فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

وقيل : ان الكفارة أيضا واجبة إذا كان المقتول كافرا بين قوم معاهدين ، لعموم قوله « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة » (١).

واختلفوا في وجوب الكفارة على القاتل عمدا إذا قبل منه الدية أو عفي عنه : فقال قوم عليه الدية ولا كفارة ، ومنهم من قال عليه كفارة واجبة كوجوبها في قتل الخطأ لأنها وجبت في الخطأ بالقتل وهو حاصل في العمد.

وعندنا كفارة قتل العمد عتق رقبة واطعام ستين مسكينا وصيام شهرين متتابعين بعد رضاء أولياء المقتول بالدية أو العفو عنه.

(فصل)

فان قيل : ما تقولون في الكفارة أهي عقوبة؟

قلنا : الصحيح أن يقال الكفارة للظهار والوطئ في نهار شهر رمضان في الحضر وغير ذلك انها تقع موضع العقوبة لما ثبت وجوبها الا فيما يعظم فيه المأثم فأما إن كان عقوبة فيما سواه فكلا. وهذا بين ، لان تحريم الاكل في نهار شهر رمضان في حال الحضر تكليف ، فإذا أكل وكفر بعده فإنه على التكفير يستحق المثوبة ، وما هذا حاله معدود في النعم فكيف يكون عقوبة. والله أعلم بالصواب.

(باب الزيادات)

قوله تعالى « بما عقدتم الايمان » أي بتعقيدكم الايمان ، وهو توثيقها بالقصد والنية ، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوما عندهم. أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف.

__________________

١) سورة المائدة : ٨٩.

٢٤١

« فكفارته » أي فكفارة حنثه ونكثه ، والكفارة فعلة من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها.

مسألة :

وقوله تعالى « أو كسوتهم » عطف على محل من أوسط ، ووجهه أن من أوسط بدل من الاطعام ، والبدل هو المقصود ، ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحي.

والكسوة ثوب يغطي العورة ، ومعنى أو التخيير. وايجاب أحد الكفارات الثلاث على الاطلاق ، فإنها كلها واجبة على سبيل التخيير بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب.

وقوله « ذلك » أي المذكور « كفارة أيمانكم » ، ولو قيل تلك كفارة أيمانكم لكان صحيحا على معنى تلك الأشياء أو لتأنيث الكفارة.

« واحفظوا أيمانكم » أي لا تحنثوا ، أراد الايمان لله الحنث فيها معصية.

وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها « كذلك » أي مثل ذلك البيان « يبين لكم آياته » أي أعلام شريعته.

مسألة :

قوله تعالى « ولا تعجلوا الله عرضة » العرضة فعلة بمعنى مفعول كالغرقة.

والعرضة أيضا المعرض للامر. ومعنى الآية على الأول أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو اصلاح ذات بين أو احسان إلى أحد ثم يقول أخاف الله ان أحنث في يميني فيترك البر في يمينه ، فقيل لهم فلا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه.

٢٤٢

وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعبد الرحمن بن سمرة : إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير (١). أي على شئ مما يحلف عليه.

وقوله « أن تبروا وتتقوا وتصلحوا » عطف بيان لايمانكم ، أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والاصلاح بين الناس.

مسألة :

فان قيل : بم تعلقت اللام في قوله « بأيمانكم »؟

قلت : بالفعل ، أي ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم حجازا. ويجوز أن يكون اللام للتعليل ويتعلق « أن تبروا » بالفعل أو بالعرضة ، أي لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم عرضة لايمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه « ولا تطع كل حلاف مهين » (٢) بأشنع المذام ، وجعل كونه حلافا مقدمتها وان تبروا علة للنهي ، أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، لان الحلاف مجترئ على الله غير معظم له ، فلا يكون متقيا ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وسائطهم واصلاح ذات بينهم.

« لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » (٣) أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لاقصد معه ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من اثم القصد إلى الكذب في اليمين ، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله.

__________________

١) الدر المنثور ١ / ٢٦٨.

٢) سورة القلم : ١٠.

٣) سورة البقرة : ٢٢٥.

٢٤٣

كتاب الصيد والذباحة

قال الله تعالى « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم البر ما دمتم حرما » (١) أباح سبحانه صيد البحر مطلقا لكل أحد ، وأباح صيد البر الا في حال الاحرام وفي الحرم.

وقال تعالى « يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا » (٢).

وقال « إذا حللتم فاصطادوا » (٣) أي إذ أحللتم من احرامكم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم عنه أن تحلوه وأنتم حرم ، بمعنى لا حرج عليكم في اصطياده ان شئتم حينئذ ، لان السبب المحرم قد زال ، لان معناه الإباحة وان كانت هذه الصورة مشتركة بينها وبين الامر. والله أعلم.

(باب أحكام الصيد)

أما الذي أحله بقوله تعالى « أحل لكم صيد البحر » فهو على ما قاله المفسرون

__________________

١) سورة المائدة : ٩٦.

٢) سورة البقرة : ١٦٨.

٣) سورة المائدة : ٢.

٢٤٤

الطري منه وأما العتيق فلا خلاف في كونه حلالا.

وإذا حل صيد البحر حل صيد الأنهار ، لان العرب تسمى النهر بحرا ، ومنه قوله تعالى « ظهر الفساد في البر والبحر » (١) والأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا ، لكن إذا أطلق دخل فيه الأنهار بلا خلاف.

وقوله « وطعامه متاعا لكم » يعني طعام البحر ، وفي معناه قولان : أحدهما ما قذف به ميتا ، والثاني أنه المملوح. واختار الرماني الأول وقال : انه بمنزلة ما صيد منه وما لم يصد منه ، فعلى هذا تصح الفائدة في الكلام. والذي يقتضيه مذهبنا ويليق به القول الثاني ، ويكون قوله « صيد البحر » المراد به ما أخذ طريا.

وقوله « وطعامه » ما كان منه مملوحا ، لان ما يقذف البحر ميتا لا يجوز عندنا أكله لغير المحرم ولا للمحرم الا إذا قذف به البحر حيا وتحضره أنت فيجوز لك أكله وان لم تكن صدته. وقال الزجاج : معنى قوله « وطعامه » ما ينبت بمائه من الزرع والنبات.

وقوله « متاعا لكم » مصدر ، بدل قوله « أحل لكم » على أنه قد متعكم متاعا ، أي منفعة للمقيم والمسافر.

« وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » يقتضي ظاهره تحريم الصيد في حال الاحرام وأكل ما صاده غيره ، وهو مذهبنا (٢).

وصيد السمك اخراجه من الماء حيا على أي وجه كان. وما يصيده غير المسلم لا يؤكل الا ما شوهد ولا يوثق بقوله أنه صاده حيا.

(فصل)

وقوله تعالى « يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم

__________________

١) سورة الروم : ٤١.

٢) هذا الباب إلى هنا مأخوذ من التبيان ٤ / ٢٨.

٢٤٥

من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه » (١).

هذه أبين آية في كتاب الله في الاصطياد واكل الصيد ، لأنها أفادت جواز تعليم الجوارح للاصطياد وأكل ما يصيد الكلب ويقتل إذا كان معلما ، لأنه لو لم يقتله لما جاز أكله حتى يذكى معلما كان أو غير معلم. فمعنى الآية : يسألك يا محمد أصحابك أي شئ أحل لهم أكله من المطاعم فقل لهم أحل لكم الطيبات ، أي ما يستلذ منها وهو حلال ، وأحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكواسب من سباع الطير والبهائم.

ولا يجوز أن يستباح عندنا أكل شئ مما اصطاده الجوارح والسباع سوى الكلب الا ما أدرك ذكاته.

وقوله « وما علمتم » تقديره وصيد ما علمتم ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، لان القوم كانوا سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أمرهم بقتل الكلاب مما يحل لهم اتخاذه منها وصيده فأنزل الله فيما سألوه عنه هذه الآية (٢) ، فاستثنى عليه‌السلام كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث مما أمر بقتله واذن في اتخاذ ذلك

(فصل)

واختلفوا في الجوارح التي ذكرت في الآية : فقال ابن عباس : الجوارح التي في قوله « وما علمتم من الجوارح مكلبين » هو كلما علم الصيد فيتعلمه بهيمة كان أو طائرا ، والفهد والبازي من الجوارح.

وروي ذلك عن علي بن الحسين وأبى جعفر عليهما‌السلام أيضا (٣).

__________________

١) سورة المائدة : ٤.

٢) انظر أسباب النزول للواحدي ص ١٢٧.

٣) وسائل الشيعة ٦ / ٢٢٣.

٢٤٦

وقال قوم : عنى بذلك الكلاب خاصة دون غيرها من السباع وهو ما رواه أصحابنا عنهما عليهما‌السلام (١). فأما ما عدا الكلب مما أدرك ذكاته فهو مباح والا فلا يحل له أكله ، بهذا يجمع بين الروايتين. ويقوي قولنا سبحانه  « مكلبين » ، وذلك مشتق من الكلب أي في هذه الحال ، يقال رجل مكلب وكلاب إذا كان صاحب صيد بالكلاب. وفي ذلك دليل على أن صيد الكلب الذي لم يعلم حرام إذا لم يدرك ذكاته.

وقوله « تعلمونهن مما علمكم الله » معناه تؤدبون الجوارح فتعلمونهن طلب الصيد لكم « مما علمكم الله » من التأديب الذي أدبكم به.

وقيل : صفة المعلم أن يجيبه إذا دعاه ، ويطلب الصيد إذا أرسله عليه ولا يفر منه ، ولا يأكل ما يصيده على العادة بل يمسكه إلى أن يلحقه صاحبه فيطعمه منه ما يريده ، فان أكل منه على العادة فغير معلم وصيده حرام الا أن يذكى فإنه انما أمسكه على نفسه. وهو الذي يدل عليه أخبارنا ، غير أنا نعتبر أن يكون اكل الكلب للصيد دائما فأما إذا كان نادرا فلا بأس بأكل ما أكل منه.

وقال قوم : لاحد لتعلم الكلاب ، فإذا فعل ما قلنا فهو معلم ، وقد دل على ذلك رواية أصحابنا ، لأنهم رووا انه إذا أخذ كلب مجوسي فعلمه في الحال فاصطاد به جاز اكل ما يقتله (٢).

وقد بينا أن صيد غير الكلب لا يحل اكله الا ما أدرك ذكاته ، فلا يحتاج أن يراعى كيف يعلمه ولا اكله منه. ومن أجاز ذلك أجاز أكل ما اكل منه البازي والصقر ، ذهب إليه ابن عباس ، وقال يعلم البازي وهو أن يرجع إلى صاحبه.

وقال قوم : تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد ، وهو أن يشلى على

__________________

١) الاستبصار ٤ / ٧٢.

٢) انظر الأحاديث في ذلك وسائل الشيعة ١٦ / ٢٢٧.

٢٤٧

الصيد فيستشلى (١) ويأخذ الصيد ويدعوه صاحبه فيجيبه ، فإذا كان كذلك كان معلما وان اكل ثلثه.

وقوله « فكلوا مما أمسكن عليكم » يقوي قول من قال ما أكل منه الكلب لا يجوز اكله لأنه أمسك على نفس.

ومن شرط استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه سمى عند ارساله ، فإن لم يسم عمدا لم يحل اكله الا إذا أدرك ذكاته ، وحده أن يجده تتحرك عينه أو أذنه أو ذنبه فيذكيه حينئذ بفري الحلقوم والأوداج.

(فصل)

واختلفوا في من التي في قوله تعالى « مما أمسكن عليكم » [ فقال قوم هي زائدة لان جميع ما يمسكه فهو مباح وتقديره فكلوا ما أمسكن عليكم ] (٢) ويجرون ذلك مجرى قوله « يكفر عنكم من سيئاتكم » (٣) ، وأنكر قوم ذلك وقالوا من للتبعيض كما يقال « أكلت من الطعام » تريد اكلت شيئا من الطعام.

والأقوى أن تكون من للتبعيض في الآية ، لان ما يمسكه الكلب من الصيد لا يجوز أكل جميعه ، لان في جملته ما هو حرام من الدم والفرث والغدد والطحال والمرارة والمشيمة والفرج والقضيب والأنثيين والنخاع والعلباء وذات الأشاجع والحدق والخرزة تكون في الدماغ ، فإذا قال فكلوا مما أمسكن عليكم أفاد ذلك بعض ما أمسكن. وهو الذي أباح الله أكله من اللحم وغيره.

__________________

١) استشلاه وأشلاه أي استنقذه ، وكل من دعوته حتى تخرجه وتنجيه من موضع هلكة فقد استشليته واشتليته ـ صحاح اللغة (شلا).

٢) الزيادة من ج.

٣) سورة البقرة : ٢٧١.

٢٤٨

وقوله « واذكروا اسم الله عليه » صرحي في وجوب التسمية عند الارسال ، وهو قول ابن عباس.

وقوله « أمسكن عليكم » يدل على أن الكلب متى غاب عن العين مع الصيد ثم رآه ميتا لا يجوز اكله ، لأنه يجوز أن يكون مات من غير قتل الكلب له. ومتى أخذ الكلب الصيد ومات في يده من غير أن يجرحه لم يجز اكله ، وفحوى الآية يدل على هذا أيضا.

وعموم الآية يدل على أن من لا يؤكل ذبيحته من أجناس الكفار لا يؤكل صيده ، فأما الاصطياد بكلابه المعلمة إذا صاد المسلم بها فجائز.

(باب)

(ما يحرم من الصيد)

يحرم أكل الأرنب والضب ومن صيد البحر الجري والمار ما هي وكلما لا فلس له من السمك ، والدليل عليه الاجماع المتردد.

فان استدل المخالف بقوله تعالى « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما » (١) وقال : ظاهر الآية يقتضي أن جميع صيد البحر حلال وكذا صيد البر الا على المحرم خاصة.

الجواب : أن قوله « أحل لكم صيد البحر » لا يتناول ظاهره الخلاف في هذه المسألة ، لان الصيد مصدر صدت ، وهو يجري مجرى الاصطياد الذي هو فعل الصائد ، وانما يسمي الوحش وما جرى مجراه صيدا مجازا أو على وجه الخلاف لأنه محل للاصطياد سمي باسمه ، وإذا كان كلامنا في تحريم لحم الصيد فلا دلالة في إباحة الصيد لان الصيد غير المصيد.

__________________

١) سورة المائدة : ٩٦.

٢٤٩

فان قيل : قوله « وطعامه متاعا لكم وللسيارة » يقتضي أنه أراد المصيد دون الصيد ، لان لفظة « الطعام » لا تليق الا بما ذكرناه دون المصدر.

قلنا : أولا روي عن الحسن البصري في قوله « وطعامه » أنه أراد به البر والشعير والحبوب التي تسقى بذلك ، فعلى هذا سقط السؤال. ثم لو سلمنا أن لفظة الطعام ترجع إلى لحوم ما يخرج من حيوان البحر لكان لنا أن نقول قوله  « وطعامه » يقتضي أن يكون ذلك اللحم مستحقا في الشريعة لاسم الطعام ، لان ما هو محرم في الشريعة لا يسمى بالاطلاق فيه طعاما كالخنزير والميتة ، فمن ادعى في شئ مما عددنا تحريمه أنه طعام في عرف الشريعة فليدل على ذلك وانه يتعذر عليه.

(فصل)

وصيد أهل الكتاب محرم لا يحل اكله وكذلك ذبائحهم ، قال الله تعالى  « ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق » (١) ، وهذا نص في موضع الخلاف ، لان من ذكرناه من الكفار لا يرون التسمية على الذبائح فرضا ولا سنة فهم لا يسمون الله عند ارسال الكلب إلى الصيد وقد أوجبه الله بقوله « واذكروا اسم الله عليه » ، وكذلك لا يسمون على ذبائحهم ، ولو سموا لكانوا مسمين لغير الله لأنهم لا يعرفون الله بكفرهم. وهذا الجملة تقتضي تحريم ذبائحهم وصيدهم.

فان قيل : هذا يقتضي أن لا يحل ذباحة الصبي لأنه غير عارف بالله.

قلنا : ظاهر الآية يقتضي ذلك ، وانما أدخلناه فيمن يجوز ذباحته بدليل ، ولان الصبي وان لم يكن عارفا فليس بكافر ولا معتقد أن الله غير مستحق للعبادة على

__________________

١) سورة الأنعام : ١٢١.

٢٥٠

الحقيقة ، وانما هو خال من المعرفة ، فجاز أن يجري مجرى العارف متى ذبح وتلفظ بالتسمية. وهذا كله موجود في الكفار.

فان اعترض علينا بقوله : « اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم » (١) وادعى أن الطعام يدخل فيه ذبائح أهل الكتاب وصيدهم.

فالجواب عن ذلك : ان أصحابنا يحملون قوله « وطعام الذين أوتوا الكتاب » على ما يؤكل من حبوب وغيرها ، وهذا تخصيص لا محالة ، لان ما صنعوه طعاما من ذبائحهم يدخل تحت اللفظة ولا يجوز اخراجه الا بدليل.

فإذا قلنا : نخصصه بقوله « ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ». قيل لنا : ليس أنتم بأن تخصوا آياتنا بعموم آيتكم بأولى منا إذا خصصنا الآية التي تعلقتم بها ، لعموم ظاهر الآية التي استدللنا بها.

والذي يجب أن نبينه في الفرق بين الامرين أنه قد ثبت وجوب التسمية عند ارسال الكلب وعند الذبيحة وان من تركها عامدا لا يكون مذكيا ولا يجوز اكل صيده وذبيحته على وجه من الوجوه ، وكل من ذهب إلى هذا المذهب من الأمة يذهب إلى تخصيص قوله « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » وان ذبائحهم لا تدخل تحته ، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع.

ولا يلزم على ما ذكرنا أن أصحاب أبي حنيفة يوافقونا على وجوب التسمية لأنا نرى وجوب التسمية مع الذكر على كل حال ، وعند أصحاب أبي حنيفة انه جائز أن يترك التسمية من أداه اجتهاده إلى ذلك إذا استفتى هذه حاله. والامامية يذهبون إلى أن التسمية مع الذكر لا تسقط بحال من الأحوال.

فان قيل : على هذه الطريقة التي تعتمدونها من الجمع بين المسألتين ما

__________________

١) سورة المائدة : ٥.

٢٥١

أنكرتم من مخالفكم أن يعكس هذه الطريقة عليكم ويقول : قد ثبت أن التسمية غير واجبة ، أو يشير إلى مسألة قد دل الدليل على صحتها عنده ، ثم يقول : وكل من ذهب إلى هذا الحكم يذهب إلى عموم قوله تعالى « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع.

قلنا : الفرق بيننا ظاهر ، لأنا إذا بنينا على مسألة ضمنا عهدة صحتها ونفى الشبهة عنها ، ومخالفنا إذا بنى على مسألة ـ مثل أن التسمية غير واجبة أو غير ذلك من المسائل ـ لا يمكنه أن يصحح ما بنى عليه ولا أن يورد حجة قاطعة واضحة بيننا وبين من يتعاطى ذلك ، ونحن إذا بنينا على مسألة دللنا على صحتها بما لا يمكن دفعه بهذا على التفصيل يخرجه الاعتبار.

(باب الذبح)

الذكاة حكم شرعي ، والمذكي إذا استقبل القبلة بتوجيه الذبيحة إليها أيضا وسمى الله تعالى يكون مذكيا بيقين. فقد صرحوا بأن من ذبح يجب أن يكون مستقبلا ، ولا يناقضه قولهم : ينبغي أن يوجه الذبيحة إلى القبلة فمن لم يستقبل بها القبلة متعمدا لم يجز أكل ذبيحته وان فعله ناسيا لم يكن به بأس ، لان هذا أيضا مما يجب أن يفعل على ما يمكن.

وقوله تعالى « فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ان كنتم بآياته مؤمنين » (١) لم يذكر الله في هذه الآية ذبحا ولكن الأمة أجمعت على أن المراد أنه مباح لكم اكل لحوم ما ذكر اسم الله على تذكيته.

ويجب استقبال القبلة عند الذبح مع امكان ذلك على ما ذكرناه ، لان من ذبح غير مستقبل القبلة عامدا قد أتلف الروح وحل الموت في الذبيحة ، وحلول

__________________

١) سورة الأنعام : ١١٨.

٢٥٢

الموت يوجب أن يكون ميتة ويدخل تحت قوله تعالى « حرمت عليكم الميتة » (١) ، إذ لم تقم دلالة على حصول الذكاة المشروعة فيستحق هذا الاسم.

ولا يجوز أن يتولى الذباحة غير المسلمين لما ذكرناه من الأدلة. وقال ابن عباس : لا ينفع الاسم في الشرك ولا يضر النسيان في الملة. وهذا إشارة إلى أن ذبائح المشركين ومن ضارعهم وان ذكروا اسم الله عليها لا يجوز اكلها ، وان تذكية أهل الحق العارفين بالله المعترفين بتوحيده وعدله لا بأس بها وان ترك ذكر اسم الله عليها نسيانا.

ومعنى قوله تعالى « ان كنتم بآياته مؤمنين » لا تأكلوا الا ما ذكر اسم الله عليه ان كنتم مؤمنين على ما ذكرنا ، وليس المراد ان كنتم مؤمنين فكلوا مما ذكر اسم الله البتة ، لان المؤمن لا يخرج من أن يكون مؤمنا وان لم يأكل اللحم قط.

فبان أن المراد النهي عن اكل ما لم يذكر اسم الله عليه والامر باعتبار تحليل اكل ما ذكر اسم الله عليه حقيقة ، يدل على ذلك قوله « ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه » (٢) ، وهذا كأنه انكار على من يرى أنه لا يجوز اكل ما ذكر اسم الله عليه ، فقيل ما الذي يمنعكم من أكله ، وكان المشركون ينكرون على المسلمين أن يأكلوا ما قتلوه ويمتنعوا من اكل ما قتله الله ، فأعلم تعالى أنه أحل ما ذكر اسم الله عليه وحرم غيره من الميتة وذبيحة المشرك ومن بحكمه وقد فصل المحرمات من المأكولات في قوله « حرمت عليكم الميتة ».

وإذا ذبحت الذبيحة فلم يخرج الدم ولم يتحرك شئ منها لم يجز أكلها ، لأنها ميتة ماتت خوفا على ما روي.

__________________

١) سورة المائدة : ٣.

٢) سورة الأنعام : ١١٩.

٢٥٣

(باب)

(ما يحل أو يكره لحمه)

قال الله تعالى « أحلت لكم بهيمة الأنعام » (١) قال قوم : أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الضباء والبقر والحمر غير المستحلين اصطيادها « وأنتم حرم الا ما يتلى عليكم » (٢) من قوله « حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير » (٣).

والأقوى أن يحمل على عمومه في جميع ما حرمه الله في كتابه.

وقال قوم : أراد ببهيمة الانعام أجنة الانعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا ذكيت الأمهات وهي ميتة. وعندنا أنه إذا ذبح شاة أو غيرها ووجد في بطنها جنين فإن كان قد أشعر أو أوبر ولم يلجه الروح فذكاته ذكاة أمه وان لم يكن تاما لم يجز اكله على حال ، وإن كان فيه روح وجبت تذكيته ليحل اكله ، يدل عليه الخبر إذا روي بالنصب « ذكاة أمه » (٤).

والانعام على الاطلاق مقصورة على الإبل والبقر والغنم ، لان الله فصل في سورة الأنعام ثمانية أزواج ولم يذكر الا هذه الثلاثة.

وقال عبد الجبار : ما يصاد ليس من الانعام ، لأنه تعالى قال « فجزاء مثل ما قتل من النعم » (٥) فدل هذا على أن المقتول الذي جعل جزاؤه مثله من النعم ليس

__________________

١) سورة الأنعام : ١.

٢) نص الآية « الا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم ».

٣) سورة المائدة : ٣.

٤) يريد الجملة المروية « فذكاته ـ أي الجنين في البطن ـ ذكاة أمه » راجع وسائل الشيعة ١٦ / ٢٧٠.

٥) سورة المائدة : ٩٥.

٢٥٤

من النعم. ثم عارض نفسه بقوله « غير محلي الصيد ». وأجاب بأن ذلك ليس باستثناء ، والمراد به سوى الصيد المحرم على المحرم ، فكأنه تعالى بين أن المحلل والمحرم فيه غير الامر بالاحرام وهو الصيد ، وهو بيان أمر ثالث سوى ما يحل من الانعام ويحرم.

وقال تعالى « يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا » (١) وانما جمع الوصفين لاختلاف الفائدتين ، إذ وصفه بأنه حلال يفيد أنه طلق ووصفه بأنه طيب يفيد أنه مستلذ اما في العاجل أو الاجل.

« ولا تتبعوا خطوات الشيطان » أي آثاره وأعماله ، نزل لما حرم أهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة ، فنهى الله عما كانوا يفعلونه وأمر المؤمنين بخلافه (٢).

والاذن في الحلال يدل على حظر الحرام على اختلاف ضروبه وأنواعه ، فحملها على العموم أولى.

والمآكل والمنافع في الأصل للناس فيها ثلاثة أقوال : فقال قوم هي على الحظر ، وقال آخرون هي على الإباحة ، ومنهم من قال بعضها على الحظر وبعضها على الإباحة. وهذه الآية دالة على إباحة المأكل الا ما دل الدليل على حظره.

وقال تعالى « والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون » (٣) وهي الإبل والبقر والغنم ، أي خلقها لمنافعكم.

(فصل)

واعلم أن لحوم الخيل والبغال والحمير مكروهة غير محرمة ، وبعضها أشد

__________________

١) سورة البقرة : ١٦٨.

٢) انظر أسباب النزول للواحدي ص ٢٩.

٣) سورة النحل : ٥.

٢٥٥

كراهية من بعض. ويستدل على ذلك بقوله « قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه » الآية (١).

وحرم سائر الفقهاء لحوم الحمر الأهلية. واحتجوا عليه بقوله تعالى « والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة » (٢) وانه تعالى أخبر انها للركوب والزينة لا للاكل. والجواب لهم : انها وان كانت للركوب الزينة فلا يمتنع ان يكون لغير ذلك أيضا. ألا ترى قول القائل « أعطيتك هذا الثوب لتلبسه » فلا يمنعه من جواز بيعه أو هبته والانتفاع به من وجوه شتى. ولان المقصود بالخيل والحمير الركوب والزينة ولى اكل لحومها مقصودا منها. ثم إنه لا يمنع من الحمل على الحمير والخيل وان لم يذكر الحمل انما خص الركوب والزينة بالذكر.

وأكثر الفقهاء يجيزون أكل لحوم الخيل ولا يعملون بمضمون الآية. ذكر الركوب والزينة خاصة ، وقد رووا عن ابن عباس انما نهى عن لحوم الحمير كيلا يقل الظهر ، وذلك النهي محمول على الكراهة للقرينة.

(باب)

(ما حلل من الميتة وما حرم من المذكى)

اعلم أن العمل بتحليل ذلك أو تحريمه هو السمع وليس للعقل فيه مجال ، فان وردت العبارة الشرعية بتحريم ماله صفة المباح في العقل امتنع منه ، وان أباحت الشريعة ما كان محظورا قيل به. وقد نطق الكتاب بتحريم الميتة ، قال الله تعالى « حرمت عليكم الميتة » وأطلقت الأمة القول بتحريم الميتة ثم أجمعت على أن اطلاق قولها بالتحريم وما ورد به نص الكتاب مخصوص غير محمول على عمومه وشموله وان اختلفوا فيما هو مباح منها.

__________________

١) سورة الأنعام : ١٤٥.

٢) سورة النحل : ٨.

٢٥٦

والميتة هي كل حيوان صامت مات أو على (١) وجه الذكاة ، والذكاة مع الامكان على ثلاثة أضرب : الإبل إذا نحرت من غير تعمد ترك التسمية ، والسمك والجراد إذا اصطيدا ، لقوله عليه‌السلام وقد سئل عن ذكاتهما فقال : صيده ذكاته (٢) ، وما سوى ذلك مما يعمل فيه الذكاة إذا ذبح ولم يتعمد ترك التسمية على ما ذكرناه في نحر الإبل.

فان قيل : ما معنى قولكم « مع التمكن » من أي شئ تحرزتم به؟ قلنا : نتحرز بذلك من الجمل والبقر وما جرى مجراهما إذا صال شئ منها أو تردى في بئر ولم يتمكن من تذكيته ، فان الامر ورد بأن ينفح (٣) بالرماح أو يرمى بالسهام أو يضرب بالسيوف حتى يموت فتلك ذكاته وان وقع في غير منحره أو مذبحه. وتحرزنا أيضا عما نذكره ، فأما إذا رميتا صيدا وقد سمينا فأصاب السهم فقتله فإنه لا خلاف بين الأمة في ذكاته وان لم يقع في مذبحه ، وكذا ما يقتله الكلب المعلم.

وقد قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أحل من الميتة عشرة أشياء : الصوف ، والشعر ، والوبر ، والبيض ، والناب ، والقرن ، والظلف ، والإنفحة ، واللبن ، والعظم (٤).

فالمباح من الميتة عندنا هذه العشرة ، والدليل على ذلك اجماع الامامية على القول بصحته والفتوى به ، ويدل عليه قوله تعالى « قل لا أجد فيما أوحي

__________________

١) كذا في النسختين ، والظاهر أن الصحيح « لا على وجه الذكاة ».

٢) ورد ذلك في حديث عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ انظر وسائل الشيعة ١٦ / ٢٩٧.

٣) نفحه بالرمح أو السيف : تناوله من بعيد ـ صحاح اللغة ١ / ٤١٢.

٤) الوسائل ١٦ / ٣٦٣ مع اختلاف يسير.

٢٥٧

إلي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير » (١) الآية. ولا يجوز الحكم بتحريم شئ سوى ما ذكر في الآية الا بدليل ، ولا دليل مقطوع به على تحريم شئ مما عددناه.

واما المحظور من المذكى فالمجمع عليه عشرة أشياء أيضا : الدم ، والخصيتين والقضيب ، والرحم ، والمثانة ، والغدد ، والطحال ، والمرارة ، والنخاع ، وذات الأشاجع وهي موضع الذبح ومجمع العروق. والدليل على ذلك اجماع الطائفة والأخبار المتواترة عن أئمة الهدى عليهم‌السلام في ذلك.

فأما ما روي عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال : حرم من الشاة سبعة أشياء : الدم ، والخصيتان ، والقضيب ، والمثانة ، [ والغدد ] والطحال ، والمرارة (٢) فإنه لا يبطل التجاوز إلى العشرة ، ولو كان لازما للزم من يقل بدليل الخطاب ، لان عندهم ان الحكم إذا علق بصفة دل انتفاء الصفة عن غيره على انتفاء الحكم.

فهذا مذهب فاسد ، لأنه غير ممتنع ان يتناول دليل التحريم سبعة أشياء ويأتي دليل آخر على زيادة عليها ، كما قلناه في مواضع من العبادات الموجب منها والمحظور ، قال الله تعالى « أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » (٣) فأوجب بهذا اللفظ علينا فعلهما ولم يمنع من ايجاب عبادات أخر بأدلة غير هذا.

وكذا قال تعالى « قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعم الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير » ثم حرم أشياء أخر بالكتاب وغيره ، فلم يمتنع قوله « قل لا أجد » من القول بتحريم أشياء أخر ، وقد ورد خبر بتحريم أربعين شيئا من المذكى ونحن نحملها على الكراهية لقرينة تدل عليه ، ونعدل عن تحريمها للاجماع على تحريم تلك العشرة التي ذكرناها فقط.

__________________

١) سورة الأنعام : ١٤٥.

٢) الكافي ٦ / ٢٥٣ والزيادة منه.

٣) سورة البقرة : ٤٣.

٢٥٨

(باب الزيادات)

قد ذكرنا انه لا يحل اكل ما قتله غير الكلب المعمل عندنا من ذوات الأربع والطيور ، قال الله تعالى « وما علمتم من الجوارح مكلبين » (١) ، لأنه لو لم نقل مكلبين لدخل في الكلام كل جارح من ذي ناب وظفر. ولما اتى بلفظة « مكلبين » وهي تخص الكلاب بلا خلاف بين أهل اللغة ، علمنا أنه لم يرد بالجوارح [ جميع ما يستحق هذا الاسم وانما أراد الجوارح ] (٢) من الكلاب خاصة. ويجري ذلك مجرى قولهم « ركب القوم نهارهم مبقرين محمرين » ، لأنه لا يحمل وإن كان اللفظ الأول عام الظاهر الا على ركوب البقر والحمير.

وليس لاحد ان يقول المكلب في الآية المراد به المفري للجارح الممرن له والمغرى ، فيدخل فيه الكلب وغيره. لأنه لا يعرف عن أحد من أهل اللغة العربية ان المكلب هو المغري والمفري ، بل نصوا في كتبهم على أن المكلب صاحب الكلاب. على انا لو سلمنا انها قد استعملت في التعليم والتمرين فذلك مجاز ، وحمل القرآن على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ما أمكن.

على أن قوله تعالى « وما علمتم من الجوارح » يعني ان يكرر ويقول مكلبين لان من حمل لفظة مكلبين على التعليم لابد من أن يلزمه التكرار ، وإذا جعلنا ذلك مختصا بالكلاب أفاد فائدة أخرى ، لأنه بيان ان هذا الحكم يتعلق بالكلاب دون غيرها.

مسألة :

روي أن أمير المؤمنين على السلام مر بسوق القصابين فنهاهم عن بيع أشياء

__________________

١) سورة المائدة : ٤.

٢) الزيادة من ج.

٢٥٩

منها الطحال ، فيقل : ما الكبد والطحال الا سواء. فقال عليه‌السلام له : كذبت ايتني بتورين من ماء (١) أنبئك بخلاف ما تقول. فأتى بطحال وكبد وتورين من ماء فقال : شق الكبد من وسطه والطحال من وسطه واجعلهما في الماء جميعا.

ففعل فلم ينقص من الكبد شيئا وصار الطحال كله دما وهي جلد وعروق ، فقال : هذا لحم وهذا دم (٢).

وقال تعالى « فيه تبيان لكل شئ » (٣) وقال « وما يعقلها الا العالمون » (٤) ، فالقرآن يدل على جميع ذلك جملة والسنة تفصيلا.

مسألة :

قوله « وما علمتم من الجوارح » عطف على الطيبات إذا كانت ما موصولة ويجوز أن يكون « وما علمتم » كلاما مستأنفا وجعل ما شرطية وجعل جوابها  « فكلوا ».

والمكلب مؤدب الكلاب واشتق من لفظه ، فان استعمل في غيره من السباع فهو كالمجاز ، فالأولى حمله على الحقيقة.

__________________

١) التور ـ بفتح التاء وسكون الواو ـ اناء من صفر أو حجارة كالإجانة قد يتوضأ منه ـ لسان العرب (تور).

٢) الكافي ٦ / ٢٥٣ مع اختلاف في ألفاظ.

٣) في سورة النحل ٨٩ قوله تعالى « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ».

٤) سورة العنكبوت : ٤٣.

٢٦٠