدله على مكان جده «أوتنابيشتم» ، ولكنها ـ وقد علمت هدفه ـ تسدي إليه النصح قائلة : إلى أين تسعى يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبغي لن تجدها ، ذلك لأن الآلهة لما خلقت البشر جعلت الموت من نصيبهم ، واستأثرت هي بالخلود ... لتكن مبتهجا ليل نهار ، ولتجعل كل يوم من حياتك يوم فرح وحبور ... دلّل الطفل الذي يمسك بيدك ، أدخل السرور إلى قلب المرأة التي في أحضانك ... فهذا هو نصيب البشرية» ، ومع ذلك فإن جلجاميش يصر على سؤاله ، فلا تجد الإلهة إلا أن تجيبه إلى ما يريد.

ويلتقي جلجاميش بجده «أوتنابيشتم» فيطرح سؤاله عن كيفية حصول الإنسان على الخلود ، وهنا يجيبه «أوتنابيشتم» : هل بنينا بيتا يقوم إلى الأبد؟ هل عقدنا عهدا على أن نستمر إلى أبد الآبدين؟ لم يكن هناك خلود منذ القدم ، ما أعظم الشبه بين الميت والنائم ، ألا تظهر على وجهيهما هيبة الموت؟ وهكذا مصير السيد والعبد حتى ينتهي أجلهما في هذه الدنيا ... وحين يتعجب جلجاميش من هذه الإجابة من شخص كان هو نفسه إنسانا فانيا ثم أصبح مخلدا فيما بعد ، كان على «أوتنابيشتم» أن يشرح له كيف استطاع هو نفسه أن يهرب من المصير المحتوم لكل إنسان ، فقص عليه قصة الطوفان الكبير التي تجرى على النحو التالي.

وهاك ترجمة (١) لها :

__________________

(١)E. A. Speiser, The Epic of Gilgamesh, in ANET, P. ٢٧ ـ ٩٩.

وكذلك محمد عبد القادر : المرجع السابق ص ٩٨ ـ ١١٠ ، وكذلك طه باقر : المرجع السابق ص ٤٦٧ ـ ٤٧٠ ، وكذا نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص ٣٤٧ ـ ٣٥٩ ، وكذلك : جيمس فريزر : المرجع السابق ص ٩٧ ـ ١٠١.

وكذلك J.Finegan ,op.cit.,P.٣٣ ـ ٣٦. وكذلك J.Gray ,Near Eastern Mythology ,P.٨٤ ـ ١٥. وكذاS.Langdon ,Semitic Mythology ,P ٠١٢ ـ ٣٢ وكذلك Alexander Heidel, The Gilgamesh Epic and Old Testament Parallels, ٩٤٩١. وكذلك E. A. Wallis Budge, the Babylonian story of the Deluge and the Epic of Gilgamesh, ٠٢٩١ وكذلك ANEA ,P.٠٤ F. وكذا E. Campbell Thompson, the Epic of Gilgamesh, ٠٣٩١

٤٣

قال أوتنابيشتم له ، لجلجاميش ، سأكشف لك يا جلجاميش عما خفي من الأمر ، سوف أخبرك بسر الآلهة ، شورباك مدينة أنت تعرفها على ضفاف الفرات ، وهي مدينة قديمة قدم الآلهة التي بها ، عند ما انتوت الآلهة إحداث الطوفان ، كان من بينهم «آنو» أبوهم ، و «انليل» الشجاع مستشارهم ، و «نينورتا» مساعدهم ، و «إينوجي» مفتش الترع ، و «نينجيكو ـ أيا» كان حاضرا معهم ، وأعاد قولهم إلى كوخ القصب (ربما مسكن أوتنابيشتم) : يا كوخ القصب ، يا حائط ، يا حائط ، اصغ يا كوخ القصب ، استمع يا حائط ، يا رجل شورياك ، يا ابن «وبار ـ توتو».

اهدم هذا البيت ، وابن فلكا ، دع الأملاك وأنقذ حياتك ، اهجر المتاع ودع الروح حية ، واحمل على ظهر الفلك بذرة كل شيء حي ، والفلك التي ستبنيها ستكون أبعادها حسب هذا المقياس ، عرضها مثل طولها ، واجعل سقفها كسقف الأيسو (العالم السفلي). ففهمت وقلت لمولاي «إيا» : نعم يا مولاي ، إن ما تأمر به يشرفني أن أنفذه ، لكن بم أجيب المدينة : الناس والشيوخ.

ففتح «إيا» فاه وأجاب قائلا لخادمه ، لي أنا ، قل لهم : علمت أن إنليل يعاديني ، ومن ثم فلا أستطيع أن أقيم في مدينتكم أو أضع قدمي في أملاك أنليل ، ولذا فسوف أنزل إلى الأعماق ، وأسكن مع مولاي «إيا» ، وأما أنتم فسوف ينزل عليكم مطرا مدرارا ... خير الطيور وأندر الأسماك ، وسوف تمتلئ الأرض بمحاصيل وفيرة ، ومع انبثاق الفجر تجمعت الأرض من حوالي ... النص مهشم ، وحمل الصغار القار ، وجاء البالغون بكل ما احتجنا إليه.

وفي اليوم الخامس أقمت هيكلها (أي السفينة) ، وكانت أرضيتها فدانا كاملا ، وكان ارتفاع كل حائط من حوائطها ١٢٠ ذراعا ، وطول كل ضلع من السطح ١٢٠ ذراعا ، وبنيت هيكل جوانبها وربطتها إلى بعضها ، وجعلت فيها ستة أسطح ، قسمتها إلى سبعة طوابق ، وقسمت أرضيتها تسعة أجزاء ، ودققت سدادات المياه بها ، وجهزتها بما نحتاج إليه من المؤن ، وصببت في الفرن ست سار (السار ـ ٨٠٠ جالون) من القار ، كما صببت كذلك ثلاثة سار من الأسفلت ، (فضلا) عن ثلاثة سار من الزيت نقله

٤٤

حاملو السلال ، وسار من الزيت استهلكته القلفطة ، كما خزن الملاح سارين من الزيت ، وذبحت ثيرانا للناس ، ونحرت ماشية كل يوم ، وأعطيت العمال عصير فواكه ، ونبيذا أحمر وآخر أبيض ، وكأنه مياه النهر ، ليشربوا وكأنهم في يوم عيد رأس السنة ، وفتحت ... الدهون ، لوضعها على يدي.

واكتمل الفلك في اليوم السابع ، وكان إنزاله إلى الماء بالغ المشقة ، حتى إنهم اضطروا لدفع ألواح الأرضية من أعلى ومن أسفل ، حتى أمكن إنزال ثلثي هيكله إلى الماء ، وحملتها بكل ما عندي ، حملتها بكل ما لذي من فضة ، حلمتها بكل ما لدي من ذهب ، حمّلتها بكل ما أملك من الكائنات الحية وكل عائلتي وذوي قرباي ، أركبتهم الفلك ، وكذا حيوان الحقل ووحوش الحقل ، وكل الصناع أركبتهم معي.

وقد حدّد لي «شمس» (شماس) وقتا معينا ، عند ما ينزل الموكل بالزوابع ليلا مطرا مهلكا ، أصعد إلى الفلك وأوصد بابه. وجاء اليوم الموعود ، وأنزل الموكل بالزوابع ليلا مطرا مهلكا ، وأخذت أرقب وجه السماء ، وكان منظر العاصفة مخيفا يثير الرعب ، فصعدت إلى الفلك وأوصدت بابه ، وعهدت إلى النوتي «بوزور ـ أمورى» بقيادة الفلك ، وبسد جميع منافذه.

ومع انبثاق الفجر ، ظهرت في السماء غمامة سوداء ، وأرعد «أداد» من داخلها ، وتقدمها «شولات» و «هانيش» كنذيرين فوق التل والسهل ، ونزع «إيرجال» (نرجال إله العالم السفلي) الأعمدة (أي الأعمدة الخاصة بسد العالم) ، وجاءت «نينورتا» وجعلت السدود تفيض ، وحمل «أنوناكي» المشاعل وجعلوا الأرض تشتعل نارا ، ووصل الذعر من «أداد» إلى عنان السماء ، فأحال النور إلى ظلمة ، وانصدعت الأرض الواسعة ، وكأنها جرة ، وهبت عاصفة الجنوب يوما كاملا بسرعة عنيفة حتى أخفت الجبال ، وحلت بالناس وكأنها حرب ، فلا يرى الأخ أخاه ، ولم يعد الناس يعرفون من في السماء ، وخشي الآلهة الطوفان فأجفلوا وصعدوا إلى سماء «أنو» (أعلى سماء في النظرية العالمية عند الأكديين) حيث ربضوا كالكلاب على الأسوار الخارجية ، وصرخت عشتار وكأنها امرأة جاءها المخاض ، وناحت سيدة الآلهة ذات الصوت الشجي

٤٥

بصوت عال : واحسرتاه! ، لقد تحولت الأيام الخوالي إلى طمي ، لأني لعنت الناس في مجمع الآلهة ، ولكن : كيف ألعن الناس في مجلس الآلهة ، وأعلن حربا لفناء الناس ، بينما أنا التي وهبتهم الحياة ، إنهم يملئون البحر كبيض السمك ، وبكى آلهة «أنوناكي» معها وجلس الآلهة جميعا يبكون في ذلة ، وقد التصقت شفاههم بعضها ببعض ، واستمرت ريح الفيضان تهب ستة أيام وست ليال ، وعاصفة الجنوب تكتسح الأرض.

وفي اليوم السابع سكنت عاصفة الجنوب عن الحرب التي شنتها وكأنها جيش من الخيالة ، وهدأ البحر ، وسكنت العاصفة وتوقف الطوفان ، وتطلعت إلى الجو ، فإذا السكون شامل ، وإذا الناس وقد تحولوا إلى طين ، وإذا الأرض قد تشققت وكأنها جرة ، ففتحت كوة وسقط الضوء على وجهي ، فجلست وبكيت وسالت دموعي على وجهي ، وتطلعت إلى الدنيا في عرض البحر ، وفي كل من الأقاليم الأربعة عشر ، (الاثني عشر) طلع نجم.

واستوت الفلك على جبل نيصير (١) ، وأمسك جبل نيصير بالفلك ولم يدعها تتحرك ، ويوم ثم يوم آخر ، وجبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا ، ويوم ثالث ورابع ، وجبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا ويوم خامس ثم يوم سادس وجبل نيصير يستمسك بالسفين فلا تحير حراكا ، فلما كان اليوم السابع أطلقت حمامة فذهبت وعادت وعزّ عليها أن تجد مكانا ظاهرا تحط عليه ، ثم أطلقت «سنونو» ، إلا أنه عاد ، إذ لم يكن ثمة مكان ظاهر يحط عليه ، ثم أطلقت غرابا فذهب ورأى الماء يتناقص فأكل وعبّ ودار ولم يعد ، ثم أطلقت الجميع إلى الرياح الأربعة ، وضحيت وأرقت سكيبة على قمة الجبل ، ونصبت ٤ أقدار ، وعلى صحاف قوائمها كومت القصب وخشب الأرز والآس. فشمت الآلهة الرائحة الزكية ، وتكأكأت حول الأضاحي ، وعند ما وصلت سيدة الآلهة (عشتار) نزعت المجوهرات العظيمة التي صاغها لها «أنو»

__________________

(١) تصف النصوص المسمارية البابلية القديمة موقع جبل نيصير (نيزير) بأنه بين الدجلة والزاب الأسفل وحيث سلسلة جبال كردستان في شرق الدجلة ، وعلى أى حال فهو يمكن توحيده بجبل بئر عمر جدرون (انظرKeller ,op.cit.,٧٥ وكذاFinegan ,op.cit.,P.٥٣. وكذاSpeizer ,AASOR ,٨ ,٦٢٩١ ـ ٧٢ ,P.٧ ,٧١ ـ ٨١. ومحمد عبد القادر : قصة الطوفان في أدب بلاد الرافدين).

٤٦

طبقا لمشتهاها ، وقالت : أيتها الآلهة ، كما أنني سوف لا أنسى حقا عقد اللازورد الذي في عنقي ، فسوف أذكر هذه الأيام ولن أنساها ، ليتقدم الآلهة إلى القربان ، إلا أنليل ، فإنه لا يتقدم ، لأنه أحدث الطوفان دون روية ، وقاد شعبي إلى التهلكة.

ولما جاء أنليل ورأى الفلك عزّ عليه ذلك ، وامتلأ غضبا على آلهة «أجيجي» (آلهة السماء) وقال : هل نجت روح ، ما كان للبشر أن يبقى ، ففتح «نينورتا» فاه وقال : من غير «إيا» يفشي الخطط ، فإنه ، يا أنليل الباسل ، يعلم كل شيء. وفتح «إيا» فاه وقال لأنليل البطل : أنت يا أحكم الآلهة ، أيها البطل ، كيف تحدث الطوفان دون روية ، على الآثم وزر إثمه ، وعلى المعتدي وزر اعتدائه ، كن رحيما وإلا قطع ... كن صبورا وإلا أقضي ...

ليت أسدا هب وقلل من بني الإنسان ، بدلا من أن تأتي بالطوفان ، ليت ذئبا هب وقلل من بني الإنسان ، بدلا من إحداث الطوفان ، ليت مجاعة هبت وقللت من بني الإنسان بدلا من إحداث الطوفان ، ليت طاعونا هب وقلل من بني الإنسان بدلا من إحداث الطوفان.

لست أنا الذي أفشيت سر الآلهة العظام ، بل جعلت «أتراخاسيس» (حكيم الحكماء ـ أوتنابيشتم) يرى حلما كشف فيه سر الآلهة ، فاقض فيه ما أنت قاض ، وحينئذ صعد أنليل إلى ظهر السفين وأمسك بيدي وأخذني إلى ظهرها وأخذ زوجتي وجعلها تركع بجانبي ووقف بيننا ليباركنا وقال : لم يعد أوتنابيشتم بشرا ، سيكون هو وزوجته أشبه بنا معشر الأرباب ، وعلى ذلك أخذوني وأسكنوني بعيدا عند مصاب الأنهار ، ولكن أنت يا جلجاميش من يجمع لك مجمع الآلهة ليهبوا لك الحياة التي تريد؟

٢ ـ قصة بيروسوس :

في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد ، وعلى أيام الملك «أنتيوخوس الأول» (٢٨٠ ـ ٢٦١ ق. م) ، كان هناك أحد كهنة الإله «مردوك» البابلي ، ويدعى «بيروسوس Berossos» قد كتب تاريخ بلاده باللغة اليونانية في ثلاثة أجزاء ، ومن

٤٧

أسف أن هذه الكتابات ـ شأنها في ذلك شأن كتابات الكاهن المؤرخ المصري مانيتو من نفس الفترة ـ والتي تقدم وجهة النظر القومية حينئذ عن تاريخ العراق القديم لم تصل إلينا كاملة ، وكل ما وصلنا منها مقتطفات حفظها لنا المؤرخون المتأخرون من الأغارقة ، ومن حسن الحظ أن هذه المقتطفات كانت تحتوي على قصة الطوفان البابلية التي تجري أحداثها على النحو التالي :

في عهد الملك «أكسيسوثروس» ، وفي ليلة ما ، رأى هذا الملك فيما يرى النائم أن الإله «كرونوس» يحذره من طوفان سوف يغمر الأرض ويهلك الحرث والنسل ، في اليوم الخامس عشر من شهر «دايسيوس» ـ وهو الشهر الثامن من السنة المقدونية ـ ومن ثم فإن عليه أن يكتب تاريخ البشرية منذ بدايتها ، وأن يدفن ما يكتبه في مدينة سيبار ، بلد الشمس ، حتى لا يضيع في طوفان سوف يدمر كل شيء ، كما أمره كذلك أن يبني فلكا يأوي إليه.

ويسأل «أكسيسوثروس» ربه عن المكان الذي يبحر إليه بفلكه هذا ، فإذا به يجيبه «إلى الآلهة ، ولكن بعد أن تصلي من أجل خير الناس» ، ويصدع الملك بأمر إلهه ، ويبني فلكا طوله مائة وألف ياردة ، وعرضه أربعمائة وأربعون ياردة ، يجمع فيه كل أقربائه وأصحابه ، ويختزن فيه زادا من اللحم والشراب ، فضلا عن الكائنات الحية من الطيور وذوات الأربع.

ويغرق الطوفان الأرض ، وعند ما ينحسر عنها يطلق الملك سراح بعض الطيور التي تعود إليه ثانية ، ثم يطلقها بعد أيام ، فإذا بها تعود وأرجلها ملوثة بالطين ، وحين يكرر الأمر مرة ثالثة لا تعود الطيور إلى الفلك ، ويعلم الملك أن الماء قد انحسر عن الأرض ، وينظر من كوة في السفين فيرى الشاطئ الذي يتجه إليه ، وهناك تستقر الفلك عند جبل ، حيث ينزل الملك وزوجته وابنته وقائد الدفة.

ويسجد الملك لربه ويقدم له القرابين ، ثم يختفي هو ومن معه ، ويبحث الذين ما يزالون في الفلك عن الملك ورفاقه ، ولكنهم لا يجدون لهم أثرا ، وحين يجدّون في البحث عن المختفين يسمعون صوتا يدوي في الهواء ، ويطلب منهم أن يتقوا الآلهة ويكفوا عن

٤٨

البحث عن المختفين ، لأن الآلهة قد اختارتهم لكي يسكنوا إلى جوارها ، ثم يأمرهم الصوت بالعودة إلى بابل والبحث عن الكتابات المدفونة هناك ، وأن يوزعوها فيما بينهم ، كما أخبرهم الصوت أن الأرض التي يقفون عليها ، إنما هي أرض أرمينيا ، وهكذا عاد القوم ـ دون المختفين ـ إلى بابل ، واستخرجوا الكتابات المدفونة في سيبار ، وشيدوا مدنا كثيرة ، وأعادوا الأرض المقدسة وعمروا بابل بنسلهم (١).

وهناك رواية أخرى لأسطورة الطوفان قديمة كل القدم ، اكتشفت في مدينة «نيبور» (٢) في أثناء عمليات الحفر التي قامت بها جامعة بنسيلفانيا ، وهذه الرواية مدونة على كسرة من الفخار غير المحترق ، وقد رأى الأستاذ «ه. و. هيلبرخت» مرتكزا على أسلوب كتابتها ، وعلى المكان الذي عثر عليها فيه ، أن هذه الرواية لم تدون بعد عام ٢١٠٠ ق. م ، وقد ورد في هذه الرواية أن الإله ظهر ليذيع نبأ حدوث طوفان سيكتسح الجنس البشري في الحال ، وحذر من هذا الطوفان شخصا بعينه ، فطلب منه أن يبني فلكا كبيرا ، ذا سقف قوي ، لينجو فيها بحياته ، وأن يأخذ معه فيها صنوف الحيوان الأليفة وطيور السماء (٣).

وهكذا فإن هناك الكثير من الشواهد الأثرية لقصة الطوفان البابلية ، تؤيدها كتابات على لوح مهشم اكتشف في مدينة «سيبار» أثناء عملية الحفر التي قامت بها الحكومة التركية ، ويرجع إلى حوالي عام ١٩٦٦ ق. م ، نستطيع أن نستخلص منه اسم «أثرخاسيس» (أترام خاسيس) ، فضلا عن إشارات إلى المطر الغزير ، وإلى السفين

__________________

(١) سير جيمس فريزر : الفلكور في العهد القديم ـ ترجمة نبيلة إبراهيم ـ مراجعة حسن ظاظا ـ ج ١ ـ ص ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) نيبور : وتقع على مبعدة مائة ميل إلى الجنوب من بغداد ، وفي منتصف المسافة تقريبا بين كيش وشورباك ، وتعتبر نيبور أهم المراكز الثقافية السومرية في العراق القديم ، كما أنها أكبر مدينة مقدسة ، وربما أكبر مركز ديني في بابل ، كما أن «انليل» إله المدينة كان رئيس مجمع الآلهة البابلي ، وقد أمدتنا المدينة بالآلاف من اللوحات المكتوبة والجذاذات التي صنفت في الألف الثالثة والثانية ق. م ، والتي تدل بوضوح على مدى انتشار الثقافة السومرية (انظرKFTS ,P.٧٧٢) وكذلك

J. P. Peters, Nippur, or Explorations on the Euphates, ٢ vols., ٧٩٨١.

وكذك

H. W. Hilpecht, the Excavations in Assyeia and Babylonia, ٣٠٩١, P. ٩٨٢ FF

(٣) جيمس فريزر : المرجع السابق ـ ص ١٠٢.

٤٩

الذي أمر الملك التقي في «شورباك» ببنائه ، وإلى الأفراد الذين أنقذوا من الطوفان بواسطة الفلك (١).

هذه هي أهم الروايات لقصة الطوفان في العراق القديم ، وقبل أن نعقد مقارنة بين القصص السومرية والبابلية ، نودّ أن نشير إلى أنه قد عثر في أرشيف «بوغازكوي» العاصمة الحيثية على نسخة ترجع إلى الألف الثاني ق. م ، فضلا عن ترجمة للقصة باللغة الحيثية ، وأخرى بالحورية على جزء من لوحة حورية.

يرى «جيمس فريزر (٢)» أن قصة الطوفان السومرية تتفق في ملامحها الأساسية مع قصة الطوفان كما جاءت في ملحمة جلجاميش التي تتميز عن أختها السومرية بطولها وكثرة حوادثها ، ففي كلتا القصتين قرر إله كبير أن يهلك الجنس البشري عن طريق إغراق الأرض بالأمطار ، وفي كليتهما حذر إله آخر رجلا من حدوث الكارثة ، وقد أنقذ هذا الرجل ومن معه عن طريق سفينة أمر ببنائها ، وفي كلتا الحكايتين بلغ الفيضان ذروته في اليوم السابع ، وفي كلتا الحكايتين قدم الإنسان ضحيته للآلهة بعد أن انتهى الطوفان ، ثم رفعته الآلهة بعد ذلك إلى مصافها.

أما الاختلاف الجوهري الوحيد بين الروايتين ، فيتمثل في اسم البطل فيهما ، فهو «زيوسودرا» في الرواية السومرية ، وهو «أوتنابيشتم» أو «أثرخاسيس» في الرواية السامية.

ثالثا : قصة الطوفان اليهودية كما ترويها التوراة :

وردت هذه القصة في الإصحاحات من السادس إلى التاسع من سفر التكوين ، وتجري أحداثها على النحو التالي ـ كما يصورها النص العربي للتوراة ـ :

بدأ الناس يتكاثرون على الأرض ، ويلدون بنات ، وهنا رأى أبناء الله أن بنات الناس حسناوات ، ومن ثم فقد اتخذوا منهن لأنفسهم نساء ، وسرعان ما أنجبت النسوة من بنات الناس ، أبناء للرجال من أبناء الله ، «وهم الجبابرة منذ الدهر».

__________________

(١) جيمس فريزر : المرجع السابق ـ ص ١٠٢. وكذاE.Sollberger ,The Flood ,P.٤٢ F وكذاe.sollberger ,the flood ,p.٤٢ f

(٢) جيمس فريزر : المرجع السابق ـ ص ١٠٥.

٥٠

وهنا رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض ، فحزن أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه ، وعزم على أن يمحو الإنسان والبهائم والدواب والطيور عن وجه الأرض ، وإن استثنى من ذلك نوحا ، لأنه «كان رجلا بارا كاملا في أجياله ، وسار نوح مع الله».

وتزداد شرور الناس ، وتمتلئ الأرض ظلما ، ويقرر الرب نهاية البشرية ، إذ تحدرت إلى شر وغواية ، ويحيط نوحا علما بما انتواه ، آمرا إياه بأن يصنع فلكا ضخما ، «ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعا عرضه ، وثلاثين ذراعا ارتفاعه» ، وأن يكون طلاؤها بالقار والقطران من داخل ومن خارج ، حتى لا يتسرب إليها الماء ، وأن يدخل فيها اثنين من كل ذى جسد حي ، ذكرا وأنثى ، فضلا عن امرأته وبنيه ونساء بنيه ، هذا إلى جانب طعام يكفي من في الفلك وما فيه (١).

ويكرر الرب أوامره لنوح في الإصحاح التالي ، فيأمره أن يدخل الفلك ومن معه ، «ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا وأنثى ، ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى ، ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا وأنثى لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض» ، ذلك لأن الرب قرر أن يغرق الأرض ومن عليها وما عليها بعد سبعة أيام عن طريق مطر يسقط على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة ، ويصدع نوح بأمر ربه فيأوي إلى السفين ومعه أهله واثنين من البهائم الطاهرة وغير الطاهرة ، فضلا عن الطيور وكل ما يدب على الأرض.

وفي اليوم السابع عشر من الشهر الثاني من عام ستمائة من حياة نوح بدأ الطوفان ، «وانفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء ، واستمر الطوفان أربعين يوما على الأرض» ، وتكاثرت المياه ورفعت الفلك عن الأرض وتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء ، خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه ، ومات كل جسد كان يدب على الأرض ، من الناس ، والطيور والبهائم والوحوش وكل

__________________

(١) تكوين ٦ : ١ ـ ٢٢.

٥١

الزحافات ، وبقي نوح والذين معه في الفلك فحسب (١).

ومضت مائة وخمسون يوما نقصت من بعدها المياه ، حتى إذا ما كان اليوم السابع عشر من الشهر السابع استقرت الفلك على جبل أراراط ، ثم ظهرت رءوس الجبال في اليوم الأول من الشهر العاشر ، ثم تمضي أربعون يوما ، وبعدها يرسل نوح غرابا ثم حمامة تعود بعد فترة ، «لأنها لم تجد مقرا لرجلها» ، ثم يعود نوح فيرسلها ثانية بعد سبعة أيام أخر ، فتعود ومعها ورقة زيتون خضراء ، ويكرر نوح المحاولة بعد سبعة أيام أخر ، فلا تعود إليه الحمامة.

وفي أول الشهر الأول من السنة الواحدة بعد الستمائة من حياة نوح «فإذا وجه الأرض قد نشفت» ، وأمر نوحا أن يخرج من السفين ، وكذا من معه وكل الحيوانات والدواب والطيور ، ويبني نوح مذبحا للرب ويصعد له محرقة ، «فتنسم الرب رائحة الرضا ، وقال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض من أجل الإنسان .. ولا أعود أميت كل حي كما فعلت» (٢).

«وبارك الله نوحا وبنيه وقال لهم أثمروا واكثروا واملئوا الأرض ، ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وطيور السماء» ، ثم حرم عليهم قتل بعضهم البعض الآخر ، لأن «سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه ، لأن الله على صورته عمل الإنسان» ، ثم يقيم الله ميثاقه مع نوح وبنيه ومع نسلهم من بعدهم ، فضلا عن الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض ، على ألا يكون هناك طوفان بعد اليوم ، ذلك لأن الرب قد وضع قوسه في السحاب كعلامة ميثاق بينه وبين كل ذي جسد على الأرض ، وأنه متى نشر السحاب على الأرض وظهر القوس ، تذكر الرب ميثاقه ، فلا يكون طوفان يهلك كل ذي جسد على الأرض (٣).

وتختم التوراة قصة الطوفان برواية دنيئة كاذبة مؤداها أن نوحا قد شرب مرة بعد

__________________

(١) تكوين ٧ : ١ ـ ٢٣.

(٢) تكوين ٧ : ١ ـ ٢١.

(٣) تكوين ٩ : ١ ـ ١٧.

٥٢

نجاته من الطوفان نبيذ العنب الذي غرس كرمه بيده ، ففقد وعيه وانكشفت سوأته ، فرآه ابنه حام على هذه الصورة فسخر منه وحمل الخبر إلى أخويه سام ويافث ، ولكن هذين كانا أكثر منه أدبا ، فحملا رداء وسارا به القهقرى نحو أبيهما وسترا عورته دون أن يبصراها ، فلما أفاق نوح من خمره ، وبان له ما فعله به حام ، لعن كنعان ودعا على نسله أن يكونوا عبيدا لعبيد أولاد سام ويافث (١).

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة ، فكانت كل أيام نوح تسع مائة وخمسين سنة ومات (٢).

١ ـ مناقشة قصة التوراة عن الطوفان :

يجمع نقاد التوراة (العهد القديم) (٣) ، على أن أسطورة الطوفان العبرية كما هي مدونة في سفر التكوين تجمع بين قصتين متميزتين في أصلهما ، ومتناقضتين تناقضا جزئيا ، وقد مزج المؤلف بين القصتين لكي يكون منهما قصة واحدة متجانسة من ناحية الشكل ، ومع ذلك فقد مزج المؤلف بينهما بطريقة فجة للغاية ، بحيث لا يفوت القارئ ما فيهما من تكرار وتناقض ، حتى وإن كان القارئ غير مدقق في قراءته (٤).

وأما هذان المصدران اللذان أخذ سفر التكوين قصة الطوفان عنهما ، فأولهما : المصدر اليهوي «Jahvistic Document» ويرمز له بالحرف «J» ، وربما ألف حوالي عام ٨٥٠ ق. م في يهوذا ، وسمي كذلك لأنه يستعمل اسم العلم «يهوه» ، وأما ثانيهما فهو المصدر الكهنوتي «Priestly Document» ويرمز له بالحرف

__________________

(١) تكوين ٩ : ٢٠ ـ ٢٧ وكذلك علي عبد الواحد وافي : الأسفار المقدسة ص ٣٢.

(٢) تكوين ٩ : ٢٨ ، ٢٩.

(٣) التوراة : كلمة عبرانية تعني الهداية والإرشاد ، ويقصد بها الأسفار الخمسة الأولى (التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية) والتي تنسب إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ وهي جزء من العهد القديم ، والذي يطلق عليه تجاوزا اسم «التوراة» من باب اطلاق الجزء على الكل ، أو لأهمية التوراة ونسبتها إلى موسى ـ والتوراة ، أو العهد القديم ـ تمييزا له عن العهد الجديد (كتاب المسيحيين المقدس) ـ هو كتاب اليهود الذي يضم إلى جانب تاريخهم ، عقائدهم وشرائعهم ، ويقسمه أحبار اليهود إلى ثلاثة أقسام : الناموس والأنبياء والكتابات (راجع كتابنا إسرائيل ص ١٩ وما بعدها).

(٤) جيمس فريزر : المرجع السابق ، ص ١٠٦.

٥٣

«P» ، وهو حواشي الكهنة التي أضافوها إلى نص التوراة على عهد عزرا ونحميا ، وقد أدمج في مصادر التوراة (١) الأخرى حوالي نهاية القرن الخامس ، وربما الرابع ق. م ، وليس من شك أن كلا المصدرين يختلف عن الآخر اختلافا بيّنا في أسلوبه وصيغته ، كما أنهما ينتميان إلى عصور مختلفة ، كما رأينا ، هذا إلى جانب أن الرواية «اليهوية» تنبض بحيوية وخيال ، بينا النص «الكهنوتي» ، وإن كان جافا بالقياس ، فهو يتميز بدقة وتدبر (٢).

وتتميز العناصر التفصيلية التي تتألف منها قصة الطوفان في سفر التكوين بعضها عن بعض من حيث اللفظ والمادة (٣) ، فإذا بدأنا بوجوه الاختلاف الشكلية ، فإن أول ما يلفت النظر هو اختلاف اسم الرب في كلا المصدرين فهو في المصدر اليهوي «يهوه» ، وهو في المصدر الكهنوتي «إلوهيم» ، وكلا الاسمين نقلتهما «الترجمة الإنجليزية المعتمدة» إلى كلمتي «السيد» و «الرب» على التوالي (٤) ، وأما الترجمة العربية للتوراة ، فانها تستعمل كلمة «الرب» و «الله» بدلا من «يهوه» و «إلوهيم».

على أن الاختلافات المادية بين الحكايتين ـ اليهوية والكهنوتية ـ لا تزال تلفت النظر إلى أكثر من ذلك ، وحيث إن هذه الاختلافات تصل في بعض الحالات إلى حد التناقض القاطع ، فإن إثبات أن هذه الحكايات مستمدة من مصدرين منفصلين يصل إلى حد اليقين ، ولنقرأ ما جاء في سفر التكوين (٥) ، من أن الله أمر نوحا أن يأخذ «من جميع البهائم الطاهرة سبعة سبعة ذكرا وأنثى ، ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى ، ومن طيور السماء أيضا سبعة ذكرا وأنثى» ، ثم نقرأ بعد ذلك في نفس السفر ـ بل وفي نفس الإصحاح ـ «ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست

__________________

(١) راجع عن «مصادر التوراة» كتابنا إسرائيل ص ٤٥ ـ ٤٨.

(٢)La Sainte Bible) Ecole Biblique de Jer usalem (Ed. du Cerf, Paris, ١٦٩١, P. ٤١.

وانظر التعليق في الهامش ، وكذلك : حسين ذو الفقار صبري : توراة اليهود ، المجلة ، العدد ١٥٧ ، يناير ١٩٧٠ م.

(٣) راجع «التناقضات في التوراة» في كتابنا إسرائيل ، ص ٩٧ ـ ١٠٩.

(٤) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٠.

(٥) تكوين ٧ : ٢ ـ ٣.

٥٤

بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض ، دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكرا وأنثى ، كما أمر الله نوحا» (١) ، فهل أمر الله نوحا أن يأخذ «سبعة سبعة» أم «اثنين اثنين»؟ أم أن نوحا ـ وحاشا نبي الله أن يكون كذلك ـ قد عصى أمر ربه؟ أم أن هذا كان خطأ من الكاتب؟ وإذا كان ذلك كذلك ، ففي أي النصين كان الخطأ ، أفي نص الأمر ، أم في نص التنفيذ؟ علما بأن نص التنفيذ قد تكرر مرة ثانية في التكوين «ودخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة» (٢) ، كما أن الواضح من نص التكوين هذا أنه يضغط على أن ما أمر به الرب «اثنين اثنين» ، ولكنه في التكوين (٧ : ٢) يختلف عن ذلك كثيرا.

ولعل السبب في هذا التناقض ـ فيما يرى جيمس فريزر (٣) ـ أن الحكاية اليهوية عن الطوفان تميز بين الحيوانات الطاهرة والحيوانات النجسة ، فبينما أخذ نوح معه في الفلك سبعة من كل صنف من صنوف الحيوان الطاهر ، لم يأخذ معه سوى زوج من كل صنف من صنوف الحيوان النجس ، أما الكاتب الكهنوتي فلم يميز بين صنوف الحيوان على هذا النحو ، بل جعلها تدخل الفلك وهي على قدم المساواة مع بعضها البعض ، وإن قصر عددها بدون تحيز على زوج من كل صنف ، والسبب في هذا الاختلاف البين ، هو أن الكاتب الكهنوتي لم يفرق بين ما هو طاهر من الحيوان وما هو نجس ، على أساس أن هذه التفرقة قد أوحى بها الرب لموسى لأول مرة ، ومن ثم فإن نوحا لم يكن يعرفها ، أما الكاتب الكهنوتي فقد رأى أن التفرقة بين صنوف الحيوان على أساس الطهارة والنجاسة كانت معروفة لدى الجنس البشري منذ العصور الأولى.

ومرة أخرى تناقض التوراة نفسها في سبب الطوفان ، ففي الرواية اليهوية يعزو «يهوه» القضاء على البشرية ، إذ تحدرت إلى شر وغواية (٤) ، أما في الرواية الكهنوتية ، فإن الله (إلوهيم) ـ لاحظ مرة أخرى الاختلاف بين «يهوه» هناك ، وبين «إلوهيم»

__________________

(١) تكوين ٧ : ٨ ـ ٩.

(٢) تكوين ٧ : ١٥ ـ ١٦.

(٣) جيمس فريزر : المرجع السابق. ص ١١٢.

(٤) تكوين ٦ : ٥ ـ ٧. كذلك : حسين ذو الفقار صبري. توراة اليهود ، المجلة ، العدد ١٥٧ يناير ١٩٧٠ ص ١١.

٥٥

(الله) هنا ـ إنما يتخذ قراره! إذ يرى الأرض قد فسدت جميعا ... كل من وما عليها من حي» (١).

والأمر كذلك بالنسبة إلى مصدر الطوفان ، فبينما يعزوه النص اليهوي إلى مطر عارم يتهاطل على الأرض أربعين يوما بلياليها دون انقطاع (٢) ، يعزوه النص الكهنوتي ليس إلى المطر وحده ، وإنما تنفجر أيضا ينابيع الغمر العظيم من أسفل كما من فوق ، فكأن قد انهار «الجلد» الذي نصبه الإله عند بدء الخليقة فاصلا بين المياه السفلية والتي في السماء ، كما تحدثنا التوراة (٣).

ثم إن هناك اختلافا جوهريا آخر بين الكاتبين يتعلق بدوام مدة الطوفان ، فقد ظلت الأمطار تهطل في قصة الكاتب اليهوي مدة أربعين يوما وأربعين ليلة (٤) ، ثم ظل نوح في فلكه بعد ذلك مدة ثلاثة أسابيع قبل أن ينحسر الماء بمقدار يمكنه من الرسو بسفينته ، ووفقا لهذا الحساب فإن الفيضان يكون قد دام واحدا وستين يوما ، أما في الحكاية الكهنوتية فقد أخذ الطوفان يهطل مدة مائة وخمسين يوما (٥) ، وبعده أخذت المياه في الانخفاض ، أما مدة الطوفان في العموم فقد استغرقت اثني عشر شهرا وعشرة أيام ، وحيث إن الشهور العبرية كانت شهورا قمرية ، فإن الاثني عشر تقدر بثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما ، وإذا أضفنا إلى هذا الرقم عشرة أيام أخرى ، فإن المدة تكون حينئذ سنة شمسية كاملة ، أي ثلاثمائة وأربعة وستين يوما ، وحيث إن الكاتب الكهنوتي قد حسب مدة الفيضان بما يساوي سنة شمسية ، فإنه يمكننا أن ندعي ـ ونحن مطمئنون ـ أن هذا الكاتب قد عاش في الزمن الذي استطاع فيه اليهود أن يصححوا الخطأ الكبير في التقويم القمري عن طريق مراقبتهم للشمس (٦).

وأخيرا فإن الكاتب اليهوي ـ كما يقول جيمس فريزر (٧) ـ عن بناء نوح للهيكل

__________________

(١) تكوين ٦ : ١١ ـ ١٣ وكذلك : حسين ذو الفقار : المرجع السابق ص ١١.

(٢) تكوين ٧ : ٤ ، ١٢.

(٣) تكوين ١ : ٦ ـ ٧ وكذلك حسين ذو الفقار : المرجع السابق ص ١١.

(٤) تكوين ٧ : ٥ ، ١٣ ، ١٧.

(٥) تكوين ٧ : ٢٤ ، ٨ : ٣.

(٦) جيمس فريزر : المرجع السابق ص ١١٢.

(٧) نفس المرجع السابق ص ١١٣.

٥٦

وتقديمه الضحية للرب شكرا له على إنقاذه من الطوفان ، في حين أن الكاتب الكهنوتي لا يذكر شيئا عن بناء الهيكل أو تقديم الضحية ، وسبب هذا بدون شك هو أنه لم يكن هناك هيكل سوى هيكل أورشليم من وجهة نظر القانون «اللاوي» الذي انشغل به الكاتب الكهنوتي ، كما أن تقديم الضحية من قبل رجل عادي مثل نوح يعد عملا غير لائق لم يحدث من قبل ، كما يعد تعدّيا كبيرا على حقوق رجال الدين لم يفكر الكاتب الكهنوتي لحظة في أن ينسبه إلى الشيخ المبجل.

وبناء على ذلك فإن الموازنة بين الحكايتين تؤكد بصورة واضحة النتيجة التي توصل إليها النقاد ، وهي أنهما كانتا في الأصل مستقلتين ، وأن الحكاية اليهوية تعد بحق أقدم من الحكاية الكهنوتية ، ثم مزج كاتب النص الحالي في التوراة بينهما بطريقة فجة للغاية.

ثم يزعمون بعد ذلك ـ ويا للعجب ـ أن هذا تنزيل من عليّ قدير ، «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا» (١). فإن كتابا من عند الله لا تتضارب نصوصه بعضها مع بعض «أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» (٢).

بقيت نقطة أخيرة في قصة الطوفان ـ كما قدمتها التوراة ـ تتصل بوجهة نظر جديدة في الحقيقة ، ذلك لأنه نظرا لما تتمتع به الأساطير الطوفانية من دلالات خاصة في كافة الديانات ، فإنما ترمز إلى إعادة خلق (٣) ، أو إلى تكرار عملية التكوين الأولى ، فتتأكد فيه بالنسبة للمكان قدسية «المركز الكوني» ، وإنا لنجد إيحاءات بذلك في الكتابات الحاخامية ، تقريرا بأن «العالم خلق إلى وجود ابتداء من صهيون» ، وأن آدم إنما «سوّي في أورشليم» (٤) ، ثم الادعاء بأن أرض فلسطين متسامقة عن غيرها ، لم تغمرها مياه الطوفان ، مع التركيز في نصوص أخرى على أن مدينة أورشليم وجبل صهيون بالذات ، هما اللذان أفلتا من الغمر العظيم (٥).

__________________

(١) سورة الكهف : آية ٥.

(٢) سورة النساء : آية ٨٢.

(٣)Mircea Eliade, Traite d\'Histroire des Religions, Paris, ٤٦٩١, P. ٢٨١.

(٤)Mircea Eliade, Cosmos and History, New York, ٩٥٩١, P. ٦١ ـ ٨١.

(٥) Ibid.,P.٣١ ـ ٥١. ، وكذلك حسين ذو الفقار : إله موسى في توراة اليهود : المجلة ـ العدد ١٦٣ يوليو ١٩٧٠ ص ١٥.

٥٧

فلو كانت العقيدة اليهودية صادقة مع نفسها ، لما انحط فلك نوح على جبل «أراراط» ، وإنما على جبل صهيون ، الذي انعقدت من بعد نصوص التوراة على تجسيده في صورة من تفرد قدسي ، من حول معبد سليمان ، مما حدا بالحاخامات أن يدونوا ما دونوا ـ وسبق الإشارة إليه ـ من أنها منطقة متسامقة قصر عن أن يغمرها الطوفان ، في تحد سافر لما تقرره النصوص القديمة (١) من أن قد «تعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض ، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء» ، ومن هنا ، فهو إذن صهيون ، وليس أراراط ، الجبل الذي انحط عليه فلك نوح ، إلا أن نكون أمام حقيقة تاريخية ـ فهو «الجودي» استوت عليه سفينة نوح ، إذ «غِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ» (٢) ، ولكن من أدرانا أن «لجودي» كان قمة من جبال أراراط ، حتى نسلم أننا أمام حقيقة تاريخية ، إنما هو افتراض لا يستقيم مع المنطق ـ نستخلصه من الدراسات المقارنة ـ الذي خضعت له في جوهرها أساطير الأولين ـ بل وحتى تحبيرات الحاخامات ، بعد ذلك بقرون ـ حريصة كل الحرص على قدسية المكان ، من حيث مركزية تكوين ، وبالضرورة ، من حيث إعادة خلق ، أو إعادة توالد وتكاثر من صلب ذرية مصطفاة ، وقد أبيدت أسباب الحياة جميعا (٣).

إننا بصدد أسطورة أجمع النقاد على أنها استعيرت من أصول سابقة ـ سومرية أو بابلية فيما قيل ـ استنادا إلى النصوص التي تمّ الكشف عنها ، ولكن ليس حتما وبالضرورة ، فقد كانت شائعة ذائعة فيما بين الشعوب القديمة ، فمن يدرينا أن لم تستق عناصرها عند العبريين من روايات أخرى ، ضاعت أصولها فيما ضاع ، أو ربما هي بعد في طي الغيب ، لم تتهيأ ظروف الكشف عنها ، كما كان الحال بالنسبة للرواية السومرية قبل عام ١٩١٤ م (٤).

ولعل الذي يدفعنا إلى هذا التساؤل ، إنما هو كلمة «أراراط» استوقفتنا فنحار

__________________

(١) تكوين ٧ : ١٩.

(٢) سورة هود آية : ٤٤.

(٣) حسين ذو الفقار : المرجع السابق ص ١٥.

(٤) نفس المرجع السابق ص ١٥ ، وكذلك S.H.Hooke ,Middle Eastern Mythology ,London , ١٦.P ، ١٩٦٣.

٥٨

كيف أمكنها التسلل إلى نصوص التوراة ... لا تفسير إلا أن الأسطورة هنا مستقاة من أصول تداولها أقوام استوطنوا وقتا ما هضاب أرمينيا ، تلك المنطقة الجبلية ، حرية بأن تكون قد أورثتهم عبادة إله ما ، بركاني الصفات والسمات ، يطلقون عليه من بعد ـ إذ يستقر بهم المقام في أرض كنعان ـ تحريفا أو تبديلا ، أسماء سامية أو قريبة في مخارجها على الأقل من اللغات السامية ، مثل «أداد» و «شداي». وإل وه ربما كان هو الاسم العتيق للإله «يهوه» إله القينيين منذ الأزل ... بل إن بعض الثقات يرجعون أسطورة الطوفان ـ كما في التوراة ـ إلى أصول «حورية» من الذين استقروا بأرض فلسطين في عصر إبراهيم (تك ١٤ : ٦) تعثر بنقوشهم متناثرة فيما بين تل الحريري (ماري القديمة) ورأس شمرا (أوجاريت) ، ولكن أقدمها ، تلك التي في «بوغازكوي» عاصمة الحيثيين القديمة بقلب الأناضول ، اشتملت على مقاطع من ملحمة جلجاميش ، ولغتهم ـ أو لهجة متفرعة عنها ـ هي التي كانت سائدة في مملكة «أورارتوUrartu» ـ أرمينيا القديمة ـ إليها تنسب جبال «أرارات» أو «أراراط» كما في التوراة (١) ، ومع ذلك فإننا نميل إلى أن قصة الطوفان ، كما جاءت في التوراة ، إنما تعتمد في الدرجة الأولى على أساطير طوفانية ـ سومرية أو بابلية ـ من العراق القديم ، الأمر الذي سوف نوضحه فيما بعد.

ولكن : لعل من الأفضل قبل ذلك ، أن نشير إلى الدور الذي لعبه الخيال اليهودي في العصور المتأخرة بحكاية الطوفان ـ كما روتها التوراة ـ فأضافوا إليها تفاصيل جديدة تميل إلى المغالاة أحيانا ، وإلى الزخارف الرخيصة أحيانا أخرى ، وإلى تشويه القصة في غالب الأحايين ، وكأن هؤلاء اليهود لم يكفهم ما فعله أسلاف لهم في عصور خلت من مسخ القصة الحقيقية ـ كما أنزلها الله على كليمه موسى عليه‌السلام ـ فخلطوا بينها وبين ما وجدوه في العراق القديم ـ على أيام السبي البابلي ـ من قصص عن طوفان يروي السومريون ، والبابليون من بعدهم أنه أغرق أرضهم.

__________________

(١) حسين ذو الفقار : المرجع السابق ص ١٥ ، ١٦ وكذلك :

O. R. Gurney, the Hittites) Penguin Books (, ٩٦٩١, P. ٣٢١ ـ ٤٢١ :

وفي الترجمة العربية للدكتور محمد عبد القادر ص ١٧١ ، وكذلك.

Andre Caquot, Mythologies Des Semites Occidentaux in Mythologies de la Mediterranee au Gange, paris, ٣٦٩١, P. ٢٩.

٥٩

ومن بين الزخارف الرخيصة أو الإضافات الغريبة التي أضيفت إلى الأسطورة القديمة ، تصوير الناس وهم يعيشون في دعة قبل أن يحدث الطوفان ، فقد كانوا من زراعة واحدة يجنون محصولا يكفي حاجاتهم طيلة أربعين عاما ، كما كانوا بفنونهم السحرية يسخرون الشمس والقمر لخدمتهم ، ولم تكن الأجنة تمكث في بطون أمهاتها سوى بضعة أيام بدلا من تسعة شهور ، وبمجرد أن يولد الأطفال يكونون قادرين على الكلام والسير على الأقدام ، بل إنهم يتحدون الشياطين ويستهزءون بهم. وإن هذه الحياة السهلة المرفهة كانت هي السبب فيما وصل إليه الناس من ضلالة ، كما كانت دافعا لهم إلى ارتكاب الآثام ، وبخاصة الفسق والسلب ، الأمر الذي أثار غضب الرب وجعله يقرر أن يقضي على العاصين بأن يغرقهم في الطوفان.

ومع ذلك فقد أمهلهم الرب وأمر نوحا بأن يعظهم حتى يرجعوا عن هذه الطريق ، وهددهم بأن الرب سيغرقهم في الطوفان جزاء جورهم ، وقد أخذ نوح يعظهم طيلة مائة وعشرين عاما ، بل إن الرب منحهم مهلة أسبوع آخر في نهاية هذه المدة ، وفي هذا الأسبوع جعل الرب الشمس تشرق كل صباح من المغرب ، وتغرب في المساء في المشرق ، ولكن هذا كله لم يحرك هؤلاء العاصين للرجوع إلى التوبة ، بل على العكس أخذوا يسخرون من نوح الورع ، ويستهزءون به عند ما أبصروه يبني الفلك ، وكان نوح قد تعلم بناءه عن طريق كتاب مقدس كان قد سلمه الملاك «رزائيل» إلى آدم ، وكان يحتوي بين ثناياه على العلم الديني والدنيوي معا ، وقد كان هذا الكتاب من الياقوت الأزرق ، وقد وضعه نوح في صندوق ذهبي أحكم إغلاقه وأخذه معه في الفلك ، فقام مقام الساعة في التمييز بين الليل والنهار في أثناء فترة الفيضان التي لم تكن تسطع فيها الشمس أو يبزغ فيها القمر ، أما الطوفان فقد تسبب عن التقاء المياه المذكرة التي هطلت من السماء بالمياه الأنثوية التي تدفقت من الأرض ، وقد تدفقت مياه السماء من تجاويف صنعها الرب بأن انتزع نجمين من برج الثريا فتركا مكانهما تجويفا ، وعند ما شاء الرب بعد ذلك أن يسكت الأمطار الهاطلة من السماء عاد فسد التجويفين بنجمين أخذهما من برج الدب ، وهذا هو السبب في أن برج الدب ما زال يلاحق برج الثريا حتى اليوم مطالبا بأولاده ولكنه لن يحصل عليهم إلى الأبد.

ومنها كذلك أن هناك حيوانا ضخما هو «الريم» لم يجد له مكانا في الفلك لضخامته ،

٦٠