الثلاثة الأيام ، قبل أن يحدث المبتاع فيه حدثا يدل على الرضا بمجرى العادة ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع ، وإن هلك بعد احداثه الحدث ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع.
وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أنه متى كان الخيار في ابتياع الحيوان ، من جهة المبتاع ، باشتراط الزمان الذي لم يجعله الشارع ، بمجرّد العقد ، بل هو اشتراط على البائع ، وهلك الحيوان في ذلك الزمان ، قبل تصرّف المشتري فيه ، التصرّف المقدّم ذكره ، فإنّ هلاكه يكون من مال بايعه ، ويرجع المشتري بالثمن جميعه ، ومتى كان الخيار للمشتري ، خيار الثلاث التي جعلها الشارع له ، بمجرّد العقد ، ولم يحدث فيه حدثا ، وهلك ، فإنّه يهلك من مال بائعه أيضا ، فإن مات بعد الثلاث ، ولم يحدث المشتري فيه حدثا ، يكون موته وهلاكه من مال مشتريه ، دون بايعه ، فإن كان فيه عيب وقت البيع ، رجع المشتري على البائع ، بأرش ذلك العيب فحسب إلّا (١) الجارية المبتاعة ، التي يكون (٢) عيبها من حمل بها ، فإن مشتريها يردّها ، وإن كان قد وطأها ، فإن هلكت قبل ردها ، وبعد وطئها ، فإنّها تهلك من مال مشتريها ، دون بائعها ، وله الأرش على بائعها فحسب.
وترد المضراة من الإبل ، والبقر ، والغنم ، فحسب ، مع التصرّف فيها ، بالحلب ، وإن جاز الثلاثة الأيام ، إذا لم يعلم المشتري بالتصرية ، إلا بعد الثلاث ، فإنّه يردّها ، وإن جازت الثلاث.
قال شيخنا في نهايته : ومتى اشترى الإنسان شيئا من المتاع ، بخيار مدّة من الزمان ، ثم أراد بيعه ، والتصرّف فيه ، قبل مضيّ ذلك الوقت ، فليوجب البيع على نفسه ، ثم يتصرّف فيه ، فإن أوجب البيع على نفسه ، ثمّ لم يتصرّف وأراد ردّه ، لم يكن له ذلك على حال (٣).
__________________
(١) ج : العيب الّا.
(٢) ل : التي يكون بها.
(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
قال محمّد بن إدريس : قوله رحمهالله « فليوجب البيع على نفسه ثمّ يتصرّف » لا حاجة فيه ، ولا وجه له ، بل بنفس ، تصرفه ، يبطل خياره ، لأنّا قد بينّا فيما مضى ، أنّ تصرّف المشتري في مدّة الخيار ، لزوم للعقد ، وإبطال لخيرته ، وتصرّف البائع في مدة خياره ، فسخ للعقد ، فعلى هذا ، متى تصرّف فيه ، بطل خياره.
وقال شيخنا في نهايته : ومن اشترى شاة ، وحبسها ثلاثة أيام ، ثم أراد ردّها ، فإن كان شرب لبنها في هذه الثلاثة الأيام ، لزمه أن يردّ معها ثلاثة أمداد من طعام ، وإن لم يكن لها لبن ، لم يكن عليه شيء (١).
قال محمد بن إدريس : هذا لا يصحّ على إطلاقه في كلّ شاة تشترى ، بل في المصراة فحسب ، لأنّ غير المصراة ، متى حلب اللبن ، فقد تصرّف ، ومتى تصرف ، بطل خياره ، ولا يجوز له الرد ، فأمّا إن كانت مصراة ، وكان اللبن قائم العين ، ردّه بحاله ، وإن كان تالفا ، ردّ مثله ، لأنّه يضمن بالمثلية ، ولا يجب عليه ردّ ما قاله من الأمداد بحال ، وهذا مذهب شيخنا المفيد رحمهالله ، والذي تقضيه أصول المذهب.
وإذا باع الإنسان ما لا يصح عليه البقاء ، من الخضر ، وغيرها ، ولم يقبض المتاع ، ولا قبض الثمن ، ولا كان بيع النسية ، كان الخيار فيه يوما فإن جاء المبتاع بالثمن في ذلك اليوم ، وإلا فصاحبه بالخيار ، بين أن يفسخ البيع ، وبين مطالبة مشتريه بالثمن ، فإن هلك في مدّة اليوم ، فهو من ضمان بايعه ، كما قدّمنا ذلك في غير الحضر.
وإذا اختلف البائع والمشتري في ثمن المبيع ، وكان الشيء قائما بعينه ، كان القول قول البائع ، مع يمينه بالله ، وإن لم يكن قائما بعينه ، كان القول قول المبتاع ، مع يمينه بالله تعالى.
وقال بعض أصحابنا ، وهو أبو علي بن الجنيد ، وأبو صلاح ، صاحب
__________________
(١) لم نعثر عليه في النهاية.
كتاب الكافي ، في كتابه ، وغيرهما من أصحابنا : إن كان الشيء في يد بايعه فالقول قوله مع يمينه في ثمنه ، وإن كان في يد مشتريه ، فالقول قول المشتري ، واحتج لذلك ، بأنّه إذا كان في يد بايعه بعد ، فالمشتري يريد انتزاعه من يده ، فالقول قول من ينتزع الشيء من يده ، وإن كان في يد مشتريه فصاحبه يعني بائعه ، يدّعي زيادة على ما أقرّ به المشتري ، فلا تقبل دعواه ، إلا ببينة.
والآخر من أصحابنا ، لم يفرّق بهذا الفرق ، بل قال : متى كانت العين قائمة باقية ، فالقول قول البائع في مقدار الثمن ، مع يمينه ، سواء كانت العين في يد بائعه ، أو مشتريه ، فأما إذا اختلف ورثة البائع والمشتري ، في قدر الثمن ، فلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ القول قول ورثة المشتري ، في قدره ، سواء كانت العين قائمة ، أو تالفة ، لأنّ حمل هذا على ذاك قياس ، ولو لا ما بيّناه ، لما جاز ذلك ، وقول ابن الجنيد قوي ، لأنّ إجماع الأمة منعقد على أنّ على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين ، ولا خلاف أنّ البائع مدّع ، في الحالين ، فأمّا إذا كان الشيء في يده ، فالمشتري يدّعي انتزاعه من يده ، فيكون القول قول البائع هاهنا ، لأنّه مدّعى عليه ، وإطلاق قول الآخر من أصحابنا ، يخص بالأدلة ، لأنّ العموم قد يخصّ بالدليل ، وشيخنا أورد في تفصيل ذلك ، خبر واحد مرسلا ، في تهذيب الأحكام (١) لم يورد غيره ، وأخبار الآحاد المسانيد ، لا توجب علما ولا عملا ، فكيف الآحاد المراسيل ، ويمكن حمله على ما قاله ابن الجنيد ، وغيره من أصحابنا ، وحررناه نحن ، واخترناه ، لما قدّمناه ، من قيام الأدلة بمقتضاه ، ولم يذهب إلى القول الأول ، سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمهالله ، ومن اتبعه ، وقلده ، في تصنيفه.
ثمّ انّه استدل في مسائل خلافه ، بإجماع الفرقة والأخبار (٢).
__________________
(١) التهذيب : ج ٧ ، باب عقود البيع ، الحديث ٢٦ / ١٠٩.
(٢) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٢٣٦.
ومن أجمع معه ، وأي أخبار وردت له ، وانّما هو خبر واحد مرسل.
ثم لما ضاق عليه الكلام مع الخصم ، تأوّل ، وخصّص ، وقال : لو خلينا ، لقلنا بذلك ، ولكن روي عن أئمتنا ، عليهمالسلام ، أنّهم قالوا : القول قول البائع ، فحملناه على أنّه إذا كان مع بقاء السلعة ، فإذا ساغ له حمله ، ساغ لنا ما اخترناه.
وإذا اشترى الإنسان ضياعا أو عقارا ، بحدودها ووصفها ، من غير أن يعاينها ، كان البيع ماضيا ، إلا أنّ له شرط خيار الرؤية ، وقد قدّمنا أحكام ذلك فيما مضى وحرّرناه.
وإذا مات المشترط في السلعة ، ومن له الخيار ، قام ورثته مقامه ، في المطالبة بذلك الشرط.
وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ومن اشترى جارية ، وعدّلها عند (١) إنسان ليستبري رحمها ، كانت النفقة في مدة حال الاستبراء على بائعها ، دون المبتاع ، فإن هلكت في مدة الاستبراء ، كانت من مال البائع ، دون مال المبتاع ، ما لم يحدث فيها حدثا ، حسب ما قدّمناه ، فإن أحدث فيها حدثا ، ثم هلكت ، كانت من ماله ، دون مال البائع (٢).
وقال رحمهالله في مبسوطة : الاستبراء في الجارية ، واجب على البائع والمشتري معا ، والاستبراء يكون بقرء واحد ، وهو الطهر ، ولا يجوز للمشتري وطؤها قبل الاستبراء ، في الفرج ، ولا في غيره ، ولا لمسها بشهوة ، ولا قبلتها ، ويلزم الاستبراء المشتري بعد قبضها ، ولا يعتد بما قبل ذلك ، ويكون زمان الاستبراء عنده ، سواء كانت حسناء ، أو قبيحة ، ولا يلزم أن تكون عند غيره ، فإن جعل ذلك عند من يثق به ، كان جائزا ، فإن اشتراها ، وهي حائض ، فطهرت ، جاز أن يعتد بذلك الحيض ، ويكفيها ذلك (٣).
ومتى باعها بشرط المواضعة ، لم يبطل البيع ، وإن باعها مطلقا ، ثم اتفقا على
__________________
(١) وفي المصدر : وعزلها عند إنسان.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
(٣) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في أنّ الخراج بالضمان ، ص ١٤٠.
المواضعة ، جاز أيضا ، فإن هلكت ، أو عابت ، نظر ، فإن كان المشتري قبضها ثم جعلت عند عدل ، فالعدل وكيل المشتري ، ويده كيده ، إن هلكت ، فمن ضمان المشتري ، وإن عابت فلا خيار له ، وإن كان البائع سلمها إلى العدل ، قبل القبض ، فهلكت في يده ، بطل البيع ، وإن عابت ، كان المشتري بالخيار (١).
قال محمّد بن إدريس وهذا الذي ذكره في معنى المواضعة والهلاك ، وهل قبضها أو لم يقبضها ، هو الصحيح ، ومسألة النهاية ، لا تصح إلا على هذا التحرير ، وإلا إذا تسلمها المشتري ، واستبرأها في يده ، بعد قبضها ، فمتى هلكت قبل مضى الثلاثة الأيام ، وقبل التصرّف فيها ، فإنّها تهلك من مال بائعها ، دون مشتريها ، وإن هلكت بعد مضي الثلاثة الأيام ، التي هي شرط في الحيوان ، أو بعد التصرّف فيها ، فإنّها تهلك من مال المشتري ، بغير خلاف ، للإجماع المنعقد من أصحابنا ، أنّ الحيوان إذا هلك في مدة الثلاثة الأيّام ، قبل تصرّف المشتري فيه ، فإنه يهلك من مال بائعه ، فإن هلك بعد ذلك ، فمن مال المشتري ، فعلى هذا يجب أن يكون الفتوى والعمل.
وقال رحمهالله في نهايته : ومن اشترى شيئا بحكم نفسه ، ولم يذكر الثمن بعينه ، كان البيع باطلا فإن هلك الشيء في يد المبتاع ، كان عليه قيمته يوم ابتاعه ، هكذا قال شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢).
والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ الشيء المبيع ، إن كان له مثل ، فعليه مثله ، لا قيمته ، وإن أعوز المثل ، فعليه ثمن المثل ، يوم الإعواز ، وإن كان المبيع ممّا لا مثل له ، فإنّه يجب عليه قيمته ، أكثر ما كانت إلى يوم الهلاك ، لأنّ هذا بيع فاسد ، والبيع الفاسد عند المحصّلين ، يجري مجرى الغصب ، في الضمان.
وان كان الشيء قائما بعينه ، كان لصاحبه ، انتزاعه من يد المبتاع ، فإن
__________________
(١) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في أنّ الخراج بالضمان ، ص ١٤٠.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
أحدث المبتاع فيه حدثا ، نقص به ثمنه ، كان له انتزاعه منه ، وأرش ما أحدث فيه ، فإن كان الحدث يزيد في قيمته ، وأراد انتزاعه من يده ، كان عليه أن يرد على المبتاع ، قيمة الزيادة بحدثه فيه ، هكذا قال شيخنا في نهايته (١).
والأولى أن يقسم الحدث ، فتقول : إن كان آثار أفعال ، لا أعيان أموال ، فلا يرد على المبتاع شيء ، وإن كان الحدث أعيان أموال ، فهو على ما قال رحمهالله.
فإن ابتاعه بحكم البائع في ثمنه ، فحكم بأقلّ من قيمته ، كان ذلك ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وإن حكم بأكثر من قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع ، إلا أن يتبرّع المبتاع بالتزام ذلك على نفسه ، فإن لم يفعل ، لم يكن عليه شيء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٢).
والأولى أن يقال : البيع باطل ، لأنّ كل مبيع لم يذكر فيه الثمن ، يكون باطلا ، بلا خلاف بين المسلمين ، فإذا كان كذلك ، فإن كان باقيا بعينه ، فللبائع انتزاعه من يد المشتري ، وإن كان تالفا ، وتحاكما ، فلصاحبه مثله ، إن كان له مثل ، وإن كان لا مثل له ، فله قيمته أكثر القيم إلى يوم الهلاك ، لا قيمته في حال البيع ، فإن أقرّ البائع بشيء ، لزمه إقراره على نفسه ، فيحكم عليه بإقراره على نفسه ، إلا أن يقرّ بأزيد من قيمته التي يوجبها الشارع ، وإنّما هذه أخبار آحاد ، أوردها في نهايته ، إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما تكرّرت الإشارة في ذلك.
ومن ابتاع شيئا بدراهم ، أو دنانير ، وذكر النقد بعينه ، كان له من النقد ما شرط ، فإن لم يذكر نقدا بعينه ، كان له ما يجوز بين الناس في الغالب ، فإن اختلفا في الشرط والذكر ، فالقول قول البائع ، مع بقاء السلعة ، لإجماع الطائفة ، لأنهما (٣) إذا اختلفا في الثمن ، كان القول قول البائع ، مع بقاء السلعة والقول قول المشتري مع عدمها.
__________________
(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
(٣) ج : أنهما.
باب البيع بالنقد والنسية والمرابحة
من باع شيئا بنقد ، كان الثمن عاجلا ، وإن باعه ، ولم يذكر لا نقدا ولا نسية ، كان الثمن أيضا عاجلا ، فإن ذكر أن يكون الثمن آجلا ، كان على ما ذكر ، بعد أن يكون الأجل معيّنا ، محروسا بالسنين ، والأعوام ، أو الشهور ، والأيّام ، ولا يجوز أن يكون مجهولا ، ولا آجلا غير محروس ، من الزيادة والنقصان ، مثل قدوم الحاج ، ودخول القوافل ، وإدراك الغلات ، وما أشبه ذلك ، فإن ذكر شيئا من هذه الأوقات ، كان البيع باطلا في نفسه ، فإن ذكر المتاع بأجلين ونقدين مختلفين ، بأن يقول : ثمن هذا المتاع كذا عاجلا ، وكذا آجلا ، ثم أمضى البيع ، كان له أقل الثمنين ، وأبعد الأجلين هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).
والصحيح من المذهب ، أنّ هذا البيع باطل ، لأنّ الثمن مجهول في حال العقد ، وكل بيع كان الثمن مجهولا في حال عقده ، فهو باطل بغير خلاف ، بين الأمة ، وسلّار من أصحابنا يذهب إلى ما اخترناه ، في رسالته (٢).
وشيخنا أبو جعفر ، قد رجع في مبسوطة ، عمّا أورده في نهايته ، واستدل على فساده ، بأن قال : فإنّ هذا لا يجوز لأن الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع (٣).
وما أورده في نهايته ، فهو خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، أورده إيرادا لا اعتقادا.
ومتى باع الشيء بأجل ، ثم حضر الأجل ، ولم يكن مع المشتري ما يعطيه إيّاه ، جاز له أن يأخذ منه ، ما كان باعه إيّاه ، بيعا صحيحا بزيادة ممّا كان باعه إيّاه ، أو نقيصة منه ، لأنّه مال من أموال البائع بمهما شاء باعه.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أخذه بنقصان ممّا باع ، لم يكن ذلك
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
(٢) المراسم : كتاب المكاسب ، ذكر البيع بالنسيئة.
(٣) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص ١٥٩.
صحيحا ، ولزمه ثمنه الذي كان أعطاه به ، ثمّ قال رحمهالله وإن أخذ من المبتاع متاعا آخر بقيمته في الحال ، لم يكن بذلك بأس (١).
والأول هو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ الله تعالى قال : « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه يحتاج إلى دليل ، ولن يجده ، ولا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، وما أورده وذكره شيخنا في نهايته ، خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا.
وإذا باع شيئا إلى أجل ، وأحضر المبتاع الثمن ، قبل حلول الأجل ، كان البائع بالخيار ، بين قبض الثمن ، وبين تركه (٢) إلى حلول الأجل ، ويكون في ذمة المبتاع ، فإن حلّ الأجل ، وجاء المبتاع بالثمن ، ومكّنه منه ، ولم يقبض البائع ، ثم هلك الثمن ، كان من مال البائع ، دون المبتاع.
وكذلك إن اشترى شيئا إلى أجل ، وأحضر البائع المبيع قبل حلول الأجل ، كان المبتاع مخيّرا ، بين أخذه وتركه ، فإن هلك قبل حلول الأجل ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع ، فإن حلّ الأجل ، وأحضر البائع المتاع ، ومكّن المبتاع من قبضه ، فامتنع من قبضه ، ثمّ هلك المتاع ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٣).
والأولى في المسألتين معا ، أنّه إذا امتنع الممتنع من قبض دينه ، وحقه ، وماله ، بعد حلوله ، واستحقاقه ، وتمكينه منه ، وأفراده ، أن يرفع أمره إلى الحاكم ، ويطالبه بقبضه ، أو إبرائه ممّا له عليه ، فإن لم يفعل ، ولم يجب إلى إحدى الخصلتين ، تسلّمه الحاكم ممن هو عليه ، وجعله في بيت المال ، ليحفظه على صاحبه ، ولا يجوز للحاكم أن يجبره على البراءة له ، ولا على قبضه ، لأنّ الحاكم منصوب للحق ، وإزالة الضرر غير المستحق ، ولا دليل على وجوب
__________________
(١) و (٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
(٢) ج : وتركه
اشتغال ذمة من عليه الحق بحفاظه ، أو بارتهانها (١) مشغولة بالدين ، يعني ذمة من عليه ، والرسول عليهالسلام قال : لا ضرر ولا ضرار (٢) وكل من تأبّى (٣) من الحق ، فالحاكم يجبره عليه ، ويقوم مقامه في استيفاء ما عليه ، وأخذ ما كان يجب عليه أخذه ، وحفاظ ماله.
وإلى هذا وأمثاله يذهب شيخنا الطوسي أبو جعفر ، في مبسوطة ، وقال الحاكم يقبضه ، ويحفظه ، ويجعله في بيت المال ، لصاحبه ، محفوظا عنده ، محوطا عليه (٤).
ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا حاضرا إلى أجل ، ثمّ يبتاعه منه في الحال ، ويزن الثمن بزيادة ممّا باعه ، أو نقصان ، وإن اشتراه منه نسية أيضا ، كان جائزا ، ولا يجوز تأخير الثمن عن وقت وجوبه بزيادة فيه (٥) ، ولا بأس بتعجيله بنقصان شيء منه ، بغير خلاف بين أصحابنا ، فإن اتفقا على تأجيل ما قد حلّ ، فإنه لا يصير مؤجلا ، ويجوز لمن أجله أن يطالب به في الحال ، سواء كان ذلك ثمنا ، أو أجرة ، أو صداقا ، أو كان قراضا (٦) ، أو أرش جناية ، بغير خلاف بين أصحابنا.
وشيخنا أبو جعفر ، قد ذكر ذلك في مسائل خلافه (٧) ، وأشبع القول فيه ، واستدل بإجماع الفرقة على صحته.
ويكره الاستحطاط من الأثمان بعد انعقاد العقد ، سواء نقل المتاع ، أو لم ينقل ، افترقا من المجلس ، أو لم يفترقا ، وليس ذلك بمحظور.
وقال شيخنا في نهايته : وكل شيء يصح بيعه قبل القبض ، صح أيضا الشركة فيه (٨).
يريد بذلك أنّ بيع السلف قبل قبضه ، لا يجوز على غير من هو عليه ، ولا
__________________
(١) ج : بأنها.
(٢) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، ح ٣
(٣) ج : يأبى.
(٤) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، فصل في امتناع ذي الحق من أخذه .. ص ١٩٠ ، باختلاف يسير
(٥) ج : تأخير الثمن وقت وجوبه بزيادة.
(٦) ج : قرضا ، وهو الظاهر
(٧) الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة ٢٣٠.
(٨) النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
يجوز الشركة فيه ، ومراده بالشركة ، أن يبيعه نصفه مشاعا غير مقسوم.
وقال رحمهالله في نهايته : ولا بأس بابتياع جميع الأشياء حالا ، وإن لم يكن حاضرا في الحال ، إذا كان الشيء موجودا في الوقت ، أو يمكن وجوده ، ولا يجوز أن يشتري حالا ، ما لا يمكن وجوده في الحال ، مثال ذلك ، أن يشتري الفواكه حالة ، في غير أوقاتها ، فإنّ ذلك لا يمكن تحصيله ، فأمّا ما يمكن تحصيله ، فلا بأس به ، مثل الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والثياب ، وغير ذلك ، وإن لم يكن عند بائعه في الحال (١).
قال محمّد بن إدريس : هذا خبر واحد ، أورده شيخنا في تهذيب الأحكام (٢) ، عن ابن سنان ، لا يجوز أن يعمل به ، ولا يلتفت إليه ، ولا يعول عليه ، لأنّا قد بيّنا انّ البيع على ضربين ، بيوع الأعيان ، وبيوع السلم ، وهو ما في الذمة ، ولا يصح إلا أن يكون مؤجلا ، موصوفا ، على ما تقدّم شرحنا له ، فأمّا بيوع الأعيان ، فتنقسم إلى قسمين ، أحدهما بيع عين مرئية مشاهدة ، والقسم الآخر بيع عين غير حاضرة موصوفة ، وهذا البيع ، هو المسمى بيع خيار الرؤية وما أورده ، خارج عن هذه البيوع ، لا مشاهد ، ولا موصوف بوصف يقوم مقام المشاهدة ، فدخل في بيع الغرر ، والنبي عليهالسلام نهى عن بيع الغرر (٣) ونهى عليهالسلام ، عن بيع ما ليس عند الإنسان ولا في ملكه (٤) إلا ما أخرجه الدليل من بيع السلم.
وأيضا البيع حكم شرعي ، يحتاج في إثباته ، إلى دليل شرعي ، ولا نرجع عن الأمور المعلومة بالدلالة القاهرة ، بالأمور المظنونة ، وأخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملاً.
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
(٢) التهذيب : كتاب التجارات باب بيع المضمون ، ح ٧٨ وفي الوسائل : الباب ٨ من أبواب أحكام العقود ، ح ٢.
(٣) الوسائل : الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، ح ٣.
(٤) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب عقد البيع ، ح ١٢.
ومن اشترى شيئا بنسية ، فلا يبيعه مرابحة ، فإن باعه كذلك ، كان للمبتاع من الأجل ، مثل ماله ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (١).
والأولى عندي ، أن يكون المشتري بالخيار ، بين ردّه وإمساكه بالثمن ، من غير أن يكون له من الأجل مثل ماله ، لأنّه ليس عليه دليل فيرجع إليه ، وانّما هو خبر واحد ، وضعه في كتابه ، ورجع عنه في مبسوطة (٢).
وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا يجوز أن يبيع الإنسان ، متاعا مرابحة بالنسبة ، إلى أصل المال ، بأن يقول : أبيعك هذا المتاع ، بربح عشرة ، واحدا أو اثنين ، بل يقول بدلا من ذلك : هذا المتاع علي بكذا ، وأبيعك إيّاه بكذا ، بما أراد (٣).
وقال في مسائل الخلاف : يكره بيع المرابحة ، بالنسبة إلى أصل المال ، وصورته أن يقول : بعتك برأس مال ، وربح درهم ، على كل عشرة ، وليس ذلك بمفسد للبيع (٤).
وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : ولا يجوز أن يبيع الإنسان شيئا مرابحة ، مذكورة بالنسبة إلى أصل المال ، كقولهم : أبيعك هذا المتاع بربح العشرة ، واحدا ، أو اثنين ، وما أشبه ذلك ، ولا بأس أن يقول ثمن هذا المتاع عليّ كذا ، وأبيعك إيّاه بكذا ، فيذكر أصل المال والربح ، ولا يجعل لكل عشرة منه شيئا (٥).
قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى عندي ، وأفتي به ، أنّ بيع المرابحة ، مكروه غير محظور ، وأنّ البيع صحيح ، غير باطل ، وهو الذي ذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه ، ومبسوطة ، لأنّ بطلانه يحتاج إلى دليل ، والله تعالى قال « أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بغير خلاف ، فمن أبطله يحتاج إلى دليل ، وما ورد في ذلك من الأخبار فحمله على الكراهة هو الأولى.
إلا أنّ جملة الأمر ، وعقد الباب ، أن المكروه من بيع المرابحة ، أن يكون
__________________
(١) و (٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، بيع المرابحة وأحكامها ، ص ١٤٢.
(٤) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٢٢٣.
(٥) المقنعة : أبواب المكاسب باب بيع المرابحة ص ٦٠٥.
الربح محمولا على المال ، ولا بأس أن يكون الربح محمولا على المتاع ، مثال ذلك ، أن يقول : هذا المبيع ، اشتريته بمائة دينار ، ويذكر نقدها ، وبعتك إيّاه بمائة وعشرة دنانير ، فهذا لا مكروه ، ولا محظور على القولين معا ، لأنّ الربح هاهنا محمول على المتاع ، فأمّا المكروه على الصحيح من المذهب ، على ما اخترناه ، أو المحظور على القول الآخر ، فمثاله أن يقول : هذا المبيع اشتريته بمائة دينار ، ويذكر نقدها ، وبعتك إيّاه بمائة ، وبربح كل عشرة دينارا (١) فهذا هو المكروه أو المحظور ، لأنّ الربح هاهنا محمول على المال ، الذي هو الثمن ، فهذا معنى قول الفقهاء بالنسبة « بالنون والسين والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة » إلى أصل المال ، لأنّه حمل الربح على الثمن ، ونسبه إليه ، بقوله : كل عشرة من المائة دينار (٢) ، فصار جميع الثمن مائة وعشرة دنانير ، لأنّ الربح منسوب إلى عقود المائة ، وهي عشرة عقود ، فصار الربح عشرة دنانير ، فليتأمّل ذلك ، ويلحظ ، فهو حقيقة القول في هذه المسألة ، أعني بيع المرابحة.
وإذا اشترى سلعتين بثمن واحد ، فإنّه لا يجوز أن يبيع إحداهما مرابحة ، ويقسّم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ، لأنّ تقويمه ، ليس هو الذي انعقد البيع عليه ، فلا يجوز أن يخبر بذلك الشّراء الذي قومه مع نفسه ، لأنّه كذب.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة ، بثمن معلوم ، ثم قوّم كل ثوب منها على حدة مع نفسه ، لم يجز ان يخبر بذلك الشّراء ولا أن يبيعه مرابحة ، إلا بعد أن يبيّن له (٣) انّما قوّم ذلك كذلك (٤).
قال محمّد بن إدريس ، رحمهالله : هذا هو ليس بيع المرابحة ، لأنّ بيع المرابحة موضوعه في الشرع ، أن يخبر بالثمن الذي اشتراه به ، وهذا ليس كذلك.
وإذا اشترى الإنسان متاعا ، جاز أن يبيعه في الحال ، وإن لم يقبضه ، إذا
__________________
(١) ج : بمائة دينار وبربح كل عشرة دينار.
(٢) ج : من المائة دينارا.
(٣) ل. ق : يبين أنّه.
(٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
كان معيّنا ، ويكون قبض المبتاع الثاني قبضا عنه.
وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة ، فلا يجوز أن يبيع خيارها مرابحة ، لأنّ ذلك لا يتميز ، وهو مجهول.
وإذا باع الإنسان المتاع مرابحة ، فلا بدّ أن يذكر النقد الذي وزنه ، وكيفية الصرف في يوم وزن المال ، وليس عليه شيء من ذلك إذا باعه مساومة.
ولا يجوز بيع المتاع في أعدال محزومة ، وجرب مشدودة ، إلا أن يكون له بارنامج ، يوقفه منه على صفة المتاع ، في ألوانه ، وأقداره ، وصفاته ، فإذا كان كذلك ، جاز بيعه ، فإذا نظر إليه المبتاع ، ورآه موافقا لما وصف له ، وذكر ، كان البيع ماضيا ، وإن كان بخلاف ذلك ، كان البيع مردودا إن اختار المشتري ، وإن رضي به فله ذلك ، لأنّ له الخيار ، وانّما لم يجز هذا البيع ، إلا أن يكون له بارنامج ، لأنّ هذا بيع خيار الرؤية ، وهذا البيع من شرط صحّته ذكر الجنس والصفة ، لأنّه غير مشاهد ، فتقوم الصفة في هذا البيع مقام المشاهدة.
والبارنامج كلمة فارسية معناها أنّ الفرس تسمّي المحمول « بار » قلّ أم كثر ، والنامج بالفارسيّة « نامه » وتفسيره الكتاب ، لمعرفة ما في المحمول ، من العدد ، والوزن ، فأعربوه بالجيم ، فأمّا قولهم : الرّوزنامج ، ومعنى الرّوز بالفارسيّة : اسم اليوم ، والنامج : نامه ، وهو الكتاب ، فكأنّهم عنوا به كتاب كلّ يوم ، فأعربوه بالجيم ، فهذا حقيقة هاتين الكلمتين بالفارسيّة ، ذكر ذلك أصحاب التواريخ ، مثل محمّد بن جرير الطبري ، وغيره.
ومن أمر غيره أن يبتاع له متاعا ، وينقد من عنده الثمن عنه ، فاشتراه ، ونقد عنه ثمنه ، ثمّ سرق المتاع ، أو هلك من غير تفريط ، من المأمور ، كان من مال الآمر ، دون المأمور.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا قوّم التاجر ، متاعا على الواسطة بشيء معلوم ، وقال له : بعه ، فما زدت على رأس المال ، فهو لك ، والقيمة لي ،
كان ذلك جائزا ، وإن لم يواجبه البيع (١) فإن باع الواسطة المتاع ، بزيادة على ما قوم عليه ، كان له وإن باعه برأس المال ، لم يكن له على التاجر شيء ، وإن باعه بأقل من ذلك ، كان ضامنا لتمام القيمة ، فإن ردّ المتاع ، ولم يبعه ، لم يكن للتاجر الامتناع من أخذه ، وقال رحمهالله : ومتى أخذ الواسطة ، المتاع على ما ذكرناه ، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضل على القيمة في الشراء (٢).
قال محمّد بن إدريس : ما أورده شيخنا ، غير واضح ، ولا مستقيم ، على أصول مذهبنا ، لأنّ هذا جميعه لا بيع المرابحة ، ولا إجارة ، ولا جعالة محققة ، فإذا باع الواسطة بزيادة على ما قوم عليه ، لم يكن للواسطة في الزيادة شيء ، لأنّها من جملة ثمن المتاع ، والمتاع للتاجر ، ما انتقل عن ملكه بحال ، وللواسطة أجرة المثل ، لأنّه لم يسلّم له العوض ، فيرجع الى المعوّض ، وكذلك إن باعه برأس المال ، وإن باعه بأقل ممّا أمره به ، كان المبيع باطلا فإن تلف المبيع ، كان الواسطة ضامنا.
وقوله رحمهالله : « ومتى أخذ الواسطة المتاع على ما ذكرناه ، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضل على القيمة في الشراء » قال محمّد بن إدريس : وأيّ شراء جرى بين التاجر وبين الواسطة ، حتى يخبر بالثمن ، وليس هذا موضوع بيع المرابحة في الشريعة ، بغير خلاف ، وانّما أورده أخبار الآحاد ، في هذا الكتاب إيرادا ، لا اعتقادا على ما وردت عليه بألفاظها ، صحيحة ، كانت أو فاسدة ، على ما ذكره واعتذر به ، في خطبة مبسوطة ، على ما قدّمنا القول فيه ، في صدر كتابنا هذا.
يزيد ذلك بيانا ، ما أورده في نهايته ، بعد هذه المسألة ، بلا فصل ، قال رحمهالله : وإذا قال الواسطة للتاجر ، خبرني بثمن هذا المتاع ، واربح عليّ فيه كذا وكذا ، ففعل التاجر ذلك ، غير أنّه لم يواجبه البيع ، ولا ضمن هو الثمن ، ثمّ باع الواسطة بزيادة على رأس المال والثمن ، كان ذلك للتاجر ، وله اجرة المثل ،
__________________
(١) ج : لم يواجبه.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
لا أكثر من ذلك ، وإن كان قد ضمن الثمن ، كان له ما زاد على ذلك من الربح ، ولم يكن للتاجر أكثر من رأس المال الذي قرّره معه ، فهذا يوضح لك ما نبهنا عليه.
وإذا قال الإنسان لغيره : اشتر لي هذا المتاع ، وأزيدك شيئا ، فإن اشترى التاجر ذلك ، لم يلزم الآمر أخذه ، ويكون في ذلك بالخيار ، إن شاء اشتراه لنفسه ، وإن شاء لم يشتره ، لأنّه ما وكله في شرائه لنفسه ، بقوله : وأزيدك شيئا فدلّ ذلك على أنّ التاجر اشتراه لنفسه ، لا للآمر ، لأنّ الشراء لو وقع للآمر لم يلزمه أن يزيده على ثمنه شيئا ، فهذا تحرير الفتيا في ذلك.
ومتى أخذ الإنسان من تاجر مالا ، واشترى به متاعا ، يصلح له ، ثمّ جاء به إلى التاجر ، ثم اشتراه منه ، لم يكن بذلك بأس ، لأنّه وكيل للتاجر ، نائب عنه في الشراء ، ويكون التاجر مخيرا ، بين أن يبيعه ، وان لا يبيع ، فإن كان الإنسان الذي هو الوكيل ، شراه لنفسه في ذمّته ، لا بعين مال موكله ، ثم نقد المال على أنّه ضامن له ، لم يكن للتاجر عليه سبيل (١).
فإن اختلفا في ذلك ، فالقول قول الوكيل ، دون الموكّل ، فإن كان الوكيل شراه بعين مال موكله فإنّ الملك يقع للتاجر الذي هو الموكل ، دون الوكيل ، فهذا تحرير هذه الفتيا التي أوردها شيخنا في نهايته.
ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا ، بأكثر ممّا يساوي في الحال ، بنسية ، إذا كان المبتاع من أهل الخبرة والمعرفة ، فإن لم يكن كذلك ، كان البيع موقوفا ، للمشتري الخيار فيه.
باب العيوب الموجبة للرد
من اشترى شيئا على الإطلاق ، ولم يشترط الصحة ، أو اشتراه على شرط
__________________
(١) هنا ينتهي كلام الشيخ في النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، باختلاف يسير ، وما بعده غير موجود فيها.
الصحة ، والسلامة ، ثمّ ظهر له فيه عيب ، سبق وجوده عقدة البيع ، ولم يكن قد تبرأ صاحبه إليه من العيوب كلّها ، كان المشتري بين خيرتين ، ردّ المتاع واسترجاع الثمن ، أو الإمساك والمطالبة بالأرش ، وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.
وكيفية ذلك ، وبيانه ، أن يعتبر قيمته ، ويوجب (١) بحصّة ذلك من ثمنه ، مثاله إذا اشترى عبدا ، فأصاب به عيبا ، فإن المشتري يرجع على البائع ، بأرش العيب ، وهو أن يقال : كم قيمته ولا عيب فيه ، قالوا : مائة ، قلنا : وكم قيمته وهذا العيب فيه ، قالوا : تسعون ، قلنا : فالعيب عشر قيمته ، فيجب على البائع أن يردّ عشر قيمته (٢).
وانّما قلنا يرجع بالحصّة من الثمن ، لا بما بين القيمتين ، لأنّه قد يشتري بعشرة ما قيمته مائة ، فإذا قوّمناه ، كان النقص عشرة ، فإذا ردّ البائع هذا القدر ، بقي المبيع بغير ثمن ، وإذا كان الاعتبار بالحصّة من الثمن ، لم يعر المبيع من الثمن بحال ، وهذا ممّا يغلط فيه بعض الفقهاء ، فيوجبون الأرش ما بين القيمتين.
وهكذا الحكم ، إن أصاب به عيبا ، بعد ان حدث به عيب عنده ، فامتنع الرد بالعيب ، وكذا إذا وجد العيب فيه ، بعد ان تصرّف فيه ، لا يختلف الحكم في ذلك ، فليلحظ ما حرّرناه ويتأمّل.
وليس للبائع على المشتري في ذلك خيار.
ومتى كان البائع قد تبرأ إلى المبتاع ، من جميع العيوب ، لم يكن له الرجوع عليه ، بشيء من ذلك ، وإن لم يفصّل له العيوب في الحال ، والأفضل أن يفصل العيوب كلّها ، ويظهرها ، في حال العيب (٣) ، ليقع العقد عليه ، مع العلم بها أجمع ، وليس ذلك بواجب ، بل يكفي التبري من العيوب على الجملة.
وقال بعض أصحابنا : بل ذلك واجب ، ولا يكفي في إسقاط الرد التبري
__________________
(١) ل : يرجع. والظاهر أنه أولى.
(٢) ل : عشر ثمنه.
(٣) ج : البيع.
من العيوب على الجملة. والأول هو الأظهر من الأقوال.
ولا يجوز لأحد أن يبيع شيئا معيبا ، إلا بعد إظهار العيب ، فإن فعل وباع معيبا مع علمه بذلك ، فعل محظورا ، وكان المشتري بالخيار على ما فصّلناه.
ومتى اختلف البائع والمشتري في العيب ، فذكر البائع أنّ هذا العيب حدث عندك ، ولم يكن في المتاع وقت بيعي إيّاه ، وقال المشتري : بل بعتني معيبا ، ولم يحدث عندي فيه عيب ، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه ، كان على البائع اليمين بالله ، أنّه باعه صحيحا ، لا عيب فيه ، فإن حلف برئ من العهدة ، وإن لم يحلف جعل ناكلا ، وردّت اليمين على خصمه ، فإذا حلف كان عليه الدرك فيه (١) وقال شيخنا في نهايته : إذا اختلف البائع والمشتري في حدوث العيب ، ولم يكن لأحدهما بينة على دعواه ، كان على البائع اليمين بالله ، أنّه باعه صحيحا لا عيب فيه ، فان حلف برئ من العهدة (٢) وإن لم يحلف ، كان عليه الدرك فيه (٣). وهذا القول ، بإطلاقه غير واضح ، لأنّ بمجرد النكول عن اليمين ، لا يستحق المدّعي ما ادعاه ، إلا بعد يمينه.
وإذا قال البائع : بعت على البراءة من العيوب ، وأنكر المبتاع ذلك ، فعلى البائع البيّنة فيما ادّعاه ، فإن لم يكن معه بينة ، حلف المبتاع ، أنّه لم يبرأ إليه من العيوب ، وباعه مطلقا ، أو على الصحة ، فإذا حلف ، كان له الرد ، أو الأرش ، مخير في ذلك ، هذا بعد ثبوت العيب ، وموافقة البائع عليه ، بأنّه كان فيه قبل عقدة البيع ، أو قيام البيّنة على العيب.
ومتى اختلف أهل الخبرة في قيمته ، عمل على أوسط القيم فيما ذكروه ، وحكم الحاكم بذلك ، فإن كان المبيع جملة ، وظهر العيب في البعض ، كان للمبتاع أرش العيب ، في البعض الذي وجد فيه ، وإن شاء ردّ جميع المتاع ،
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
(٢) ج : برئ.
(٣) كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ مع زيادة يسيرة.
واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب ، دون ما سواه.
ومتى أحدث المشتري حدثا في المتاع ، لم يكن له بعد ذلك ردّه ، وكان له الأرش بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وسواء كان إحداثه ما أحدث فيه ، مع علمه بالعيب ، أو مع عدم العلم ، وليس علمه بالعيب ، ووقوفه عليه بموجب لرضاه في ترك الأرش ، بل في سقوط الرد.
إذا علم وتصرّف ، فإنّه يسقط الرد ، ولا يسقط الأرش.
ومتى حدث فيه حادث وعيب ، ينضاف إلى العيب الذي كان فيه ، كان له أرش العيب الذي كان فيه ، وقت ابتياعه إيّاه ، ولم يكن له أرش ما حدث عنده فيه على حال ، ولا ردّ المبيع بعد حدوث عيب عنده ، إلا أن يكون المبيع حيوانا ، فإنّه يردّه بالعيب الحادث في الثلاثة الأيّام ، لأنّ له فيها الخيار ، فإن أراد إمساكه ، فله أرش العيب المتقدّم ، الذي كان فيه وقت ابتياعه إيّاه ، وليس له أرش ما حدث فيه بعد عقدة البيع على حال.
وإذا حدث بالمبيع عيب في يد البائع بعد عقدة البيع ، ولم يكن به عيب قبل عقدة البيع ، كان للمشتري الرد والإمساك ، وليس له اجازة البيع مع الأرش ، ولا يجبر البائع على بذل الأرش ، بغير خلاف.
ومن ابتاع أمة ، فظهر له فيها عيب ، لم يكن علم به حال ابتياعه إيّاها ، كان له ردّها ، واسترجاع ثمنها ، أو أرش العيب دون الرد ، لا يجبر على واحد من الأمرين ، فإن وجد بها عيبا بعد أن وطأها ، لم يكن له ردّها ، وكان له أرش العيب خاصة ، اللهم إلا أن يكون العيب من حبل ، فله ردّها على كلّ حال ، وطأها أو لم يطأها ، ويردّ معها إذا وطأها نصف عشر قيمتها ، إن كانت ثيبا ، وإن كانت بكرا فعشر قيمتها بلا خلاف بيننا.
ومتى وجد عيبا فيها بعد أن يعتقها ، لم يكن له ردّها ، وكان له أرش العيب فان وجد العيب بعد تدبيرها ، أو هبتها ، كان مخيرا بين الرد وأرش العيب ، أيّهما
اختار كان له ذلك ، لأنّ التدبير والهبة ، له أن يرجع فيهما ، وليس كذلك العتق ، لأنّه لا يجوز له الرجوع فيه ، على حال ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).
والذي تقتضيه أصول المذهب ، أن المشتري إذا تصرّف في المبيع ، فإنّه لا يجوز له ردّه بعد ذلك ، وله الأرش ، ولا خلاف أنّ التدبير والهبة تصرّف ، وقوله رحمهالله : « لأنّ التدبير والهبة له أن يرجع فيهما » ليس كلّ تدبير ولا كل هبة له الرجوع فيهما ، بل التدبير على ضربين ، تدبير عن نذر ، فلا يجوز له الرجوع فيه ، على حال ، وهبة لولده الأصغر ، أو لولده الأكبر ، بعد قبضه إيّاها ، أو هبة الأجنبي بعد القبض ، والتصرّف فيها ، أو التعويض عنها ، فلا يجوز الرجوع فيها على حال ، بغير خلاف ، فإطلاق قوله رحمهالله ما يستقيم له.
وأيضا فالراهن ، لا يجوز له تدبير عبده المرهون ، لأنّه ممنوع من التصرف في الرهن ، وكان يلزم على ما اعتل به شيخنا أبو جعفر ، من أن للمدبر أن يرجع في التدبير ، وللواهب أن يرجع في الهبة ، وانّ المشتري إذا باع الجارية ، وجعل لنفسه الخيار شهرا مثلا ، أو أكثر من ذلك وقبضها المشتري ، وتسلمها ، وصارت عنده ، أن يردّها البائع الثاني ، على البائع الأوّل ، لأنّ له أن يرجع في هذا المبيع ، على قود الاعتلال الذي اعتل به شيخنا ، وهذا لا يقوله أحد منا بغير خلاف ، ولا يتجاسر عليه أحد من الأمة.
وأيضا فلم يرد بذلك نصّ عن الأئمة عليهمالسلام ، لا متواترا ولا آحادا ، فبأيّ شيء يتمسّك في ذلك ، وكتابه تهذيب الأحكام ، ما أودعه شيئا من ذلك ، ولا أورد فيه خبرا بذلك ، وليس له أكبر منه في الأخبار ، وانّما حكاه على ما وجده في المقنعة (٢) وتردّ الشاة المصراة ، وهي التي جمع بائعها في ضرعها اللبن ، يومين وأكثر من ذلك ، ولم يحلبها ، ليدلسها به على المشتري ، فيظن إذا رأى
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ.
(٢) المقنعة : باب المتاجر ، باب العيوب الموجبة للرد ص ٥٩٨.
ضرعها ، وحلب لبنها ، أنّه لبن يومها ، لعادة لها ، وكذلك حكم البقرة والناقة ، ولا تصرية عندنا في غير ذلك ، فإذا أراد ردّها ، ردّ اللبن الذي احتلبه ، إن كان موجودا ، وإن كان هالكا معدوما ، ردّ مثله ، لأنّ اللبن له مثل ، ويضمن بالمثلية ، فإن أعوز المثل ، ردّ قيمة ما احتلب من لبنها ، بعد إسقاط ما أنفق عليها ، إلى أن عرف حالها.
وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : عوض اللبن الذي يحلبه من المصراة ، إذا أراد ردّها ، صاع من تمر ، أو صاع من بر ، وإن أتى على قيمة الشاة ، واستدل على ذلك بإجماع الفرقة ، وأخبارهم (١).
قال محمّد بن إدريس : والأوّل هو الصحيح ، وإليه يذهب رحمهالله في نهايته (٢) ، وهو أيضا قول شيخنا المفيد في مقنعته (٣) وأصول المذهب دالة عليه ، فأمّا ما ذكره شيخنا في مسائل خلافه ، من دليله فعجيب ، من أجمع من أصحابنا على ذلك؟ وأيّ إجماع للفرقة على ما قاله؟ ولا لها خبر ورد بذلك ، وما وجدت لأصحابنا تصنيفا فيه ، ما ذهب إليه ولا قال من أصحابنا غيره رحمهمالله هذا القول ، وانّما هذا قول المخالفين ، نصره واختاره ، في كتابه مسائل خلافه.
وترد العبيد والإماء ، من أحداث السنة ، مثل الجذام ، والجنون ، والبرص ، ما بين وقت الشراء وبين السنة ، فإن ظهر بعد مضي السنة شيء من ذلك لم يكن له الرد على حال ، هذا الحكم ما لم يتصرف فيه ، فإن تصرّف في الرقيق في مدة السنة ، سقط الرد ، وحكم له بالأرش ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.
وإلى هذا القول يذهب شيخنا المفيد ، محمّد بن محمد بن النعمان ، في مقنعته ، فإنّه قال : ويرد العبد والأمة من الجنون ، والجذام ، والبرص ، ما بين ابتياعهما وسنة واحدة ، ولا يردان بعد سنة ، وذلك أنّ أصل هذه الأمراض ،
__________________
(١) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ١٦٩.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ.
(٣) المقنعة : باب المتاجر ، باب العيوب الموجبة للردّ ص ٥٩٨.