فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

كتاب الأطعمة والأشربة

الحلال هو الجائز من الافعال ، مأخود من أنه طلق لم يعقد بحظر ، والمباح مثله.

وليس كل حسن حلالا ، لان أفعاله تعالى حسنة ولا يقال إنها حلال ، إذ الحلال اطلاق في الافعال لمن يجوز عليه المنع.

وقد دللنا على إباحة المآكل الا ما دل الدليل على حظره ، وقد استدل بقوله تعالى « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا » (١). على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات من العقل خلقت في الأصل مباحة قد أطلق لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ، كالماء من البحر والحطب ونحوه من البر ، فليست على هذا الوجه على العموم بل هو مخصوص.

وقيل : معناه خلقها لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم بالنظر إليها.

__________________

١) سورة البقرة : ٢٩.

٢٦١

(باب)

(ما أباحه الله من الأطعمة)

قال الله تعالى « يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات » (١). الطيب في الأصل خلاف الخبيث ، وهو على ثلاثة أقسام : الطيب المستلذ ، والطيب الجائز ، والطيب الطاهر. والأصل واحد وهو المستلذ ، الا أنه وصف به الطاهر والجائز تشبيها ، إذا ما يزجر عنه العقل أو الشرع كالذي يتكد هذه النفس في الصرف عنه وما يدعو إليه بخلاف ذلك ، فالطيب الحلال والطيب النظيف.

واختلفوا في معنى الطيبات في الآية ، فقال البلخي هو ما يستطاب ويستلذ وقال الطبري وغيره هو الحلال الذي أذن لكم ربكم في اكله من الذبائح. والأول أولى ، لان الثاني يؤول تقديرا إلى ما لا فائدة فيه ، وهو يسألونك ما الذي هو حلال لهم فقيل الذي هو حلال لكم هو الحلال ، وهذا لا معنى له.

وإذا كان المراد بالذي أحل المستلذ حسن أن يقال : ان الأشياء التي حرمت غير مستلذة ، لأنه لا يميل كل أحد إلى الميتة ، والدم أيضا ليس من طيبات الرزق.

فقل لهم : الطيبات من المأكولات محللة لكم.

والضمير في « يسألونك » للمؤمنين الذين حرم عليهم ما فصل في الآية الأولى من قوله « حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير » الآية. أي يسألونك تفصيل المحللات فقل أحل لكم الطيبات. قال أبو علي : كل ما لم يجر ذكره في آيات التحريم كله حلال.

وقال تعالى « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم » ونحوه قوله  « يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا » ، الا أن تلك الآية خطاب للمؤمنين

__________________

١) سورة المائدة : ٤.

٢٦٢

وهذه خطاب لجميع الناس ، يعني ان من آمن بالله لا يحل ولا يحرم الا بأمره ، ومن امتنع من اكل ما أحل الله فقد خالف أمره والله أحل المستلذ.

فقوله « كلوا » يحتمل أن يكون إباحة وتخييرا وأمرا على الايجاب أو الندب فالامر في وقت الحاجة إليه ، إذا لا يجوز لاحد أن يترك ذلك حتى يموت مختارا مع امكان تناوله.

والاذن على أن اكل المستلذ مما ملكتم ، وهو الحلال مباح لكم. وفي الآية دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول بعض المفسرين ، كأنه قيل كلوا من الطيب دون الخبيث كما لو قال كلوا من الحلال لكان ذلك دالا على حظر الحرام.

وهذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم ، فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده ، لان قول القائل « كل من مال زيد » لا يدل على أن المراد تحريم ما عداه ، لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة ، وذكر الشرط ههنا انما هو على وجه المظاهرة في الحجاج.

قال سبحانه « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ». والتحريم هو العقد على مالا يجوز فعله للعبد ، والتحليل حل ذلك العقد ، وذلك كتحريم السبب بالعقد على أهله فلا يجوز لهم العمل فيه ، وتحليله تحليل ذلك العقد وذلك يجوز لهم الان العمل فيه.

« ولا تعتدوا » إلى ما حرم عليكم ، واعتداء الحد مجاوزة الحكمة إلى ما نهى عنه الحكيم وزجر عنه اما بالعقل أو بالسمع.

ثم قال تعالى « وكلوا مما رزقكم الله حلال طيبا » والرزق هو ما للحي الانتفاع به وليس لغيره معه منه.

فان قيل : إذا كان الرزق لا يكون الا حلالا فلم قال الله تعالى « حلالا طيبا ».

قلنا : ذكر ذلك على وجه التأكيد كقول « وكلم الله موسى تكليما » (١) ،

__________________

١) سورة النساء : ١٦٤.

٢٦٣

والطيب قد يكون مستلذا ، وقد اطلق في موضع آخر فقال « ومما رزقناهم ينفقون » (١).

ثم اعلم أن الطيب يقع على الحلال كقوله « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات » (٢) ، ويقع على الطاهر كقوله تعالى « فتيمموا صعيدا طيبا » (٣) ، ويقع على مالا أذى فيه كما يقال زمان طيب ومكان طيب للذي لا حر فيه ولا برد ، ويقع على ما يستطاب من المأكول يقال هذا طعام طيب لما تستطيبه النفس ولا تنفر منه.

(فصل)

ثم قال تعالى « اليوم أحل لكم الطيبات » (٤) أي ما تستطيبونه ولا تستخبثونه فردهم إلى عادتهم. ولا يمنع ان يقال المراد به مالا اذى فيه من المباح الذي ليس بمحرم ، فكأنهم لما سألوه عن الحلال فقال هو مالا يستحق المدح والذم بتناوله ، وذلك عام في جميع المباحات سواء علمت كذلك عقلا أو شرعا.

ومن اعتبر العرف والعادة اعتبر عرف أهل الترف والغنى المكنة الذين كانوا في القرى والأمصار على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حال الاخبار دون من كان من أهل البوادي من جفاة العرب.

فإذا قيل : عادتهم مختلفة. قلنا : اعتبرنا العام الشائع دون الشاذ النادر.

وقوله تعالى « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » مبتدأ وخبر ، وذلك يخص عند أكثر أصحابنا بالحبوب لأنها المباحة من أطعمة أهل الكتاب ، فأما ذبائحهم وكل مائع يباشرونه بأيديهم فإنه ينجس ولا يحل استعماله.

وتذكيتهم لا تصح ، لان من شرط صحتها التسمية لقوله تعالى « ولا تأكلوا

__________________

١) سورة البقرة : ٣.

٢) سورة المؤمنون : ٥١.

٣) سورة النساء : ٤٣.

٤) سورة المائدة : ٥.

٢٦٤

مما لم يذكر اسم الله عليه » (١) ، وهؤلاء لا يذكرون اسم الله عليه ، وإذا ذكروا قصدوا بذلك اسم من أبد شرع موسى أو عيسى عليهما‌السلام ، أو اتخذ عيسى أو عزيزا ابنا وكذب محمدا عليه‌السلام وذلك غير الله عزوجل ، وقد حرمه الله بقوله « وما أهل به لغير الله » (٢).

« وطعامكم حل لهم » أي انه حلال لهم سواء قبلوه أو لم يقبلوه. وقيل : حلال للمسلم بذله لهم ، ولو كان محرما لما جاز للمسلم بذله إياهم.

وقوله « فكلوا مما ذكر اسم الله عليه » (٣) الذكر المأمور به هو قول « بسم الله » وقيل كل اسم يختص الله به أو صفة تختصه كقول « بسم الله الرحمن » أو « باسم القديم » أو « باسم القادر لنفسه » أو « باسم العالم لنفسه » وما جرى مجرى ذلك فالأول مجمع على جوازه والظاهر يقتضي جواز غيره ، ولقوله تعالى « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى » (٤). وهذا يقتضي مخالفة المشركين في أكلهم ما لم يذكر اسم الله عليه ، فأما ما لم يذكر عليه اسم الله سهوا أو نسيانا من المؤمنين فإنه يجوز أكله على كل حال.

والاسم انما يكون لمسمى مخصوص بالقصد ، وذلك مفتقر إلى معرفته واعتقاده ، والكفار على مذهبنا لا يعرفون الله فكيف يصح منهم تسميته تعالى ، فلا يجوز أكل ذبائح الكفار لهذا.

ثم قال « ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه » (٥) أي لم لا تأكلوا.

وبينهما فرق ، لان « لم لا تفعل » أعم من حيث أنه يكون لحال يرجع إلى غيره

__________________

١) سورة الأنعام : ١٢١.

٢) سورة البقرة : ١٧٣.

٣) سورة الأنعام : ١١٨.

٤) سورة الإسراء : ١١٠.

٥) سورة الأنعام : ١١٩.

٢٦٥

وأما « ما لك لا تفعل » فحال يرجع إليه ، والمعنى أي شئ لكم في أن لا تأكلوا.

وقيل « ما منعكم ان تأكلوا » لان « مالك ان تفعل » و « مالك لا تفعل » بمعنى.

واختار الزجاج الأول.

« وقد فصل لكم ما حرم عليكم » يعني ما ذكره في مواضع من قوله « حرمت عليكم الميتة » الآية وغيرها.

« الا ما اضطررتم إليه » معناه الا إذا خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع وترك التناول ، فحينئذ يجوز لكم تناول ما حرمه الله في قوله « حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ».

واختلفوا في مقدار ما يسوغ تناوله حينئذ له : فعندنا لا يجوز أن يتناول الا ما يمسك الرمق ، ومن الناس من قال يجوز له أن يشبع منه إذا اضطر إليه وان يحمل معه منها حتى يجد ما يأكل.

قال : وفي الآية دلالة على أن ما يكره عليه من هذه الأجناس يجوز أكله لان المكره يخاف على نفسه مثل المضطر.

(فصل)

وقال تعالى « قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه فان ربك غفور رحيم » (١).

أمر الله نبيه عليه‌السلام ان يقول لهؤلاء الكفار انه لا يجد فيما أوحى الله إليه شيئا محرما الا هذه الثلاثة. وقيل : انه خص هذه الأشياء الثلاثة بذكر التحريم مع أن غيرها محرم مما ذكره تعالى في المائدة كالمنخنقة والموقوذة

__________________

١) سورة الأنعام : ١٤٥. وفى النسختين « ان الله غفور رحيم ».

٢٦٦

لان جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة وفي حكمها ، فبين هناك بالتفصيل وهنا على الجملة.

وأجود من ذلك أن يقال : خص الله هذه الثلاثة تعظيما لتحريمها وبين ما عداها في موضع آخر.

وقيل : انه تعالى خص هذه الأشياء بنص القرآن ، وما عداه بوحي غير القرآن.

وقيل : ان ما عداه حرم فيما بعد بالمدينة والسورة مكية.

والدم المسفوح هو المصبوب ، وانما خص المسفوح بالذكر لان ما يختلط منه باللحم مما لا يمكن تخليصه منه لقلته معفو مباح. وقال قوم : انما قال  « مسفوحا » لان الكبد يشبه الدم الجامد وان لم يكن دما فليس بحرام ، فذكر المسفوح ليبين الحلال من الحرام. فأما الطحال فإنه إذا ثقب وطرح في الماء فيسيل كله لأنه دم وهو حرام.

وقوله « أو لحم خنزير » فإنه وان خص لحمه بالذكر هنا فان جميع ما يكون منه من الشحم والجلد والشعر محرم.

« فإنه رجس » يعني ما تقدم ذكره ، ولذلك كنى عنه بكناية الذكر. والرجس كل مستقذر منفور عنه.

وقوله « أو فسقا » عطف على قوله « أو لحم خنزير » ، والمراد بالفسق ما أهل لغير الله به. وكان ابن عباس وعائشة يتعلقان بظاهر هذه الآية في إباحة لحوم الحمير.

ثم قال « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » قيل فيه قولان : أحدهما غير طالب بأكله التلذذ ، والثاني غير قاصد لتحليل ما حرمه الله. وروى أصحابنا ان المراد به الخارج على الإمام العادل وقطاع الطريق فإنهم لا يرخصون ذلك على كل حال.

٢٦٧

« ولا عاد » أي لا يعتدي بتجاوز ذلك إلى ما حرمه الله. والضرورة التي تبيح أكل الميتة هي خوف التلف على النفس من الجوع.

وقد استدل قوم بهذه الآية على إباحة ما عدا هذه الشياء المذكورة. وهذا ليس بشئ لان هنا محرمات كثيرة غيرها ، كالسباع وكل ذي ناب وكل ذي مخلب وغير ذلك من البهائم والمسوخ مثل الفيلة والقردة.

ويمكن ان يستدل بهذه الآية على تحريم الانتفاع بجلد الميتة ، فإنه داخل تحت التعدي.

(فصل)

وقوله تعالى « وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم » (١ أخبر تعالى انه حرم على اليهود في أيام موسى عليه‌السلام كل ذي ظفر. قال ابن عباس : انه كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والبط والإوز.

وأخبر تعالى أيضا انه كان حرم عليهم شحوم البقر والغنم مما في أجوافهما ، واستثنى من ذلك بقوله « الا ما حملت ظهورهما » ، فإنه لم يحرمه. واستثنى أيضا ما على الحوايا من الشحم فإنه لم يحرمه. واستثنى أيضا من جملة ما حرم ما اختلط بعظم ، وهو الشحم الجنب والالية لأنه على العصعص.

وهذه الأشياء وان كانت محرمة في شرع موسى عليه‌السلام فقد نسخ الله تحريمها وأباحها على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم قال تعالى « ذلك جزيناهم ببغيهم » معناه انا حرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم على بغيهم.

__________________

١) سورة الأنعام : ١٤٦.

٢٦٨

فان قيل : كيف يكون التكيف عقابا وهو تابع للمصلحة ، ومع ذلك فهو تعريض للثواب.

قلنا : انما سماه عقوبة لان عظيم ما أتوه من المعاصي اقتضى تحريم ذلك فيه عقوبة وتعيين المصلحة وحصول اللطف ، ولولا جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك.

« وانا لصادقون » يعني فيما أخبر به من أن ذلك عقوبة لأوائلهم ومصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ. والصحيح أن تحريم ذلك لما كان مصلحة عند هذا الاقدام منهم جاز ان نقول حرم عليهم بظلمهم ، لما روي أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.

(باب الأطعمة المحظورة)

قال الله تعالى « حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به » (١) الآية. بين تعالى في هذه الآية ما استثناه في قوله « أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلى عليكم » (٢) فهذا مما تلاه علينا فقال سبحانه مخاطبا للمكلفين « حرمت عليكم الميتة » وهي كلما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية. واستثنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منها السمك الجراد فقال : ميتتان مباحتان (٣).

ثم قال تعالى « والدم » أي حرم عليكم الدم ، فقيل : انهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها ، فأعلم الله ان الدم المسفوح ـ أي

__________________

١) سورة المائدة : ٣.

٢) سورة المائدة : ١.

٣) هذا المضمون مروى عن طريق العامة ـ انظر معجم مفهرس ألفاظ الحديث ١٦ / ٣٠١.

٢٦٩

المصبوب ـ حرام ، فأما اللحم المتلطخ بالدم وما يرى أنه منه مثل الكبد فهو مباح. واما الطحال فهو الدم المسفوح على ما ذكرناه. وانما شرطنا في الدم الحرام ما كان مسفوحا لأنه تعالى بين ذلك في الآية الأخرى فقال تعالى « أو دما مسفوحا » (١).

ثم قال « ولحم الخنزير » أي حرم عليكم لحم الخنزير أهليه وبريه. فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم والمراد بهما الخصوص ، ولحم الخنزير مخصوص ظاهره ، مع أن كلما كان من الخنزير حرام كلحمه من الشحم والجلد وغير ذلك فالمراد به العموم.

وقوله تعالى « وما أهل لغير الله به » أي وحرم عليكم ما أهل لغير الله به أي ما ذبح للأصنام والأوثان مما يقرب به من الذبح لغير الله ، أو رفع الصوت عليه بغير اسم الله حرام.

وكل ما حرم اكله مما عددناه يحرم بيعه وملكه والتصرف فيه.

والخنزير يقع على المذكر والمؤنث.

وفى الآية دلالة على أن ذبائح كل من لم يذكر اسم الله عليه حرام ، سواء كان كافرا أو من دان بالتجسم والصورة ، أو قال بالجبر والتشبيه ، أو خالف الحق ، فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته.

وقد قدمنا ان التسمية على الذبيحة واجبة ، فان تركها ناسيا لم يكن به بأس.

(فصل)

ثم قال تعالى « والمنخنقة » قال السدي : هي التي تدخل رأسها بين شعبتين

__________________

١) سورة الأنعام : ١٤٥.

٢٧٠

من شجرة فتختنق وتموت. وقال الضحاك : هي التي تختنق وتموت. وقال قتادة : هي التي تموت في خناقها ، وقال كان أهل الجاهلية يخنقونها ثم يأكلونها.

والا ولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك ، سواء كان بشئ من قبلها أو من قبل غيرها ، لأنه تعالى وصفها بالمنخنقة ، ولو كان الامر على ما ذكره قتادة فقط لقال والمخنوقة.

وقوله تعالى « والموقوذة » يعني التي تضرب حتى تموت.

« والمتردية » التي تقع من جبل أو تقع في بئر فتموت ، فان وقعت في شئ من ذلك ويعلم أنها لم تمت بعد ولم يقدر على موضع ذكاته جاز أن تطعن وتضرب بالسكين في غير المذبح حتى تبرد ثم تؤكل.

« والنطيحة » وهي التي تنطح أو ينطح.

فان قيل : كيف تكون بمعنى المنطوحة وقد ثبت فيها الهاء وفعيل إذا كان بمعنى مفعول لا يثبت فيه الهاء ، مثل « عين كحيل » و « كف خضيب ».

قلنا : اختلف في ذلك ، فقال البصريون أثبت في « النطيحة » الهاء لأنها جعلت كالاسم مثل الطويلة ، فوجه التأويل النطيحة أي معنى الناطحة ، ويكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها. وقال بعض الكوفيين : انما يحذف هاء الفعيل بمعنى المفعول إذا كان مع الموصوف ، فأما إذا كان منفردا فلابد من اثبات الهاء ، فيقال « رأيت قتيلة ».

والقول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول أكثر المفسرين ، لأنهم أجمعوا على تحريم الناطحة والمنطوحة إذا ماتتا.

وقوله « وما أكل السبع » أي وحرم عليكم ما أكل السبع ، بمعنى ما قتله السبع ـ قاله ابن عباس ، وهو فريسة السبع. « الا ما ذكيتم » الا ما أدركتم ذكاته فذكيتموها من هذه الأشياء التي وصفها ، وموضع ما نصب بالاستثناء.

٢٧١

واختلف في الاستثناء إلى ماذا يرجع : فقال قوم يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من قوله « حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ما أكل السبع » الا مالا يقبل الذكاة من لحم الخنزير والدم ، وهو الأقوى ، وهو المروي عن علي عليه‌السلام وابن عباس ، قال وهو أن تدركه يتحرك رجله أو ذنبه أو تطرف عينه ، وهو المروي عنهما عليهما‌السلام.

وقال آخرون : هو استثناء من التحريم لأنه من المحرمات ، لان الميتة لا ذكاة لها ولا الخنزير. قالوا : والمعنى حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكر الا ما ذكيتم مما أحله الله تعالى له بالتذكية فإنه حلال لكم.

وسئل مالك عن الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاؤها. فقال : لا أرى أن تذكى ولا تؤكل ، أي شئ يذكى منها.

وقال كثير من الفقهاء : انه يراعى أن يلحق وفيه حياة مستقرة فيذكى فيجوز أن يؤكل ، فأما ما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة فلا يجوز بحال.

(فصل)

فان قيل : فما وجه تكرير قوله تعالى : « وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة » وجميع ما عدد تحريمه في هذه الآية يعمه قوله تعالى « حرمت عليكم الميتة » وان اختلف أسباب موته من خنق أو ترد أو نطح أو اهلال لغير الله أو أكيل سبع ، وانما يكون كذلك ـ يعني قول من يقول إنها وان كانت فيها حياة إذا كانت غير مستقرة ـ فلا يجوز أكلها.

قلنا : الفائدة في ذلك أن الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت الا ما مات حتف أنفه من دون شئ من هذه الأسباب ، فأعلمهم الله تعالى ان حكم الجميع واحد وان وجه الاستباحة هي التذكية الشرعية.

٢٧٢

وقال السدي : ان ناسا من العرب كان يأكلون جميع ذلك ولا يعدونه ميتا ، انما يعدون الميتة التي تموت من الوجع.

فان قيل : قد جاء في البقرة « وما أهل به لغير الله » وفي المائدة وفي الانعام وفي النحل « وما أهل لغير الله به » فما وجه ذلك؟

قلنا : الأصل ما جاء في سورة البقرة ، لان الباء التي يتعدى بها الفعل بمنزلة جزء منه ، تقول ذهبت بزيد وأذهبته ، وما يتعدى إليه الفعل باللام لا يتنزل منه اللام منزلة الجزء منه ، فالباء أحق بالتقديم ، لان معنى « أهل به لغير الله » ذبح لغير الله ، أي سمي عليه بعض الالهة ، ان لم يكن الذابح ممن يعرف الله فيسميه.

فالأصل ما هو في البقرة ، ثم لما كان الاهلال بالمذبوح لا يستنكر الا إذا كان ما عدا الأصل فتقديم المستنكر أولى. ألا ترى أنهم يقدمون المفعول إذا كانوا ببيانه أعني (١) فيقولون « ضرب عمرا زيد ». فلهذا بدئ في البقرة ثم قدم في المواضع الثلاثة الاسم ، وهو ذكر المستنكر في غير الله.

والتذكية هي فري الأوداج والحلقوم إذا كانت فيه حياة ولا يكون بحكم الميت ، والذكاة في اللغة تمام الشئ. فالمعنى على هذا في قوله تعالى « الا ما ذكيتم » أي ما أدركتم ذبحه على التمام.

(فصل)

ثم قال تعالى « وما ذبح على النصب » فانصب الحجارة التي كانوا يعبدونها وهي الأوثان ، واحدها نصاب ، ويجوز أن يكون واحدا والجمع أنصاب (٢).

__________________

١) أعني : أشد عناية « ج ».

٢) قال ابن منظور : النصب والنصب ـ بفتح النون وسكون الصاد في الأول وضم النوب والصاد في الثاني ـ كل ما عبد من دون الله تعالى والجمع أنصاب ، وقال الزجاج النصب ـ بضمتين ـ جمع واحدها نصاب ، قال وجائز أن يكون واحدا وجمعه أنصاب ـ لسان العرب (نصب).

٢٧٣

والفرق بين هذا وبين ما أهل به لغير الله أن المراد ما يصدق به تقربا إلى الأنصاب ، والمراد بالأول ما ذبحه الكافر أو من سمى غير الله عند ذبحه على ما ذكرناه لأي شئ ذبحه من بيع أو إضافة أو تصدق.

وقال ابن جريح : النصب ليست أصناما ، وانما كانت حجارة تنصب إذا ذبحوا لآلهتهم جعلوا اللحم على الحجارة ونضحوا الدم على ما أقبل ما البيت ، فقال المسلمون عظمت الجاهلية البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه ، فأنزل الله تعالى « لن ينال الله لحومها ولا دماؤها (١) » الآية (٢).

وقوله « وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق » أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهي سهام كانت الجاهلية يطلبون قسم الأرزاق بها ويتفألون بها في أسفارهم وابتداءات أمورهم. وبه قال ابن عباس.

وقال مجاهد : هي سهام العرب وكعاب فارس والروم (٣).

والأنصاب الأصنام ، وانما قيل لها ذلك لأنها كانت تنصب للعبادة لها ، قال تعالى « انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام » (٤).

والميسر القمار ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام يدخل فيه الشطرنج والنرد

__________________

١) سورة الحج : ٣٧.

٢) الدر المنثور ٤ / ٣٦٣ مع تفصيل أكثر.

٣) قال الأزهري : الأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهى وافعل ولا تفعل ، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت ، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا أتى السادن فقال اخرج لي زلما ، فيخرجه وينظر إليه ، فإذا خرج قدح الامر مضى على ما عزم عليه وان خرج قدح النهى قعد عما أراده ، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما ـ لسان العرب (زلم).

٤) سورة المائدة : ٩٠.

٢٧٤

حتى اللعب بالجوز (١).

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : الشطرنج ميسر العجم.

والأزلام القداح ، وهي سهام كانوا يجلبونها للقمار.

قال الأصمعي : كان الجزور يقسمونه على ثمانية وعشرين جزءا. وذكرت أسماءها مفصلة ، وهي عشرة منها ذوات الحظوظ سبعة.

ثم قال « رجس من عمل الشيطان » فوصفها بذلك يدل على تحريمها.

(فصل)

أما قوله تعالى « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن ينزل التوراة » (٢) ، فقد كان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لحوم الإبل ، فبين الله أنها كانت محللة لإبراهيم وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه وهو يعقوب ، نذر ان برأ من النساء أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهي لحوم الإبل وألبانها ، فلما برأ وفى بنذره. فحاجهم النبي عليه‌السلام بالتوراة فلم يجسروا أن يحضروها لعلمهم بصدق محمد « ص » (٣).

فان قيل : كيف يجوز للانسان أن يحرم شيئا وهو لا يعلم ماله فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة.

قلنا : يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعمله ، وكان الله أذن لإسرائيل في هذا النذر ولذلك نذر ، فأما غير الأنبياء والأوصياء فلا يجوز لهم مثل ذلك

__________________

١) مجمع البيان ٢ / ٢٣٩.

٢) سورة آل عمران : ٩٣.

٣) أنظر أسباب النزول للواحدي ص ٧٥.

٢٧٥

(باب)

(الأشربة المباحة والمحظورة)

قال الله تعالى « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير » (١) قال أكثر المفسرين : الخمر عصير العنب التي إذا اشتد. وقال جمهور أهل المدينة : كلما أسكر كثيره فهو خمر ، وهو الظاهر في رواياتنا.

واشتقاقه في اللغة من قولهم « خمرت الشئ » أي سترته ، لأنها تغطي على العقل.

وكلما أسكر على اختلاف أنواعه حرام قليله وكثره لاشتراكهما في المعنى إذ يجري عليهما أجمع جميع أحكام الخمر.

وقوله تعالى « قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس » فالمنافع التي في الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها وربح تجارتها وما فيها من اللذة بتناولها ، أي فلا يغتروا بالمنافع التي فيها فضررها أكثر من نفعها.

قال الحسن : وهذه الآية تدل على تحريم الخمر ، لأنه مع ذكر أن فيها اثما وقد حرم الله الاثم في قوله « قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم » (٢) ، على أنه تعالى قد وصفها بأن فيها اثما كبيرا ، والاثم الكبير محرم بلا خلاف.

وقال قوم : المعنى ان الاثم بشرب هذه والقمار بهذا أكبر وأعظم ، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا.

قال قتادة : وانما يدل على تحريمها الآية التي في المائدة من قوله « انما

__________________

١) سورة البقرة : ٢١٩.

٢) سورة الأعراف : ٣٣.

٢٧٦

الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه » (١) ، أخبر الله تعالى أن هذه الأشياء رجس من عمل الشيطان ثم أمرنا باجتنابها بأن قال  « فاجتنبوه » أي كونوا على جانب منها ، أي في ناحية.

ففي الآية دلالة على تحريم الخمر وعلى تحريم هذه الأشياء من أربعة أوجه : أحدها : أنه وصفها بأنها رجس ، والرجس والنجس بلا خلاف محرم.

الثاني : نسبها إلى عمل الشيطان ، وذلك لا يكون الا محرما.

الثالث : انه تعالى أمرنا باجتنابه ، والامر يقتضي الايجاب شرعا.

الرابع : انه جعل الفوز والفلاح في اجتنابه.

والهاء في قوله « فاجتنبوه » راجعة إلى عمل الشيطان.

(فصل)

ثم قال تعالى « انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون » (٢). قيل هل ان ههنا مع ما بعدها بمنزلة الامر أي انتهوا وسبب نزول هذه الآية أن سعد بن أبي وقاص لاقى رجلا من الأنصار وقد كانا شربا الخمر فضربه بلحي جمل (٣).

وقيل : انه لما نزلت قوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » (٤) قال رجل : اللهم بين لنا في هذه الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية.

__________________

١) سورة المائدة : ٩٠.

٢) سورة المائدة : ٩١.

٣) تفسير البرهان ١ / ٥٠٠ بتفصيل.

٤) سورة النساء : ٤٣.

٢٧٧

معناه : الشيطان انما يريد ايقاع العداوة والبغضاء بينهم بالاغراء المزين لهم ذلك حتى إذا سكروا زال عقولهم وأقدموا من المكاره والقبائح ما كانت تمنعهم منه عقولهم.

وقال قتادة : كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى سليبا حزينا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.

وقوله « ويصدكم عن ذكر الله » أي يمنعكم من الذكر لله بالتعظيم والشكر على آلائه ، لما في ذلك من الدعاء إلى الصلاح واستقامة الحال في الدين والدنيا.

وقوله تعالى « فهل أنتم منتهون » صيغته الاستفهام ومعناه النهي ، وانما جاز ذلك لأنه إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب صار في منزلة من نهي عنه ، فإذا قيل له أتفعله بعد ما قد ظهر من أمره ، صار في محل من عقد عليه باقراره.

فان قيل : ما الفرق بين انتهوا عن شرب الخمر وبين لا تشربوا الخمر؟ قلنا : الفرق بينهما أنه إذا قال « انتهوا » دل ذلك على أنه مريد لأمر ينافي شرب الخمر ، وصيغة النهي تدل على كراهة الشرب ، لأنه قد ينصرف عن الشرب إلى أحد أشياء مباحة ، وليس كذلك المأمور به ، لأنه لا ينصرف عنه الا إلى محظور ، والمنهي عنه قد ينصرف عنه إلى غير مفروض.

ثم قال « وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين » (١) لما أمر سبحانه باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام أمر بطاعته في ذلك وفي غيره من أوامره ، ثم أمر بالحذر وهو امتناع القادر من الشئ لما فيه من الضرر والخوف ، وهو توقع الضرر الذي لا يؤمن كونه.

« فان توليتم » الوعيد « فاعلموا » انكم قد استحققتم العذاب لتوليكم عما أدى رسولنا من البلاغ المبين.

__________________

١) سورة المائدة : ٩٢.

٢٧٨

والخمر محرمة على لسان كل نبي وفي كل كتاب نزل ، وان تحريمها لم يكن متجددا ، فإذا انقلبت الخمر خلا بنفسها أو بفعل آدمي إذا طرح فيها ما ينقلب إلى الخل حلت.

ثم قال « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا » (١). قال ابن عباس : انه لما نزل تحريم الخمر قال الصحابة : كيف بمن مات من إخواننا وهو يشربها من قبل ، فأنزل الله الآية وبين أنه ليس عليهم في ذلك شئ إذا لم يكونوا عالمين بتحريمها وقد كانوا مؤمنين عاملين للصالحات ثم يتقون المعاصي وجميع ما حرم الله عليهم.

والصحيح أن معناه ليس على المؤمنين اثم ولا حرج في أكل طيبات الدنيا إذا أكلوها من الحلال ، ودل على هذا المعنى بقوله « إذا ما اتقوا وآمنوا ».

وتكرار الاتقاء انما حسن لان الأول المراد به اتقاء المعاصي ، الثاني الاستمرار على الاتقاء ، الثالث اتقاء مظالم العباد.

(فصل)

أما قوله تعالى « وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم » إلى قوله « ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا » (٢) قال قوم ممن لا يؤبه بهم استدلوا بهذه الآية على تحليل النبيذ ، بأن قالوا أمتن الله علينا وعدد من جملة نعمه علينا أن خلق الله لنا الثمار التي نتخذ منها السكر والرزق الحسن ، وهو سبحانه وتعالى لا يمتن بما هو محرم.

وهذا لا دلالة لهم فيه لأمور :

__________________

١) سورة المائدة : ٩٣.

٢) سورة النحل : ٦٦ ـ ٦٧.

٢٧٩

أحدها : ان المفسرين على خلاف هذا ، ولم يقل أحد منهم هو ما حرم من العثرات وانما ذكروا في معناه تتخذون منه ما حل طعمه من شراب أو غيره.

الثاني : أنه لو أراد بذلك تحليل السكر لما كان لقوله « ورزقا حسنا » معنى لان ما أحله وأباحه فهو أيضا رزق حسن.

فان قيل : فلم فرق بين الرزق الحسن وبينه والكل شئ واحد؟ قلنا : الوجه فيه أنه تعالى خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم أنتم منها ما هو حرام عليكم وتركتم ما هو رزق حسن.

وأما وجه المنة فبالأمرين معا ثابتة ، لان ما أباحه وأحله فالمنة به ظاهرة ليعجل الانتفاع به وما حرمه ، فوجه النعمة فيه أنه إذا حرم علينا وأوجب الامتناع ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعمة ، فهو نعمة على كل حال.

ويؤكد ذلك قوله « وهديناه النجدين » (١) وقوله « فألهمها فجورها وتقواها » (٢) ونحوه قولنا ان خلق نار جهنم نعمة من الله على العباد.

الثالث : ان السكر إذا كان مشتركا بين السكر والطعم وجب أن يتوقف فيه ولا يحمل على أحدهما الا بدليل ، وما ذكرناه مجمع على أنه مراد وما ذكر ليس عليه دليل.

والسكر في اللغة على أربعة أقسام (٣) : أحدها ما أسكر. والثاني ما طعم من

__________________

١) سورة البلد : ١٠.

٢) سورة الشمس : ٨.

٣) قال الصغاني في العباب السكر : نبيذ التمر ، وفى التنزيل « تتخذون منه سكرا » هذا قيل لهم قبل أن يحرم عليهم الخمر ، والسكر خمر الأعاجم ، ويقال لما يسكر السكر ومنه حديث النبي عليه‌السلام « حرمت الخمرة بعينها والسكر من كل شراب » هكذا رواه أحمد ابن محمد بن حنبل [ المسند ] والاثبات. وقال ابن عباس : السكر حرم من ثمره قبل أن حرم وهو الخمر ، والرزق الحسن ما أحل من ثمره من الأعناب والتمور. وقال أبو عبيدة وأشد السكر الطعام جعلت اعراض الكرام سكرا ، أي جعلت دمهم طعما لك. وقال الزجاج : هذا بالخمر أشبه منه بالطعام ، والمعنى يتخمر بأعراض الكرام ، وهو أبين مما يقال للذي يتبرك في أعراض الناس. وقال بعض المفسرين : السكر الخل في التنزيل هذا شئ لا يعرفه أهل اللغة « منه ».

٢٨٠