فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

كتاب المكاسب

قال الله تعالى « والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين » (١).

فقد جعل الله لخلقه من المعيشة ما يتمكنون به من التقدير (٢) ، وأمرهم بالتصرف في ذلك من وجوه الحلال دون الحرام ، فليس لأحد أن يتكسب بما حظره الله ، ولا يطلب رزقه من حيث حرمه.

و « المعايش » جمع معيشة ، وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة. فقد يطلبها الانسان بالتصرف والتكسب وقد يطلب له ، فان أتاه أسباب الرزق من غير طلب فذلك العيش الهنئ.

(باب)

(في تفصيل ما أجملناه)

قوله تعالى « ومن لستم له برازقين » من في موضع النصب عطفا على قوله

__________________

١) سورة الحجر : ١٩ ـ ٢٠.

٢) في ج « من العبادة ».

٢١

« معايش » ، والمراد به العبيد والإماء والدواب والانعام ، والعرب لا تجعل  « من » الا في الناس خاصة وغيرهم من العلماء ، فلما كان مع الدواب المماليك حسن حينئذ.

ويجوز أن يكون « من » في موضع خفض نسقا على الكاف والميم في  « لكم » ، وإن كان الظاهر المخفوض قلما يعطف على المضمر المخفوض.

ويجوز أن يكون في موضع رفع ، لان الكلام قد تم قبله ، ويكون التقدير ولكم فيها من لستم له برازقين.

« وان من شئ الا عندنا خزائنه » (١) أي ليس شئ الا وهو قادر من جنسه على ما لا نهاية له ، ولست أنزل من ذلك الشئ الا ما هو مصلحة لهم في الدين وينفعهم دون ما يكون مفسدة لهم ويضرهم.

وصدر الآية إشارة إلى قوله عليه‌السلام : اطلبوا الرزق في خبايا الأرض ، فإنه تعالى بسطها وجعل لها طولا وعرضا ، وطرح فيها جبالا ثابتة وأعلاما يهتدى بها ، وأخرج منها النبات فيها من كل شئ بقدر معلوم. ومن الأشياء التي توزن من الذهب والفضة النحاس والحديد وغيرها (٢).

(فصل)

وقال الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى « ربنا آتنا في الدنيا حسنة » أي سعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا « وفي الآخرة حسنة » (٣) رضوان الله والجنة في الآخرة.

__________________

١) سورة الحجر : ٢١.

٢) تفسير البرهان ١ / ٢٠٢ بمضمونه.

٣) سورة البقرة : ٢٠١.

٢٢

وقال تعالى « ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم معايش » (١) أخبر تعالى على وجه الامتنان على خلقه بأصناف نعمه أنه مكن عباده في الأرض من التصرف فيها من سكناها وزراعتها ، وجعل لهم فيها ما يعيشون به مما أنبت لهم من الحبوب والثمرات وغيرها. والمعيشة وصلة من جهة مكسب المطعم والمشرب والملبس إلى ما فيه الحياة.

والتمكين اعطاء ما يصح معه الفعل مع ارتفاع المنع ، لان الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى [ آلة والى دلالة والى سبب كما يحتاج إلى ] (٢) رفع المنع ، والتمكين عبارة عن جميع ذلك.

وقال تعالى « كلوا من طيبات ما رزقناكم » (٣) المراد به الإباحة ، لأنه تعالى لا يريد المباحات من الأكل والشرب وغيرهما.

« ولا تطغوا فيه » (٣) أي لا تتعدوا فيه فتأكلوه على وجه حرمه الله ، فمتى طغيتم فيه وأكلتموه على وجه الحرام نزل عليكم غضبي.

(فصل)

وقال بعض المفسرين : ان قوله تعالى « يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا » (٤) إشارة إلى ما ذكره النبي عليه‌السلام تفصيلا لتلك الجملة ، وهو قوله : إذا مر الانسان بالثمرة جاز له أن يأكل منها بقدر كفايته ولا يحمل منها شيئا على حال. ولذلك قال تعالى بعده « ولا تتبعوا خطوات الشيطان ».

__________________

١) سورة الأعراف : ١٠.

٢) الزيادة من ج.

٣) سورة طه : ٨١.

٤) سورة البقرة ١٦٨.

٢٣

وكان لموسى بن جعفر عليه‌السلام ضيعة فيها كروم وفواكه فأتاه [ آت ] وقت الادراك ليشتريها ، فقال عليه‌السلام : اني أبيعها مشروطة أن تجعل من أربع جوانب الحائط مدخلا ليأكل كل من يمر عليها مقدار ما يشتهيه ، فاني لا يمكنني أن أبيع القدر الذي يأكله من يمر عليها ، فاشتراها على ما يريد ، بهذا الشرط وأحفظه لئلا يحمل شيئا ويخرج.

وقد بين الله الحلال فقال « وأنزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد » (١) يعني بحب الحصيد حب البر والشعير وكل ما يحصد لان من شأنه أن يحصد ، أي خلقنا ما ذكرناه من حب النبت الحصيد. والطلع النضيد رزقا لهم وغذاءا ، وكل رزق فهو من الله اما بفعلنا أو فعل سببه (٢).

ولما كانت المكاسب وما يجري مجراها تنقسم إلى المباحات والمكروهات والمحظورات لم يكن بد من تميزها :

(باب)

(المكاسب المحظورة والمكروهة)

اعلم أن تقلد الامر من قبل السلطان الجائر إذا تمكن معه من ايصال الحق إلى مستحقه جائز.

يدل عليه ـ بعد الاجماع المتردد والسنة الصحيحة ـ قول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه‌السلام « قال اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم » (٣)

__________________

١) سورة ق : ٩ ـ ١١.

٢) في ج « اما أن يفعله أو يفعل سببه ».

٣) سورة يوسف : ٥٥.

٢٤

طلب ذلك إليه ليحفظه عمن لا يستحقه ويوصله إلى الوجوه التي يجب صرف الأموال إليها ، ولذلك رغب إلى الملك فيه ، لان الأنبياء لا يجوز أن يرغبوا في جمع أموال الدنيا الا لما قلناه ، فقوله « حفيظ » أي حافظ للمال عمن لا يستحقه عليهم بالوجوه التي يجب صرفه إليها.

ومتى علم الانسان أو غلب على ظنه أنه لا يتمكن من جميع ذلك فلا يجوز له التعرض له على حال.

وعن أبي بصير : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن كسب المغنيات؟ قال : التي تدعى إلى العرائس ليس به بأس ، والتي يدخل عليها الرجال حرام ، وهو قول الله تعالى « ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله » (١).

وعن ابن سنان قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الإجارة. قال. صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته ، فقد آجر موسى عليه‌السلام نفسه واشترط ، فقال : ان شئت ثمانيا وان شئت عشرا ، فأنزل الله فيه « على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت عشرا فمن عندك » (٢).

وعن عمار الساباطي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : الرجل يتجر ، فان هو آجر نفسه [ أعطي ما يصيب في تجارة. فقال : لا يؤاجر نفسه ولكن سيرزق الله تعالى ويتجر فإنه إذا آجر نفسه ] فقد حظر على نفسه الرزق (٣).

ولا تنافي بينهما ، لان الخبر الأول محمول على ضرب من الكراهية. والوجه في كراهة ذلك أنه لا يأمن أن لا ينصحه في عمله فيكون مأثوما ، وقد نبه على ذلك في الخبر الأول بقوله « لا بأس إذا نصح قدر طاقته ».

__________________

١) سورة لقمان : ٦. والحديث في الاستبصار ٣ / ٦٢ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام.

٢) سورة القصص : ٢٧. والحديث في من لا يحضره الفقيه ٣ / ١٧٣.

٣) الاستبصار ٣ / ٥٥ ، والزيادة منه.

٢٥

(فصل)

وعن عمار بن مروان : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الغلول (١) ، فقال : كل شئ غل من الامام فهو سحت ، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت. والسحت (٢) أنواع كثيرة : منها أجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبيذ المسكر ، والربا بعد البينة. وأما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله (٣).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى « أكالون للسحت » (٤).

قال : السحت الرشوة في الحكم (٥).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : السحت الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وعسيب الفحل ، وكسب الحجام ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، وثمن الميتة ، وحلوان (٦) الكاهن (٧).

وروي عن أبي هريرة مثله.

وقال مسروق : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجور في الحكم. قال :

__________________

١) الغلول ـ بضم الغين ـ الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة .. وكل من خان في شئ خفية فقد غل ، وسميت غلولا لان الأيدي فيها مغلولة ، أي ممنوعة مجعول فيها غل ، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ـ النهاية لابن الأثير ٣ / ٣٨٠.

٢) السحت في اللغة بمعنى القطع والاستئصال ، يقال سحت الله الكافر بعذاب إذا استأصله ، والمال السحت كل حرام يلزم آكله العار ، وسمى سحتا لأنه لا بقاء له ـ معجم مقاييس اللغة ٣ / ١٤٣.

٣) الكافي ٥ / ١٢٦.

٤) سورة المائدة : ٤٢.

٥) مجمع البيان ٣ / ١٩٦.

٦) حلوان الكاهن بضم الحاء وسكون اللام : الأجرة التي تعطى إياه ، واشتقاقه من الحلاوة ـ الفائق للزمخشري ١ / ٣٠٤.

٧) مجمع البيان ٣ / ١٩٦.

٢٦

ذلك الكفر. وعن السحت ، فقال : الرجل يقضي لغيره الحاجة فيهدي له الهدية ، قال الله تعالى « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون » (١). هذا إذا كان مستحلا لذلك (٢).

وقال الخليل : السحت القبيح الذي فيه العار ، نحو ثمن الكلب والخمر.

وأصل السحت الاستيصال.

وعن الصادق عليه‌السلام في قوله « أكالون للسحت » أنه قال : ثمن العذرة من السحت (٣).

وقال : أربعة لا تجوز في أربعة : الخيانة والغلول والسرقة والربا ، لا تجوز في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة (٤).

وقال : لا تصلح السرقة والخيانة إذا عرفت (٥).

والآية تدل على جميع ذلك بعمومها.

(فصل)

أما قوله تعالى « ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصنا » (٦) فهو نهي عن اكراه الأمة على الزنا ، انها نزلت على سبب فوقع النهي عن المعين على تلك الصفة.

__________________

١) سورة المائدة : ٤٤.

٢) وسائل الشيعة ١٧ / ٣١٤.

٣) تفسير البرهان ١ / ٤٧٤.

٤) من لا يحضره الفقيه ٣ / ١٦١.

٥) الكافي ٥ / ٢٢٨.

٦) سورة النور : ٣٣.

٢٧

قال جابر بن عبد الله : نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين أكره أمته مسيكة على هذا (١).

وهذا نهي عام لكل مكلف أن يكره أمته على الزنا طلبا لكسبها بالزنا.

وقوله « ان أردن تحصنا » صورته صورة الشرط وليس بشرط ، وانما ذكر لعظم الافحاش في الاكراه على ذلك.

ومهور البغايا محرمة كرهن أو لم يكرهن.

وقوله تعالى « ومن يكرههن » يعني على الفاحشة « فان الله من بعد اكراههن » أي لهن « غفور رحيم » (٢) ان وقع منها مكرهة في ذلك الوزر على المكره.

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : لما أنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه » (٣) قيل : يا رسول الله ما الميسر؟ فقال : كلما يقامر به حتى الكعاب والجوز. قيل : فما الأنصاب؟ قال : ما ذبحوه لآلهتهم. قيل : فما الالزام؟ قال : قداحهم التي كانوا يستقسمون بها (٤).

ونهى عليه‌السلام أن يؤكل ما تحمل النملة بقيها وقوائمها (٥).

وقال تعالى « وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم » (٦). أي لا تحمل رزقها للادخار. وقيل أي لا تدخره لغد.

__________________

١) أسباب النزول للواحدي ص ٢٢٠.

٢) سورة النور : ٣٣.

٣) سورة المائدة : ٩٠.

٤) الكافي ٥ / ١٢٢.

٥) الكافي ٥ / ٣٠٧.

٦) سورة العنكبوت : ٦٠.

٢٨

وروي أن الحيوان أجمع من البهائم ، والطير ونحوها لا تدخر القوت لغدها ، الا ابن آدم والنملة والفارة ، بل تأكل منها كفايتها فقط.

ونزلت الآية من أولها « يا عبادي الذين آمنوا ان أرضي واسعة فإياي فاعبدون » (١) إلى ههنا في أهل مكة المؤمنين منهم ، فإنهم قالوا : يا رسول الله ليس لنا بالمدينة أموال ولا منازل فمن أين المعاش؟ فأنزل الله الآية (٢).

(فصل)

وقوله تعالى « لتبلون في أموالكم وأنفسكم » (٣) معناه لتختبرن ما يفعل بكم من الفقر وشدة العسر وبما تؤمرون من الزكوات والانفاق في سبيل الله في أموالكم كما تختبرون بالعبادات في أنفسكم ، وانما فعله لتصبروا ، فسماه بلوى مجازا ، لان حقيقته لا تجوز على الله.

وكفى للمكلفين واعظا بقوله تعالى « لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له » (٤). فان أرض سبأ كانت من أطيب البقاع ، لم يجعل الله فيها شيئا من هوام الأرض نحو البق والبراغيث ولا العقرب ولا غيرها من المؤذيات ، وكان الغريب إذا دخل أرضهم وفى ثيابه قمل مات.

فهذه آية والآية الثانية أن المرأة كانت تأخذ على رأسها مكيلا فتملا بالفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا.

__________________

١) سورة العنكبوت : ٥٦.

٢) مجمع البيان ٤ / ٢٩٠.

٣) سورة آل عمران : ١٨٦.

٤) سورة سبأ : ١٥.

٢٩

ثم فسر الآية فقال « جنتان » أي هي جنتان من عن يمين الوادي وشماله. ثم قال « كلوا من رزق ربكم » المراد به الإباحة وإن كان لفظه لفظ الامر « بلدة طيبة » ليس فيها سبخة ، فأعرضوا عن ذلك فلم يشكروا الله ، فجازاهم تعالى على ذلك بأن سلبهم نعمة كانت بها ، وأرسل عليهم سيل العرم ، وقد كانت تجتمع مياه وسيول في هذا الوادي وسدوه بالحجارة والقاربين الجبلين فجعلوا له أبوابا يأخذون الماء منه بمقدار الحاجة ما شاؤوا ، فلما تركوا أمر الله بعث عليهم جرذا فنقبته فأغرق عليهم جنتهم وأفسد أرضهم.

ثم قال « وبدلناهم بجنتيهم جنتين » وانما سماهما بعد ذلك أيضا جنتين ازدواجا للكلام « ذواتي أكل خمط » فالاكل جناء الثمر الذي يؤكل ، والخمط شجر له ثمر مر.

ثم « ذلك جزاؤهم بما كفروا ». ثم من الله تعالى عليهم بما يذكر بعد فظهر فيما بينهم المحاسدة فكان كما قال « فجعلناهم أحاديث » أي أهلكناهم وألهمنا الناس أحاديثهم ليعتبروا بها.

(باب المكاسب المباحة)

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان قوما من الصحابة لما نزل « ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب » (١) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا قد كفينا ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليهم فقال : ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا : يا رسول الله تكفل الله لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة. فقال عليه‌السلام : انه من فعل ذلك لم يستجب الله له ، عليكم بالطلب (٢)

__________________

١) سورة الطلاق : ٣.

٢) من لا يحضره الفقيه ٣ / ١٩٢.

٣٠

طلب الحلال فريضة بعد الفريضة.

وقال : ملعون من ألقى كله على الناس (١).

وقال الله تعالى « وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه » أي ثقل على وليه « هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل » (٢).

وعن سعيد بن يسار : قلب لأبي عبد الله عليه‌السلام : امرأة دفعت إلى زوجها مالا من مالها ليعمل به وقالت له حين دفعته إليه : أنفق منه ، فان حدث بك حادث فما أنفقت منه لك حلال طيب ، وان حدث بي حادث فهو لك حلال ، [ فقال : أعد علي يا سعيد المسألة. فلما ذهبت أعيد المسألة عليه اعترض فيها صاحبها ] وكان صاحبها معي ، فقال له : يا هذا ان كنت تعلم أنها قد أوصت بذلك إليك فيما بينك وبينها وبين الله فحلال طيب. ثم قال : يقول الله تعالى « فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا » (٣) يعنى بذلك أموالهن التي في أيديهن مما يملكن (٤).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل : أنت ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : وقال رسول الله : لا يجب أن يأخذ من مال ابنه الا ما احتاج إليه مما لابد منه ، ان الله لا يحب الفساد (٥).

وقال تعالى « يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين أناه » (٦).

__________________

١) الكافي ٥ / ٧٢.

٢) سورة النحل : ٧٦.

٣) سورة النساء : ٤.

٤) الكافي ٥ / ١٣٦ ، والزيادة منه ، وليس فيه « يعنى » الخ.

٥) الاستبصار ٣ / ٤٨.

٦) سورة الأحزاب : ٥٣.

٣١

نهاهم عن دخول دار النبي عليه‌السلام بغير اذن إلى طعام غير منتظرين بلوغ لطعام ، وغير نصب على الحال ، وان الطعام إذا بلغ حال النضج. ثم قال « ولكن إذا دعيتم فأدخلوا » أي إذا دعيتم إلى الطعام فأدخلوا « فإذا طعمتم فانتشروا » أي تفرقوا ولا تستأنسوا بطول الحديث. وانما منعوا من الاستيناس لأجل طول الجلوس. ثم بين أن الاستيناس بطول الجلوس يؤذي النبي ، وأنه يستحيي من الحاضرين فيسكت على مضض ومشقة.

(فصل)

أما قوله تعالى « ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم » (١) إلى آخر الآية.

فقد قال ابن عباس : ليس في مؤاكلتهم حرج لأنهم كانوا يتحرجون من ذلك.

قال الفراء : كانت الأنصار تتحرج من ذلك لأنهم كانوا يقولون الأعمى لا يبصر فيأكل جيد الطعام دونه ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، والمريض يضعف عن المآكل.

وقال مجاهد : أي ليس عليكم في الاكل من بيوت من سمي على جهة حمل قراباتكم إليهم تستتبعونهم في ذلك حرج.

وقال الزهري : ليس عليهم حرج في أكلهم من بيوت الغزاة إذا خلفوهم فيها باذنهم.

وقيل : كان المخلف في المنزل المأذون له في الاكل ، فيجوز لئلا يزيد

__________________

١) سورة النور : ٦١.

٣٢

على مقدار المأذون له فيها.

وقال الجبائي : الآية منسوخة بقوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين أناه » (١).

ويقول النبي عليه‌السلام : لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفسه (٢).

والذي روي عن أهل البيت عليهم‌السلام انه لا بأس بالاكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله بغير اذنهم قدر حاجتهم من غير اسراف ، وهم عشرة (٣).

وقوله « ولا على أنفسكم ان تأكلوا من بيوتكم » قال الفراء : لما نزل قوله تعالى « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة » (٤) ترك الناس مؤاكلة الصغير والكبير ممن أذن الله في الاكل معه ، فقال تعالى وليس عليكم في أنفسكم وفى عيالكم أن تأكلوا معهم ، إلى قوله « أو صديقكم » أي بيوت صديقكم « أو ما ملكتم مفاتحه » أي بيوت عبيدكم وأموالهم.

وقال ابن عباس : معنى « ما ملكتم مفاتحه » هو الوكيل ومن جرى مجراه.

وقال مجاهد والضحاك : هو ما ملكه الرجل نفسه في بيته.

وقال قتادة : معنى قوله « أو صديقكم » لأنه لا بأس في الاكل من بيت صديقه بغير اذن.

وقوله تعالى « ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو اشتاتا » قيل يدخل فيه أصحاب الآفات على التغليب للمخاطب ، كقولهم « أنت وزيد قمتما ». وقال ابن عباس : معناه لا بأس أن يأكل الغني مع الفقير في بيته. وقال الضحاك.

__________________

١) سورة الأحزاب : ٥٣.

٢) مستدرك الوسائل ٣ / ١٤٦.

٣) انظر تفسير البرهان ٣ / ١٥٢ فما بعد.

٤) سورة البقرة : ١٨٨.

٣٣

هم قوم من العرب كان الرجل منهم يتحرج أن يأكل وحده ، وكانوا من كنانة.

وقال أبو صالح : كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا الا معه ، فأباح الله الاكل مفردا ومجتمعا.

والأولى حمل ذلك على عمومه وأنه يجوز الاكل وحدانا وجماعا.

(باب)

(التصرف في أموال اليتامى)

قال الله عزوجل « ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم » (١).

معنى الآية الاذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك ، فأذن الله لهم في ذلك إذا تحروا الاصلاح بالتوفير على الأيتام ـ في قول الحسن وغيره ، وهو المروي في أخبارنا.

وقوله « وإخوانكم » أي فهم اخوانكم خالطتموهم أو لم تخالطوهم  « ولو شاء الله لأعنتكم » الاعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا ، ومعناه التذكر بالنعمة في التوسعة على ما توجبه الحكمة مع القدرة على التضييق الذي فيه أعظم المشقة.

وقال أحمد بن محمد بن أبي نصر : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل يكون في يده مال لا يتام فيحتاج إليه فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده. قال : لا ينبغي له أن يأكل منه الا القصد ولا يسرف ، فإن كان من نيته أن لا يرده عليهم

__________________

١) سورة البقرة : ٢٢٠.

٣٤

فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل « ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » (١).

وعن سماعة عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى « ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف » (٢) قال : من كان يلي شيئا من أموال اليتامى وهو محتاج إلى ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر ولا يسرف ، فإن كان ضيعتهم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرزأن من أموالهم شيئا (٣).

وسئل عليه‌السلام عن قوله تعالى « وان تخالطوهم فإخوانكم » قال : يعنى اليتامى. إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره فليخرج من ماله على قدر [ ما يحتاج إليه على قدر ] ما تخرج لكل انسان منهم فيخالطهم ويأكلون جميعا ولا يرزأن من أموالهم شيئا ، انما هي النار (٤) ـ أي ما يضيعه منه.

وقال عليه‌السلام في قوله تعالى « فليأكل بالمعروف » المعروف هو القوت وانما عنى الوصي والقيم في أموالهم بما يصلحهم (٥).

وعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى « ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف » [ فقال : ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف ] إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا. قال : قلت أرأيت قول الله عزوجل « وان تخالطوهم فإخوانكم »؟ قال : تخرج من أموالهم بقدر ما يكفيهم وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ثم تنفقه. قلت : أرأيت ان كانوا يتامى صغارا وكبارا وبعضهم أعلا كسوة من بعض وبعضهم آكل من بعض ومالهم جميعا. فقال : أما الكسوة فعلى كل انسان منهم

__________________

١) سورة البقرة : ٢١٩. والحديث في الكافي ٥ / ١٢٨.

٢) سورة النساء : ٥.

٣) تهذيب الأحكام ٦ / ٣٤٠.

٤) تهذيب الأحكام ٦ / ٣٤٠ ، والزيادة منه.

٥) الكافي ٥ / ١٣٠.

٣٥

ثمن كسوته ، وأما الطعام فاجعلوه جميعا ، فان الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير (١).

(باب)

(من يجبر الانسان على نفقته)

الذين يجب لهم النفقة بنص القرآن منهم : الولد لقوله تعالى « ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق » (٢) يعنى خشية الفقر ، فلولا أن على الوالد نفقة الولد ما قتله خشية الفقر.

وهذا الخطاب متوجه إلى الأغنياء الذين يخافون الفقر إن انفقوا على أولادهم أموالهم ، فقال تعالى لهم لا تقتلوا أولادكم فاني أرزقهم كما رزقتكم. وخاطب الفقراء بالآية الأخرى فقال تعالى « ولا تقتلوا أولادكم من املاق » فاني أرزقهم وإياكم (٣).

فصح أن نفقة الولد على الوالد واجبة ، سواء كان له مال أو حرفة وصناعة أو أي حيلة يحصل بها ما يقوته ويتبلغ هو به.

وقول الله « لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده » (٤) يمنع من الاضرار به.

أما قوله تعالى « فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن » (٥) فإنه تعالى أراد به المطلقات دون الزوجات ، بدلالة أنه تعالى أو جب الأجرة بشرط الرضاع الا إذا كانت ناشزا لا تستحق منه النفقة ، ولأنه تعالى سماه أجرة والنفقة لا تسمى بذلك.

وأما وجوب نفقة الوالد على الولد فعلى كل ولد أن ينفق على والده في

__________________

١) الكافي ٥ / ١٣٠ والزيادة منه.

٢) سورة الإسراء : ٣١.

٣) سورة الأنعام : ١٥١.

٤) سورة البقرة : ٢٣٣.

٥) سورة الطلاق : ٦.

٣٦

الجملة ، وعلى الوالدة أيضا. هذا إذا كان له يسار وما يجري مجراه ، والدليل على هذا قوله تعالى « وصاحبهما في الدنيا معروفا » (١) ، فعلى هذا ان احتاج الوالد ولا ينفق الولد عليه يجوز للوالد حينئذ أن يأخذ من مال ولده قدر ما يحتاج إليه من غير اسراف بل على طريق القصد.

فأما من كان له أولاد صغار فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أموالهم الا قرضا على نفسه. وأما الوالدة فلا يجوز لها أن تأخذ من ولدها شيئا على حال الا على سبيل القرض على نفسها.

والمرأة لا يجوز لها أن تأخذ من بيت زوجها من غير اذنه الا المأدوم ، فان ذلك مباح لها أن تتصرف فيه ما لم يؤد إلى ضرر.

ويجبر الرجل على نفقة ستة : ولده ، ووالديه ، وجده ، وجدته من الطرفين ، وزوجته ، والمملوك أيضا.

ويستحب له النفقة على الآخرين من ذوي أرحامه.

وإذا كان للولد مال ولم يكن لوالده شئ جاز له أن يأخذ منه ما يحج به حجة الاسلام ، فأما حجة التطوع فلا يجوز له الا باذنه.

(باب السبق والرماية)

قال الله تعالى « وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم » (٢).

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا ان القوة الرمي ـ ثلاثا.

ووجه الدلالة أن الله أمر باعداد الرمي ورباط الخيل للحرب ولقاء العدو.

__________________

١) سورة لقمان : ١٥.

٢) سورة الانفعال : ٦٠.

٣٧

والاعداد لا يكون الا بالتعلم ، والنهاية في التعلم المسابقة في ذلك ليكد كل واحد نفسه في بلوغ النهاية والحذف فيه ، فكان في ضمن الآية دليل على ما قلناه.

وقال تعالى حكاية عن ولد يعقوب « يا أبانا انا ذهبنا نستبق » (١) فأخبر بالمسابقة.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر (٢) بسكون الباء وفتحها. فالسكون مصدر ، وبالفتح الفرض المخرج في المسابقة. فأحل عليه‌السلام السبق وأباحه في هذه الثلاثة.

وسئل أنس : هل كنتم تراهنون؟ فقال : نعم.

ولا خلاف في جوازه ، وانما الخلاف في أعيان المسائل.

فإذا تقرر جواز ذلك في الجملة فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه وما لا يجوز.

فما تضمنه الخبر من النصل والحافر والخف ضربان : أحدهما نشابة وهي للعجم ، والاخر السهم وهو للعرب. والمزاريق ـ وهي الردينيات ـ والرماح والسيوف كل ذلك من النصل. ويجوز المسابقة عليه بعوض لقوله تعالى « وأعدوا لهم ما استطعتم » الآية.

وأما الخف فالإبل ، يجوز المسابقة عليها لقوله « فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب » (٣) ، فالركاب الإبل. وكذا المسابقة على الخيل فجائز ، لقوله « ومن رباط الخيل » (٤) وقوله « من خيل ولا ركاب » ، وعليه الاجماع.

__________________

١) سورة يوسف : ١٧.

٢) وسائل الشيعة ١٣ / ٣٤٩.

٣) سورة الحشر : ٦.

٤) سورة الأنفال : ٦٠.

٣٨

(باب الزيادات)

قوله تعالى « كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه » (١).

ركب علي عليه‌السلام يوما دلدل ليخرج إلى موضع ، فأتى مسجد الكوفة ليصلي فيه ركعتين ثم يخرج وكان منفردا ، فلما وصل إلى باب المسجد رأى رجلا هناك فقال : احفظها لادخل المسجد فإذا خرجت أعطيتك شيئا. فأخذ الرجل اللجام من رأس البغلة ومضى ، فلما خرج عليه‌السلام من الصلاة فإذا بقنبر وجماعة من الناس حول البغلة ولم يكن عليها اللجام ، فقال عليه‌السلام : سبحان الله اني أخذت درهمين لأدفعهما إليه ، فدفعهما إلى قنبر ليشتري بهما لجاما. فلما دخل قنبر أول السوق فإذا الرجل باعه بدرهمين قراضة ، فلما عاد أقبل أمير المؤمنين على الناس وقال : لا تتعرضوا للحرام ، ولا تأكلوا مال غيركم غصبا فتحرموا في يومكم مقدار ذلك من رزقكم. وكل من أمكنه أن يأخذ مال غيره على وجه الحرام ولا يأخذ فالله يرزقه في ذلك اليوم مقدار ذلك من حيث لا يحتسب حلالا طيبا ، قال تعالى « كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه ».

__________________

١) سورة طه : ٨١.

٣٩

كتاب المتاجر

قال الله تعالى « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم » (١).

نهى الله عن أكل الأموال بالباطل ، واستثنى المتاجر من ذلك وجعلها حقا يخرج به مستعملها من الباطل.

وقيل في معناه قولان :

أحدهما ـ قال السدي : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالربا والقمار والبخس والظلم. وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

الثاني ـ قال الحسن : بغير استحقاق من طريق الأعواض.

وكان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما أنزلت هذه الآية إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور « ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم »

__________________

١) سورة النساء : ٢٩.

٤٠