دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

تَعْقِلُونَ» ، وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر ، وغيظ النفس ، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف».

وعند ذلك أخذتهم العزة بالإثم «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ، فيا لها من آلهة ينصرها عبادها ، وهي لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا تحاول لها ولا لعبادها نصرا ، ولكن كلمة الله العليا ردت على كلمتهم «حرقوه» ، فأبطلت كل قول ، وأحبطت كل كيد ، لأن كلمة الله العليا لا ترد «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ».

وأما كيف لم تحرق النار إبراهيم؟ والمشهور المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية ، فلا نسأل عن ذلك ، لأن الذي قال للنار : كوني حارقة ، هو الذي قال لها : كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول ، مألوفا للبشر أو غير مألوف ، وعز من قال «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (١).

ومن عجب أن يحاول بعض المؤرخين الإسلاميين كما أشرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة (٢) ، أن يقدموا لنا قصصا تدعو إلى العجب في هذه المواقف الجادة ، فيرون أن «نمرودا» ـ وهو الملك المعاصر لإبراهيم فيما يقولون ـ أمر بجمع الحطب ، حتى أن المرأة العجوز كانت تحمل الحطب على ظهرها ، وتقول : «اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا» ، وحتى أن المرأة لتنذر إن بلغت ما تريد أن تحتطب لنار إبراهيم ، وأن أمه نظرت إليه في النار ، فطلبت أن تجيء إليه فيها ، على أن يدعو إبراهيم ربه ألا يضرها شيء من حر النار ، ففعل ، وهكذا ذهبت إليه فاعتنقته وقبلته ، ثم عادت وقد

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٨٤ ـ ٢٣٨٨.

(٢) انظر : محمد بيومي مهران : دراسات تاريخية من القرآن الكريم ـ الرياض ١٩٨٠ ١ / ١٢٩ ـ ١٣٤.

١٤١

اطمأنت على ولدها (١) ، ويتسابق البعض الآخر في رواية الأساطير ، فيذهب إلى أنها إنما كانت ابنة نمرود ، وليست أم الخليل ، هي التي ذهبت إليه في النار ، وأن الخليل قد زوجها بعد ذلك من ولده مدين ، فحملت منه عشرين بطنا ، أكرمهم الله بالنبوة (٢).

ولست أدري كيف احتاج نمرود ، وهو في رأي هذا النفر من المؤرخين قد ملك الدنيا بأسرها ، إلى أن تحمل المرأة العجوز ما لا تطيق ، وإلى أن ينتظر نذر النساء بجمع الحطب لناره ، وهل كان جمع الحطب يحتاج إلى فترة تمضى بين أن يتحقق للمرأة ما طلبت وبين أن توفي بنذرها حطبا للنار التي أعدها النمرود للخليل عليه‌السلام؟ ، وأما قصة أم إبراهيم فأمرها عجب ، فكيف رأته في النار سليما معافى ، ثم اعتنقته وقبلته ، ثم كيف سمح لها القوم ـ وخاصة زوجها ـ بأن تذهب إليه؟ أم أن أصحابنا المؤرخين أرادوا أن تذهب خلسة ، كما وضعته خلسة (٣) فيما يزعمون ، وإن كان الأعجب من

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٢٤١ ، ابن الأثير : الكامل في التاريخ ١ / ٩٨ ـ ٩٩ (بيروت ١٩٦٥) ، ابن كثير البداية والنهاية ١ / ١٤٦ (الرياض ١٩٦٦).

(٢) الديار بكري : تاريخ الخميس ص ٩٣ ـ ٩٥ (القاهرة ١٣٠٢ ه‍).

(٣) يروى الأخباريون أن أصحاب النجوم قد أخبروا النمرود أن غلاما يقال له إبراهيم سوف يولد في شهر كذا من سنة كذا من عهده ، وأنه سيفارق دين القوم ويحطم أصنامهم ، ومن ثم فقد أمر النمرود بقتل كل غلام يولد في تلك الفترة ، غير أن أم إبراهيم قد أخفت حملها ، ثم وضعته سرا في مغارة قريبة من المدينة ، ومن ثم فقد نجا إبراهيم من القتل ، ثم أعلمت زوجها بأن الغلام قد مات على زعم ، وأخبرته بالحقيقة على زعم آخر ، وعلى أي حال ، وطبقا للرواية ، فقد أخذت تتردد على وليدها يوما بعد آخر ، وأنها كانت تتعجب كثيرا من أنه كان يشب في اليوم ما يشبه غيره في الشهر (انظر : تاريخ الطبري ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٦) الكامل لابن الأثير ١ / ٩٤ ـ ٩٥ ، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء ١ / ١٣ ، البداية والنهاية لابن كثير ١ / ١٤٨ ، تاريخ الخميس ص ٨٩ ـ ٩١ ، ١١٤ ، كتاب البدء والتأريخ للمقدسي ٣ / ٤٥ ـ ٤٨ ، المحبر ص ٣٩٢ ـ ٣٩٤ ، مروج الذهب ١ / ٥٦) ، وفي الواقع أن مثل هذه الروايات والأساطير إنما دارت كذلك عن مولد موسى والمسيح عليهما‌السلام (تاريخ ـ

١٤٢

ذلك أن تكون هذه المرأة بالذات هي بنت النمرود ، وأن يزوجها أبو الأنبياء من ولده مدين ، وأن تنجب له عشرين بطنا من الأنبياء ، وأخيرا ما الهدف من هذا القصص وأمثاله ، كقصة الميرة ، وقصة جيوش الذباب ، وقصة أفراخ النور (١).

وأياما كان الأمر ، فليس هناك إلى سبيل من شك في أن حادث إلقاء إبراهيم في النار ونجاته ، إنما كان معجزة للخليل عليه‌السلام حفظه الله بها ، ورد كيد الكافرين في نحورهم ، روى المفسرين أن القوم حين ألقوا إبراهيم عليه‌السلام في النار مقيدا مغولا ، قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقى في النار ، وقالها محمد عليه‌السلام ، حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل (٢).

وروى أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك» ، قال : ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع ، فاستقبله جبريل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا ، فقال جبريل : فاسأل ربك ، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فقال الله تعالى ، وهو أصدق القائلين «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» ، قال بعض العلماء :

__________________

ـ اليعقوبي ١ / ٣٣ ، مروج الذهب ١ / ٦١ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٨٦ ـ ٣٨٨ ، تاريخ ابن كثير ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، متى ٢ / ١ ـ ٢٣).

(١) تاريخ الطبري ١ / ٢٨٨ ـ ٢٩٠ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١١٥ ـ ١١٧ ، تاريخ ابن كثير ١ / ١٤٩ ، تاريخ الخميس ص ٩٥ ـ ٩٦ ، المقدسي ٣ / ٥٦ ، أخبار الزمان للمسعودي ص ١٠٤ ـ ١٠٩ ، تفسير مقاتل ١ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٢) تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٤.

١٤٣

جعل الله فيها حرا يمنع بردها ، وبردا يمنع حرها ، فصارت سلاما عليه ، قال أبو العالية : ولو لم يقل «بردا وسلاما» ، لكان بردها أشد عليه من حرها ، ولو لم يقل «على إبراهيم» لكان بردها باقيا على الأبد (١).

وروى عن الإمام علي وابن عباس : لو لم يتبع بردها سلاما ، لمات إبراهيم من بردها ، ولم تبق يومئذ نار إلا أطفئت ، ظنت أنها تعني ، وعن ابن عباس : لوم لم يقل ذلك لأهلكته ببردها ، والمعنى ، كما يقول الإمام النسفي ، أن الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق ، وأبقاها على الإضاءة والإشراق كما كانت ، وهو على كل شيء قدير (٢).

وروى الحافظ أبو يعلي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما ألقى إبراهيم عليه‌السلام في النار ، قال : اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك» ، ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت سبحانك ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك» (٣).

وقال سعيد بن جبير ـ ويروى أيضا عن ابن عباس ـ قال : لما ألقى إبراهيم ، جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال : فكان أمر الله أسرع منه ، قال الله : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ، قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت ، وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أحد يومئذ بنار ، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.

وقال كعب وقتادة والزهري : ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوزغ ، فإنها كانت تنفخ عليه ، فلذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقتلها وسماها فويسقة ، وروى ابن أبي حاتم عن مولاة الفاكه بن المغيرة

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ٤٣٤٣ ـ ٤٣٤٤.

(٢) تفسير القرطبي ص ٤٣٤٤ ، تفسير النسفي ٣ / ٨٤.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٤ ، تفسير الدر المنثور ٤ / ٣٢٣ ، تفسير القرطبي ص ٤٣٤٣.

١٤٤

المخزومي قالت : دخلت على عائشة ، فرأيت في بيتها رمحا ، فقلت يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ، نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم حين ألقى في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار ، غير الوزغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم ، فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله».

١٤٥
١٤٦

الفصل الثّالث

بين إبراهيم والملك

فشا في الناس أمر الدعوة التي أخذ أبو الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليه ، ينشرها ويروج لها ، وإذا القوم لا حديث لهم غير إبراهيم ودعوته ، وأحس الملك أن خاتمته قد دنت ، أو على أن زلزالا يهدد عرشه ، وقد يقضي عليه بعد حين من الدهر ، ومن ثم فقد ازداد غضبه ، وكاد يطير منه الصواب ، فأمر بدعوة إبراهيم ، وقامت بينهما مناظرة ، ليس أبلغ من القرآن الكريم في عرضها ، يقول عز من قال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ، أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ، قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١).

وتحكى الآيات الكريمة حوارا بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وملك في أيامه يجادله في الله ، لا يذكر السياق باسمه ، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا ، وهذا الحوار يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل ، الذي حاج

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٥٨ ، وانظر : تفسير الطبري ٥ / ٤٢٩ ـ ٤٣٨ ، تفسير النسفي ١ / ١٣٠ ، تفسير ابن ناصر السعدي ١ / ١٥٣ ـ ١٥٤ ، تفسير الحلالين ص ٥٦ ـ ٥٧ ، تفسير القرطبي ص ١٠٩١ ـ ١٠٩٦ ، صفوة التفاسير ١ / ١٦٥ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ، تفسير المنار ١١ / ٣٨ ـ ٤٠ ، في ظلال القرآن ١ / ٢٩٦ ـ ٢٩٨.

١٤٧

إبراهيم في ربه ، وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب (١).

وجاء في تفسير المنار : قال الأستاذ الإمام (أي الإمام محمد عبده) ـ وعزاه إلى المحققين ، الكلام متصل بما قبله ، وشاهد عليه ، كأنه يقول : انظروا إلى إبراهيم كيف كان يهتدي بولاية الله له إلى الحجج القيمة والخروج من الشبهات التي تعرض عليه ، فيظل على نور من ربه ، وإلى الذي حاجه كيف كان بولاية الطاغوت له ، يعمى عن نور الحجة وينتقل من ظلمات الشبه والشكوك إلى أخرى ، قالوا : الاستفهام في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) ، للتعجيب من هذه المحاجة وغرور صاحبها وغباوته ، مع الإنكار (٢).

ويقول صاحب الظلال : إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود الله أصلا ، إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ، ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده ، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ، ولكنهم يجعلون له أندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم ، وكذلك كان منكرا أن الحاكمية لله وحده ، فلا حكم إلا حكمه في شئون الأرض وشريعة المجتمع (٣) ، على أن الأستاذ النجار إنما يذهب إلى أن قصة إبراهيم المحكية في القرآن إنما تشعرنا أن هؤلاء القوم إنما كانوا يعبدون ملوكهم مع آلهتهم ، يدل على ذلك المحاجة التي كانت بين إبراهيم وبين الملك ، فأحب الملك أن يرجع إبراهيم عن نحلته الجديدة المخالفة لنحلة قومه ، وأن يعبده وآلهته (٤).

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٢٩٧.

(٢) تفسير المنار ١١ / ٣٩.

(٣) في ظلال القرآن ١ / ٢٩٧.

(٤) عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ٨١.

١٤٨

وعلى أية حال ، فإن هذا الملك المنكر المتعنت ، إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر ، هذا السبب هو «أن آتاه الله الملك» ، وجعل في يده السلطان (١) ، أو كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده : إن الذي حمله على هذه المحاجة هو إيتاء الله تعالى الملك له ، فكان منشأ إسرافه في غروره ، وسبب كبريائه وإعجابه بقدرته (٢) ، مع أن المفروض أن يشكر ويعترف بنعمة الله عليه ، لو لا أن الملك يطغى ويبطر من لا يقدرون نعمة الله ، ولا يدركون مصدر الإنعام ، ومن ثم يصنعون الكفر في موضع الشكر ، ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا مهتدين ، فهم حاكمون لأن الله حكّمهم ، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم ، فهم كالناس عبيد الله ، يتلقون مثلهم الشريعة من الله ، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع ، فهم خلفاء لا أصلاء ، ومن ثم يعجب الله من أمره ، وهو يعرضه على نبيه (٣).

هذا ويروي المفسرون في سبب هذه المحاجة روايتين ، إحداهما : أنهم خرجوا إلى عيد لهم ، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا قال لهم : أتعبدون ما تنحتون ، فقال : فمن تعبد ، قال : أعبد ربي الذي يحيي ويميت ، وقال بعضهم أن نمرود كان يحتكر الطعام ، فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فدخل إبراهيم فلم يسجد له ، فقال : ما لك لا تسجد لي ، قال : أنا لا أسجد إلا لربي ، فقال له نمرود : من ربك ، قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، وذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر الناس بالميرة ، فكلما جاء قوم يقول : من ربكم وإلهكم ، فيقولون أنت ، فيقول : ميروهم ، وجاء إبراهيم عليه‌السلام

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٢٩٧.

(٢) تفسير المنار ١١ / ٣٩ ، وانظر : تفسير النسفي ١ / ١٣٠ ، صفوة التفاسير ١ / ١٦٥ ، تفسير الطبري ٥ / ٤٣١.

(٣) في ظلال القرآن ١ / ٧٢٩٧.

١٤٩

يمتار فقال له : من ربك وإلهك ، فقال : ربي الذي يحيي ويميت ، فلما سمعها نمرود قال : أنا أحي وأميت ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر ، وقال : لا تميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء ، فمر على كثيب رمل كالدقيق ، فقال في نفسه : لو ملأت غرارتي من هذا ، فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم ، فذهب بذلك ، فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ، ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري (الدقيق الأبيض ، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه) فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا؟ ، فقالت : من الدقيق الذي سقت ، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك (١).

وأما وقت هذه المحاجة فهو موضع خلاف ، فذهب رأي إلى أن ذلك إنما كان بعد أن كسر إبراهيم الأصنام التي كانت تعبد من دون الله ، وسفه أحلام عابديها (٢) ، وذهب رأي آخر إلى أنها كانت بعد خروج إبراهيم من النار ، ولم يكن إبراهيم اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم ، فجرت بينهما هذه المناظرة (٣) ، على أنه قد يفهم من رواية ابن الأثير أن ذلك كان قبل تكسيره الأصنام (٤).

وأما هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه ، فهو ، فيما يرى كثير من المفسرين والمؤرخين ، «النمرود بن كنعان بن كوش» ، والذي كان ، فيما يزعمون ، واحدا من ملوك أربعة ملكوا الأرض كلها : نمرود وبختنصر

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ١٠٩٢ ـ ١٠٩٣ ، وانظر : تفسير الطبري ٥ / ٤٣٣ ـ ٤٣٤ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٦٩.

(٢) تفسير المنار ١١ / ٣٩.

(٣) تفسير ابن كثير ١ / ٤٦٩.

(٤) ابن الأثير : الكامل في التاريخ ١ / ٩٦.

١٥٠

(نبوخذ نصر) وهما كافران ، وسليمان بن داود وذي القرنين ، وهما مؤمنان ، كما كان نمرود هذا أول جبار تجبر في الأرض ، وأول ملك في الأرض ، وهو كذلك صاحب الصرح في بابل ، وأول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل ، إلى غير ذلك من صفات أسبغت عليه ، ولا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى ، من أين أتى بها مؤرخونا ، وكثير منهم ممن يعتد بهم ، ولهم مكانة عالية في التاريخ ، فضلا عن التفسير (١).

والواقع أن تلك الأسطورة التي تتردد في المصادر العربية عن الملوك الأربعة الذين حكموا الدنيا بأسرها (٢) تتفق والحقائق التاريخية المتعارف عليها ، بحال من الأحوال ، فأول هؤلاء الملوك ، وهو نمرود ، والذي يهمنا هنا ، قد لا يعلم أصحاب هذه الأسطورة أن التاريخ البابلي لا يعرف ملكا بهذا الاسم ، حتى الآن على الأقل ، ولست أدري من أين جاء به أصحابنا المؤرخون الإسلاميون ، وأكبر الظن أنهم أخذوه من مسلمة أهل الكتاب ، حيث جاء في توراة يهود «وكوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض ... وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكأنه في أرض شنعار» (٣) ، على أن التاريخ يعرف بلدا باسم «نمرود» ، على مجرى الزاب الأعلى ، وقد كانت عاصمة للامبراطورية الآشورية على أيام الملك «سرجون الثاني» (٧٢٢ ـ ٧٠٥ ق. م) ، وهي نفسها مدينة «كالح» في التوراة (٤) ، والتي أسسها «آشور بانيبال الثاني» عام ٨٨٣ ق. م ، وتقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة ، وعلى مبعدة ٢٢ ميلا جنوب الموصل الحالية ، وهكذا خلط كاتب سفر التكوين من التوراة بين الملك والمدينة ،

__________________

(١) انظر : تفسير الطبري ٥ / ٤٣١ ـ ٤٣٣ ، تفسير القرطبي ص ١٠٩٢ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٦٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ٩٤ ، أبو الفداء ١ / ١٣ ، المقدسي ٣ / ٤٥ ـ ٤٨ ، تاريخ الخميس ص ٨٩ ـ ٩١ ، مروج الذهب ١ / ٥٦ ، المحبر ص ٣٩٢ ـ ٣٩٤ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ١٤٨.

(٢) تكوين ١٠ / ٨ ـ ١٠.

(٣) تكوين ١٠ / ٨ ـ ١٠.

(٤) تكوين ١٠ / ٧١١.

١٥١

ثم جاء مؤرخونا ونقلوا ما في التوراة ، وكأنه التاريخ الذي يرقى فوق كل هواتف الريبة والشك ، وهو غير ذلك بكل مقاييس منهج البحث التاريخي والديني.

هذا فضلا عن مؤرخينا أنفسهم هم الذين يزعمون أن النمرود إنما كان من الأنباط ، الذين لم يستقلوا بشبر واحد من الأرض ، ومن ثم فإن النمرود إنما كان عاملا للضحاك ، وهو فارسي ، على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة (١) ، وليت هؤلاء الذين كتبوا ذلك كانوا يعرفون أن الأنباط لم يكونوا في العراق ، وإنما في شمال غرب الجزيرة العربية ، وأن عاصمتهم إنما كانت «البتراء» ، وأنهم أقاموا دولة مستقلة ، فيما بين القرنين الثاني قبل الميلاد ، وأوائل الثاني بعد الميلاد ، حيث استولى الرومان على البتراء عام ١٠٦ م ، على أيام «تراجان (٩٨ ـ ١١٧ م) ، ومن ثم فالفرق الزمني بين عهد الخليل عليه‌السلام وبين عهد الأنباط ، جهد كبير (٢).

وأما أن نمرود هذا إنما كان أول من تجبر في الأرض ، فليس هناك من دليل يؤكده ، أو حتى يعضده ، والأمر كذلك إلى بنائه لصرح بابل ، بل إن هذا الصرح نفسه في حاجة إلى دليل يؤيد وجوده ، وأما أنه أول من ملك في الأرض ، فمن المعروف تاريخيا أن مصر إنما كانت أول «أمة» في التاريخ نمت فيها عناصر الأمة بمعناها الكامل الصحيح ، وبعدها كانت أول «دولة» بالمعنى السياسي المنظم ، نجحت في أن تؤسس أول ملكية عرفتها البشرية على طوال تاريخها وبالتالي فإن الملك «مينا» (نعرمر ـ عحا) مؤسس الأسرة المصرية الأولى ، إنما كان أول ملك في التاريخ ، وأن ذلك كان حوالى عام

__________________

(١) انظر عن دولة الأنباط (محمد بيومي مهران : تاريخ العرب القديم ـ الرياض ١٩٨٠ ص ٤٩٣ ـ ٥٢٣ ـ طبعة ثانية).

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٢٩١ ـ ١٩٢ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١١٦ ـ ١١٧ ، تفسير القرطبي ص ١٠٩٢.

١٥٢

٣٢٠٠ قبل الميلاد ، وقبل عهد إبراهيم عليه‌السلام (١٩٤٠ ـ ١٧٦٥ ق. م) والذي شرفت مصر بزيارته لها على أيام الملك «سنوسرت الثالث (١٨٧٨ ـ ١٨٤٣ ق. م) من ملوك الأسرة الثانية عشرة (١٩٩١ ـ ١٧٨٦ ق. م) ، بأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان (١).

وأما أنه أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل ، فيعارضه إن ذلك إنما كان فرعون موسى ، كما جاء في القرآن الكريم عن فرعون موسى (٢) ، وكما جاء في تفسير النسفي (٣) ، هذا إلى وجود تاريخي يصور وسائل التعذيب هذه في زمان فرعون موسى ، وقد ورد النص في معبد عمدا ، ويرجع إلى السنة الرابعة من عهد الفرعون «مرنبتاح» (١٢٢٤ ـ ١٢١٤ ق. م) وهو الفرعون الذي شاع في الناس أنه فرعون الخروج (٤) ، وهذا ما نميل إليه من دراساتنا عن فرعون موسى (٥).

وعلى أية حال ، فإن بعض المفسرين إنما يذهبون إلى أن الناس كانوا يمتارون من عند هذا الذي آتاه الله الملك ، الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مرّ به ناس قال (أي الملك) : من ربكم ، قالوا أنت ، حتى مرّ إبراهيم ، قال من ربك ، قال : الذي يحيي ويميت (٦) ، أو كأنه كان قد سأله عن ربه الذي يدعو إلى عبادته ، وقد كسر الأصنام التي تعبد من دونه وسفه

__________________

(١) انظر (محمد بيومي مهران : مصر ـ الكتاب الأول ـ الإسكندرية ١٩٨٨ ص ٢٤١ ـ ٢٧٢ ـ طبعة رابعة ، إسرائيل ـ الكتاب الأول ـ الإسكندرية ١٩٧٨ ص ٧٢ ـ ٨٢ ، ٩١ ـ ١٠٤).

(٢) انظر : سورة الأعراف : آية ١٢٣ ـ ١٢٦ ، طه : آية ٧١ ـ ٧٦.

(٣) تفسير النسفي ٢ / ٧٠.

(٤) أحمد عبد الحميد يوسف : مصر في القرآن والسنة ـ القاهرة ١٩٧٣ ص ١١٠ ، وكذا : A. Youssef, Merenptah\'s fourth year Text at Amada, ASAE, L VIIIm ٤٦٩١, P. ٣٧٢ F.

(٥) محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣٥١ ـ ٤٣٩.

(٦) تفسير الطبري ٥ / ٤٣٣.

١٥٣

أحلام عابديها لأجله ، فأجاب بهذا الجواب ، فأنكره الملك الطاغية الذي حكي عنه ادعاء الألوهية لنفسه ، وقال «أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» ، أحي من أحكم عليه بالإعدام بالعفو عنه ، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله ، فدل جوابه هذا على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، ذلك لأن إبراهيم عليه‌السلام وهو رسول موهوب موهبة ربانية إنما يعني من الاحياء والاماتة الانشاء ، إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء ، فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه ، ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه ، رأى في كونه حاكما لقومه ، وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية ، فقال لإبراهيم : أنا سيد هؤلاء القوم ، وأنا المتصرف فيهم وفي شئونهم ، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له وتسلم بحاكميته (٢).

وقال قتادة وابن إسحاق والسدى وغير واحد : وذلك أنه أوتي بالرجلين قد استحقا القتل ، فأمر بقتل أحدهما ، فيقتل ، وأمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل ، فذلك معنى الإحياء والإماتة ، والظاهر والله أعلم ، أنه ما أراد هذا ، لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم ، ولا في معناه ، لأنه غير مانع لوجود الصانع ، وإنما أراد أن يعي لنفسه هذا المقام ، عنادا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك ، وأنه هو الذي يحيي ويميت ، كما اقتدى به فرعون في قوله : «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» ، ولهذا قال إبراهيم ، لما ادعى هذه المكابرة : «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب» (٣).

وقال الأستاذ الإمام محمد عبده : لم يقل «فقال إني أحي وأميت» ، لأن جوابه مقطع عن الدليل لا يتصل به بالمرة ، فإنه أراد أن يكون سببا للإحياء والإماتة ، والكلام في الإنشاء والتكوين ، لا في اتخاذ الأسباب والتوسل في

__________________

(١) تفسير المنار ١١ / ٣٩.

(٢) في ظلال القرآن ١ / ٢٩٨.

(٣) تفسير ابن كثير ١ / ٤٦٨.

١٥٤

الشيء المكون ، فالمراد بالذي يحيي ويميت الذي ينشئ الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها ، ويزيل الحياة بالموت ، وعبرب «الذي» الدال على المعهود المعروف صلته دون «من» التي فيها الإبهام ، وبالمضارع الدال على التجدد والاستمرار ، الإفادة أن هذا شأنه دائما ، كما هو معهود معروف لمن نظر في الأكوان نظر المفكر المستدل ، ولما رأى إبراهيم أنه لم يفهم أن مراده بالذي يحيي ويميت مصدر التكوين الذي يحيا كل حيّ بإحيائه ، ويموت بقطع إمداده بالحياة «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» ، فهذا إيضاح لقوله الأول ، وإزالة لشبهة الخصم ، لا أنه جواب آخر ، كما فهم الجلال وغيره ، والمعنى إن ربي الذي يعطي الحياة ويسلبها بقدرته وحكمته ، هو الذي يطلع الشمس من المشرق ، أي هو المكون لهذه الكائنات بهذا النظام والسنن الحكيمة التي نشاهدها عليها ، فإن كنت تفعل كما يفعل ، فغيّر لنا نظام طلوع الشمس،وائت بها من الجهة المقابلة للجهة التي جرت سنته تعالى بظهورهامنها (١).

وهذا ، كما يقول الإمام النسفي ، ليس بانتقال من حجة إلى حجة ، كما زعم البعض ، لأن الحجة الأولى كانت لازمة ، ولكن لما عاند اللعين حجة الإحياء ، بتخلية واحد وقتل الآخر ، كلمة من وجه لا يعاند ، وكانوا أهل تنجيم ، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم ، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية ، كتحريك الماء النمل على الرحى ، إلى غير جهة حركة النمل ، فقال إن ربي يحرك الشمس قسرا على غير حركتها ، فإن كنت ربا فحركها بحركتها ، فهو أهون (٢) ، «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» ، ذلك لأن التحدي قائم ، والأمر ظاهر ، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء ، وكان التسليم أولى والإيمان أجدر ، ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق

__________________

(١) تفسير المنار ١١ / ٣٩ ، وانظر : تفسير الجلالين ص ٥٧.

(٢) تفسير النسفي ١ / ١٣٠.

١٥٥

يمسك بالذي كفر ، فيبهت ويبلس ويتحير ، ولا يهديه الله إلى الحق ، لأنه لم يلتمس الهداية ، ولم يرغب في الحق ، ولم يلتزم القصد والعدل «وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (١).

وهذا التنزيل على هذا المعنى ، كما يقول الإمام ابن كثير ، أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين ، أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني ، انتقال من دليل إلى أوضح منه ، ومنهم من قد يطلق عبارة ترديه ، وليس كما قالوه ، بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ، ويبيّن بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني (٢).

وانطلاقا من كل هذا ، فلا محل للشبهة التي يوردها بعض الناس على حجة إبراهيم عليه‌السلام ، وهي أنه كان للنمرود أن يقول له : إذا كان ربك هو الذي يأتي بالشمس من المشرق ، وهو قادر على ما طالبتني به من الاتيان بها من المغرب ، فليأت بها يوما ما ، قال بعض المقلدين : ولا يمكن أن يسأل إبراهيم ربه ذلك ، لأن فيه خراب العالم ، وقال بعض المرتابين : إنه لو قال له نمرود ذلك لألزمه ، وقد فهم نمرود ، على طغيانه وغروره ، من الحجة ما لا يفهم هؤلاء القائلون ، فهم أن مراد إبراهيم أن هذا النظام في سير الشمس لا بد له من فاعل حكيم ، إذ لا يكون مثله بالمصادفة والاتفاق ، وإن ربي الذي أعبده هو ذلك الفاعل الحكيم الذي قضت حكمته بأن تكون الشمس على ما نرى ، ومن فهم هذا لا يمكن أن يقول : اطلب من هذا الحكيم أن يرجع عن حكمته ويبطل سنته ، كذلك لا محل لقول بعضهم لم سكت إبراهيم عن كشف شبهته الأولى ، إذ زعم أن ترك القتل إحياء ، فقد علمت أن مسألة الشمس قد كشفت ذلك انكشافا لا يخفى إلا على من تخفى عليه الشمس (٣).

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٢٩٨.

(٢) تفسير ابن كثير ١ / ٤٦٩.

(٣) تفسير المنار ١١ / ٤٠.

١٥٦

الفصل الرّابع

سرّ الحياة والموت

كان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام محبا لربه ، خالق الناس جميعا ، غاية الحب ، محبا للتحدث بما لهذا الرب من قوة ، دونها كل قوة ، وبما يقدر عليه هذا الرب العظيم ، بما لا يقدر عليه مخلوق في الوجود ، محبا لإظهار ما خفى من أسرار تلك الوحدانية التي برأت النسم ، وخلقت الدنيا من العدم ، وتقول للشيء كن فيكون ، وبهذا الشوق إلى اجتلاء أسرار القدرة الإلهية ، والتحدث بما لله من عظمة وقوة ، سأل إبراهيم ربه «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى».

قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ، قالَ بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١).

يقول الأستاذ الباقوري ، طيب الله ثراه ، «فأول ما ينبغي أن يبدأ به

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٦٠ ، وانظر : تفسير الطبري ٥ / ٤٨٥ ـ ٥١٢ ، في ظلال القرآن ١ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ، صفوة التفاسير ١ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ، تفسير ابن ناصر السعدي ١ / ١٥٦ ، تفسير الجلالين ص ٥٧ ـ ٥٨ ، تفسير القرطبي ص ١١٠٥ ـ ١١١٠ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٧١ ـ ٤٧٢ ، تفسير البحر المحيط ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٥ ، تفسير المنار ٣ / ٤٤ ـ ٤٩ ، علي بن أحمد الواحدي : أسباب النزول ـ القاهرة ١٩٦٨ ص ٥٣ ـ ٥٥ ، تفسير النسفي ١ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

١٥٧

الحديث حول هذه الآية الكريمة ، هو أن أبا الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام ، كان بغير شك مؤمنا بقدرة الله على إحياء الموتى ، إيمانا لا يرقى إلى سمائه غبار الشكوك والأوهام ، وقد أراد بسؤاله هذا أمرا يزيد إيمانه ، ويضاعف يقينه ، فأعطاه الله تبارك وتعالى مثالا من الحس ، تتضح به سورة إحياء الموتى ، والمعاني المجردة حين توضع في صور تدركها الحواس ، تكون أبيّن وأتم وضوحا.

والذين يتأملون كتاب الله يرونه في مجال إقامة الحجة ، يضع المعاني المجردة في صورة حسيّة يزداد بها إيمان المؤمن وتتضح بها لغير المؤمن سبل الإيمان ، وهذه الصور الحسية منبثة في القرآن الكريم انبثاثا ، لا يستعصى على رائديه فمن ذلك قول الله عزوجل في سورة الرعد (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) ، فالمعنى المجرد الذي أشارت إليه هذه الآية هو أن الذين اتخذهم الكافرون أولياء من دون الله يفزعون إليهم ، لا يقدرون على جلب النفع لهم ، ولا دفع الضرر عنهم ، والصورة الحسية لهذه الصورة المعنوية هي أن هؤلاء الكفار في دعائهم آلهتهم هذه ، مثلهم كمثل من يبسط كفيه إلى الماء ويريده أن يبلغ فاه ، والماء لا يشعر بمن يبسط إليه كفه طلبا للري ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه فيبلغ فاه ، ذلك هو الفرق بين المعنى يذكر مجردا ، والمعنى يذكر في صورة تدركها الحواس.

فإبراهيم عليه‌السلام كان يطلب صورة حسية تنطوي على المعنى المجرد للإيمان بقدرة الله على إحياء الموتى ، وقد أعطاه الله تعالى هذه الصورة ، لا لتغرس الإيمان في نفسه ، فإن إيمانه موجود لا شك فيه ، ولكن لتزيده قوة واستمساكا ، من حيث كانت الصورة الحسية في مجتلى الأعين ، تظاهر الصورة المعنوية في أعماق النفوس ، ومن أجل هذا أجاب الله تعالى إبراهيم على دعائه قائلا : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟) فقال عليه‌السلام : بلى ، يعني

١٥٨

آمنت ، ولكنني أطلب ذلك ليطمئن قلبي ، يعني ليزيد سكونا وطمأنينة بمظاهرة المحسوس للمعقول ، فتفضل الله عليه بإعطائه الدليل القائم على الحس والعيان ، لمظاهرة الدليل القائم على الحجة والبرهان (١).

ويقول صاحب الظلال : إنه التشوف إلى ملامسة سر الصنعة الإلهية ، وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم ، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل ، فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين ، إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ، وليس طلبا للبرهان أو تقوية الإيمان ، إنما هو أمر الشوق الروحي إلى ملابسة السر الإلهي في أثناء وقوعه العملي ، ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ، ولو كان إيمان إبراهيم الخليل ، الذي يقول لربه ، ويقول له ربه ، وليس وراء هذا إيمان ، ولا برهان للإيمان ، ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ، ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيتروح بها ، ويتنفس في جوها ، ويعيش معها ، وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده أيمان (٢).

هذا وقد اختلف المفسرون في السبب المباشر لتوجيه الخليل هذا السؤال لربه سبحانه وتعالى ، فذهب فريق إلى أن إبراهيم عليه‌السلام مر على دابة ميتة قد توزعتها دواب البر والبحر ، قال : «رب أرني كيف تحيي الموتى» ، وقال الحسن وعطاء الخرساني والضحاك ، فيما يروي الواحدي عن سعيد عن قتادة ، وابن جريج : كانت جيفة حمار بساحل البحر (بحيرة طبرية في رواية عطاء) قالوا : فرآها قد توزعتها دواب البر والبحر ، فكان إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها ، فما وقع منها يقع في

__________________

(١) أحمد حسن الباقوري : مع القرآن ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

(٢) في ظلال القرآن ١ / ٣٠١ ـ ٣٠٢.

١٥٩

الماء ، وإذا جذر البحر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير ترابا ، فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها ، فما سقط قطعته الريح في الهواء ، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها وقال : يا رب قد علمت لتجمعنها ، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك.

وقال ابن زيد : مرّ إبراهيم بحوت ميت ، نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله ، وما كان منه في البر فدواب البر تأكله ، فقال له إبليس الخبيث : متى يجمع الله هذه الأجزاء من بطون هؤلاء ، فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي ، بذهاب وسوسة إبليس منه (١).

وقد أراد الخليل عليه‌السلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين ، لأن الخير ليس كالمعاينة فتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه ، ولم يكن إبراهيم عليه‌السلام ، ولن يكون ، شاكا في قدرة الله تعالى على أحياء الموتى ، ولكنه أحب أن يصير له الخبر عيانا ، قال الأخفش : لم يرد رؤية القلب ولكن أراد رؤية العين ، وقال الحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير والربيع : سأل ليزداد يقينا على يقينه (٢).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن مسألة إبراهيم ربه ذلك المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين النمرود في ذلك ، قال محمد بن إسحاق بن يسار : إن إبراهيم لما احتج على نمرود فقال : ربي الذي يحيي ويميت ، وقال النمرود : أنا أحيي وأميت ، ثم قتل رجلا وأطلق رجلا ، قال : قد أمت هذا ، وأحييت هذا ، قال له إبراهيم : فإن الله يحيي بأن يرد الروح إلى جسد ميت ، فقال له نمرود : هل عاينت هذا الذي تقوله ، ولم يقدر أن يقول

__________________

(١) علي بن أحمد الواحدي النيسابوري : أسباب النزول ص ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) تفسير القرطبي ص ١١٠٦ ، وانظر : تفسير الطبري ٥ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.

١٦٠