دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٤

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

نعم رأيته ، فتنقل إلى حجة أخرى ، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الميت لكي يطمئن قلبه عند الاحتجاج ، فإنه يكون مخبرا عن مشاهدة وعيان (١).

وذهب فريق ثالث إلى أن ذلك إنما كان عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا ، فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلاقة على ذلك ، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا (٢) ، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ، استأذن ملك الموت ربه أن يأتي إبراهيم فيبشره بذلك ، فأتاه فقال : جئتك أبشرك بأن الله تعالى اتخذك خليلا ، فحمد الله عزوجل وقال : ما علاقة ذلك ، قال : أن يجيب الله دعاءك ، وتحيي الموتى بسؤالك ، ثم انطلق وذهب ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال أو لم تؤمن ، قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي بعلمي إنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك ، إنك اتخذتني خليلا (٣).

على أن هناك وجها رابعا للنظر يذهب إلى أن الخليل عليه‌السلام قال ذلك لربه ، لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى ، قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر بن أيوب في قوله : «ولكن ليطمئن قلبي» ، قال قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها (٤).

وروى ابن أبي حاتم عن ابن المنكدر أنه قال : التقي عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال ابن عباس لابن عمرو : أي آية في القرآن أرجى عندك ، فقال عبد الله بن عمرو «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٨٦ ، الواحدي : المرجع السابق ص ٥٤.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٨٧.

(٣) الواحدي : المرجع السابق ص ٥٥ ، تفسير الطبري ٥ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨ ، تفسير القرطبي ص ١١٠٨.

(٤) تفسير الطبري ٥ / ٤٨٩ ـ ٤٩٠ ، تفسير الدر المنثور ١ / ٣٣٥.

١٦١

عَلى أَنْفُسِهِمْ» حتى ختم الآية ، فقال ابن عباس : لكني أقول قول الله عزوجل : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) ، فرضي من إبراهيم قوله «بلى» ، قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان ، وهكذا رواه الحاكم في المستدرك (١).

وقال أبو جعفر في التفسير : وأولى الأقوال عندي بتأويل الآية ، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «نحن أحق بالشك من إبراهيم ، قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)» ، وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه ، ذلك أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر ، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء ، ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ، فسأل إبراهيم ربه حينئذ أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا ، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي القى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك ، فقال له ربه : أولم تؤمن؟ يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ، قال بلى يا رب ، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي ، فلا يقدر الشيطان أن يلقى في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت (٢).

والحديث الشريف الذي ذكره الطبري في تفسيره ، ورد في صحيح البخاري بسنده عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد ، عن أبي هريرة ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن أحق بالشك في إبراهيم ، إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ، قالَ بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)» (٣) ، وكذا رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ / ٤٧١ ـ ٤٨٢ ، المستدرك للحاكم ١ / ٦٠.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٩١ ـ ٤٩٢.

(٣) صحيح البخاري ٦ / ٣٩ ، فتح الباري ٦ / ٢٩٣ ـ ٣٩٤ ، ٨ / ١٥٠ ـ ١٥١.

١٦٢

وسعيد المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ، قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» (١).

فالحديث صحيح إذن ، ما في ذلك من ريب ، ولكن تفسيره بشك إبراهيم في قدرة الله على إحياء الموتى تفسير خاطئ فاسد ، ما في ذلك من ريب أيضا ، ولعل من أحسن وأصح ما نقل المزني وغيره من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن الشك مستحيل في حق إبراهيم إذ الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء ، لكنت أنا أحق به من إبراهيم ، ولقد علمتم أني لم أشك ، فاعلموا أن إبراهيم لم يشك ، وإنما خص إبراهيم بالذكر لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة أن القصد منها احتمال الشك ، فنفي ذلك عنه.

وقال الخطابي : ليس في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن أحق بالشك من إبراهيم ، اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم ، لكن فيه نفى الشك عنهما ، ومعناه : إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى بأن لا يشك ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك على سبيل التواضع ، وكذلك قوله : لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ، وفيه الإعلام بأن المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن من قبيل زيادة العلم بالعيان ، والعيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال (٢).

وقال ابن عطية : وما ترجم به الطبري عندي مرود (يعني شك إبراهيم في قدرة الله على إحياء الموتى) ، وما أدخل تحت الترجمة متأول ، فأما قول

__________________

(١) صحيح مسلم ١٥ / ١٢٢ ـ ١٢٣ (دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٩٨١).

(٢) محمد حسن عبد الحميد : المرجع السابق ص ٤٥ ـ ٤٦.

١٦٣

ابن عباس «هي أرجى آية» ، فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى ، وسؤال الأحياء في الدنيا ، وليست فطنة ذلك ، ويجوز أن يقول : هي أرجى آية لقوله «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث ، وأما قول عطاء بن أبي رباح «دخل قلب إبراهيم ما يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم ، وأما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ، بمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، فإبراهيم عليه‌السلام ، أحرى ألا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم ، والذي روى فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ذلك محض الإيمان» إنما هو في خواطر التي لا تثبت ، وأما الشك فهة توقف بين أمرين ، لا مزية لأحدهما على الآخر ، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه‌السلام ، وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع ، وقد كان إبراهيم عليه‌السلام أعلم به ، يدلك على ذلك قوله : «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ، فالشك يبعد على من تثبت قدمه من الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوة والخلة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ، ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا.

وإذا تأملت سؤاله عليه‌السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود ، متقرر الوجود عند السائل والمسئول ، نحو قولك «كيف علم زيد» ونحو ذلك ، ومتى قلت : كيف زيد ، فإنما السؤال عن حال من أحواله وقد تكون «كيف» خبرا عن شيء ، شأنه أن يستفهم عنه بكيف ، نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، و «كيف» من هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرر ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدع : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذب له : أرني كيف ترفعه ، فهذه طريقة

١٦٤

مجاز في العبارة ، ومعناها تسليم جدلي ، كأن يقول : افرض أنك ترفعه ، فارني كيف ترفعه ، فلما كانت عبارة الخليل عليه‌السلام بهذا الاشتراك المجازي ، خلص الله له ذلك ، وحمله على أن بيّن له الحقيقة فقال له : «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى» ، فكمل الأمر وتخلص من كل شك ، ثم علل عليه‌السلام سؤاله بالطمأنينة.

ويقول الإمام القرطبي : هذا ما ذكره ابن عطية ، وهو بالغ ، ولا يجوز على الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، مثل هذا الشك ، فإنه كفر ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث ، وقد أخبر الله أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل ، فقال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، وقد اللعين : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وإذا لم يكن له عليهم سلطنة ، فكيف يشككهم؟ وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها ، فأراد أن يترقى من علم اليقين ، فيقول : أرني كيف ، طلب مشاهدة الكيفية (١).

ويقول صاحب تفسير المنار : فهم بعض الناس من سؤال إبراهيم عليه‌السلام أنه كان قلقا مضطربا في اعتقاده بالبعث وذلك شك فيه ، وما أبلد أذهانهم وأبعد أفهامهم عن إصابة المرمى ، وقد ورد في الصحيحين «نحن أولى بالشك من إبراهيم» ، أي أننا نقطع بعدم شكه ، كما نقطع بعدم شكنا أو أشد قطعا نعم ليس في الكلام ما يشعر بالشك ، فإنه ما من أحد إلا وهو يؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينا ، وهو لا يعرف كيفيتها ، ويودّ لو يعرفها ... ذلك لأن طلب المزيد من العلم ، والرغبة في إسكانه الحقائق ، والتشوق إلى الوقوف على أسرار الخليقة مما فطر الله عليه الإنسان ، وأكمل الناس علما وفهما أشدهم للعلم طلبا ، وللوقوف على المجهولات تشوفا ، ولن يصل أحد

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ١١٠٦ ـ ١١٠٧.

١٦٥

من الخلق إلى الإحاطة بكل شيء علما ، وقتل كل موجود فقها وفهما ، وقد كان طلب الخليل عليه الصلاة والسلام رؤية كيفية إحياء الموتى بعينيه من هذا القبيل ، فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه القدسية من معرفة خفايا أسرار الربوبية ، لا طلب للطمأنينة في أصل عقد الإيمان بالبعث الذي عرفه بالوحي والبرهان ، دون المشاهدة والعيان (١).

وفي صفوة التفاسير : سؤال الخليل ربه بقوله «كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» ، ليس عن شك في قدرة الله ، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ، ويدل عليه وروده بصيغة «كيف» ، وموضوعها السؤال عن الحال ، ويؤيد المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ومعناه : ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى (٢).

وهكذا كان إبراهيم عليه‌السلام ، كما يقول صاحب الظلال ، ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ، واطمئنان التذوق للسر المحجب ، وهو يجلي ويتكشف ، ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله ، ولكنه سؤال الكشف والبيان ، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه ، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم ، مع عبده الأواه الحليم المنيب ، ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم ، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وهكذا أمر الله إبراهيم أن يختار أربعة من الطير ، فيقربهن منه ويميلهن إليه ، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطئ معها معرفتهن ، وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن ، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة ، ثم يدعوهن فتتجمع أجزاءهن مرة أخرى ، وترتد إليهن الحياة ، ويعدن إليه ساعيات ، وقد كان طبعا.

__________________

(١) تفسير المنار ١١ / ٤٦.

(٢) صفوة التفاسير ١ / ١٦٧.

١٦٦

ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه ، طيورا فارقتها الحياة ، وتفرقت مزقها من أماكن متباعدة ، تدب فيها الحياة مرة أخرى ، وتعود إليه سعيا ، وأما كيف؟ فهذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه ، إنه قد يراه كما رآه إبراهيم ، وقد يصدق به ، كما يصدق به كل مؤمن ، ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته ، إنه من أمر الله ، والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ، وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه ، لأنه أكبر منهم ، وطبيعته غير طبيعتهم ، ولا حاجة لهم به في خلافتهم ، إنه الشأن الخاص للخالق الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين ، فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب ، وضاعت الجهود سدى ، جهود من لا يترك السر المحجوب لعلام الغيوب (١).

ويقول الإمام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن ، وعلى أن إبراهيم قطع أجزاءها ، وروى أنه عليه‌السلام أمر بذبحها ونتف ريشها ، وتقطيعها جزءا جزءا ، وخلط دمائها ولحومها ، وأن يمسك رءوسها ، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال ، على كل جبل ربعا من كل طائر ثم يصيح بها «تعالين بإذن الله» ، قال الراوي : فأخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها ، وانضم كل رأس إلى جثته ، وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى.

هذا ويقول صاحب مفاتيح الغيب أن الاجماع قد انعقد على ما قاله ، ولكن الأستاذ الباقوري يقول : إنه لن يستطيع منصف أن يقبل القول بالاجماع على هذه الصورة ، ولا هو يستطيع أن يتصور إجماعا بغير أن يكون فيه مثل أبي مسلم الأصفهاني ، فكيف وأبو مسلم ينكر هذا الذي قيل ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٠٢.

١٦٧

فيقول : إن إبراهيم عليه‌السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه ، وعلينا أن نفهم من الكلمة القرآنية (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) (١) الإمالة والتمرين على الإجابة ، يعني جل ثناؤه : خذ أربعة من الطير فمرنها تمرينا تعتاد به إن أنت دعوتها أن تأتيك ، فإذا صارت كذلك واعتادته وقبلت التمرين ، فاجعل على كل جبل من هذه الطيور الأربعة واحدا حال حياته ، ثم ادع الجميع يأتينك سعيا.

وقال أبو مسلم : والغرض ذكر مثال محسوس من عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر أبو مسلم أن يكون المراد من كلمة «صرهن» : قطعهن ، ومضى يحتج لرأيه هذا بوجوه : أولها : أن كلمة «صر» معناها في اللغة : الإمالة ، وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية إلحاقا وزيادة بغير دليل ، وهذا لا يجوز.

وثاني الوجوه : أنه لو كان المراد بكلمة صرهن قطعهن ، لم يقل إليك ، فإن الكلمة حينئذ لا تتعدى بحرف إلى ، وإنما يتعدى الفعل بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن يعني فقطعهن ، قلنا لهذا القائل : إن التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى ذلك التزام بغير ملزم ، وهو خلاف الظاهر.

وثالث الوجوه : أن الضمير في كلمة «ثم ادعهن» عائد إلى الأربعة من الطير ، لا إلى الأجزاء ، وإن كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة ، وكان الموضوع

__________________

(١) انظر عن معنى «فصرهن إليك» تفسير الطبري ٥ / ٥٩٥ ـ ٥٠٥ ، معاني القرآن للفراء ١ / ١٧٤ ، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١ / ٨١ ، تفسير القرطبي ص ١١٠٩ ـ ١١١٠ ، تفسير الجلالين ص ٥٨ ، تفسير ابن ناصر السعدي ١ / ١٥٦ ، تفسير النسفي ١ / ١٣٢ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٧١ ، صفوة التفاسير ١ / ١٦٦ ، أبو بكر السجستاني : غريب القرآن ص ٤١ (القاهرة ١٩٨٠).

١٦٨

على كل جبل بعض تلك تلك الأجزاء ، لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضا الضمير في كلمة «يأتينك سعيا» عائد إليها ، لا إلى الأجزاء.

ويرى الأستاذ الباقوري أن رأي أبي مسلم أدنى إلى القبول بأيسر كلفة ، من حيث كان غير محوج إلى تقدير محذوف لفهم الآية ، ثم من حيث كانت اللغة نصيرا له أي نصير ، فإن هذه المادة تعطي معنى الميل ، كما تقول : إني إليكم لأصول ، أي مشتاق مائل ، ثم يرى أن معنى قوله سبحانه «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» أملهن إليك ووجهن نحوك ، كما يقال : صر وجهك إلي ، أي أقبل به عليّ (١).

على أن القائلين بالقول المشهور (أي الذبح وليس الإمالة) قد احتجوا على رأي أبي مسلم بوجوه : الأول : أن كل المفسرين الذي كانوا قبل أبي المسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها ، فيكون إنكار ذلك إنكارا للإجماع ، والثاني : أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يكون له فيه مزية على الغير ، والثالث : أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيى الموتى ، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة.

والرابع : أن قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) ، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا ، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : إنه أضاف الجزء إلى الأربعة ، فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة ، والجواب أن ما ذكرته (أي الرازي) وإن كان محتملا ، إلا أن حمل الجزء على ما ذكرنا أظهر ، والتقدير : فاجعل على جبل من كل واحد منهن جزءا أو بعضا.

ويقول صاحب المنار : وآية فهم الرازي وغيره فيها ، خلاف ما فهمه

__________________

(١) أحمد حسن الباقوري : مع القرآن ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ١٩٨ ـ ٢٠٠.

١٦٩

جميع المفسرين من قبله ، ولم يقل أحد : إن فهم فئة من الناس حجة على فهم الآخرين ، على أن ما فهمه أبو مسلم هو المتبادر من عبارة الآية الكريمة ، وما قالوه أخذوه من روايات حكموها في الآية ، ولآيات الله الحكم الأعلى ، وعلى ما في تلك الرواية هي لا تدل.

وأما قوله : إن ما ذكره أبو مسلم غير مختص بإبراهيم فلا يكون فيه مزية ، فهو مردود بأن هذا المثال لكيفية إحياء الله للموتى أو لكيفية التكوين ، فيه توضيح لها ، وتحديد لما يصل إليه علم البشر من أسرار الخليقة ، ولا دليل على أن العلم بذلك كان عاما بين الناس ، فيقال : إنه لا خصوصية فيه لإبراهيم ، على أنه يرد مثل هذا الإيراد على حجة إبراهيم على الذي آتاه الله الملك ، وحجته على عبدة الكواكب في سورة الأنعام ، فإن مثل هذه الحجج التي أيد الله تعالى بها إبراهيم ، مما يحتج به الرازي وغيره ، فهل ينفى ذلك أن تكون هداية من الله لإبراهيم ، وإخراجا من ظلمات الشبه التي كانت محيطة بأهل زمنه إلى نور الحق (١) ، وقد قال الله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢).

وأما قوله : إن إجابة إبراهيم إلى ما سأل لا تحصل بقول أبي مسلم ، وإنما تحصل بقول الجمهور ، فلأمر بعكسه ، وذلك أن إتيان الطيور بعد تقطيعها وتفريق أجزائها ، من الجبال لا يقتضي رؤية كيفية الإحياء ، إذ ليس فيها إلا رؤية كيفية الإحياء ، إذ ليس فيها إلا رؤية الطيور ، كما كانت قبل التقطيع ، لأن الإحياء حصل في الجبال البعيدة ، وافرض أنك رأيت رجلا قتل وقطع إربا إربا ، ثم رأيته حيا فتقول إذن أنك عرفت كيفية إحيائه ، هذا ما يدل عليه قولهم.

__________________

(١) تفسير المنار ١١ / ٤٨ (القاهرة ١٩٧٣).

(٢) سورة الأنعام : آية ٨٣.

١٧٠

وأما قول أبي مسلم فهو الذي يدل على غاية ما يمكن أن يعرف البشر عن سر التكوين والإحياء ، وهو توضيح معنى قوله تعالى للشيء «كُنْ فَيَكُونُ» ، ولو لا أن الله تعالى بين لنا ذلك ، بما حكاه عن خليله ، لجاز أن يطمح في الوقوف على سر التكوين الطامحون ، ولو فهم الرازي هذا لما قال : إنه لا خصوصية لإبراهيم على الغير ، وهذا النوع من الجواب قريب من جواب موسى ، إذ طلب رؤية الله تعالى ، ونهى عما زاد على ذلك.

وجملة القول ، فيما يرى صاحب تفسير المنار ، أن تفسير أبي مسلم للآية هو المتبادر الذي يدل عليه النظم ، وهو الذي يجلي الحقيقة في المسألة ، فإن كيفية الإحياء هي عين كيفية التكوين في الابتداء ، وإنما تكون بتعلق إرادة الله تعالى بالشيء المعبر عنه بكلمة التكوين «كن» فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفية له ، إلا إذا أمكن الوقوف على كنه إرادة الله تعالى ، وكيفية تعلقها بالأشياء ، وظاهر القرآن ، وما هو عليه المسلمون ، أن هذا غير ممكن ، فصفات الله منزهة عن الكيفية ، والعجز عن الإدراك فيها ، هو الإدراك ؛ وهو ما أفاده قول أبي مسلم رحمه‌الله تعالى ، ومما يؤيده في النظم المحكم قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ) فإنه يدل على التراخي الذي يقتضيه إمالة الطيور وتأنيسها على أن لفظ «صرهن» يدل على التأنيس ، ولو لا أن هذا هو المراد لقال : فخذ أربعة من الطير فقطعهن ، واجعل على كل جبل منهن جزءا ، ولم يذكر لفظ الإمالة إليه ، ويعطف جعلها على الجبال ب «ثم» ، ويدل عليه أيضا ختم الآية باسم العزيز الحكيم ، دون اسم القدير ، والعزيز : هو الغالب الذي لا ينال.

وما صرف جمهور المتقدمين عن هذا المعنى على وضوحه ، إلا الرواية بأنه جاء بأربعة طيور من جنس كذا وكذا ، وقطعها وفرقها على جبال الدنيا ، ثم دعاها فطار كل جزء إلى مناسبه ، حتى كانت طيورا تسرع إليه ، فأرادوا تطبيق الكلام على هذا ، ولو بالتكلف ، وأما المتأخرون فهمهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونية ، وإن كان المقام

١٧١

مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور ، وهو أكبر الآيات ، ولكل أهل زمن غرام في شيء من الأشياء يتحكم في عقولهم وأفهامهم ، والواجب على من يريد فهم كتاب الله تعالى أن يتجرد من التأثر بكل ما هو خارج عنه ، فإنه الحاكم على كل شيء ، ولا يحكم عليه شيء ، ولله در أبي مسلم ما أدق فهمه ، وأشد استقلاله فيه (١).

بقيت الإشارة إلى أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الأربعة من الطيور ، فذهب ابن إسحاق ومجاهد وابن جريج إلى أنها : الديك والطاوس والغراب والحمام ، وقال ابن زيد : قال فخذ أربعة من الطير : قال : فأخذ طاوسا وحماما وغرابا وديكا ، مخالفة أجناسها وألوانها ، وقال ابن عباس : هي الغرنوق والطاوس والديك والحمامة ، إلى غير ذلك من آراء ، وإن كان لا طائل تحت تعيين هذه الطيور الأربعة ، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن (٢).

__________________

(١) تفسير المنار ١١ / ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٧١.

١٧٢

الباب الثالث

سيرة يونس عليه‌السلام

١٧٣
١٧٤

يونس عليه‌السلام

(١) قصة يونس عليه‌السلام : ـ هو يونس بن متى ، وهو اسم أبيه على ما في صحيح البخاري وغيره ، وصححه ابن حجر قال : ولم أقف في شيء عن الأخبار على اتصال نسبه (١) ، روى البخاري بسنده عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى ، ونسبه إلى أبيه» ، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث شعبة به ، قال شعبة ، فيما حكاه أبو داود عنه ، لم يسمع قتادة عن أبي العالية سوى أربعة أحاديث هذا احداها (٢) ، وقال ابن كثير في التفسير : وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ، ونسبه إلى أمه (٣) ، وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» (٤) ، وقال ابن الأثير وغيره : إنه اسم أمه ، ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره وغير عيسى عليهما‌السلام (٥) ، وفي العهد القديم دعى «يونان بن

__________________

(١) تفسير روح المعاني : ١٧ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٣٦.

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ١٩٣ ، وصحيح مسلم : ٧ / ١٠٢ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٢.

(٤) مسند الإمام أحمد : ١ / ٣٩٠ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٦٣٩.

(٥) تفسير روح المعاني : ١٧ / ٨٣ ، تاريخ ابن الأثير : ١ / ٣٦٠.

١٧٥

أمتاي» (١) وقد ذكر في القرآن الكريم بيونس وبذي النون ، والنون هو الحوت (السمكة) ، ويجمع على «نينان» كما في البحر ، وأنوان أيضا ، كما في القاموس (٢) ، ويقول الرازي في التفسير الكبير : إنه لا خلاف في أن ذا النون هو يونس عليه‌السلام لأن النون هو السمكة ، وأن الإسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا ، وبين أن يكون مفيدا ، فحمله على المفيد أولى ، خصوصا إذا علمت الفائدة التي يصلح لها ذلك الوصف (٣).

هذا وقد ذكر يونس عليه‌السلام في القرآن باسمه أربع مرات ، في سورة النساء (١٦٣) والأنعام (٨٦) ويونس (٩٨) والصافات (١٣٩) ، وذكر بالوصف في موضعين ، حيث لقبه الله تعالى «بذي النون» (أي الحوت) في سورة الأنبياء (٨٧) ، وبصاحب الحوت في سورة القلم (٤٨) لأن الحوت التقمه ثم نبذه ، غير أن ذكر النبي الكريم في سورتي الأنبياء والصافات إنما فيه شيء من التفضيل ، قال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٤) ، وقال تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ، فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ،

__________________

(١) يونان : ١ / ١.

(٢) تفسير روح المعاني : ١٧ / ٨٣ ، القاموس المحيط : ٤ / ٢٧٦.

(٣) تفسير الفخر الرازي : ٢٢ / ٢١٢.

(٤) سورة الأنبياء : آية ٨٧ ـ ٨٨ ، وانظر : تفسير الطبري ١٧ / ٧٦ ـ ٨٢ (بيروت ١٩٨٤) ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٠٦ ـ ٣٠٩ (بيروت ١٩٨٦) ، تفسير النسفي : ٣ / ٨٧ ـ ٨٨ (دار الفكر ـ بيروت) تفسير البحر المحيط ٦ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦ ، تفسير روح المعاني : ١٧ / ٨٢ ـ ٨٧ (بيروت ١٩٧٨) ، صفوة التفاسير للصابوني ٢ / ٢٧٣ (بيروت ١٩٨١) ، تفسير الفخر الرازي : ٢٢ / ٢١٢ ـ ٢١٧ ، تفسير القرطبي ص ٤٣٦٩ ـ ٤٣٧٥ وانظر : صحيح البخاري : كتاب الأنبياء ٤ / ١٩٣ ، صحيح مسلم ٧ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

١٧٦

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١).

والآيات الكريمة تذكر أن يونس عليه‌السلام كان مرسلا إلى قوم ، غير أنها لا تذكر أين كان قوم يونس عليه‌السلام ، وإن كان المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر ، على أن الروايات تذهب في الغالب الأعم إلى أنه أرسل إلى أهل «نينوى» (٢) من أرض الموصل بالعراق (٣) ، وفي السيرة النبوية الشريفة أن «عداسا» ، وهو غلام نصراني لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، قدم لسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الطائف ، طبقا من عنب ، ثم قال له : كل ، فلما وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه يده ، قال : باسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس في وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس ، وما دينك؟ قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ، فقال

__________________

(١) سورة الصافات : آية ١٣٩ ـ ١٤٨ ، وانظر : تفسير القرطبي ١٥ / ١٢١ ـ ١٢٥ (القاهرة ١٩٦٧) ، تفسير روح المعاني ٢٣ / ١٤٢ ـ ١٤٤ ، تفسير الطبرسي ٢٣ / ٨٣ ـ ٨٦ (بيروت ١٩٦١) ، تفسير الطبري ٢٣ / ٩٨ ـ ١٠٦ (بيروت ١٩٨٤) ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٦٣ ـ ١٦٦ (القاهرة ١٩٣٨) ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٢ ـ ٣٤ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٧ ، قصص الأنبياء ١ / ٣٨٠ ـ ٣٩٨ ، تفسير النسفي ٤ / ٢٨ ـ ٣٠ ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٥ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ ، صحيح البخاري ـ كتاب الأنبياء ، باب قول الله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ٤ / ١٩٣ ، صحيح مسلم ٧ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ـ كتاب الفضائل ، باب ذكر يونس عليه‌السلام.

(٢) نينوى : عاصمة الإمبراطورية الآشورية ، وتقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة ، على فم رافد صغير يدعى «الخسر» على مبعدة ٢٥ ميلا من التقاء الدجلة بالزاب ، قبالة الموصل ، وكان العبرانيون يعممون اسم نينوى ليشمل كل المنطقة حول التقاء الزاب بالدجلة (تكوين ١٠ / ١١ ـ ١٢ ، يونان ١ / ٢ ، ٣ / ٢ ـ ٧ ، قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٩٩٠).

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٣ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٦٧٠ ، تفسير روح المعاني ١٧ / ٨٤ ، البداية والنهاية ١ / ٢٣٢.

١٧٧

له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك أخي ، كان نبيا ، وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه (١).

وفي تفسير الفخر الرازي عن ابن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، أنه قال : كان يونس عليه‌السلام وقومه يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا ، وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبي عليه‌السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجه نبيا قويا أمينا ، فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال له الملك : فمن ترى ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال : يونس بن متى ، فإنه قوي وأمين ، فدعا الملك بيونس وأمره أن يخرج ، فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي ، قال : لا ، قال : فهل سماني لك ، قال : لا ، قال : فههنا أنبياء غيري ، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم (٢).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدة أمور في هذا النص ، منها (أولا) أن الملك الذي غزا قوم يونس في فلسطين ربما كان ، فيما نميل إليه ونرجحه ، إنما هو «سرجون الثاني» الآشوري (٧٢٢ ـ ٧٠٥ ق. م) ، فهو فيما يحدثنا التاريخ ، الملك الذي غزا بني إسرائيل واستولى على السامرة ، وسبى منهم تسعة أسباط ونصف (٣) ، كما أن «نينوى» كانت عاصمة آشور وقت ذاك ، غير أن «نينوى» لا يمكن الذهاب إليها عن طريق بحر الروم (البحر المتوسط) ، إلا إذا صحت تلك الرواية التي تقول إن الحوت التقمه

__________________

(١) انظر : السير النبوية لابن هشام ٢ / ٢٦٦ ـ تحقيق أحمد حجازي السقا.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٢ ، وانظر : تفسير روح المعاني ١٧ / ٨٣.

(٣) ملوك أول ١١ / ٣٥ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٨٨٤ ـ ٨٨٦ ، ٩٤٠ ـ ١٩٥٠ ، وكذا

A. G. Lie, The Inscriptions of Sargon, II, Part, I, The Annalas, P. ٦. J. Finegan, op ـ cit, P. ٠١٢.

وكذاA.L.Oppenheim ,ANET ,٦٦٩١ ,P.٨٤٢.

١٧٨

من ذلك المكان الذي ألقي به فيه من السفينة (والذي ربما كان شمال أيلة أو إيلات على خليج العقبة) ثم انطلق به من ذلك المكان حتى مرّ به على الأيلة ، ثم انطلق به حتى مرّ على دجلة ، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى (١) (أي أنه دار به حول شبه الجزيرة العربية من خليج العقبة ، فالبحر الأحمر ، فخليج عدن ، ثم بحر العرب فخليج عمان ثم الخليج العربي ، فنهر دجلة ثم نينوى).

ومنها (ثانيا) أن النبي شعيب عليه‌السلام ، ربما لا يقصد به هنا شعيب النبي العربي الذي بعث في مدين ، وإنما النبي الإسرائيلي أشعياء ، وذلك لسببين ، أحدهما : أن أشعياء كان معاصرا أو قريبا من فترة الغزو الأشوري لإسرائيل حيث كان يعيش في الفترة (٧٣٤ ـ ٦٨٠ ق. م) ، بينما النبي العربي شعيب كان يعيش حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، بل إن هناك من يرجح أنه هو نفسه صهر موسى عليه‌السلام ، وثانيهما : أن الملك حزقيل المذكور في النص هو الملك اليهودي «حزقيال» (٧١٥ ـ ٦٨٧ ق. م).

وأيا كان الأمر ، فما أن ركب يونس عليه‌السلام السفينة ، ووصلت إلى وسط اللجة حتى ناوأتها الرياح والأمواج وكان هذا إيذانا عند القوم بأن من بين الركاب راكبا مغضوبا عليه لأنه ارتكب خطيئة ، وأنه لا بد أن يلقى في الماء لكي تنجو السفينة من الغرق ، فاقترعوا على من يلقونه من السفينة ، فخرج سهم يونس ، وكان معروفا عندهم بالصلاح ، ولكن سهمه خرج بشكل أكيد ، فألقوه في البحر ، أو ألقى هو نفسه فالتقمه الحوت وهو مليم (٢) ، ثم تذهب الرواية بعد ذلك إلى أن الله أنجى يونس ، ثم أوحى إليه أن يذهب إلى ملك من أرسل إليهم وأن يطلب إليه أن يرسل معه بني إسرائيل ، فقالوا له : ما

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٣ / ١٠٥.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٢٩٩٨.

١٧٩

نعرف ما تقول ، ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ، ولقد أتيناكم من دياركم وسبيناكم ، فلو كان كما تقول لمنعنا الله عنكم ، فطاف ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه ، فأوحى الله تعالى إليه ، قل لهم : إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب ، فأبلغهم فأبوا ، فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يصلبونه فلم يقدروا عليه ، ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس للعلماء الذين كانوا في دينهم ، فقالوا : انظروا واطلبوه في المدينة ، فإن كان فيها فليس مما ذكر من نزول العذاب شيء وإن كان قد خرج فهو كما قال ، فطلبوه فقيل لهم إنه خرج العشي ، فلما آيسوا أغلقوا أبواب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم ولا غنمهم ، وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ، ثم قاموا ينتظرون الصبح ، فلما انشق الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها ، وصاح الصبيان ، وثغت الأغنام والبقر ، فرفع الله تعالى عنهم العذاب ، فبعثوا إلى يونس عليه‌السلام فآمنوا به ، وبعثوا معه بني إسرائيل ، فعلى هذا القول ، كما يقول الإمام الرازي ، كانت رسالة يونس عليه‌السلام ، بعد ما نبذه الحوت ، ودليل هذا القول قوله تعالي في الصافات (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ، وفي هذا القول رواية أخرى ، وهي أن جبريل عليه‌السلام قال ليونس عليه‌السلام : انطلق إلى أهل نينوى وأنذرهم أن العذاب قد حضرهم ، فقال يونس عليه‌السلام : التمس دابة ، فقال الأمر أعجل من ذلك ، فغضب وانطلق إلى السفينة ، وباقي الحكاية كما مرت إلى أن التقمه الحوت ، فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى ، فألقاه هناك (١).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن قصة الحوت كانت بعد

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٢ ـ ٢١٣ ، تفسير المعاني ١٧ / ٨٣.

١٨٠