كتابنا هذا ، كما أوردها ـ والله أعلم ـ بكثير (١) من أصحاب الأخبار والحديث ، فإنّهم يوردون ما سمعوا ، ويروون ما روي لهم وحدّثوا.
والأرضون الموات التي لم يجر عليه ملك لأحد ، لإمام المسلمين خاصّة ، لا يملكها أحد بالإحياء ، إلا أن يأذن له الإمام ، وأمّا الذمي فلا يملك إذا أحيا أرضا في بلاد الإسلام ، وكذلك المستأمن.
والناس في الحمى ، على ثلاثة أضرب النبي عليهالسلام ، والأئمة المعصومون من بعده عليهمالسلام ، وآحاد المسلمين.
فأمّا النبي عليهالسلام ، فكان له أن يحمي لنفسه ولعامة المسلمين ، لقوله عليهالسلام : لا حمى إلا لله ولرسوله (٢) وروي عنه عليهالسلام ، أنّه حمى النقيع بالنون ـ لخيل المجاهدين ترعى فيه (٣).
وأمّا آحاد المسلمين ، فليس لهم أن يحموا لأنفسهم ، ولا لعامة المسلمين ، لقوله عليهالسلام : لا حمى إلا لله ولرسوله.
وأمّا الأئمة عليهمالسلام ، فإن حموا كان لهم ذلك ، لأنّ أفعالهم حجة عندنا.
فأمّا الذي يحمى له ، فإنّه يحمى للخيل المعدة لسبيل الله ، وتعم الجزية والصدقة والضوال.
وأمّا قدر ما يحميه ، فهو ما لا يعود بضرر على المسلمين ، أو بضيق مراعيهم ، لأنّ الإمام عندنا لا يفعل إلا ما هو من مصالح المسلمين ، فإذا ثبت هذا ، فإنّه يحمي القدر الذي يفضل عنه ما فيه كفاية لمواشي المسلمين.
وإذا أذن واحد من الأئمة عليهمالسلام ، لغيره في إحياء ميت ، فأحياه ، فإنّه
__________________
(١) ج : الكثير.
(٢) سنن البيهقي ، كتاب احياء الموات ، باب ما جاء في الحمى ، ج ٦ ص ١٤٦ والحاكم في كتاب البيوع ص ٦١ ج ٢.
(٣) الوسائل : الباب ٩ من أبواب إحياء الموات ، ح ٣ ولفظه هكذا : حمى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم النقيع لخيل المسلمين.
يملكه ، فأمّا من يحييه بغير إذنه ، فإنّه لا يملك به ، حسب ما قدّمناه.
وأمّا ما به يكون الإحياء ، فلم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء دون مالا يكون ، غير أنّه إذا قال النبي عليهالسلام : من أحيا أرضا فهي له ، ولم يوجد في اللغة معنى ذلك ، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة ، فما عرفه الناس إحياء في العادة ، كان إحياء وملك به الموات ، كما أنّه لمّا قال : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، رجع في ذلك إلى العادة ، هذا مذهبنا ، فأمّا المخالف لنا فله تفاصيل في الإحياء ، يطول شرحها.
فإذا أحياها وملكها (١) ، فإنّه يملك مرافقها التي لإصلاح للأرض إلا بها.
وإذا حفر بئرا أو شق نهرا ، أو ساقية ، فإنّه يملك حريمها.
وجملته أن ما لا بدّ منه في استقاء الماء ، ومطرح الطين ، إذا نضب الماء ، فكريت الساقية والنهر ، ويكون ذلك على حسب الحاجة ، قلّ أم كثر.
وأمّا إن أراد أن يحفر بئرا في داره ، أو ملكه ، وأراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر ، لم يمنع منه ، بلا خلاف في جميع ذلك ، وإن كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى ، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم ، والفرق بين الملك والموات ، أنّ الموات يملك بالإحياء ، فمن سبق إلى حفر البئر ، ملك حريمه ، وصار أحقّ به ، وليس كذلك في الملك ، لأنّ ملك كلّ واحد منهما ، ثابت مستقر ، وللمالك أن يفعل في ملكه ما شاء ، وكذلك إذا أحيا أرضا ليغرس فيها بجنب أرض فيها غراس لغيره ، بحيث يلتف أغصان الغراسين ، وبحيث تلتقي عروقهما (٢) ، كان للأوّل منعه ، لما ذكرناه.
وإن حفر رجل بئرا في داره ، وأراد جاره أن يحفر بالوعة ، أو بئر كنيف ، بقرب هذه البئر ، لم يمنع منه ، وإن أدّى ذلك إلى تغيّر ماء البئر ، لأنه مسلّط على
__________________
(١) ج : أحياها.
(٢) يلتفّ عروقها.
التصرّف في ملكه بلا خلاف.
وأمّا المعادن فعلى ضربين : ظاهرة وباطنة ، فالباطنة لها أحكام مذكورة في مواضعها ، وأمّا الظاهرة فهي الماء ، والقير ، والنفط ، والموميا ، والكبريت ، والملح ، وما أشبه ذلك ، فهذا لا يملك بالإحياء ، ولا يصير أحد أولى به بالتحجّر من غيره ، وليس للسلطان أن يقطعه ، بل الناس كلّهم فيه سواء ، يأخذون منه قدر حاجتهم ، بل يجب عندنا فيه الخمس ، ما عدا الماء ، ولا خلاف في أنّ ذلك لا يملك ، وليس للسلطان أن يقطع مشارع الماء بغير خلاف ، وكذلك المعادن الظاهرة.
فإذا ثبت أنّها لا تملك ، فمن سبق إليها أخذ قدر حاجته منها ، وانصرف ، فإن سبق إليه اثنان ، أقرع بينهما الإمام.
وليس للسلطان أن يقطع الشوارع ، ورحاب الجوامع.
وأمّا المعادن الباطنة مثل الذهب والفضة والنحاس ، والرصاص ، وحجارة البرام ، والفيروزج ، وغير ذلك ممّا يكون في بطون الأرض والجبال ، ولا يظهر إلا بالعمل فيها ، والمئونة عليها ، فهل تملك بالإحياء ، أم لا؟ قيل فيه قولان : أحدهما أنّه يملك ، وهو مذهبنا ، والثاني لا يملك ، وهو مذهب مخالفينا.
إذا أحيا أرضا من الموات ، فظهر فيها معدن ، ملكها بالإحياء ، وملك المعدن الذي ظهر فيها ، بلا خلاف ، لأنّ المعدن مخلوق ، خلقة الأرض ، فهو جزء من أجزائها.
وكذلك إذا اشترى دارا ، فظهر فيها معدن ، كان للمشتري ، دون البائع.
فأمّا إذا وجد فيها كنزا مدفونا ، كان له ويخرج منه الخمس ، إذا بلغ مقدار ما يجب فيه الزكاة ، سواء كان من دفن الجاهليّة ، أو دفن الإسلام ، وإن كان ذلك الكنز في أرض اشتراها ، فإنّ الكنز لا يدخل في البيع ، لأنّه مودع فيه ، ويجب عليه تعريف البائع ذلك ، فإن عرفه ، سلّمه إليه ، وإلا أخرج منه الخمس ، إذا بلغ مقدار عشرين دينارا ، على ما قدّمناه.
الآبار على ثلاثة أضرب : ضرب يحفره في ملكه ، وضرب يحفره في الموات
لتملكها ، وضرب يحفره في الموات لا للتملك ، فما يحفره في ملكه ، فإنّما هو نقل ملكه من ملكه ، لأنّه ملك المحلّ قبل الحفر ، والثاني إذا حفر في الموات ليتملكها ، فإنّه يملكها بالإحياء.
فإذا ثبّت هذا ، فالماء الذي يحصل في هذين الضربين ، هل يملك أم لا؟ قيل فيه وجهان : أحدهما أنّه يملك ، وهو مذهبنا ، والثاني أنّه لا يملكه ، لأنّه لو ملكه لم يستبح بالإجارة ، وانّما قلنا أنّه مملوك ، لأنّه نماء ملكه ، مثل ثمرة الشجرة ، وانّما يستباح بالإجارة ، بمجرى العادة ، ولأنّه لا ضرر على مالكه ، لأنّه يستحلف في الحال بالنبع ، وما لا ضرر عليه ، فليس له منعه ، مثل الاستظلال بحائطه.
فإذا أراد بيع شيء منه ، وهو في البئر ، وشاهده المشتري ، جاز ذلك كيلا أو وزنا ، ولا يجوز بيع جميع ما في البئر ، لأنّه لا يمكن تسليمه ، لأنّه ينبع ويزيد ، كلما استقى منه شيء ، فلا يمكن تميز المبيع من غيره.
وأمّا الضرب الثالث ، فهو إذا نزل قوم موضعا من الموات ، فحفروا فيه بئرا ليشربوا ، ويسقوا بهائمهم منها مدّة مقامهم ، ولم يقصدوا التملك بالإحياء ، فإنّهم لا يملكونها ، لأنّ المحيي إنّما يملك بالإحياء ، إذا قصد تملكه به ، فإذا لم يقصد تملكه ، فإنه يكون أحق به مدّة مقامه ، فإذا رحل ، فكل من سبق إليه فهو أحقّ به ، مثل المعادن الظاهرة.
والكلام في المياه في فصلين : أحدهما في ملكها ، والآخر في السقي منها فأمّا الكلام في ملكها ، فهو على ثلاثة أضرب : مباح ، ومملوك ، ومختلف فيه ، فالمباح مثل ماء البحر ، والنهر الكبير ، مثل دجلة ، والفرات ، والنيل ، وجيحون ، وسيحان ، فأمّا سيحان فنهر بلخ ، وأمّا جيحون ، وقيل جيحان ، فذكر في كتاب الكوفة ، أنّه دجلة ، وقال الجوهري اللغوي ، في كتاب الصحاح : سيحان نهر بالشام ، وساحين نهر بالبصرة ، وسيحون نهر بالهند ، وجيحون نهر بلخ ، وجيحان نهر بالشام ، وكلّ هذا مباح ، ولكل أحد أن يستعمل منه ما أراد ، ويأخذ كيف شاء.
وأمّا المملوك فكلّ ما حازه من الماء المباح في قرية أو حرّة ، أو بركة ، أو مصنع ، فهذا كلّه مملوك ، كسائر المائعات المملوكة ، الأدهان والألبان ، وغيرهما.
وأمّا المختلف فيه ، فكلّ ما نبع في ملكه ، وقد قلنا أنّه مملوك.
فأمّا السقي من الماء المباح ، كماء دجلة ، والفرات ، فانّ الناس فيه شرع سواء ، لا يحتاج فيه إلى ترتيب ، وتقديم وتأخير ، لكثرته.
والثاني ماء مباح في نهر غير مملوك ، صغير ، يأخذ من النهر الكبير ، ولا يسقي جميع الأراضي ، إذا سقيت في وقت واحد ، ويقع في التقديم والتأخير نزاع وخصومة ، فهذا يقدّم فيه الأقرب فالأقرب ، إلى أول النهر الصغير.
وروى أصحابنا ، أنّ الأعلى يحبس إلى الساق للنخل ، وللشجر إلى القدم ، وللزرع إلى الشراك (١).
فإذا ثبت هذا فالأقرب إلى الفوهة يسقى ويحبس الماء عن من دونه ، فإذا بلغ الماء إلى الحدّ المحدود ، لما يسقيه ، أرسله إلى جاره ، هكذا الأقرب فالأقرب ، فإن كان زرع الأسفل يهلك ، إلى أن ينتهي الماء إليه ، لم يجب على من فوقه إرساله إليه.
باب الشفعة وأحكامها
الشفعة في الشرع ، عبارة عن استحقاق الشريك المخصوص على المشتري ، تسليم المبيع بمثل ما بذل فيه ، أو قيمته ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، لأنّ بعضهم يذهب ويقول : إذا كان الثمن مالا مثل له ، فلا يستحق الشفعة ، والأول هو الأظهر بينهم ، وهي مأخوذة من الزيادة ، لأنّ سهم الشريك يزيد بما ينضم إليه ، فكأنّه كان وترا ، فصار شفعا.
ويحتاج فيها إلى العلم بأمرين ، شروط استحقاقها ، وما يتعلّق بها من الأحكام فشروط استحقاقها ستّة ، وهي : أن يتقدّم عقد بيع ينتقل معه الملك إلى
__________________
(١) الوسائل : الباب ٨ من أبواب إحياء الموات ، الا أنّه لم نجد رواية على عنوان « الشجر » غير النخل.
المشتري. وأن يكون الشفيع شريكا بالاختلاط في المبيع ، أو في حقّه من شربه ، أو طريقه إذا بيع الملك والطريق معا لواحد. وأن يكون الشريك واحدا على الصحيح من المذهب سواء كان في البساتين ، أو في الدور. وأن يكون مسلما إذا كان المشتري كذلك. وأن لا يسقط حق المطالبة بعد عقد البيع ، ووجوبها له. وأن لا يعجز عن الثمن.
اشترطنا تقدّم عقد البيع ، لأنّ الشفعة لا تستحق قبله بلا خلاف ولا تستحق بما ليس ببيع ، من هبة ، أو صدقة ، أو مهر ، أو مصالحة ، أو ما أشبه ذلك ، بدليل إجماع أصحابنا عليه ، ولأنّ إثبات الشفعة في المهر ، والصلح ، والهبة ، وغير ذلك ، يفتقر إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل عليه.
واعتبرنا أن ينتقل الملك معه إلى المشتري ، تحرّزا من البيع الذي فيه الخيار للبائع ، أولهما جميعا ، فإنّ الشفعة لا تستحق هاهنا ، لأنّ الملك لم تزل علقته عن البائع ، فأمّا ما لا خيار فيه أو فيه الخيار للمشتري وحده ، ففيه الشفعة ، لأنّ الملك قد زال عنه ، هذا على قول شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (١).
والذي يقتضيه المذهب ، وتشهد بصحته أصوله ، أنّ الشفعة يستحقها الشفيع على المشتري بانتقال الملك إليه ، والملك عند جميع أصحابنا ينتقل من البائع إلى المشتري بمجرد العقد ، لا بمضي الخيار ومدّته ، وتقضّي الشرط ، بل بمجرّد العقد ، وانّما ذلك مذهب الشافعي ، وفروعه ، فانّ له ثلاثة أقوال ، أحدها بمجرّد العقد ، والآخر بانقضاء مدة الخيار ، والآخر مشاعا (٢) وشيخنا فقد رجع ، وقال : ينتقل الملك بمجرّد العقد ، فإذا قال ذلك ثبتت الشفعة.
واشترطنا أن يكون شريكا للبائع ، تحرّزا من القول باستحقاقها بالجوار ، فإنّها لا تستحق بذلك عندنا ، بدليل إجماعنا ، ونحتج على المخالف بما روي من
__________________
(١) الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة ٢١.
(٢) ج : مراعى.
قوله عليهالسلام : الشفعة في ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (١) ولا يعارض ذلك بما روي من قوله عليهالسلام : الجار أحق بسقبه (٢) لأنّ في ذلك إضمارا ، وإذا أضمروا أنّه أحق بالأخذ بالشفعة ، أضمرنا أنّه أحق بالعرض عليه ، ولأنّ المراد بالجار في الخبر ، الشريك ، لأنّه خرج على سبب يقتضي ذلك.
فروى عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : بعت حقا من أرض لي فيها شريك ، فقال شريكي : أنا أحق بها ، فرفع ذلك إلى النبي صلىاللهعليهوآله ، فقال : الجار أحقّ بسقبه (٣).
والزوجة تسمّى جارا ، لمشاركتها الزوج في العقد ، قال الأعشى : أيا جارتي بيني فإنّك طالقة وهي تسمّى بذلك عقيب العقد ، وتسمّى به وإن كانت بالشرق ، والزوج بالغرب ، فليس لأحد أن يقول : إنّما سمّيت بذلك لكونها قريبة مجاورة ، فقد صار اسم الجار يقع على الشريك لغة وشرعا.
واشترطنا أن يكون واحدا ، لأنّ الشيء إذا كان مشتركا بين أكثر من اثنين ، فباع أحدهم ، لم يستحق شريكه الشفعة ، بدليل الإجماع من أصحابنا ، ولأنّ حقّ الشفعة حكم شرعي يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على ذلك هاهنا ، وعلى هذا إذا كان الشريك واحدا ووهب بعض السهم ، أو تصدّق به ، وباع الباقي من الموهوب له ، أو المتصدّق عليه ، لم يستحق فيه الشفعة.
واشترطنا أن يكون مسلما ، إذا كان المشتري كذلك ، تحرزا من الذمي ،
__________________
(١) المستدرك : الباب ٣ من أبواب الشفعة ، ح ٧.
(٢) التاج : ج ٢ ، كتاب البيوع .. ص ٢١٧ ، سنن النسائي : كتاب البيوع ، ذكر الشفعة وأحكامها ، ج ٧ ، ص ٣٢٠.
(٣) لم نقف عليه في صحاحهم. بل في سنن ابن ماجة : الباب ٢ من كتاب الشفعة ، ( الرقم : ٢٤٩٦ ) عن عمرو بن شريد ، عن أبيه شريد بن سويد ، « قلت : يا رسول الله : أرض ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار ، قال : أحق بسقيه ». ورواه أحمد بن حنبل في مسنده في حديث شريد بن سويد ( ج ٤ ، ص ٣٨٩ ). وروى مثله النسائي في سننه في آخر كتاب البيوع ، باب ذكر الشفعة وأحكامها.
لأنّه لا يستحق على مسلم شفعة ، بدليل إجماع أصحابنا ، وأيضا قوله تعالى : « وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (١) وبما روي عنه عليهالسلام من قوله : لا شفعة لذمي على مسلم (٢).
واشترطنا أن لا يسقط حق المطالبة ، لأنّ بعض أصحابنا يقول : حقّ الشفعة (٣) على الفور ، ويسقط بتأخير الطلب مع القدرة عليه ، وبعضهم يذهب إلى أنّه لا يسقط مع القدرة والعلم وتأخير الطلب ، وهذا هو الأظهر بين الطائفة ، ويعضده أن الحقوق في أصول الشريعة ، وفي العقول أيضا ، لا تبطل بالإمساك عن طلبها ، فكيف خرج حق الشفعة عن أصول الأحكام العقلية والشرعية ، وهو اختيار المرتضى ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر.
واشترطنا عدم عجزه عن الثمن ، لأنّه إنّما يملك الأخذ إذا دفع إلى المشتري ما بذله للبائع ، فإذا تعذّر عليه ذلك ، سقط حقّه من الشفعة.
وإذا كان الثمن مؤجلا فهو على الشفيع كذلك.
ويلزمه إقامة كفيل به إذا لم يكن مليا ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (٤).
وذهب في مسائل خلافه ، إلى انّ للشفيع المطالبة بالشفعة ، وهو مخيّر بين أن يأخذه في الحال ، ويعطي ثمنه حالا ، وبين أن يصبر إلى سنة ، ويطالب بالثمن الواجب عندها (٥).
والذي يقوى عندي ، ما ذكره في نهايته.
ومتى طالب بالشفعة فيما له فيه المطالبة بها ، وجب عليه من الثمن مثل الذي انعقد عليه البيع ، من غير زيادة ولا نقصان ، فإن كان الشيء بيع نقدا ، وجب
__________________
(١) النساء : ١٤١.
(٢) مستدرك الوسائل : كتاب الشفعة ، الباب ٦ ح ١. وفيه : ليس للذمّي شفعة.
(٣) ج : حق الشفيع.
(٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها ، مع اختلاف في العبارة.
(٥) الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة ٩.
عليه الثمن نقدا ، فإذا دافع ومطل أو عجز عنه ، بطلت شفعته ، فإن ذكر غيبة المال عنه ، أجّل بمقدار ما يمكن وصول ذلك المال إليه ، ما لم يؤدّ إلى ضرر على البائع (١) المأخوذ منه ، فإن أدّى إلى ضرره ، بطلت الشفعة ، فإن بيع الشيء نسية ، فقد ذكرناه.
وإذا حطّ البائع من الثمن الذي انعقد عليه الإيجاب والقبول ، فهو للمشتري ، خاصّة ، وسواء حطّ ذلك عنه قبل التفرق من المجلس ، أو بعده ، ولم يسقط عن الشفيع ، لأنّه إنّما يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد عليه البيع ، وما يحطّ بعد ذلك هبة مجددة ، لا دليل على لحوقها بالعقد.
وإذا تكاملت شروط استحقاق الشفعة ، استحقت في كل مبيع ، من الأرضين ، والحيوان ، والعروض ، سواء كان ذلك ممّا يحتمل القسمة ، أو لم يكن على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته في أوّل باب الشفعة (٢) ، لأنّه قال : كلّ شيء كان بين شريكين من ضباع ، أو عقار ، أو حيوان ، أو متاع ، ثم باع أحدهما نصيبه ، كان لشريكه المطالبة بالشفعة ، ثم عاد في أثناء الباب المذكور ، وقال : فلا شفعة فيما لا تصح قسمته ، مثل الحمام والأرحية ، وما أشبهما. وإلى هذا ذهب في مسائل خلافه (٣) ، واستدل بأدلة ، فيها طعون واعتراضات كثيرة.
والدليل على صحّة ما اخترناه ، الإجماع من المسلمين ، على وجوب الشفعة لأحد الشريكين ، إذا باع شريكه ما هو بينهما ، وعموم الأخبار في ذلك ، والأقوال ، والمخصّص يحتاج إلى دليل.
وتمسّك من قال من أصحابنا بما رواه المخالف ، من قوله عليهالسلام : الشفعة فيما لم يقسم.
__________________
(١) ج : المشتري. وهو الظاهر.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها.
(٣) الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة ١٦.
دليل لنا لا علينا ، لأنّه قال عليهالسلام : فيما لم يقسم ، والأشياء المخالف فيها لم تقسّم ، وقولهم : « أراد أنّ ما لم تتقدّر القسمة فيه لا شفعة فيه » قول بعيد من الصواب ، لأنّ ذلك دليل الخطاب ، وهو عندنا لا يجوز العمل به ، على أنّه يقال لهم : إذا كنتم تذهبون إلى أنّ الشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع ، وكان هذا المعنى حاصلا في سائر المبيعات ، لزمكم القول بوجوب الشفعة فيها ، وقولهم : « من صفة الضرر الذي تجب الشفعة لإزالته أن يكون حاصلا على جهة الدوام ، وهذا لا يكون إلا في الأرضين » ليس بشيء ، لأنّ الضرر المنقطع ، يجب أيضا إزالته عقلا وشرعا ، كالدائم ، فكيف وجبت الشفعة لإزالة أحدهما دون الآخر.
على أنّ فيما عدا الأرضين ، ما يدوم كدوامها ، ويدوم الضرر بالشركة فيه كدوامه (١) ، كالجواهر وغيرها.
وفي أصحابنا من قال : لا يثبت حقّ الشفعة ، إلا فيما يحتمل القسمة شرعا ، من العقار والأرضين ، ولا يثبت فيما لا يحتمل القسمة من ذلك ، كالحمامات والأرحية ، على ما قدّمناه وحكيناه عنهم ، ولا فيما ينقل ويحوّل الا على وجه التبع للأرض ، كالشجر والبناء.
والصحيح أنّ الشفعة تجب في كلّ مبيع ، إذا تكاملت شروط الشفعة ، وهو مذهب السيد المرتضى ، وغيره من المشيخة.
وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّ كلّ ما ينقل ويحوّل ، لا شفعة فيه (٢) ، واحتج بخبر واحد يرويه مخالف لأهل البيت (٣) عليهمالسلام.
والشفعة مستحقة على المشتري دون البائع ، وعليه الدرك للشفيع ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك ، ولأنّه قد ملك العقد ، والشفيع يأخذ منه ملكه بحق
__________________
(١) ج : كدوامها.
(٢) الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة ١.
(٣) ل. ق : مخالف أهل البيت.
الشفعة ، فيلزمه دركه.
وإذا كان الشريك غير كامل العقل ، فلوليه أو النّاظر في أمور المسلمين ، المطالبة بالشفعة إذا رأى ذلك صلاحا له ، ويحتج على المخالف ، بقوله عليهالسلام : الشفعة فيما لم يقسم ، ولم يفصل ، وإذا ترك الولي ذلك ، فللصغير إذا بلغ ، والمجنون إذا عقل ، المطالبة ، لأنّ ذلك حقّ له ، لا للولي ، وترك الولي استيفاءه لا يؤثر في إسقاطه.
وإذا غرس المشتري ، وبنى ، ثم علم الشفيع بالشراء وطالب بالشفعة ، كان له إجباره على قلع الغرس والبناء ، إذا ردّ عليه ما نقص من ذلك بالقلع ، لأنّ المشتري فعل ذلك في ملكه ، فلم يكن متعديا ، فاستحق ما نقص بالقلع ، ولأنّه لا خلاف في أنّ له المطالبة بالقلع ، إذا ردّ ما ينقص به ، ولا دليل على وجوب المطالبة ، إذا لم يرد.
وإذا استهدم المبيع ، لا بفعل المشتري أو هدمه هو قبل علمه بالمطالبة بالشفعة ، فليس للشفيع إلا الأرض والآلات ، وإن هدمه بعد العلم بالمطالبة ، فعليه ردّه إلى ما كان.
وإذا عقد المشتري البيع على شرط البراءة من العيوب ، أو علم بالعيب ورضي به ، لم يلزم الشفيع ذلك ، بل متى علم بالعيب ، ردّ على المشتري إن شاء وإذا اختلف المتبايعان والشفيع في مبلغ الثمن ، وفقدت البينة ، فالقول قول المشتري مع يمينه ، لأنّ الشيء ينتزع من يده ، وهو مدّعى عليه ، فالقول قوله ، فإن شهد البائع للشفيع ، لا تقبل شهادته ، لأنّ في شهادته دفع ضرر عن نفسه ، لأنّه ربّما خرج المبيع مستحقا ، فيرجع بالدرك عليه بالثمن ، فيريد أن يقلله لذلك.
فإن أقام كل واحد من المشتري والشفيع بيّنة ، فالبيّنة المسموعة المحكوم بها ، بيّنة الخارج المدعي شرعا ، وهو الشفيع. وقال بعض أصحابنا : البيّنة المسموعة في ذلك بيّنة المشتري.
والأظهر الأول ، لأنّه الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ الرسول عليهالسلام ، قال : البيّنة على المدّعي ، فجعل البيّنة في جنبة المدّعى ، والشفيع هو المدّعي لتقليل الثمن ، والمشتري منكر لذلك.
وحقّ الشفعة موروث ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، لعموم آيات الميراث ، لأنّه إذا كان حقا للميّت ، يستحقه وارثه مثل سائر الحقوق ، لعموم الآيات ، ومن أخرج شيئا منها ، فعليه الدلالة ، وهو مذهب المرتضى ، وشيخنا المفيد في مقنعته (١) ، وجلّة أصحابنا وذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى أنّها لا تورث (٢). وكذلك ذهب في مسائل خلافه ، في كتاب الشفعة (٣) ، إلا أنّه رجع في مسائل خلافه في الجزء الثاني ، في كتاب البيوع ، إلى أنّها تورث ، كسائر الحقوق ، فقال : مسألة ، خيار الثلاث موروث ، كان لهما ، أو لأحدهما ، ويقوم الوارث مقامه ، ولا ينقطع الخيار بوفاته ، وكذلك إذا مات الشفيع قبل الأخذ بالشفعة ، قام وارثه مقامه ، هكذا في خيار الوصية ، إذا أوصى له بشيء ، ثمّ مات الموصي ، كان الخيار في القبول إليه ، فإن مات ، قام وارثه مقامه ، ولم ينقطع الخيار بوفاته ، وبه قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : كلّ هذا ينقطع بالموت ، فلا يقوم الوارث مقامه ، وقال في البيع : يلزم البيع بموته ، ولا خيار لوارثه فيه ، وبه قال الثوري وأحمد ، دليلنا : انّ هذا الخيار ، إذا كان حقا للميت ، يجب أن يرثه ، مثل سائر الحقوق ، لعموم الآية ، ومن أخرج شيئا منها فعليه الدلالة ، هذا آخر كلامه رحمهالله في المسألة (٤).
ومن ذهب من أصحابنا إلى أنّها لا تورث ، لا حجة له ، وانّما يتمسّك بأخبار آحاد ضعيفة ، لا توجب علما ولا عملا ، فكيف يترك لها الأدلة ، والإجماع.
__________________
(١) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الشفعة ص ٦١٩.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها.
(٣) الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة ١٢.
(٤) الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة ٣٦.
وقد قلنا أنّه إذا زاد الشركاء على اثنين ، بطلت الشفعة ، وكذلك إذا تميّزت الحقوق ، وتحيزت وتحدّدت بالقسمة.
ومتى شهد الشفيع عقد البيع ، لم يبطل شفعته ، إذا طالب بها بعد العقد على الفور ، كما قدّمناه.
ومتى عرض البائع الشيء على صاحب الشفعة بثمن معلوم ، فلم يردّه ، فباعه من غيره بذلك الثمن ، أو زائدا عليه ، لم يكن لصاحب الشفعة المطالبة بها ، على ما روي (١) وإن باع بأقل من الذي عرض عليه ، كان له المطالبة بها.
والأولى أن يقال : إنّ على جميع الأحوال ، للشفيع المطالبة بها ، لأنّه انّما يستحقّها بعد البيع ، ولا حقّ له قبل البيع ، فإذا عفا قبله ، فما عفا عن شيء يستحقه ، فله إذا باع شريكه أخذها ، لأنّه تجدّد له حق ، فلا دليل على إسقاطه ، وقبل البيع فما أسقط شيئا يستحقه ، حتى يسقط ، فليلحظ ذلك.
وكذلك إذا كانت الدار بين شريكين ، فقال الشفيع للمشتري : اشتر نصيب شريكي ، فقد نزلت عن شفعته ، وتركتها لك ، ثمّ اشترى المشتري ذلك على هذا ، لا تسقط شفعته بذلك ، وله المطالبة ، لأنّه انّما يستحق الشفعة بعد العقد ، فإذا عفا قبل ذلك ، لم يصحّ ، لأنّه يكون قد عفا عمّا لم يجب ، ولا يملكه ، فلا يسقط حقه حين وجوبه ، وكذلك الورثة إذا عفوا عمّا زاد على الثلث في الوصيّة ، قبل موت الموصي ، ثمّ مات بعد ذلك ، فلهم الرجوع ، لمثل ما قلناه.
__________________
(١) سنن النسائي : كتاب البيوع ، الشركة في الرباع ، ج ٧ ، ص ٣٢٠ ، مستدرك الوسائل : الباب ١١ من أبواب الشفعة ، ح ١٤ ، وفي الجواهر : ج ٣٧ ، كتاب الشفعة ، ص ٤٢٩ « بل في النبوي المروي في التذكرة ، عن جابر ، عن النبي صلىاللهعليهوآله : الشفعة في كل مشترك في أرض أو ربع أو حائط ، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو بدع ، وفي الدروس وغيرها من كتب الأصحاب ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا يحل أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، فإن باع ولم يأذن فهو أحق به ، وفي الإسناد لبعض الشافعية ، وفي رواية : لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ، هذا وأوردها في ذيل الصفحة عن سنن البيهقي : ج ٦ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٩.
وعلى الصحيح من المذهب ، إذا كانت الشفعة قد وجبت للشفيع ، ولم يعلم بها حتى تقايلا ، هل للشفيع إبطال الإقالة ، وردّ المبيع إلى المشتري ، وأخذ ذلك بالشفعة أم لا؟ للشفيع ذلك ، لأنّ حق الشفعة ثبت على وجه لا يمكن ، ولا يملك المتعاقدان إسقاطه.
إذا ادّعى البائع البيع ، وأنكر المشتري ، وحلف ، فإنّ الشفعة ثابتة ، وللشفيع أخذها من البائع ، لأنّه معترف بحقين ، الواحد منهما عليه ، وهو حق الشفعة ، والآخر على المشتري ، فلا يقبل قوله على المشتري ، لأنّ الحقّ له ، وقبلنا قوله للشفيع ، لأنّه حق عليه ، هكذا أورده شيخنا في مسائل خلافه (١) ، واختاره وقوّاه ، وهو قول المزني ، وتفريعه ، وقال ابن شريح أبو العباس : لا شفعة ، لأنّها انّما تثبت بعد ثبوت بيع المشتري.
قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي تقتضيه أصول أصحابنا ، ومذهبهم ، لأنّ الشفعة لا تستحق إلا بعد ثبوت البيع ، ويستحقها ويأخذها الشفيع من المشتري دون البائع ، والبيع ما صح ولا وقع ظاهرا ، ولا يحل لحاكم أن يحكم بأنّ البيع حصل وانعقد ، فكيف يستحق الشفعة في بيع لم يثبت عند الحاكم؟ وكيف يأخذها من البائع؟ وأيضا الأصل أن لا شفعة ، فمن أثبتها يحتاج إلى دليل قاطع هاهنا في هذا الموضع ، وهذه مسألة حادثة نظرية ، لا يرجع فيها إلى قول بعض المخالفين ، بل تحتاج إلى تأمّل ، وأن ترد إلى أصل المذهب ، وما يقتضيه أصول أصحابنا ، فليلحظ ذلك.
وإذا كان الشفيع وكيلا في البيع للبائع ، أو وكيلا في الشراء للمشتري ، فإنّه يستحق الشفعة ، ولا تسقط بوكالته ، لأنّه لا مانع من وكالته لهما ، ولا دليل في الشرع يدل على سقوط حقّه من الشفعة بذلك.
__________________
(١) الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة ٣٤ ، مع اختلاف في العبارة.
إذا اشترى شقصا ، وقبض منه بالشفعة ، وظهر بعد ذلك أنّ الدنانير التي. دفعها المشتري إلى البائع ثمنا للشقص ، ليست للمشتري ، بل هي لغيره ، فإنّه لا يخلو الشراء من أن يكون بثمن معيّن ، أو بثمن في الذمّة ، فإن كان بثمن معيّن ، مثل أن يقول المشتري للبائع بعني بهذه الدنانير ، ( فالشراء لا يصح ، لأنّ الأثمان عندنا تتعين ، كالثياب فإذا كان الشراء لا يصحّ ، بطلت الشفعة ، لأنّ الشفيع انّما يملك من المشتري ، ما يملك ، ولم يملك هاهنا شيئا لأنّ البيع لم يصحّ.
وإن كان الشراء بثمن في ذمّة المشتري ، فهو والشفعة صحيحان ماضيان ، ويأخذ المستحق الثمن ، ويطالب البائع المشتري بالثمن ، لأنّ الثمن في ذمّته ، فإذا دفع إليه ما لا يملك ، لم تبرأ ذمّته ، وكان للبائع مطالبته بالثمن.
قد ذكرنا أنّه إذا أسقط البائع عن المشتري بعض الثمن ، وانحط ذلك عنه ، لا ينحط عن الشفيع ، سواء أسقطه قبل انقضاء مدّة خيار المجلس ، أو خيار الشرط ، أو بعد ذلك بغير تفصيل ، لأنّ الشفيع يأخذ الشفعة ، بما انعقد عليه العقد.
وقال بعض أصحابنا : لا يخلو من أن يكون قبل لزوم العقد ، أو بعده ، فإن كان قبل لزومه ، مثل ان حطّ عنه في مدّة خيار المجلس ، أو الشرط ، كان ذلك حطّا من حق المشتري والشفيع ، لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي يستقرّ عليه العقد ، وهذا هو الذي استقر العقد عليه ، وإن كان الحطّ بعد انقضاء الخيار ولزوم البيع وثبوته ، لم يلحق بالعقد ، ويكون هبة مجددة من البائع للمشتري.
والذي اخترناه هو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، واستدلال هذا المستدلّ ، بأنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي يستقرّ عليه العقد ، غير صحيح ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد عليه العقد ، لأنّ الحطّ هبة من البائع على كلّ حال.
إذا اختلف شريكان في دار ، ويدهما عليها ، فقال الواحد منهما للآخر : ملكي منها قديم ، وأنت مبتاع لما في يدك الآن منها ، وأنا استحقه عليك
بالشفعة ، فأنكر ذلك كان القول قول المنكر مع يمينه ، ولا يستحلف إلا على أنّه لا يستحق ذلك عليه بالشفعة ولا يستحلف على أنّه ما ابتاعه ، لأنّه يمكن أن يكون اشتراه ، ثمّ سقطت الشفعة بعد ذلك.
وإذا اشترى إنسان شقصا ، ووجد به عيبا ، وأراد ردّه على البائع ، فللشفيع منعه من ذلك ، لأنّ حق الشفيع أسبق ، لأنّه وجب بالعقد ، وحقّ الرد بالعيب بعده ، لأنّه وجب في وقت العلم بالعيب ، فإن لم يعلم الشفيع بذلك ، حتى ردّه المشتري بالعيب ، كان له إبطال الرد ، والمنع من الفسخ ، لأنّه تصرف فيما فيه إبطال الشفعة ، كما قدّمناه ، إذا تقايلا.
إذا اشترى إنسان من غيره شقصا من أرض ، أو دار بمملوك ، وقبض الشقص ، ولم يسلّم المملوك ، فللشفيع الأخذ بقيمة المملوك ، فإن قبضه ثمّ هلك المملوك قبل تسليمه إلى البائع ، بطل البيع ، ولم تبطل الشفعة في الشقص ، لأنّ الشفيع استحقها قبل موت المملوك وهلاكه ، وقبل بطلان العقد ، ولزمه للبائع قيمة الشقص وقت قبضه ، ووجب على الشفيع للمشتري قيمة المملوك في وقت البيع الذي كان فيه بيعه ، لأنّ ثمن الشقص إذا لم يكن له مثل ، وجبت القيمة فيه في وقت البيع ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، على ما قدّمناه.
وقد يوجد في أبواب الشفعة ، وفي الحديث وأيّ مال اقتسم وأرّف عليه ، فلا شفعة فيه (١) ، معنى أرّف بضم الألف ، وتشديد الراء الغير المعجمة ، أي أعلم عليه ، لأنّ الأرفة على وزن غرفة ، العلامة ، والحدّ ، وجمعها أرف ، مثل غرفة وغرف.
لا يأخذ الشفيع الشفعة من البائع ، أبدا ، لأنّه انّما يستحق الأخذ بعد تمام العقد ، ولزومه ، وإبرامه وثبوته ، بالملك حينئذ للمشتري ، فوجب أن يكون الأخذ من مالكه ، لا من غيره.
__________________
(١) الوسائل : الباب ٣ و ٤ و ٥ و ٦ من أبواب الشفعة ، فيها أحاديث بهذا المضمون.
إذا أخذ الشفيع الشقص ، فلا خيار للمشتري خيار المجلس ، بلا خلاف ، ولا خيار أيضا للشفيع ، لأنّه أخذه بالشفعة لا بالبيع ، وإلحاق ذلك بالبيع قياس.
إذا وجبت الشفعة ، وصالحه المشتري على تركها بعوض ، صحّ وبطلت الشفعة ، لأنّ الصلح جائز بين المسلمين.
إذا بلغ الشفيع أنّ الثمن دنانير ، فعفا وكان دراهم ، أو حنطة فكان شعيرا ، لم تبطل شفعته.
ذهب بعض أصحابنا بأنّ لإمام المسلمين وخلفائه ، المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين ، أو على المساجد ، ومصالح المسلمين ، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصى ، وولّى ، له أن يطالب بشفعته ، وهو اختيار السيّد المرتضى ، وذهب الأكثرون من أصحابنا إلى خلاف ذلك.
والذي ينبغي تحصيله ، أنّ الوقف إذا كان على جماعة المسلمين ، أو على جماعة ، فمتى باع صاحب الطلق ، فليس لأصحاب الوقف الشفعة ، ولا لوليّه ذلك ، لأنّ الشركاء زادوا على اثنين ، فإن كان الوقف على واحد صحّ ذلك.
باب الشركة
الشركة جائزة لقوله تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ » الآية (١) ، فجعل الغنيمة مشتركة بين الغانمين ، وبين أهل الخمس ، وجعل الخمس مشتركا بين أهله ، وقال تعالى ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » (٢) فجعل التركة مشتركة بين الورثة ، وقال تعالى « إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ » (٣) فجعل الصدقات مشتركة بين أهلها ، لأنّ اللام للتمليك ، والواو للتشريك ، وعليه إجماع المسلمين ، لأنّه لا خلاف بينهم في جواز الشركة ، وإن اختلفوا في مسائل من تفصيلها وفروعها.
__________________
(١) الأنفال : ٤١.
(٢) النساء : ١١.
(٣) التوبة : ٦٠.
فإذا ثبت هذا ، فالشركة على ثلاثة أضرب ، شركة في الأعيان ، وشركة في المنافع ، وشركة في الحقوق.
فأمّا الشركة في الأعيان ، فمن ثلاثة أوجه ، أحدها بالميراث ، والثاني بالعقد ، والثالث بالحيازة.
فأمّا الميراث فهو اشتراك الورثة في التركة.
وأمّا العقد ، فهو أن يملك جماعة عينا ببيع ، أو هبة ، أو صدقة ، أو وصية.
وأمّا الشركة بالحيازة ، فهو أن يشتركوا في الاحتطاب ، والاحتشاش ، والاصطياد ، والاستقاء بعد خلطه وحيازته ، فأمّا قبل خلطه فلا شركة عندنا بينهم ، لأنّ الشركة بالأعمال والأبدان باطلة عندنا ، لأنّها لا تصح إلا بالأموال المتجانسة المتفقة الصفات ، بعد خلطها خلطا لا يتميز.
وأمّا الاشتراك في المنافع ، فكالاشتراك في منفعة الوقف ، ومنفعة العين المستأجرة.
فأمّا الاشتراك في الحقوق ، فمثل الاشتراك في حق القصاص ، وحد القذف ، وحق خيار الرد بالعيب ، وخيار الشرط ، وحق المرافق من المشي في الطرقات ، وما أشبه ذلك ، فهذا الضرب إذا عفا أحد الشركاء كان للباقي من شركائه المطالبة بجميعه ، من غير إسقاط شيء منه ، وكذلك لو عفا الجميع إلا واحدا والأموال ، في الشركة على ثلاثة أضرب أيضا ، مال يجوز للحاكم أن يقسّم ، ويجبر الممتنع ، وضرب يجوز أن يقسّم ، ولا يجوز أن يجبر عليه ، وضرب لا يجوز أن يقسّم ، ولا ان يجبر عليه.
فأمّا ما يجوز أن يقسّم ، ويجبر الممتنع ، فكل مشترك أجزاؤه ، متساوية القيم ، ولا ضرر في قسمته.
وأمّا ما يجوز أن يقسّم ولا يجبر عليه ، فمثل أن يريدا أن يقسّما دارين.
وأمّا ما لا يجوز للحاكم أن يقسّم ولا أن يجبر عليه ، فمثل جوهرة واحدة ، أو حجر واحد ، فهذا لا يجوز لهم قسمته ، لأنّه سفه وضرر ، ولا يجوز للحاكم إذا
رضي الشركاء به أن يفعله ، لأنّه لا يجوز له أن يشاركهم في السفه ، بل الواجب عليه المنع لهم منه.
وإذا كانت دار ، هي وقف على جماعة ، أو غير الدار ، وأرادوا قسمتها ، لم يجز لهم ، لأنّ الحقّ لهم ولمن بعدهم ، إذا كانت على الأعقاب ، فلا يجوز لهم تمييز حقوق غيرهم.
وإذا كانت نصفها طلقا ، ونصفها وقفا ، فطلب صاحب الطلق المقاسمة ، فعندنا يجوز ذلك ، لأنّ القسمة عندنا ليست ببيع ، ومن قال أنّها بيع ، وهو الشافعي ، فلا يجوّز قسمة ذلك ، لأنّ بيع الوقف لا يجوز.
وقد قلنا أنّ من شرط صحة الشركة أن تكون في مالين متجانسين ، متفقي الصفتين ، إذا خلطا ، اشتبه أحدهما بالآخر ، وأن يخلطا حتى يصيرا مالا واحدا ، وأن يحصل الإذن في التصرّف في ذلك ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك كلّه.
وأيضا فلا خلاف في انعقاد الشركة بتكامل ما ذكرناه ، وليس على انعقادها مع عدمه ، أو اختلال بعضه دليل.
وهذه الشركة التي تسميها الفقهاء شركة العنان بالعين المكسورة ، الغير المعجمة ، والنون المفتوحة ، قال الجوهري في كتاب الصحاح : وشركة العنان ، أن يشتركا في شيء خاص ، دون سائر أموالهما ، كأنّه عنّ لهما شيء ، فاشترياه ، مشتركين فيه قال النابغة الجعدي :
وشاركنا قريشا في تقاها |
|
وفي أحسابها شرك العنان (١) |
وعلى ما قلناه ، وأصّلناه ، لا يصح شركة المفاوضة ، وهي أن يشتركا في كل ما لهما وعليهما ، وما لا هما متميزان ، ولا شركة الأبدان ، وهي الاشتراك في اجرة العمل ، ولا شركة الوجوه ، وهي أن يشتركا على أن يتصرّف كل واحد منهما
__________________
(١) الصحاح : ج ٦ ، ص ٢١٦٦ ، مادة ( عنن ).
بجاهه ، لا برأس مال ، على أن يكون ما يحصل من فائدة ، بينهما.
والذي يدلّ على فساد ذلك كلّه ، نهيه عليهالسلام عن الغرر (١) وفي هذه غرر عظيم ، وهو حاصل وداخل فيها ، لأنّ كل واحد من الشريكين لا يعلم أيكسب الآخر شيئا أم لا؟ ولا يعلم مقدار ما يكسبه ، ويدخل في شركة المفاوضة ، على أن يشاركه فيما يلزمه بعدوان ، وغصب ، وضمان ، وذلك غرر عظيم ، وإجماعنا منعقد على فساد ذلك أجمع.
وإذا انعقدت الشركة الشرعيّة ، اقتضت أن يكون لكلّ واحد من الشريكين ، من الربح بمقدار رأس ماله ، وعليه من الوضيعة بحسب ذلك ، فإن شرطا تفاضلا في الربح ، أو الوضيعة ، مع التساوي في رأس المال ، أو تساويا في ذلك ، مع التفاضل في رأس المال ، لم يلزم الشرط على الصحيح من أقوال أصحابنا ، والأكثرين من المحصّلين ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر.
وقال المرتضى ، في انتصاره : الشرط جائز لازم ، والشركة صحيحة (٢).
وما اخترناه هو الصحيح ، والذي يبطل ما خالفه ، أنّ هذا ليس بإجارة ، فيلزمه الأجرة ، ولا مضاربة ، فيلزمه إعطاء ما شرطه ، لأنّ حقيقة المضاربة.
من ربّ المال المال ، ومن العامل العمل ، وهذا ما عمل ، فلا وجه لاستحقاقه الفاضل على رأس ماله.
__________________
(١) الدعائم : ج ٢ ، ص ٢١ ، وفيه : « نهى عن بيع الغرر ». وفي سنن أبي داود : كتاب البيوع الباب ٢٥ ( الرقم ٣٣٧٦ ) : « انّ النبيّ صلىاللهعليهوآله نهى عن بيع الغرر ». ومثله في سنن البيهقي : كتاب البيوع ، باب النهي عن بيع الغرر ، ج ٥ ، ص ٣٣٨ ، وفي مستدرك الوسائل : الباب ٧ من أبواب نقد البيع وشروطه ، عن دعائم الإسلام ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام واللبن في الضرع والصوف في ظهور الغنم ، قال : هذا كلّه لا يجوز ، لأنّه مجهول غير معروف يقل ويكثر ، وهو غرر ». راجع ذيل ص ٤٥٩.
(٢) الانتصار : كتاب في مسائل شتّى في الهبات والإجارة والوقوف والشركة ، المسألة ٥ ، والعبارة منقولة بالمعنى.