فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

(باب الوديعة)

اعلم أن الوديعة حكم في الشريعة ، لقوله تعالى « ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » (١) وقال تعالى « فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته » (٢).

والوديعة مشتقة من ودع يدع : إذا استقر وسكن ، يقال : أودعته أودعه إذا أقررته وأسكنته.

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت عنده ودائع بمكة ، فلما أراد أن يهاجر أودعها أم أيمن وأمر عليا عليه‌السلام بردها على أصحابها (٣).

فإذا ثبت ذلك فالوديعة أمانة لا ضمان على المودع ما لم يفرط ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس على المودع ضمان (٤).

فأما قوله تعالى « ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك » يعني به النصارى لأنهم لا يستحلون أموال من خالفهم « ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك » يعني اليهود لأنهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت « لا ما دمت عليه قائما » (٥) على رأسه بالتقاضي والمطالبة ، قائما بالاجماع والملازمة. والفرق بين تأمنه بقنطار وعلى قنطار أن معنى الباء الصاق الأمانة ومعنى على استعلاء الأمانة ، وهما متعاقبان في هذا الموضع لتقارب المعنى كما يقال « مررت به وعليه ».

__________________

١) سورة النساء : ٥٨.

٢) سورة البقرة : ٢٨٣.

٣) مستدرك الوسائل ٢ / ٥٠٤.

٤) المصدر السابق ٢ / ٥٠٦.

٥) سورة آل عمران : ٧٥.

٦١

ويمكن أن تكون الفائدة أن هؤلاء لا يؤدون الأمانة لاستحلالهم ذلك ، لقوله  « ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل » (١). وسائر الفرق ـ وإن كان منهم من لا يؤدي الأمانة ـ لا يستحلها.

وقال جماعة : قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، وهم يعلمون أن هذا هو الكذب على الله.

فإذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفين ، من جهة المودع متى شاء أن يستردها فعل ، ومن جهة المودع متى شاء أن يردها فعل. فإذا ردها على المودع أو على وكيله فلا شئ عليه ، وان ردها على الحاكم أو على ثقته مع القدرة على الدفع إلى المودع أو إلى وكيله فعليه الضمان.

فإن لم يقدر على المودع ولا على وكيله ، فلا يخلو اما أن يكون له عذر أو لم يكن له عذر ، فإن لم يكن له عذر برده فعليه الضمان ، وإن كان له عذر برده على الحاكم أو على ثقته فلا ضمان عليه.

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صاحب الوديعة وصاحب البضاعة مؤتمنان (٢).

وكل ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة فلا تلزم.

ورد الوديعة واجب متى طلبها صاحبها وهو متمكن من ردها ، وليس عليه في ردها ضرر يؤدي إلى تلف النفس أو المال ، سواء كان المودع كافرا أو مسلما.

(باب العارية)

هي أيضا جائزة بدليل الكتاب والسنة ، فالكتاب قوله تعالى « تعاونوا على

__________________

١) سورة آل عمران : ٧٥.

٢) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٠٤.

٦٢

البر والتقوى » (١) ، والعارية من البر.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى « ويمنعون الماعون » (٢) فقد قال ابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ ان الماعون العواري.

وروي عن صفوان بن أمية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استعار منه أدرعا فقال : أغضبا يا محمد؟ فقال عليه‌السلام : لابل عارية مضمونة مؤداة (٣).

ولا خلاف بين الأمة في جواز ذلك ، وانما اختلفوا في مسائل منها.

وإذا ثبت جواز العارية فاعلم أنها أمانة غير مضمونة الا أن يشرط صاحبها ، فان شرط ضمانها كانت مضمونة.

والذهب والفضة إذا استعيرا فهما مضمونان ، شرط فيهما ذلك أم لم يشرط.

ومتى تعدى المستعير في العواري كانت مضمونة ، سواء شرط أو لم يشرط.

(باب الإجارات)

قوله تعالى « قالت إحداهما يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي الأمين » (٤). يدل على صحة الإجارة زائدا على السنة والاجماع من أن كل ما يستباح بعقد العارية يجوز أن يستباح بعقد الإجارة ، من إجارة الرجل نفسه وعبيده وداره وعقاره بلا خلاف.

والاستيجار طلب الإجارة ، وهي العقد على ما أمر بالمعاوضة.

حكى الله ما قال أبو المرأتين شعيب لموسى : اني أريد أن أنكحك إحدى

__________________

١) سورة المائدة : ٢.

٢) سورة الماعون : ٧.

٣) تهذيب الأحكام ٧ / ١٨٣.

٤) سورة القصص : ٢٦.

٦٣

ابنتي هاتين على أن تجعل أجر رعي ماشيتي ثماني سنين صداق ابنتي ، ثم جعل لموسى كل سخلة تلد على خلاف شية أمها. فأوحى الله إليه أن الق عصاك في الماء إذا شربن فولدن كلهن خلاف شيتهن. وجعل الزيادة على المدة إليه الخيار ، « فان أتممت عشرا فمن عندك » أي هبة منك غير واجبة عليك فقضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما.

فإذا ثبت ذلك فاعلم أن الإجارة عقد معاوضة ، وهي من عقود المعاوضات اللازمة كالبيع والشراء.

والإجارة على ضربين : أحدهما ما تكون المدة معلومة والعمل مجهولا ، مثل أن يقول « آجرتك شهرا لتبني ». والثاني أن تكون المدة مجهولة والعمل معلوما [ مثل أن يقول « آجرتك لتبنى هذه الدار وتخيط هذا الثوب » ، فأما إذا كانت المدة معلومة والعمل معلوما ] (١) هنا فلا يصح ، فإنه إذا قال « استأجرتك اليوم لتخيط قميصي هذا » كانت الإجارة باطلة ، لأنه ربما يخيط قبل مضي النهار فيبقى بعض المدة بلا عمل ، وربما لا يفرغ منه بيوم ويحتاج إلى مدة أخرى ويحصل العمل بلا مدة.

والبهائم والحيوان تكترى للركوب وللحمولة وللعمل عليها ، بدلالة قوله تعالى « والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة » (٢).

وعن ابن عباس في قوله تعالى « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » (٣) فقال : المعنى لا جناح عليكم أن تحجوا أو تكرهوا الجمال للركوب والعمل.

__________________

١) الزيادة من ج.

٢) سورة النحل : ٨.

٣) سورة البقرة : ١٩٨.

٦٤

فان آجرها ليركب عليها فلابد من أن يكون المحمول معلوما والمحمول له وأن يكون المركوب معلوما والراكب معلوما. أما المركوب فيصير معلوما اما بالمشاهدة أو بالصفة ، فالمشاهدة أن يقول : اكتريت منك هذا الجمل شهرا ، أو اكتريت منك هذا الجمل لا ركبه إلى مكة.

فأما إذا كان معلوما بالصفة فلابد من ذكر ثلاثة أشياء : الجنس ، والنوع والذكورية والأنوثية. أما الجنس فأن يقول جمل حمار بغل دابة ، والنوع أن يذكر حمار مصري جمل بختي أو عرابي ، ويقول ناقة أو جمل لان السير على النوق أطيب منه على الجمل.

وأما الراكب فيجب أن يكون معلوما ، ولا يمكن ذلك الا بالمشاهدة لأنه لا يوزن. ثم هو بالخيار ان شاء ركبه هو أو يركب من يوازنه ، ويكون في معناه هذا إذا اكراها مطلقا.

(باب الشركة والمضاربة)

أما الشركة فجائزة لقوله تعالى « واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول » (١) الآية ، فجعل سبحانه الغنيمة مشتركة بين الغانمين وبين أهل الخمس وجعل الخمس مشتركا بين أهله.

وقال تعالى « يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين » (٢) فجعل سبحانه التركة مشتركة بين الورثة.

وقال تعالى « انما الصدقات للفقراء والمساكين » (٣) الآية ، فجعل تعالى

__________________

١) سورة الأنفال : ٤١.

٢) سورة النساء : ١١.

٣) سورة التوبة : ٦٠.

٦٥

الصدقات مشتركة بين أهلها ، لان الواو للتشريك ، فجعلها مشتركة بين الثمانية الأصناف.

وقال سبحانه « وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض » (١).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا (٢).

وروي عن السائب بن أبي السائب أنه قال : كنت شريكا للنبي عليه‌السلام في الجاهلية ، فلما قدم يوم فتح مكة قال : أتعرفني؟ قلت : نعم كنت شريكي وكنت خير شريك لا تواري ولا تماري (٣).

ولا خلاف في جواز الشركة بين المسلمين وان اختلفوا في مسائل من تفصيلها وفروعها.

وإذا ثبت هذا فالشركة على ثلاثة أضرب : شركة في الأعيان ، وشركة في المنافع ، وشركة في الحقوق.

فأما الشركة في الأعيان فمن ثلاثة أوجه : أحدها بالميراث كاشتراك الورثة في التركة ، والثاني بالعقد وهو أن يملك جماعة عينا ببيع أو هبة أو صدقة أو وصية مشتركة ، والثالث بالحيازة وهو أن يشتركوا في الاحتطاب والاصطياد فإذا صار محوزا كان بينهم.

وأما الاشتراك في المنافع كالاشتراك في منفعة الوقف ومنفعة العين المستأجرة وغيرها.

وأما الاشتراك في الحقوق فمثل الاشتراك في حق القصاص وحد القذف وما أشبه ذلك.

والآيات التي تلوناها تدل بعمومها على جميع ذلك.

__________________

١) سورة ص : ٢٤.

٢) مستدرك الوسائل ٢ / ٥٠٠.

٣) مستدرك الوسائل ٢ / ٥٠٠.

٦٦

(فصل)

وأما ما يجري مجرى الشركة فهو المضاربة ، يدل على صحتها قوله تعالى  « وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله » (١) ولم يفصل.

والمضاربة والقراض بمعنى ، وهو أن يدفع الانسان إلى غيره مالا ليتجر فيه على أن ما يرزق الله من ربح كان بينهما على ما يشرطانه. والقراض لغة أهل الحجاز ، والمضاربة لغة أهل العراق ، واشتقاقها من الضرب في المال والتقليب واشتقاق القراض من القرض ، وهو القطع ، ومعناه ههنا أن رب المال قطع قطعة من ماله فسلمها إلى العالم وقطع له قطعة من الربح.

والمضارب ـ بكسر الراء ـ العامل ، لأنه هو الذي يضرب فيه ويقلبه وليس لرب المال منه اشتقاق ، يدل على ذلك ما رواه الحسن عن علي عليه‌السلام أنه قال : إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطاه. والظاهر أنه أراد العامل لأنه إذا كان الخلاف منه فالضمان بالتعدي عليه.

وعلى جوازه دليل الكتاب والسنة والاجماع : فالكتاب ما تلوناه وقوله تعالى  « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله » (٢). وأما الاجماع فلا خلاف فيه ، والصحابة كانوا يستعملونه.

فإذا ثبت جواز القراض فاعلم أنه لا يجوز الا بالأثمان من الدراهم والدنانير ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي الا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها [ المسلم ] (٣).

__________________

١) سورة المزمل : ٢٠.

٢) سورة الجمعة : ١٠.

٣) الكافي ٥ / ٢٨٦ والزيادة منه.

٦٧

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا ينبغي للرجل المسلم أن يشارك الذمي ولا يبضعه ببضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه مودة (١) لقوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم » (٢). فإنه عام في جميع ذلك.

وقد أشار سبحانه إلى جواز الشركة على جميع ضروبها بقوله « ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم » (٣).

(باب الشفعة)

قال الله تعالى « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » (٤) وقد بين مسائل الشفعة وغيرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد قال : الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ، والكافر لا شفعة له على المسلم.

والدليل عليه قوله « لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة » (٥) ، ومعلوم أنه تعالى انما أراد أنهم لا يستوون في الاحكام. والظاهر يقتضي العموم الا ما أخرجه دليل قاهر.

فان قيل : أراد في النعيم والعذاب ، بدلالة قوله تعالى « أصحاب الجنة هم الفائزون ».

قلنا : معلوم في أصول الفقه أن تخصيص إحدى الجملتين لا يقتضي تخصيص الأخرى وان كانت متعقبة لها.

والشفعة جائزة في كل شئ من حيوان أو ارض أو متاع ، إذا كان الشئ

__________________

١) المصدر السابق.

٢) سورة الممتحنة : ١٣.

٣) سورة الروم : ٢٨.

٤) سورة النحل : ٤٤.

٥) سورة الحشر : ٢٠.

٦٨

بين شريكين فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره ، وان زاد على الاثنين فلا شفعة لاحد منهم ـ هذا قول المرتضى رضي‌الله‌عنه.

وقال الشيخ أبو جعفر رضي‌الله‌عنه : الأشياء في الشركة على ثلاثة أضرب : ما يجب فيه الشفعة متبوعا ، ومالا يجب فيه تابعا ولا يجب فيه متبوعا ، وما يجب فيه تابعا ولا يجب متبوعا. [ فأما ما يجب فيه مقصورا متبوعا فالعراض والأراضي والراح؟ لقوله عليه‌السلام « الشفعة فيما لم يقسم ». وأما ما لا يجب فيه تابعا ومتبوعا ] (١) بحال فكل ما ينقل ويحول غير متصل كالحيوان والنبات والحبوب ونحو ذلك لا شفعة ، وفي أصحابنا من أوجب الشفعة في ذلك. وأما ما يجب فيه تابعا ولا يجب فيه متبوعا فكل ما كان في الأرض من بناء وأصل وهو البناء والشجر ، فان أفرد بالبيع دون الأرض فلا شفعة فيه.

وان بيعت الأرض تبعها هذا الأصل من حيث الشفعة في الأرض أصلا وفي هذه على وجه التبع على خلاف ، فأما ما لم يكن أصلا ثابتا كالزرع والثمار فإذا دخلت في البيع بالشرط كانت الشفعة واجبة في الأصل دونها.

ولا تثبت الشفعة الا لشريك مخالط فأما الشفعة بالجوار فلا ثبت الا إذا اشتركا في الطريق أو النهر ولا يشركهما فيه ثالث.

(باب المزارعة والمساقاة)

المزارعة والمخايرة اسمان لعقد واحد ، وهو استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها. والدليل عليه الاجماع والسنة ، ويمكن الاستدلال عليه أيضا من القرآن بالآيات التي استدللنا بها على صحة الشركة.

فإذا ثبت ذلك فالمعاملة على الأصل ببعض ما خرج من نمائها على ثلاثة

__________________

١) الزيادة من م.

٦٩

أضرب : معارضة ، ومزارعة ، ومساقاة. فالمعارضة تصح بلا خلاف بين الأمة ، والمساقاة أيضا جائزة الا عند أبي حنيفة وحده ، والمزارعة على ضربين : ضرب باطل بلا خلاف ، وضرب مختلف فيه.

فالباطل هو أن يشترط لأحدهما شيئا بعينه ولم يجعله مشاعا ، مثل أن يعقد المزارعة على أن يكون لأحدهما ما يدرك أولا وللآخر ما يتأخر ادراكه ، أو على أن الشتوي لأحدهما والصيفي للاخر. فهذا باطل بلا خلاف ، فإنه قد ينمى أحدهما ويهلك الاخر.

والضرب المختلف فيه هو أن يزارعه على سهم مشاع ، مثل ان يجعل له النصف أو الثلث أو أقل أو أكثر ، كان ذلك جائزا عندنا ، وفيه خلاف للفقهاء.

وان قال لي منها النصف علم أنه ترك الباقي للعامل ، كقوله تعالى « وورثه أبواه فلأمه الثلث » (١) علم ما بقي للأب.

والمساقاة هي : أن يدفع الانسان نخله أو كرمه إلى غيره على أن يصلحه ويسقيه وما يرزق الله من ثمره كانت بينهما على ما يشترطانه. وهي جائزة بشرطين : مدة معلومة كالإجارة ، ويكون قدر نصيب العامل معلوما كالقراض.

وهي من العقود اللازمة لأنها كالإجارة ، وتفارق القراض لأنها لا تحتاج إلى مدة وهي تحتاج إليها. والمدة فيها كالمدة في الإجارة ، فما يحوز هناك يجوز ههنا سواء كان سنة أو سنتين ومن خالف هناك خالف ههنا.

وقد ذكرنا أن الآية المتقدمة تدل على جميع ذلك.

(باب الافلاس والحجر)

المفلس في الشريعة هو الذي ركبته الديون وماله لا يفي بقضائها ، فإذا

__________________

١) سورة النساء : ١١.

٧٠

جاء غرماؤه إلى الحاكم وسألوه الحجر عليه لئلا ينفق بقية ماله فإنه يجب على الحاكم أن يحجر عليه إذا ثبت عنده ديونهم وأنها حالة غير مؤجلة وان صاحبهم مفلس لا يفي ماله بقضاء دينهم.

فإذا فعل ذلك تعلق بحجره ثلاثة أحكام : أحدها أن يتعلق ديونهم بعين المال الذي في يده ، والثاني أنه يمنع من التصرف في ماله عنده ، والثالث أن كل من وجد من غرمائه عين ماله عنده كان أحق به من غيره.

ويمكن أن يستدل من القرآن على أصل الباب على الجملة.

والمحجور عليه انما سمي بذلك لأنه يمنع ماله من التصرف فيه (١).

والحجر على ضربين أحدهما حجر على الانسان لحق غيره ، والثاني حجر عليه لحق نفسه. فأما المحجور عليه لحق غيره فهو المفلس لحق الغرماء ، والمريض محجور عليه في ماله لحق ورثته وفيه خلاف ، والمكاتب محجور عليه فيما في يده لحق سيده. وأما المحجور عليه لحق نفسه فهو الصبي والمجنون والسفيه.

والأصل في الحجر على الصبي قوله تعالى « وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم » (٢).

واليتيم من مات أبوه قبل بلوغه ، ولا يتم بعد حلم.

وقوله « فان آنستم » أي علمتم ، فوضع الايناس موضع العلم ، وهو اجماع لا خلاف فيه.

وقيل في قوله تعالى « فليملل الذي عليه الحق » إلى قوله « فإن كان الذي

__________________

١) أصل الحجر في اللغة المنع عن الوصول إلى الشئ ، وكل ما منعت منه فقد حجرت عليه ، وحجر عليه القاضي إذا منعه من التصرف في ماله ـ لسان العرب (حجر).

٢) سورة النساء : ٦.

٧١

عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل » (١) أنه دلالة على تثبيت الحجر لنفسه. وقيل : انما دل ذلك على الحجر لو قال ولي المطلوب ، وكلاهما على الاطلاق يصح. وقال الفراء : يحتمل غير ذلك ، معناه فليملل ولي الدين الكتاب بالعدل لا بخسران.

(فصل)

فان قيل : كيف يقبل قول المدعي على مبلغ حقه؟

قلنا : أما إذا أكذبه المطلوب فلا ، ولكن إذا صدقه جاز له أن يمل الكتاب الذي يقع فيه الشهادة بالحق.

والآية انما نزلت في الدين عند وقوع الديون لا عند تجاحدها.

(فصل)

أعلم أن الصبي محجور عليه ما لم يبلغ ، والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء : خروج المني ، والحيض ، والحمل ، والانبات ، والسن. فاثنان منهما ينفرد بهما الإناث وهما الحيض والحمل ، والثلاثة الاخر يشترك فيها الرجال والنساء.

والحمل ليس ببلوغ حقيقة وانما هو علم على البلوغ ، لان الله أجرى العادة أن المرأة لا تحبل حتى يتقدم حيض ، والحمل لا يمكن الا بعد أن ترى المرأة المني ، لان الله أخبر أن الولد مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة ، لقوله تعالى  « يخرج من بين الصلب والترائب » (٢) وأراد من صلب الرجل وترائب المرأة ، ولقوله تعالى « من نطفة أمشاج » (٣) أي أخلاط.

__________________

١) سورة البقرة : ٢٨٢.

٢) سورة الطارق : ٧.

٣) سورة الانسان : ٢.

٧٢

والانبات دليل على البلوغ ، والاعتبار بانبات العانة على وجه الخشونة التي تحتاج إلى الحلق دون ما كان مثل الزغب (١).

فأما السن فحده خمسة عشر سنة في الذكور وتسع سنين إلى عشر في الإناث.

وقد ذكرنا أن الصبي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ ، فإذا بلغ وأونس منه الرشد يسلم إليه ماله. إيناس الرشد منه مجموع أمرين : أن يكون مصلحا لماله ، عدلا في دينه. ومتى كان غير رشيد لا يفك حجره وان بلغ وصار شيخا.

ووقت الاختبار يجب أن يكون قبل البلوغ ، لقوله تعالى « وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا ». فإذا بلغ الصبي فاما أن يسلم إليه ماله أو يحجر. وكيفية اختباره مذكورة في كتب الفقه من أرادها فليطلبها منها.

(باب الغصب)

تحريم الغصب معلوم بالكتاب والسنة والاجماع ، قال الله تعالى « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم » (٢) والغصب ليس عن تراض.

وقال تعالى « ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا » (٣) ومن غصب مال اليتيم فقد ظلمه.

وقال تعالى « ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون » (٤).

والاجماع ثابت على أن الغصب حرام.

__________________

١) الزغب الشعرات الصفر على ريش الفرخ ـ صحاح اللغة ١ / ١٤٣.

٢) سورة النساء : ٢٩.

٣) سورة النساء : ١٠.

٤) سورة المطففين : ١ ـ ٣.

٧٣

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه (١).

وقال : حرمة مال المسلم كحرمة دمه (٢).

فإذا ثبت تحريم الغصب فالأموال على ضربين : حيوان : وغير حيوان.

وكلاهما إذا كان قائما يجب رده.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : على اليد ما أخذت حتى تؤدي (٣).

وقال : لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا ، من أخذ عصى أخيه فليردها (٤).

وإن كان بالغا فعليه مثله ، لقوله تعالى « ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » (٥) إن كان له مثل ، وان لم يكن له مثل فعليه قيمته أكثر ما كانت قيمته من حيث الغصب إلى حين التلف ، لأنه مأمور برده في كل وقت ، فوجب عليه قيمته إذا تعذر. والله أعلم.

__________________

١) مستدرك الوسائل ٣ / ١٤٦.

٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤١٨ بمضمونه.

٣) مستدرك الوسائل ٣ / ١٤٥.

٤) نفس المصدر ٣ / ١٤٥.

٥) سورة البقرة : ١٩٤.

٧٤

كتاب النكاح

قال الله تعالى « وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ان يكونوا فقراء يغنهم من فضله » (١).

هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من الرجال والنساء ، يأمرهم أن يزوجوا الأيامى اللواتي لهم عليهن ولاية ، وأن يزوجوا الصالحين المستورين الذين يفعلون الطاعات من المماليك والإماء إذا كانوا ملكا لهم.

والأيامى جمع أيم ، وهي المرأة التي لا زوج لها ، سواء كانت بكرا أو ثيبا. وقال قوم : الأيم التي مات زوجها ، وعلى هذا قوله عليه‌السلام : الأيم أحق بنفسها أعني الثيب. وقيل : ان الامر بتزويج الأيامى إذا أردن ذلك أمر فرض والامر بتزويج الأمة إذا أرادت ندب ، وكذلك العبد.

ومعنى قوله « ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله » اي لا يمنعوا من النكاح المرأة أو الرجل إذا كانا صالحين لأجل فقرهما وقلة ذات أيديهما ، فإنهم وان

__________________

١) سورة النور : ٣٢.

٧٥

كانوا كذلك فان الله يغنيهم من فضله. وقال قوم : معناه ان يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بذلك عن الحرام.

فعلى الأول تكون الآية خاصة في الأحرار ، وعلى الثاني عامة في الأحرار والمماليك. فالنكاح فيه فضل كبير ، لأنه طريق التناسل وباب التواصل وسبب الألفة والمعونة على العفة ، ومن سنن الاسلام النكاح وترك التعزب ، فمن دعته الحاجة إلى النكاح ووجد له طولا فلم يتزوج فقد خالف سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد ذكرنا ما حث الله به عباده ودعاه إليه فقال « وأنكحوا الأيامى منكم » الآية ، ثم قال « وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ».

أمر تعالى من لا يجد السبيل إلى أن يتزوج بأن لا يجد طولا من المهر ولا يقدر على القيام بما يلزمه لها من النفقة والكسوة أن يتعفف ولا يدخل في الفاحشة ويصبر حتى يغنيه الله من فضله.

(باب)

(ما أحل الله من النكاح وما حرم منه)

قال الله تعالى « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم » (١).

هذه الآية على عمومها عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار ، وليست منسوخة ولا مخصوصة. قال ابن عباس : فرق عمر ابن طلحة وحذيفة امرأتيهما اللتين كانتا تحتهما كتابيتين. وقال الحسن : انها عامة الا أنها نسخت بقوله

__________________

١) سورة البقرة : ١٢١.

٧٦

تعالى « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » (١). وقال ابن جبير هي على الخصوص.

ونحن انما اخترنا ما قلناه أولا لأنه لا دليل على نسخها ولا على خصوصها ، وسنبين وجه ذلك بعد هذا انشاء الله تعالى.

وأما المجوسية فلا يجوز نكاحها اجماعا ، والذمي لا يجوز أن يتزوج مسلمة اجماعا أيضا وقرآنا وأخبارا.

والأمة المملوكة ، والجارية تكون مملوكة وغير مملوكة.

والاعجاب يكون بالجمال ، ويكون بخصال يرغب لها فيها ، ومعنى  « أعجبني الشئ » فرحت به ورضيته. والفرق بين « لو أعجبكم » و « ان أعجبكم » أن لو للماضي وان للمستقبل ، وكلاهما يصح في معنى الماضي.

ولا يجوز نكاح الوثنية اجماعا ، لأنها تدعو إلى النار كما حكاه الله تعالى.

وهذه العلة قائمة في الذمية من اليهود والنصارى ، فيجب أن لا يجوز نكاحها.

وقال السدي في قوله تعالى « قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث » (٢) فالخبيث الكافر والطيب المؤمن ، وهو اختيار ابن جرير. وقال جماعة : الآية عامة ، أي لا يستوي أهل الطاعة والمعصية لا في المكان ولا في المقدار ولا في الانفاق ولا في غير ذلك من الوجوه.

وفي الآية دلالة على جواز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول ، لقوله  « ولامة مؤمنة خير من مشركة ». فكل من عقد على أمة الغير وأعطى سيدها المهر كان العقد ماضيا ، غير أنه يكون تاركا للأفضل.

ولا يجوز له أن يعقد على أمة وعنده حرة الا برضاها ، فان عقد عليها من

__________________

١) سورة المائدة : ٥.

٢) سورة المائدة : ١٠٠.

٧٧

غير رضاها كان العقد باطلا ، وان أمضت الحرة العقد مضى العقد ولم يكن له بعد ذلك اختيار.

فأما الآية التي في النساء وهي قوله « ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات » (١) فإنما هي على التنزيه دون التحريم.

(فصل)

وقال بعض المفسرين : لا يقع اسم المشركات على نساء أهل الكتاب ، فقد فصل الله تعالى بينهما في قوله « لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين » (٢) وفي قوله « ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين » (٣) إذ عطف أحدهما على الاخر.

وهذا التعليل من هذا الوجه غير صحيح ، فالمشرك يطلق على الكل ، لان من جحد نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد أنكر معجزه فأضافه إلى غير الله ، وهذا هو الشرك بعينه ، وهذا ورد للتفخيم ، كما عطف على الفاكهة النخيل والرمان مع كونهما منها تخصيصا في قوله تعالى « فيهما فاكهة ونخل ورمان » (٤).

ومتى أسلم الزوجان بنيا على النكاح الذي كان جرى بينهما ولا يحتاج إلى تجديده بلا خلاف. وان أسلمت قبله طرفة عين ، فعند كثير من الفقهاء وقعت الفرقة ، وعندنا تنتظر عدتها : فان أسلم الزوج تبين [ أن الفرقة لم تحصل

__________________

١) سورة النساء : ٢٥.

٢) سورة البينة : ١.

٣) سورة البقرة : ١٠٥.

٤) سورة الرحمن : ٦٨.

٧٨

ورجعت إليه ، وان لم يسلم تبين ان الفرقة وقعت حين الاسلام : غير ] (١) أنه لا يمكن من الخلو بها. فان أسلم الزوج وكانت ذمية استباح وطؤها بلا خلاف ، وان كانت وثنية انتظر اسلامها ما دامت في العدة ، فان أسلمت ثبت عقده عليها وان لم تسلم بانت منه.

فان قيل : كيف يقال للكافر الذي يوحد الله مشرك؟ الجواب : فيه قولان :

أحدهما ـ أن كفره نعمة الله هي الاسلام وجحده لدين محمد عليه‌السلام كالشرك في عظم الجرم.

والاخر ـ أنه إذا كفر بالنبي عليه‌السلام فقد أشرك فيما لا يكون الا من عند الله وهو القرآن ، فزعم أنه من عند غير الله ـ ذكره الزجاج ، وهذا أقوى (٢).

فالمحرمات من النساء على ضربين : ضرب منهن يحرمن بالنسب وضرب منهن يحرمن بالسبب. وما عداهما فمباح. وبيان ذلك في الآيات من سورة النساء في قوله تعالى « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا » (٣) ثم قال « حرمت عليكم أمهاتكم » إلى آخرها.

والحكمة في هذا الترتيب ظاهرة ، ونحن نذكر تفصيلها في فصول :

__________________

١) الزيادة من ج.

٢) وأقوى من هذين الجوابين : انهم أشركوا بنص القرآن ، أما اليهود فبقوله تعالى  « وقالت اليهود عزير ابن الله » [ سورة التوبة : ٣٠ ] وأما النصارى فبقوله سبحانه « وقالت النصارى المسيح ابن الله » إلى قوله « لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون » [ التوبة : ٣٠ ] وقوله تعالى « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم » [ المائدة : ١٧ ] « ج ».

٣) سورة النساء : ٢٢.

٧٩

(فصل)

اعلم أن الله تعالى ابتدأ بتحريم ما نكح الاباء في سورة النساء بقوله تعالى  « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء » ثم فصل المحرمات.

ومعنى الآية الأولى قيل فيه قولان :

أحدهما ـ قال ابن عباس : انه حرم عليهم ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من نكاح امرأة الأب إذا لم تكن الام.

الثاني ـ أن يكون « ما نكح » بمنزلة المصدر ، والتقرير ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، فعلى هذا يدخل فيه النهي عن حلائل الاباء وكل نكاح لهم فاسد في الجاهلية. وهو اختيار الطبري ، وقال : ان هذا الوجه أجود ، لأنه لو أراد حلائل الاباء لقال لا تنكحوا ما نكح آباؤكم.

وهذا ليس بطعن ، لأنه ذهب به مذهب الجنس ، كما يقول القائل « لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء » فيذهب مذهب الجنس ، ثم يفسره بمن.

وقوله « الا ما قد سلف » يعني بإلا لكن ، وكذا استثناء منقطع كقولهم  « لاتبع متاعي الا ما بعت » أي لكن ما بعت فلا جناح عليك فيه. وقيل في معناه قولان :

أحدهما ـ الا ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به ، وإن كان منه ولد فليس الولد بولد زنا. وقال قطرب : معناه لكن ما سلف فاجتنبوه ودعوه انه فاحشة.

الثاني ـ حكاه بعض المفسرين الا ما قد سلف فدعوه فهو جائز لكم. وهذا لا يجوز بالاجماع.

والهاء في قوله تعالى « انه كان فاحشة » يحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح بعد النهي ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح الذي عليه أهل الجاهلية. قيل

٨٠