ولا يميّزها للعين ، حتى يصفها فإن وصفها ، كان كاذبا جاهلا ، لأنّ عينها ما تميزت له في ملكه ، وإن كان مالكا لجنسها ، دون عينها قبل قبضها من الذي هي في ذمّته ، فيدخل في النهي عن بيع الغرر ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، فلأجل هذا جوّزنا بيعها على من هي عليه ، دون من سواه ، وليس كذلك إذا ضاربه بها ، لأنّ مال المضاربة يحتاج أن يكون متميز العين في ملك رب المال ، وقبل قبضه ممن هو في ذمته ، ليس هو متميز العين ، فافترق الأمران ، ويعضد ما أصلناه ، قولهم في باب بيع الديون والأرزاق : ومن كان له على غيره دين ، جاز له بيعه نقدا ، ويكره ذلك نسية ، وأطلقوا القول بكراهية النسية ، وهذا لا يجوز بالإجماع ، لأنّه إن كان الدين ذهبا ، فلا يحل بيعه بذهب نسية ، بغير خلاف ، ثم قالوا فإن وفي الذي عليه الدين المشتري ، وإلا رجع على من باعه إيّاه بدركه ، ثم قالوا : وإذا باع الدين بأقل ممّا له على المدين ، لم يلزم المدين أن يؤدّي أكثر مما وزنه المشتري.
قال محمّد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : إن كان البيع للدين صحيحا ماضيا ، لزم المدين أن يؤدّي جميع الدين إلى المشتري ، وإن كان قد اشتراه بأقل من الدين بأقل قليل ، لأنّ الثمن قد يكون عندنا أقل قيمة من السلعة ، مع علم البائع بغير خلاف ، فدلّ هذا أجمع على فساد هذا البيع ، وإبطال ما (١) خالف ما ذكرناه.
قال شيخنا أبو جعفر في الجزء الرابع من المبسوط : إذا كان لرجل في ذمّة رجل حرّ ، دين ، عن غير سلم ، فباعه من إنسان بعوض ، أو ثوب ، أو غيره ، قال قوم : إنّه يصح ، لأنّه لمّا جاز أن يبتاع بدين في ذمته ، جاز أن يبتاع بدين له في ذمة غيره ، فإن كلّ واحد من الدينين مملوك له ، وقال اخرون : إنّه لا يصحّ ، لأنّ الدين الذي له في ذمة الغير ، ليس بمقدور على تسليمه ، فإنّه ربما منعه من هو عليه وربما جحده ، وربما أفلس ، ومن ابتاع ما لا يقدر على تسليمه بطل بيعه ، كما لو
__________________
(١) ل : وإبطال قول من خالف ما ذكرناه.
ابتاع لعبد مغصوب ، أو آبق ، قال رحمهالله : والأوّل رواية أصحابنا ، وقالوا : إنّما يصحّ لأنّه مضمون (١).
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : انظر أرشدك الله ، ووفقك لاصابة الحقّ ، إلى ما قال شيخنا أبو جعفر ، وتأمّله ، واسبره ، ففيه ما فيه ، جعل رحمهالله الدين ثمنا ، وأصحابنا يجعلونه مثمنا ، لأنّهم قالوا بيع الدين ، ثم قال رحمهالله : رواية أصحابنا ، فجعله رواية ولو كان إجماعا لقال وإجماع أصحابنا ، أو مذهبنا ، ثمّ قال : وقالوا إنّما يصحّ لأنّه مضمون.
قال محمد بن إدريس رحمهالله : عند أصحابنا انّ البيع المضمون ، هو بيع السلف ، فهو المضمون الذي هو في الذمّة ، لا بيع الأعيان ، لأنّ البيع عندهم على الضربين ، المقدم ذكرهما وأيضا الذي يجوز خلاف ما نصرناه (٢) واخترناه ، لا يجوّزه في كل دين ، ويقول : انّ بيع السلم بعد حلوله على غير من هو عليه ، لا يجوز ، وعلى من هو عليه يجوز ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، ولأجل ذلك قال في الكلام الذي أوردناه عنه في مبسوطة ، قبل هذا الموضع ، وهو إذا كان لرجل في ذمّة رجل حرّ دين ، عن غير سلم ، فباعه من إنسان ، فاحترز من السلم ، فقد خصّص العموم في بيع الدين ، وإذا خصّص من يستدل بالعموم ، ساغ لخصمه التخصيص ، وبطل استدلاله بالعموم ، لأنّه ما هو أولى بالتخصيص من خصمه ، وأيضا فما ورد بذلك سوى خبرين فحسب ، أوردهما شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام ، الذي ماله أكبر منه في الأخبار ، ولأجل ذلك قال : رواية أصحابنا ، وهما ـ أعني الخبرين ـ أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، قال : سئل أبو جعفر عليهالسلام عن رجل كان
__________________
(١) المبسوط : كتاب المكاتب ، فصل في بيع المكاتب وشرائه .. ج ٦ ، ص ٧ ـ ١٢٦.
(٢) ل : نظرناه.
له على رجل دين ، فجاءه رجل ، فاشترى منه بعرض ، ثم انطلق إلى الذي عليه الدين ، فقال له : أعطني مال فلان عليك ، فاني قد اشتريته ، فكيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر عليهالسلام : يرد عليه الرجل الذي عليه الدين ، ماله الذي اشتراه به ، الرجل الذي عليه الدين (١).
محمد بن أحمد بن عيسى ، عن محمد بن الفضيل ، قال : قلت للرضا عليهالسلام رجل اشترى دينا على رجل ، ثم ذهب إلى صاحب الدين ، فقال له ادفع إلى مال فلان عليك ، فقد اشتريته منه ، فقال عليهالسلام : يدفع إليه قيمة ما دفع إلى صاحب الدين ، وبريء الذي عليه المال ، من جميع ما بقي عليه (٢).
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : فهل يحل لمحصّل ، وعامل بالأدلة ، أن يرجع في ديانته إلى العمل بهذين الخبرين ، وفيهما ما فيهما من الاضطراب ، وأصلهما وراويهما واحد ، وهو محمد بن الفضيل ، وأخبار الآحاد عندنا لا يعمل عليها ، ولا يرجع في الأدلة إليها ، لأنّها لا تثمر علما ، ولا توجب عملا.
ومن شاهد مدينا له بفتح الميم ، على ما قدّمناه (٣) ، قد باع ما لا يحلّ تملكه للمسلمين ، من خمر ، أو لحم خنزير ، وغير ذلك ، وأخذ ثمنه ، جاز له أن يأخذ منه ، فيكون حلالا له ، ويكون ذنب ذلك على من باع ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤) مطلقا ، غير مقيّد ، والمراد بذلك أن يكون البائع الذي هو المدين ، ممّن أقرّنه الشريعة على ما يراه ، من تحليل بيع الخمر ، وهو أهل الكتاب ، لأنّ ذلك حلال عندهم ، ويجوز للمسلم قبض دينه منهم ، إذا كان ثمن خمورهم ، وخنازيرهم ، وليس المراد بذلك ، أن يكون الدين على مسلم ، فيبيع المسلم الخمر ،
__________________
(١) و (٢) التهذيب : ج ٦ الديون ، الباب ٨١ ح ٤٠١ و ٤١٠ ، وفي الوسائل : الباب ١٥ من أبواب الدين والقرض ح ٢ و ٣. وفي ج : ذيل حديث أبي حمزة هكذا : « من الرجل الذي له عليه الدين »
(٣) ج : وصفناه.
(٤) النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميّت.
ويقبض المسلم من المسلم دينه منه ، لأنّ بيع الخمر للمسلم حرام ، وثمنه حرام ، وجميع أنواع التصرّفات فيها حرام على المسلمين ، بغير خلاف بينهم ، وعندنا أنّ الخمر ليست بمملوكة للمسلم ، فكيف يجوز بيع غير المملوك ، والبيع لغير المملوك لا ينعقد ، ولا يملك الثمن ، فكيف يكون حلالا له.
وشيخنا أبو جعفر ، قال في مسائل الخلاف ، في الجزء الثاني من كتاب الرهن : مسألة : الخمر ليست بمملوكة ، ثمّ قال في استدلاله : ومن ادّعى حجة أنّه يملكها ، فعليه الدلالة (١).
ثم قال شيخنا أبو جعفر أيضا ، في مبسوطة ، في الجزء الثاني في كتاب الرهن : إذا استقرض ذمي من مسلم مالا ، ورهن عنده بذلك خمرا ، يكون على يد ذمي آخر يبيعها عند محلّ الحق (٢) فباعها ، وأتى بثمنها ، جاز له أخذه ، ولا يجبر عليه ، وإذا كانت المسألة بحالها ، غير أنّ الخمر كانت عند مسلم ، وشرط أن يبيعها عند محلّ الحق (٣) فباعها وقبض ثمنها ، لم يصح ، ولم يكن لبيع المسلم الخمر وقبض ثمنها حكم ، ولا يجوز للمسلم قبض دينه منه ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (٤).
ألا تراه قيد هاهنا ، وفرق بين بيع الذمي الخمر ، وبين بيع المسلم لها ، فقيد ما أطلقه في نهايته ، وانّما يورد أخبار الآحاد ، وغير الآحاد في النهاية إيرادا ، مطلقا على ألفاظها ، لا اعتقادا ، لأنّه كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، على ما أشرنا إليه من قبل.
وأيضا قول الرسول عليهالسلام : إنّ الله إذا حرّم شيئا ، حرم ثمنه (٥) ، والخمر محرّمة بالإجماع ، فيجب أن يكون ثمنها محرما ، لا محلّلا ، ولنا في ذلك ـ أعني بيع الخمر ، وهل يحل قبض الدين من ثمنها ـ جواب مسألة وردت من حلب علينا
__________________
(١) الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة ٣٦ ، وفي المصدر : ومن ادّعى صحة.
(٢) و (٣) ل : محل الخمر. وفي المصدر : « محل الحق » وهو الصحيح
(٤) المبسوط : أحكام الرهن.
(٥) عوالي اللئالي : ج ٢ ص ١١٠ ، ح ٣٠١.
من أصحابنا الإماميّة ، سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، قد بلغنا فيها إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات.
وإذا كان شريكان لهما مال على الناس ، فتقاسما ، واحتال كلّ واحد منهما شيئا منه ، ثمّ قبض أحدهما ، ولم يقبض الآخر ، كان الذي قبضه أحدهما بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما ، وما يبقى على الناس أيضا مثل ذلك ، لأنّ المال الذي في ذمم الغرماء من الديون ، غير مقسوم ، فهو شركة بعد ، لأنّ ما في الذمم غير مقبوض ، ولا متعيّن ، حتّى يصح قسمته ، فلأجل ذلك ، مهما حصل منه شيء ، يكون بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما.
ومن كان له دين على غيره ، فأعطاه شيئا بعد شيء من غير الجنس الذي له عليه ، ثمّ تغيّرت الأسعار ، كان له بسعر يوم أعطاه تلك السلعة ، لا بسعر وقت محاسبته إيّاه ، لأنّه أعطاه إيّاه عمّا له في ذمّته ، وهو من غير جنس ماله ، فيحتسب بقيمة يوم إعطائه وتسليمه إليه ، لا يوم محاسبته عليه ، لأنّه ما أعطاه إيّاه قرضا ، بل عمّا له في ذمّته ، فيسقط عنه بقيمته وقت تسليمه وإعطائه لا وقت محاسبته ، ولا يلزمه ردّ مثله ، إن كان له مثل ، ولو كان أعطاه إيّاه قرضا ، لا عن دين له ، وجب عليه ردّ مثله ، إن كان له مثل ، وقت مطالبته به ، بخلاف ذلك ، فامّا إذا لم يكن له مثل ، وكان يضمن بالقيمة ، لا بالمثليّة ، فإنّه يرد قيمته وقت إعطائه وتسليمه ، دون وقت مطالبته ومحاسبته ، في المسألتين معا ، فليتأمّل ذلك.
باب قضاء الدين عن الميّت
يجب أن يقضى الدين عن الميّت من أصل التركة ، وهو أول ما يبدأ به بعد الكفن المفروض ، ثمّ تليه الوصيّة ، ثم الميراث بعد ذلك أجمع ، فإن أقيم بينة على ميت بمال ، وكانت عادلة ، وجب معها على من أقامها اليمن بالله ، انّ له ذلك المال حقا ، ولم يكن الميّت قد خرج إليه منه ، فإذا حلف ، كان له ما أقام عليه
البيّنة ، وحلف عليه ، فإن امتنع عن اليمين ، انصرف ، ولم يكن له في ظاهر الحكم شيء ، ولم تنفعه بينته ، ولم يلزم الورثة اليمين ، لأنّه ما ادّعى عليهم شيئا ، فإن ادّعى عليهم العلم بذلك ، لزمهم أن يحلفوا أنّهم لا يعلمون أنّ له حقا على ميّتهم.
فإن لم يكن للمدّعي على الميت ، إلا شاهد واحد ، وكان عدلا ، لزم المدّعي أيضا اليمين معه ، لأنّ الشاهد واليمين عندنا في المال جائز ، ولا يلزمه يمين أخرى ، لأنّ يمينه تأتي على أنّ له ذلك المال حقا ، وليس لنا على يمين واحدة ، وحكم واحد ، من حالف واحد ، يمينان ، والأصل براءة الذمّة ، وقد يشتبه هذا الحكم على كثير من أصحابنا ، حتى سمعت جماعة يسألون عنه.
ومتى لم يخلف الميّت شيئا ، لم يلزم الورثة قضاء الدين عنه بحال ، فإن تبرع منهم إنسان بالقضاء عنه ، كان له بذلك ، الأجر والثواب إن كان المقضي عنه معتقدا للحق ، ويجوز أن يكون ذلك القضاء ممّا يحتسب به من مال الزكاة ، إذا كان قد أنفقه في الطاعات ، أو المباحات ، على ما شرحناه فيما مضى ، سواء كان الميّت ممن يجبر القاضي للدين على نفقته ، أو ممن لا يجبر.
ومتى أقرّ بعض الورثة بالدين ، لزمه في حصّته بمقدار ما يصيبه من أصل التركة ، على ما رواه بعض أصحابنا ، فإن شهد نفسان منهم ، وكانا عدلين مرضيين ، أجيزت شهادتهما على باقي الورثة ، واستوفي الدين من جميع الورثة بعد يمين المدعي على ما قدمناه ، وكذلك إن شهد منهم واحد ، وكان مرضيا عدلا في ديانته.
وشيخنا أبو جعفر ، ما ذكر (١) في نهايته إلا ان قال : فإن شهد نفسان منهم (٢) ولم يذكر الواحد.
وذكر في مسائل الخلاف ، في الجزء الثالث ما قلناه من شهادة الواحد المرضي ، لأنّ أصول مذهبنا تقضي بذلك ، وهو أنّ الشاهد واليمين ماضية في
__________________
(١) له : ما ذكره.
(٢) النهاية : باب قضاء الدين عن الميت.
الأموال ، وما المقصود منه المال ، سواء كان دينا أو غيره من الأموال ، وبعض أصحابنا يخصه بالدين فقط ، والصحيح الأوّل.
وإن لم يكن الشاهدان ، أو الشاهد الدين من الورثة عدولا ، الزموا في حصصهم (١) بمقدار ما يصيبهم حسب ما روي (٢) ولا يلزمهم الدين على الكمال ، مثال ذلك ، إذا مات إنسان وخلّف ابنين وتركة ، فادّعى أجنبي دينا على الميّت ، فأقر أحدهما بما ادّعاه المدّعي ، وكان المقر غير مرضي ، كان له نصف الدين في حصّة المقر ، وبذلك قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يأخذ من نصيب المقر جميع الدين ، وقد استدل بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمهالله ، على صحّة مقالتنا ، بأن قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقال : وأيضا فان المدّعي وأحد الابنين قد اعترف بالدين على الميّت ، وان الدين يتعلق بالتركة في حقّه ، وحق أخيه ، بدليل أنه البيّنة لو قامت به ، استوفى منهما ، فإذا كان كذلك كان تحقيق الكلام ، لك علي وعلى أخي ، ولو قال هذا لم يجب عليه من حقّه ، إلا نصف الدين (٣).
وهذا الاستدلال لا أراه معتمدا ، بل الدليل المعتمد هو الإجماع ، إن كان ، وإلا كان الاستدلال علينا ، لا لنا : لأنّ أصول مذهبنا تقتضي أنّ الورثة لا يستحقون شيئا من التركة ، دون قضاء جميع الديون ، ولا يسوغ ولا يحلّ لهم التصرف في التركة ، دون القضاء ، إذا كانت بقدر الدين ، لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٤) فشرط في صحة الميراث وانتقاله ، أن يكون ما يفضل عن الدين ، فلم يملك الوارث إلا بعد قضاء الدين ، وهذا قد ملك قبل قضاء الدين ، فإن كان على المسألة إجماع من أصحابنا ، فهو الدليل دون غيره.
__________________
(١) ج : حصتهم.
(٢) الوسائل : الباب ٢٦ من أحكام الوصايا.
(٣) الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة ٦٢.
(٤) النساء : ١١ ـ ١٢.
فأمّا الأخبار فهي آحاد ، رواتها رجال العامّة ، وهما خبران قد أوردهما شيخنا أبو جعفر في كتاب الإستبصار (١) أحدهما عن الحكم بن عتيبة وهو عامي المذهب ، والآخر عن أبي البختري ، وهب بن وهب ، وهو (٢) عامي المذهب ، كان قاضيا.
وإلحاق ذلك بإقرار بعض الورثة بوارث ، قياس وهو عندنا باطل.
وأيضا فإقرار بعض الورثة بوارث من المعلوم أنّه يستحق المقر شيئا من التركة ولا يحرمها (٣) وإقراره بالدين إقرار بأنّه لا يستحقّ منها شيئا ، إلا بعد قضائه جميعه ، فافترق الأمران.
وأيضا فما قال بهذا غير شيخنا أبي جعفر ، ومن اتبعه ، وقلّده ، والسيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، غير قائلين بذلك.
ومن مات وعليه دين ، يستحب لبعض إخوانه أن يقضي عنه دينه ، وإن قضاه من سهم الغارمين من الزكاة ، كان ذلك جائزا حسب ما قدّمناه.
وإذا لم يخلف الميّت إلا مقدار ما يكفن به ، سقط الدين وكفن بما خلف ، حسب ما قدّمناه ، فإن تبرع إنسان بتكفينه ، كان ما خلفه للديّان دون الورثة ، فإن انجزع (٤) عليه آخر بكفن كان للورثة دون الديان ، لأنّ الديّان لا يستحقون إلا ما خلفه الميّت ، وهذا ما خلفه.
وتحرير ذلك ، إنّ المتصدق بالكفن الثاني إن قبضه الورثة ، وتصدق به عليهم ، وإلا فهو باق على ملكه ، وهو بالخيار فيه ، لأنّ الصدقة لا يملكها المتصدق بها عليه إلا بعد قبضها ، فإذا لم يقبضها ، فهي مبقاة على ملك صاحبها ، وهذه المسألة ذكرها شيخنا ابن بابويه في رسالته (٥) وأطلق القول فيها ، وتحريرها ما ذكرناه.
وإن قتل إنسان وعليه دين ، وجب أن يقضي ما عليه من ديته ، سواء كان
__________________
(١) الاستبصار : كتاب الوصايا ، باب إقرار بعض الورثة لغيره بدين على الميت ، ح ١ و ٢ (٤٣٥ و ٤٣٦) وفي الوسائل : الباب ٢٦ في أحكام الوصايا ، ح ٥ و ٨.
(٢) ل : وهو أيضا.
(٣) ج : لا يحرّمه عليه.
(٤) ج فان تبرّع عليه آخر بكفن آخر.
(٥) لم يعثر عليه.
قتله عمدا أو خطاء ، فإن كان ما عليه محيطا بديته ، وكان قد قتل عمدا ، لم يكن لأوليائه القود ، إلا بعد أن يضمنوا الدين عن صاحبهم ، فإن لم يفعلوا ذلك ، لم يكن لهم القود على حال ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).
والذي تقتضيه أصول مذهبنا ، وما عليه إجماع طائفتنا ، انّ قتل العمد المحض موجبه القود فحسب ، دون التملّك ، والله تعالى قال في محكم التنزيل ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) (٢) وقال تعالى ( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (٣) ولا يرجع عن هذه الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.
والاولى أن يخص ما ورد من الأخبار بقتل الخطإ ، لأنّ قتل الخطأ يوجب المال بغير خلاف ، دون القود ، وكأنّما الميّت خلّف مالا ، أو استحق بسببه مال ، فيقضي به دينه.
وأمّا قتل العمد المحض ، فإنّه يوجب القود ، دون المال ، فكأن الميّت ما خلّف مالا ، ولا يستحق بسببه مال ، فإن عفت الورثة واصطلح القاتل والورثة على مال ، فإنّهم استحقّوه بفعلهم وعفوهم ، وفي قتل الخطأ ما استحقّوه بعفوهم ، بل بسبب الميّت ، لأنّهم لا يستحقّون غيره ، وفي قتل العمد المحض ، استحقوا القود ، دون المال ، فمن أبطله عليهم ، ودفعه عنهم ، فقد أبطل سلطانهم الذي جعله الله لهم ، وخالف ظاهر التنزيل ، وأبطل القود ، إذا لم يؤدوا إلى صاحب الدين الدية ، وأسقطوا اللطف الذي هو الزجر في قوله تعالى « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » لأنّ من علم أنّه يقتل ، إذا قتل ، كف عن القتل ، فحيي (٤) هو ومن يريد أن يقتله.
وأيضا فصاحب الدين لا يستحق إلا ما يخلف الميّت من الأموال ، وكان
__________________
(١) النهاية : باب قضاء الدين عن الميّت.
(٢) البقرة : ١٧٩.
(٣) الاسراء : ٣٣.
(٤) ل. : فيحيي.
مملوكا له في حياته ، أو مالا مستحقا بسببه ، على ما قلناه في قتل الخطإ ، لأجل الإجماع ، والأخبار على قتل الخطأ ، لأن موجبه المال ، وقتل العمد المحض ، لا مال ، ولا موجبه المال ، فمن أين يستحق صاحب الدين المال ، ويمنع من القود حتى يأخذ المال.
وقد أورد شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام خبرا فحسب ، في هذا المعنى في باب الديون وأحكامها ، وهو : الصفار ، عن أيوب بن نوح ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الحميد بن سعيد ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام ، عن رجل قتل ، وعليه دين ، ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدّية من قائله ، أعليهم أن يقضوا الدين ، قال : نعم ، قال : قلت وهو لم يترك شيئا ، قال عليهالسلام : إنّما أخذوا الدية ، فعليهم أن يقضوا عنه الدين (١).
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وليس في هذا الحديث ـ إذا تلقى بالقبول وسلم ما ينافي ما قلناه ، لأنّه ما قال قتل عمدا محضا ، وانّما قال أخذوا أهله الدّية ، وهذا يدلّ على أنّ القتل كان موجبه الدّية ، دون القود ، لأنّ أهله لا يأخذون الدّية بنفس القتل إلا في قتل الخطأ ، وقتل العمد شبيه الخطأ ، فالخبر دليل لنا ، لا علينا.
فإن قيل : قد قال في الخبر ، فأخذ أهله الدّية من قاتله ، ولو كان القتل خطأ محضا ، ما أخذوا الدّية من قاتله ، بل كانوا يأخذونها من عاقلته دونه ، بغير خلاف.
قلنا : يأخذونها أيضا عندنا من القاتل ، في القتل العمد شبيه الخطأ ، دون العاقلة ، فنخص هذه المواضع بقتل يوجب المال ، وهما قتلان ، قتل خطأ محض ، وقتل عمد شبيه الخطأ ، وانّما منعنا من القتل العمد المحض الذي لا يوجب المال ، بل موجبه القود ، فحسب ، للأدلّة القاهرة المقدّم ذكرها ، وأعطينا الظاهر حقّه ، لئلا تتناقض الأدلة ، كما يعمل في آيات القران ذلك.
__________________
(١) التهذيب : الباب ٨١ من كتاب الديون ، ح ٤١ / ٤١٦ ، ج ٦ ص ١٩٢.
وقال شيخنا أبو جعفر الطوسيّ ، في مبسوطة في ذكر الشهادة على الجنايات : إذا ادّعى رجل على رجل أنّه جرحه قطع يده أو رجله ، أو قلع عينه ، فأنكر ، فأقام المدّعي شاهدين ، وهما وارثاه ، أخواه أو عماه ، بذلك ، لم يخل الجرح من أحد أمرين ، إمّا أن يكون قد اندمل ، أو لم يندمل ، فإن شهدا بعد اندمال الجرح ، قبلتا وحكمت بها للمشهود له ، لأنّ شهادة الأخ لأخيه مقبولة ، وهذه الشهادة بعد الاندمال لا تجر نفعا ، ولا يدفع بها ضررا ، وإن كانت الشهادة قبل اندمال الجرح ، لم تقبل هذه الشهادة ، لأنّهما متهمان ، فانّ الجرح قد يصير نفسا ، فيجب الدّية على القاتل ، ويستحقها الشاهدان ، فلهذا لم تقبل.
ثمّ قال رحمهالله : فرع ، إذا ادّعى مريض على رجل مالا ، فأنكر المدعى عليه ، فأقام المدّعي شاهدين بذلك ، أخويه أو عميه ، وهما وارثاه ، قال قوم : لا تقبل ، لأنّهما متّهمان ، لأنّ المريض قد يموت ، فيكون لهما ، وقال آخرون : مقبولة غير مردودة ، وهو الأصحّ عندي ، لأنّهما لا يجران منفعة ، ولا يدفعان ضررا ، لأنّ الحق إذا ثبت ، ملكه المريض ، فإذا مات ورثاه عن الميّت ، لا عن المشهود عليه ، وليس كذلك إذا كانت الشهادة بالجناية ، لأنّه متى مات المجني عليه ، وجبت الدّية بموته على القاتل ، يستحقّها الشاهدان على المشهود عليه ، فلهذا ردت ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (١).
ألا ترى أرشدك الله قول شيخنا ، وفرقه بين المسألتين ، في الشهادة بالجناية ، والشهادة بالمال ، وأنّ الشهادة بالمال مقبولة ، وقوله : لأنّ الحق ـ يعني المال ـ إذا ثبت ملكه المريض فإذا مات ورثاه عن الميّت ، لا عن المشهود عليه ، وليس كذلك إذا كانت الشهادة بالجناية ، لأنّه متى مات المجني عليه ، وجبت الدّية بموته على القاتل ، يستحقّها الشاهدان على المشهود عليه ، فلهذا ردت ، فقد أفتى بأنّ
__________________
(١) المبسوط : كتاب كفارة القتل ، في ذكر الشهادة على الجنايات.
المال المتروك يستحقه الوارث عن الميت ، لا عن المشهود عليه به ، والدية لا يستحقها الوارث عن الميّت ، بل عن المشهود عليه ، لأنّها ليس بمال للميّت حتى يستحق عنه ، ولو لا الدليل في دية الخطأ ، ودية العمد شبيه الخطأ لما كان كذلك.
ثمّ قال شيخنا أيضا في مبسوطة : وإذا وجد الرجل قتيلا في داره ، وفي الدار عبد المقتول ، كان لوثا على العبد ، وللورثة أن يقسموا ، أو يثبتوا القتل على العبد ، ويكون فائدته ، أن يملكوا قتله عندنا ، إن كان عمدا ، قال رحمهالله : وفيه فائدة أخرى ، وهي أنّ الجناية إذا ثبتت ، تعلّق أرشها برقبته ، فربما كان رهنا ، فإذا مات كان للوارث أن يقدم حق الجناية على حق الرهن ، فإذا كانت فيه فائدة ، كان لهم أن يقسموا ، هذا أخر كلامه رحمهالله (١).
فلو كان الدين الذي على المقتول عمدا محضا ، يمنع (٢) الورثة من القود ، لما قال ذلك ، وقال أيضا في الجزء الثاني من المبسوط ، في كتاب التفليس : وإذا جنى على المفلس ، فلا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن تكون جناية عمدا ، أو خطأ ، فإن كانت خطأ ، توجب الأرش ، فإنّه قد استحق الأرش ، وتعلّق به حق الغرماء ، فيأخذه ، ويقسمه بينهم ، وإن كانت الجناية عمدا توجب القصاص ، فإنّه مخير بين أن يقتص (٣) ، وبين أن يعدل عن القصاص إلى الأرش ، إذا بذل له الجاني ، وليس للغرماء أن يجبروه على الأرش (٤).
قال محمّد بن إدريس : فإذا مات ، ورث وارثه ما كان يستحقه من القصاص ، لأنّه لا خلاف في أنّ الوارث يستحق ما كان يستحقه مورثه ، من جميع الحقوق ، فمن منع (٥) ذلك يحتاج إلى دليل.
وإذا تبرع إنسان بضمان الدين عن الميّت ، في حال حياته ، أو بعد وفاته
__________________
(١) المبسوط : كتاب القسامة.
(٢) من هنا وقع سقط في نسخة « ق » قريب ثلاث صفحات.
(٣) ل : أن يقصه.
(٤) المبسوط : كتاب التفليس ، ج ٢.
(٥) ل : فمن أنكر.
برئت ذمّة الميّت ، سواء قضى ذلك المال الضامن ، أو لم يقض ، إذا كان صاحب الدين قد رضي به ، فإن لم يكن قد رضي به ، كان في ذمّة الميّت على ما كان.
ومن مات وعليه دين مؤجّل ، حل أجل ماله ، ولزم ورثته الخروج ممّا كان عليه ، إن خلّف تركة.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكذلك إن كان له دين مؤجّل ، حل أجل ماله ، وجاز للورثة المطالبة به في الحال (١).
وقال في مسائل الخلاف : مسألة ، من مات وعليه دين مؤجّل ، حل عليه بموته ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، ومالك ، وأكثر الفقهاء ، إلا الحسن البصري ، فإنّه قال : لا تصير المؤجلة حالة بالموت ، فأمّا إذا كانت له ديون مؤجلة ، فلا تحل بموته ، بلا خلاف ، إلا رواية شاذة ، رواها أصحابنا أنّها تصير حالة ، ثم قال : دليلنا على بطلان مذهب الحسن البصري إجماع الفرقة ، بل إجماع المسلمين ، لأنّ خلافه قد انقرض ، وهو واحد لا يعتد به لشذوذة (٢).
قال محمد بن إدريس رحمهالله ، مصنف هذا الكتاب : والذي ذكره شيخنا في مسائل الخلاف ، هو الصحيح ، وبه افتى ، وأعمل ، لأنّ به تشهد الأدلة القاهرة (٣) ، وما ذكره رحمهالله في نهايته ، فهو خبر شاذّ من أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ، قد شهد بذلك شيخنا في مسائل الخلاف ، وقال : إلا رواية شاذة رواها أصحابنا ، انّها تصير حالة ، فلو كان رحمهالله عاملا بأخبار الآحاد ، لما قال ذلك ، ولا ساغ له ترك العمل بالرواية ، وبخبر الواحد ، وكلّ من قال عنه أنّه كان يعمل بأخبار الآحاد ، فهو محجوج بقوله هذا ، وجميع ما يورده ويذكره في نهايته ، ممّا لا تشهد بصحته الأدلة ، فهي أخبار آحاد يوردها ، كما
__________________
(١) النهاية : باب قضاء الدين عن الميّت.
(٢) الخلاف : كتاب التفليس ، مسألة ١٤.
(٣) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ١٢ من أبواب الدين والقرض. ح ٤.
أورد هذه الرواية ، فلا يظن ظان أنّه إذا قال روى أصحابنا ، أو رواية أصحابنا ، انّ جميع الإماميّة روت ذلك ، وتواترت به ، وأجمعت عليه ، وانّما مراده رحمهالله ، انّ هذا القول والرواية من جهة أصحابنا ، وراويها منهم ، لا من رواية مخالفيهم ، فهذا مقصوده ومراده رحمهالله ، فلا يتوهم عليه غير ذلك ، فيغلط عليه ، ويعتقد أنّ جميع ما يورده ويطلقه في نهايته اعتقاده ، وحقّ وصواب عنده.
ومن مات وعليه ديون لجماعة من الناس ، تحاصّوا ما وجد من تركته ، بمقدار ديونهم ، ولم يفضل بعضهم على بعض ، فإن وجد واحد منهم متاعه بعينه عنده ، وكان للميت مال ، يقضي ديون الباقين عنه ، رد عنه (١) بغير نمائه المنفصل عنه ، كالحمل ، ولم يحاصه باقي الغرماء ، وإن لم يخلّف وفاء لديون الباقين ، كان صاحبه وباقي الغرماء سواء.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكذلك لو كان حيّا والتوى على غرمائه ، ( معنى التوى دافع وماطل ) ردّ عليه ماله ، ولم يحاصه باقي الغرماء (٢).
قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : حكم الحيّ هاهنا بخلاف حكم الميّت ، لأنّ الحيّ ، من وجد عين متاعه أخذه بعينه ، دون نمائه المنفصل ، ولم يحاصّه باقي الغرماء ، سواء بقي له بعد أخذه ، وفاء لديون الباقين ، أو لم يبق ، والميّت ، لصاحب المتاع ، أخذه بشرط أن يكون للميّت بعد أخذه ، وفاء لديون الباقين.
وإذا مات من له الديون ، فصالح المدين ورثته على شيء ، مما كان عليه ، كان ذلك جائزا ، وتبرأ بذلك ذمّته ، إذا أعلمهم مقدار ما عليهم من المال ، ورضوا ( بضمّ الضاد ) بمقدار ما صالحوه عليه ، ومتى لم يعلمهم مقدار ما عليه من المال ، ولم يرضوا ( بفتح الضاد ) به بعد إعلامهم ، لم يكن ذلك الصلح جائزا ، ولم تبرأ بذلك الذمّة.
__________________
(١) ل : رد عليه.
(٢) النهاية : باب قضاء الدين عن الميت.
باب بيع الديون والأرزاق
الدين لا يخلو إمّا أن يكون مؤجّلا ، أو حالا ، فإن كان مؤجلا ، فلا يجوز بيعه بغير خلاف (١) على غير من هو في ذمّته ، فامّا أن كان حالا فلا يجوز بيعه بدين آخر ، لا ممن هو عليه ، ولا من غيره بغير خلاف أيضا ، ونهى النبي عليهالسلام عن بيع الكالي بالكالي (٢) وهو بيع الدين بالدين ، ومثاله أن يسلم الإنسان في طعام أو غيره ، إلى وقت معلوم ، فإذا حلّ الأجل ، لم يجد الذي عليه ذلك طعاما ، فيبتاعه من الذي هو له ، بدين إلى أجل آخر ، ومثله أيضا ، أن يسلم الإنسان في طعام ، ولا يدفع الثمن ، بل يبقيه دينا عليه ، وما جرى مجرى ذلك.
فإن باعه ممن هو عليه بعد حلوله ، وكان ذهبا فباعه بذهب ، أو كان فضة فباعه بفضة ، أو كان فضّة فباعه بذهب ، أو كان ذهبا فباعه بفضّة ، وجب أن يقبضها في المجلس ، قبل أن يفارقه ، لأن ذلك صرف ، وإن أخذ عرضا ، جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معيّن موجود مشاهد ، بثمن في الذمّة ، فأمّا إن باعه على من هو عليه نقدا ويدا ، فلا بأس بذلك ، وإن كان على غيره ، فقد قلنا ما عندنا في ذلك في باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت ، وبلغنا فيه إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، وأوضحنا اعتقادنا فيه ، بما لا حاجة هاهنا إلى إعادته.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره من الديون نقدا ، ويكره أن يبيع ذلك نسية ، ثمّ قال : ولا يجوز بيعه بدين آخر مثله (٣).
قال محمد بن إدريس : قوله رحمهالله ، يكره أن يبيع ذلك نسية ، لا يصحّ بل
__________________
(١) إلى هنا ينتهي سقط نسخة « ق ».
(٢) مستدرك الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ١٥ من أبواب الدين والقرض ، ح ١.
(٣) النهاية : باب بيع الديون والأرزاق.
ذلك حرام محظور ، غير مكروه ، بل هذا بعينه بيع الدين بالدين ، وانّما يورد أخبار آحاد بألفاظها ، وإن لم يكن عاملا بها ، ولا معتقدا لصحتها ، ولا يكون مناقضا لأقواله ، لأنّه قال بعده : ولا يجوز بيعه بدين آخر مثله ، وذلك أيضا دين.
ثم قال شيخنا : فإن وفي الذي عليه الدين ، المشتري ، وإلا رجع على من اشتراه منه بالدرك.
ثمّ قال : ومن باع الدين بأقل ممّا له على المدين ، لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال (١).
قال محمد بن إدريس : قوله رحمهالله ، ومن باع الدين بأقل مما له على المدين ، لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال ، طريف عجيب (٢) ، يضحك الثكلى ، وهو أنّه إذا كان الدين ذهبا ، كيف يجوز أن يبيعه بذهب أقل منه ، أو إن كان فضة ، فكيف يجوز أن يبيعه بفضة أقل منه أو إن كان ذهبا فباعه بفضّة ، أو فضّة فباعه بذهب ، كيف يجوز انفصالهما من مجلس البيع ، إلا بعد أن يتقابضا بالمبيع والثمن ، يقبض البائع الثمن والمشتري المثمن ، فإن هذا لا خلاف فيه بين طائفتنا ، بل لا خلاف فيه بين المسلمين.
وقوله : لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال.
قال محمد بن إدريس : إن كان البيع المشار إليه صحيحا ، لزم المدين تسليم ما عليه جميعه ، وهو المبيع إلى المشتري ، لأنّ هذا صار مالا من أمواله ، لأنّه اشتراه ، وقد يجوز أن يشتري الإنسان ما يساوي خمسين قنطارا ، بدينار واحد ، إذا كان البائع من أهل البصيرة والخبرة ، وانما هذه أخبار آحاد ، أوردها على ما وجدها إيرادا ، لا اعتقادا.
ولا يجوز أن يبيع الإنسان رزقه على السلطان ، قبل قبضه له ، لأنّ ذلك بيع
__________________
(١) النهاية : باب بيع الديون والأرزاق.
(٢) ل : ظريف عجيب.
غرر ، وبيع ما ليس بملك له (١) ، لأنّه لا يملكه إلا بعد قبضه إيّاه ولا يتعين ملكه له الّا بعد قبضه إيّاه وكذلك بيع أهل مستحقي الزكوات ، والأخماس ، قبل قبضها ، لأنّه لا يتعيّن ملكها لهم ، إلا بعد قبضها ، فجميع ذلك غير مضمون ، وبيعه غير جائز ولا صحيح.
باب المملوك يقع عليه الدّين ما حكمه (٢)
المملوك إذا لم يكن مأذونا له في الاستدانة ، ولا في التجارة ، فكل دين يقع عليه ، لم يلزم مولاه شيء منه ، ولا يستسعى المملوك أيضا في شيء منه ، بغير خلاف ، بل يتبع به إذا لحقه العتاق.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : بل كان ضائعا يريد به ما دام مملوكا (٣).
وقال في نهايته أيضا : وإن كان مأذونا له في التجارة ، ولم يكن مأذونا له في الاستدانة ، فما يحصل عليه من الدين استسعى فيه ، ولم يلزم مولاه من ذلك شيء (٤).
وقال في مبسوطة : إذا كان العبد مأذونا له في التجارة نظر ، فإن أقر بما يوجب حقا على بدنه ، قبل عندهم ، وعندنا لا يقبل ، فإن أقر بما يوجب مالا ، نظر ، فإن كان لا يتعلق بما اذن له فيه في التجارة ، مثل أن يقول : أتلفت مال فلان ، أو غصبت منه مالا ، أو استقرضت منه مالا ، فانّ الاستقراض لا يدخل في الإذن في التجارة ، لأنّه لا يقبل على ما بيناه ، ويكون في ذمّته ، يتبع به إذا أعتق ، وإن كان يتعلّق بالتجارة ، مثل ثمن المبيع ، وأروش العيب ، وما أشبه ذلك ، فإنّه يقبل إقراره ، لأنّ من ملك شيئا ملك الإقرار به ، إلا أنّه ينظر فيه ، فإن كان الإقرار بقدر ما في يده من مال التجارة ، قبل ، وقضى منه ، وإن كان أكثر ، كان الفاضل
__________________
(١) ليس في نسخة ج ولا يتعين ملكه له إلا بعد قبصه إيّاه.
(٢) ل : الدين فما حكمه.
(٣) و (٤) النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك وأحكامه.
في ذمته ، يتبع به إذا أعتق (١).
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب ، والذي اختاره وأعمل عليه ، وافتي به ، أنّ العبد المأذون له في التجارة ، لا يستسعى في قضاء الدين ، بل يتبع به إذا لحقه العتاق.
وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في نهايته ، في مبسوطة على ما أوردناه عنه وفي استبصاره في الجزء الثالث من كتاب العتق ، فإنّه أورد أخبارا ، ثمّ قال : والوجه في الخبرين أنّه انّما يكون ذلك على العبد إذا أعتق ، إذا لم يكن أذن له في الاستدانة ، وانّما أذن له في التجارة ، فلما استدان ، كان ذلك معلّقا بذمته إذا أعتق (٢).
وما ذكره في نهايته خبر واحد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه.
وقال في نهايته : وإن كان مأذونا له في الاستدانة ، لزم مولاه ما عليه من الدين ، إن استبقاه مملوكا ، أو أراد بيعه ، فإن أعتقه ، لم يلزمه شيء مما عليه ، وكان المال في ذمّة العبد (٣).
والصحيح الواضح ، انّ المولى إذا أذن للعبد في الاستدانة ، فإنّه يلزمه قضاء الدين ، سواء باعه ، أو استبقاه ، أو أعتقه ، لأنّه وكله في أن يستدين له ، فالدين في ذمّة المولى ، لا يلزم العبد منه شيء ، بحال من الأحوال ، ولم يزده العتق إلا خيرا.
وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في نهايته ، في كتاب الإستبصار في الجزء الثالث ، وما ذكره في نهايته خبر واحد ، وانه طريف الأكفانيّ ، وهو مجهول ، خامل الذكر ، وهو من أضعف الأخبار الآحاد ، أعني هذا الخبر ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا ، وأنّ شيخنا أبا جعفر رحمهالله ، أوردها في نهايته إيرادا ، على ما هي عليه ، ورجع عنها عند تحقيق الفتوى في كتبه الباقية
__________________
(١) المبسوط : كتاب الإقرار ، في حكم أقارير العبد.
(٢) الاستبصار : كتاب العتق ، الباب ١١ ، ذيل ح ٢ (٦٤).
(٣) النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك يقع عليه الدين.
على ما قد أوردناه وحكيناه عنه في هذا الكتاب كثيرا.
وقال في الجزء الثاني من مبسوطة : وإذا أذن لعبده في التجارة ، فركبه دين ، فإن كان أذن له في الاستدانة ، فإن كان في يده مال ، قضى منه ، وإن لم يكن في يده مال ، كان على السيد القضاء عنه ، وإن لم يكن أذن له في الاستدانة ، كان ذلك في ذمّة العبد ، يطالب به إذا عتق ، وقد روي أنّه يستسعى العبد في ذلك (١) هذا آخر كلامه.
فعلى ما اخترناه ، من أنّ العبد إذا كان مأذونا له في الاستدانة ، يكون الدين في ذمّة مولاه على كلّ حال.
فإن مات المولى وعليه دين ، كان غرماء العبد وغرماؤه سواء ، يتحاصون ما يحصل من جهته من المال ، على ما تقضيه أصول أموالهم ، من غير تفضيل بعضهم على بعض ، لأنّ الدينين جميعا دين على المولى الذي هو السيّد ، وفي ذمته.
باب القرض وأحكامه
القرض فيه فضل كبير ، وثواب جزيل ، وقد روي (٢) أنّه أفضل من الصدقة بمثله في الثواب ، فإن أقرض مطلقا ولم يشرط الزيادة في قضائه ، فقد فعل الخير ، وإن شرط الزيادة كان حراما ، ولم ينعقد العقد ، وكان فاسدا ، والملك باقيا على المقرض ، ولم ينتقل عنه إلى ملك المستقرض ، ولا يجوز حينئذ للمستفرض أن يتصرف فيه ، ولا فرق من أن يشرط زيادة في الصفة ، أو في القدر ، فإذا لم يشرط ، ورد عليه خيرا منه ، أو أكثر ، كان جائزا مباحا ، ولا فرق بين أن يكون ذلك عادة أو لم يكن ، وإذا شرط عليه أن يردّ خيرا منه ، أو أكثر منه ، كان حراما ، على ما قدّمناه ، وإن كان من الجنس الذي لا يجوز فيه الربا ، مثل أن يقرضه ثوبا
__________________
(١) المبسوط : كتاب البيوع. فصل في العبيد.
(٢) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الدين والقرض ، ح ١.
بثوبين فإنّه حرام لعموم الأخبار (١).
وقضاء القرض ، إن كان ممّا له مثل ، من المكيل والموزون ، فإنّه يقضيه مثله ، وإن كان ما لا مثل له مثل الثياب (٢) والحيوان ، والخشب ، يجب عليه قيمته ، ولا يجب عليه رد العين المستقرضة ، لأنّها صارت بالقبض (٣) والإقباض ، ملكا للمستقرض ، وخرجت من ملك القارض ، لأنّ المستقرض عندنا يملك القرض بالقبض ، بغير خلاف بيننا.
فعلى هذا التحرير ، لا يجوز للمقرض الرجوع في عين القرض ، بل له المطالبة بمثله ، إن كان له مثل ، أو بقيمته إن أعوز المثل يوم المطالبة ، لا يوم إقباض القرض.
وإن لم يكن له مثل ، وكان يضمن (٤) بالقيمة ، رجع بقيمته يوم إقباض القرض ، لا يوم المطالبة بالرد.
وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في مسائل الخلاف : للمقرض الرجوع في عين القرض (٥).
وليس على ما قال دليل ، ولا دلّ عليه بشيء يرتضى.
وقال في مبسوطة : لا يجوز إقراض ما لا يضبط بالصفة (٦).
والصحيح انّ ذلك يجوز ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، في جواز إقراض الخبز ، وان كان لا يضبط بالصفة ، لأنّهم أجمعوا أنّ السلم لا يجوز في الخبز ، لأنّ السلف لا يجوز فيما لا يمكن ضبطه بالصفة ، والخبز لا يضبط بالصفة.
وقال شيخنا رحمهالله أيضا في مبسوطة : يجوز استقراض الخبز إن شاء وزنا ، وإن شاء عددا ، لأنّ أحدا من المسلمين لم ينكره ، ومن أنكره من الفقهاء ، خالف الإجماع ، هذا آخر قول شيخنا في مبسوطة (٧).
__________________
(١) الوسائل : الباب ١ من أبواب الربا.
(٢) ج : ممّا لا مثل له من الثياب.
(٣) ج : بالقرض.
(٤) ج : مثل يضمن.
(٥) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٢٩٢ فإنه قال في ذيل المسألة : دليلنا أنّه عين ماله ( ملكه ) فكان له الرجوع فيه لأنّ الممتنع يحتاج إلى دليل
(٦) و (٧) المبسوط : ج ٢ ، فصل في حكم القرض ، ص ١٦١.