ويضمن الغاصب ما يفوت من زيادة قيمة المغصوب بفوات الزيادة الحادثة فيه ، لا بفعله كالسمن والولد ، وتعلّم الصنعة والقرآن ، سواء ردّ المغصوب أو مات في يده ، لأنّ ذلك حادث في ملك المغصوب منه ، لأنّه لم يزل بالغصب ، وإذا كان كذلك فهو مضمون على الغاصب ، لأنّه حال بينه وبينه ، فإمّا زيادة القيمة لارتفاع السوق فغير مضمونة ، مع الردّ للعين المغصوبة ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل شرعي ، فإن لم يردّها حتى هلكت العين ، لزمه ضمان قيمتها بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ، لأنّه إذا أدّى ذلك ، برئت ذمته بيقين ، وليس كذلك إذا لم يؤدّه.
وإذا صبغ الصباغ الغاصب الثوب بصبغ يملكه ، فزادت لذلك قيمته ، كان شريكا فيه بمقدار الزيادة ، وله قلع الصبغ ، لأنّه عين ماله بشرط أن يضمن ما ينقص من قيمة الثوب ، لأنّ ذلك يحصل بجنايته.
ولو ضرب النقرة دراهم ، والتراب لبنا ونسج الغزل ثوبا ، وطحن الحنطة ، وخبز الدقيق ، فزادت القيمة بذلك ، لم يكن له شيء ، ولا يستحقّ الغاصب بفعله لجميع ذلك على المغصوب منه شيئا لا اجرة ، ولا غيرها ، لأنّ هذه آثار أفعال ، وليست أعيان أموال ، ولا تدخل العين المغصوبة بشيء من هذه الأفعال في ملك الغاصب ، ولا يجبر صاحبه على أخذ قيمته ، لأنّ الأصل ثبوت ملك المغصوب منه ، ولا دليل على زواله بعد التغيير ، ويحتج على المخالف بقوله عليهالسلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (١) وقوله : « لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفس منه » (٢).
__________________
(١) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب الغصب ، ح ٤ و ٥.
(٢) الوسائل : الباب ١ من أبواب القصاص ، ح ٣ وفيه : لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ، وفي مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب الغصب ح ٦. والحديث هكذا : المسلم أخو المسلم لا ـ يحل ماله إلا عن طيب نفس منه.
ومن غصب زيتا فخلطه بأجود منه ، فالغاصب بالخيار بين أن يعطيه من ذلك ، ويلزم المغصوب منه قبوله ، لانه تطوع له بخير من زيته ، وبين أن يعطيه مثله من غيره ، لأنّه صار بالخلط كالمستهلك ، وإن خلطه بأردأ منه ، لزمه أن يعطي من غير ذلك ، مثل الزيت الذي غصبه ، ولا يجوز أن يعطيه منه ، وإن خلطه بمثله ، فهو مثل المسألة الاولى ، إن شاء أعطاه من الزيت المخلوط ، وإن شاء الغاصب أعطاه من غيره ، مثل زيته ، لأنّه كالمستهلك ، وقال بعض أصحابنا : إنّه يكون شريكه ، والأوّل هو الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ عين الزيت المغصوب قد استهلكت ، لأنّه لو طالبه بردّه بعينه ، لما قدر على ذلك.
ومن غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فاحتضنها ، فالزرع والفرخ لصاحبهما ، دون الغاصب ، لأنّا قد بيّنا أنّ المغصوب لا يدخل في ملك الغاصب بتغيّره ، خلافا لأبي حنيفة ، لأنّه لا يخرج بالغصب عن ملك المغصوب منه ، وإذا كان باقيا على ملك صاحبه ، فنماؤه المنفصل والمتصل جميعا لصاحبه ، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا ، لأنّه الذي تقتضيه أصولهم ، ويحكم به عدل أهل البيت عليهمالسلام.
واختار شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، مذهب أبي حنيفة ، وقوّاه ، فقال : مسألة : إذا غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فاحتضنتها الدجاجة ، فالزرع والفروج للغاصب ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي هما معا للمغصوب منه ، وقال المزني : الفروج للمغصوب منه ، والزرع للغاصب ، دليلنا أن عين الغصب قد تلفت ، وإذا تلفت فلا يلزم غير القيمة ، ومن يقول في الفروج هو عين البيض ، وانّ الزرع هو عين الحبّ ، مكابر ، بل المعلوم خلافه ، هذا آخر كلام شيخنا في نصرة خيرته (١).
قال محمّد بن إدريس : إلا تراه رحمهالله لم يستدلّ بإجماع الفرقة ، ولا بالأخبار على عادته ، بل تمسك بشيء لا فرج لمعتمده ، ولو سلّمنا له أنّ الزرع
__________________
(١) الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة ٣٠٨.
غير الحب ، فبأيّ شيء ملك الجميع ، أو المتولد عن العين المغصوبة ، الغاصب؟ بإقرار ، أو بهبة ، أو ببيع ، أو بإرث؟ بل هذا نفس مذهب أبي حنيفة الذي يردّه عليه ويناظره شيخنا أبو جعفر على فساده ، انّ بالتغيير لا يملك الغاصب المغصوب ، بل الملك باق على ربّه ، وتولّد عنه ما تولّد ، ونما ما نما على ملك صاحبه ، حصلت جواهر النماء ، فلا يستحقها أحد سوى صاحبه.
ثمّ إنّ شيخنا أبا جعفر ، ذكر في كتاب العارية في مبسوطة ، ما ينقض قوله ، ويردّ به على نفسه ، وهو أن قال : إذا كان له حبوب فحملها السيل إلى أرض رجل ، فنبتت فيها ، كان ذلك الزرع لصاحب الحب ، لأنّه عين ماله ، كما قلناه فيمن غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فحضنها عنده ، وفرّخت ، فإن الزرع والفراخ ، للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله ، هذا آخر كلامه رحمهالله في مبسوطة (١).
فقد دخل رحمهالله في جملة من يكابر ، لأنّه قال هناك : من قال أنّ الفروج عين البيض ، والزرع هو عين الحب ، مكابر ، بل المعلوم خلافه ، وقال هاهنا الزرع والفراخ للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله.
ورجع شيخنا رحمهالله عمّا اختاره من مذهب أبي حنيفة ، في موضع آخر ، في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث ، في كتاب الدعاوي والبينات ، فقال : مسألة : إذا غصب رجل من رجل دجاجة ، فباضت بيضتين ، فاحتضنتهما هي ، أو غيرها بنفسها ، أو بفعل الغاصب ، فخرج منهما فروجان ، فالكلّ للمغصوب منه ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة إن باضت عنده بيضتين ، فاحتضنت الدجاجة واحدة منهما ، ولم يتعرض الغاصب لها ، كان للمغصوب منه ما يخرج منها ، وإن أخذ الأخرى فوضعها تحتها أو تحت غيرها ، وخرج منها فروج ، كان الفروج للغاصب ، وعليه قيمته ، دليلنا أنّ ما يحدث عند الغاصب عن العين المغصوبة ، فهو للمغصوب منه ، لأنّ الغاصب لا يملك بفعله شيئا ومن ادّعى
__________________
(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب العارية ، ص ٥٦.
أنّه إذا تعدّى ملكه ، فعليه الدلالة ، لأنّ الأصل بقاء الملك للمغصوب منه ، هذا آخر كلامه في المسألة رحمهالله (١).
وقال السيد المرتضى ، في المسائل الناصريات ، ويعرف أيضا بالطبريات ، في المسألة الثانية والثمانين والمائة : من اغتصب بيضة فحضّنها ، فأفرخت فرخا أو حنطة ، فزرعها فنبتت ، فالفرخ والزرع لصاحبهما ، دون الغاصب ، هذا صحيح ، وإليه يذهب أصحابنا ، والدليل عليه الإجماع المتكرر ، وأيضا فإنّ منافع الشيء المغصوب لمالكه ، دون الغاصب ، لأنّه بالغصب لم يملكه ، فما تولّد من الشيء المغصوب ، فهو للمالك دون الغاصب ، وهذا واضح (٢) ، هذا آخر المسألة من كلام السيد المرتضى رضياللهعنه.
ألا ترى أرشدك الله إلى قوله : وإليه يذهب أصحابنا ، ثم قال : والإجماع المتكرر ، فما خالف فيه سوى شيخنا أبي جعفر في بعض أقواله ، وهو محجوج بقوله الذي حكيناه عنه ، في الجزء الثالث من مسائل خلافه ، فإذا لم يكن على خلاف ما ذهبنا إليه إجماع ، ولا دليل عقل ، ولا كتاب ، ولا سنة ، بل دليل العقل قاض بما اخترناه ، وكذلك الكتاب والسنة والإجماع ، فلا يجوز خلافه.
ومن غصب ساجة فأدخلها في بنائه ، لزمه ردّها ، وإن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه ، لمثل ما قدّمناه من الأدلة من قوله عليهالسلام : « لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه » (٣) وقوله عليهالسلام أيضا : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » (٤) وكذا لو غصب لوحا فأدخله في سفينة ، ولم يكن في ردّه هلاك ماله حرمة ، وعلى الغاصب اجرة مثل ذلك ، من حين الغصب إلى حين الردّ ، لأنّ الخشب يستأجر للانتفاع به ، وكل منفعة تملك بعقد الإجارة ، كمنافع الدار والدابة والعبد ، وغير ذلك ، فإنّها تضمن بالغصب ، بدليل قوله
__________________
(١) الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسألة ١٧.
(٢) الجوامع الفقهية ، ص ٢٥٤.
(٣) و (٤) مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب ١ ، ح ٦ و ٤ و ٥.
تعالى « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (١) والمثل قد يكون من حيث الصورة ، ومن حيث القيمة ، وإذا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة ، وجبت القيمة.
وإذا غصب أرضا فزرعها ببذر من عنده وماله ، وغرسها كذلك ، فالزرع والشجر له ، لأنّه عين ماله ، وإنّما تغيّرت صفته بالزيادة والنماء ، على ما قدّمناه وحرّرناه ، وعليه أجرة الأرض ، لأنّه قد انتفع بها بغير حقّ ، فصار غاصبا للمنفعة ، فلزمه ضمانها ، وعليه أرش نقصانها ، إن حصل بها نقص ، لأنّ ذلك حصل بفعله ، ومتى قلع الشجر فعليه تسوية الأرض.
وكذا لو حفر بئرا ، أجبر على طمّها ، وللغاصب ذلك ، وإن كره مالك الأرض لما في تركه من الضرر عليه بضمان ما يتردّى فيها ، هكذا ذكره بعض أصحابنا.
والأولى عندي أنّ صاحب الأرض إذا رضي بعد حفره بالحفر ، ومنعه من الطم ، فله المنع ، ولا يكون الحافر ضامنا لما يقع فيها ، لأنّ صاحب الأرض قد رضي ، فكأنّما أمره بحفرها ابتداء.
ومن حل دابة ، فشردت ، أو فتح قفصا ، فذهب ما فيه ، لزمه الضمان ، سواء كان ذلك عقيب الحلّ والفتح ، أو بعد ان وقفا ، لأنّ ذلك كالسبب في الذهاب ، ولولاه لما أمكن ، ولم يحدث سبب آخر من غيره ، فوجب عليه الضمان.
ولا خلاف أنّه لو حلّ رأس الزق ، فخرج ما فيه ، وهو مطروح ، لا يمسك ما فيه من غير الشدّ ، لزمه الضمان ، وقال بعض أصحابنا : ولو كان الزق قائما مستندا ، وبقي محلولا ، حتى حدث به ما أسقطه من ريح ، أو زلزلة ، أو غيرهما ، فاندفق ما فيه ، لم يلزمه الضمان ، لأنّه قد حصل هاهنا مباشرة ، وسبب من غيره (٢).
__________________
(١) البقرة : ١٩٤.
(٢) وهو المستفاد من كلام الشيخ قدسسره في المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ٩٠.
ومن غصب عبدا فأبق ، أو بعيرا فشرد ، فعليه قيمة ذلك ، فإذا أخذها صاحب العبد أو البعير ملكها بلا خلاف ، ولا يملك الغاصب العبد ، فإن عاد انفسخ الملك عن القيمة ، ووجب ردّها ، وأخذ العبد ، لأنّ أخذ القيمة إنّما كان لتعذّر العبد والحيلولة بين مالكه وبينه ، ولم تكن عوضا عنه على وجه البيع ، لأنّا قد بيّنا أنّ ملك القيمة يتعجل هاهنا ، وملك القيمة بدلا عن العين الفائتة بالإباق لا يصحّ على وجه البيع ، لأنّ ذلك يكون فاسدا عندنا على ما قدّمناه ، وعند المخالف أيضا ، وعند بعض المخالفين ، يكون البيع موقوفا فإن عاد العبد تسلّمه المشتري ، وإن لم يعد ردّ البائع الثمن ، ولما ملكت القيمة هاهنا ، والعبد أبق ، ولم يجز الرجوع بها مع تعذر الوصول إلى العبد ، ثبت أنّ ذلك ليس على وجه البيع.
إذا غصب طعاما أو تمرا ، فسوّس ، كان عليه أرش ما نقص ، ولا يجب عليه المثل ، لأنّه لا مثل لما نقص ، فكان الضمان بالأرش.
إذا غصب ما لا مثل له فلا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن يكون من جنس الأثمان ، أو من غير جنسها.
فإن كان من غير جنسها كالثياب والخشب والعقار ، ونحو ذلك ، من الأواني ، فكل هذا وما في معناه مضمون بالقيمة ، فإذا ثبت أنّه مضمون بالقيمة ، فإذا تلف كان عليه قيمته ، فإن تراخى وقت القبض ، لم يكن له إلا القيمة التي ثبتت في ذمته حين التلف ، وإن جنى على هذا جناية ، فأتلف البعض ، مثل خرق الثوب ، أو كسر الآنية على وجه ينتفع بهما فيما بعد ، فعليه ما نقص ، فهو أرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، لا شيء له غيره.
فإن كان من جنس الأثمان ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون فيه صنعة ، أو لا صنعة فيه ، فإن كان ممّا لا صنعة فيه ، فله مثله وأرش النقص ، سواء كان من جنسه أو لا من جنسه ، لأنّ هذا ليس ببيع حتى يقال انّه ربا ، فإن كان فيها صنعة ، فامّا أن يكون استعمالها مباحا ، أو محظورا.
فإن كان استعمالها مباحا كحلي النساء ، وحلي الرجال ، مثل الخواتيم ، والمنطقة ، وكان وزنها مائة ، وقيمتها لأجل الصنعة مائة وعشرين ، فإذا كان غالب نقد البلد من غير جنسها ، قوّمت به ، لأنّه لا ربا فيه ، وإن كان غالب نقد البلد من جنسها ، مثل أن كانت ذهبا وغالب نقده ذهب ، قيل : فيه قولان ، أحدهما تقوّم بغير جنسها ، ليسلم من الربا ، والقول الآخر ، وهو الصحيح ، أنّه لا يجوز (١) ، لأنّ الوزن بحذاء الوزن ، والفضل في مقابلة الصنعة ، لأنّ للصنعة قيمة غير أصل العين ، بدليل أنّه يصحّ الاستيجار على تحصيلها ، ولأنّه لو كسره إنسان ، فعادت قيمته إلى مائة ، كان عليه أرش النقص فثبت بذلك أنّ الصنعة لها قيمة في المتلفات ، وإن لم يكن لها قيمة في المعاوضات.
وإن كان استعمالها حراما ، وهي آنية الذهب والفضة ، قيل : فيه قولان ، أحدهما اتّخاذها مباح ، والمحرم الاستعمال ، والثاني محظور ، لأنّها إنّما تتخذ للاستعمال ، فمن قال اتّخاذها حرام ، وهو الصحيح ، قال : تسقط الصنعة ، وكانت كالتي لا صنعة فيها ، وقد مضى حكمها.
فأمّا الحيوان فهو على ضربين ، آدمي وغير آدمي فأمّا غير الآدمي فهو كالثياب والخشب (٢) وما لا مثل له ، فإن أتلفها فكمال القيمة ، وإن جنى عليها فقيمة ما نقص تقوّم بعد الاندمال ، فيكون عليه ما بين قيمته صحيحا قبل الاندمال ، وجريحا بعد الاندمال ، فهو كالثياب سواء ، وإنّما يختلفان من وجه واحد ، وهو أنّ الجناية على الثياب لا تسري إلى باقية والجناية على البهيمة تسري إلى نفسها ، ولا تختلف باختلاف المالكين ، ولا باختلاف المملوك أو المالك ، فعلى هذا التحرير سواء كانت البهيمة للقاضي ، أو لغير القاضي.
وهذا الذي يقوى في نفسي ، لأنّ إلحاق أحكام البهائم في الجنايات
__________________
(١) ج : يجوز. وهو الظاهر كما يشهد به التعليل.
(٢) ج : كالثياب.
والأروش والديات والمقدرات ببني آدم ، يحتاج إلى دليل قاطع للعذر ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد ، لأنّه قد روي في بعض الأخبار ، أنّ في عين البهيمة ربع قيمتها (١).
وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : نصف قيمتها (٢) ، وربع قيمتها ذكره في نهايته (٣) ، واختار في مبسوطة (٤) ما ذهبنا إليه ، ورجع عمّا ذكره في الكتابين المشار إليهما ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّه جنى على مال ، فنقص بجنايته ، فيجب عليه أرش ما نقص ، من غير زيادة ولا نقصان.
إذا غصب عبدا قيمته ألف ، فخصاه ، فبلغ ألفين ، ردّه وقيمة الخصيتين ، لأنّه ضمان مقدّر ، وقيمتهما قيمة العبد.
المقبوض عن بيع فاسد : لا يملك بالبيع الفاسد شيء ، ولا ينتقل به الملك بالعقد ، فإذا وقع القبض لم يملك به أيضا ، لأنّه لا دليل عليه ، وإذا لم يملك به كان مضمونا ، فإن كان المبيع قائما ردّه ، وإن كان تالفا ردّ بدله ، إن كان له مثل ، وإلا قيمته ، لأنّ البائع دخل على أن يسلّم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه ، فإذا لم يسلّم له المسمّى ، اقتضى الرجوع إلى عين ماله ، فإذا ثبت هذا كلّه فالكلام في الأجرة والزيادة في العين.
فأمّا الأجرة ، فإن كان لها منافع تستباح بالإجارة ، كالعقار والثياب والحيوان ، فعليه اجرة المثل مدة بقائها عنده ، فأمّا الكلام في الزيادة كالسمن ، وتعليم القرآن ، والصنعة ، فهل يضمن ذلك أم لا؟ فالصحيح أنّه يضمنها.
ومن غصب جارية حاملا ضمنها وجملها.
إذا غصب جارية فوطأها الغاصب ، فإنّ جملة الأمر وعقد الباب أنّه ، إذا زنى الرجل بامرأة فلا يخلو إمّا أن تكون جارية لغيره ، أو حرّة ، فإن كانت جارية
__________________
(١) الوسائل : الباب ٤٧ من أبواب ديات الأعضاء.
(٢) الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة ٤.
(٣) النهاية : كتاب الديات ، باب الجنايات على الحيوان ، والعبارة هكذا : وفي عين البهيمة إذا فقئت ربع قيمتها على ما جاءت به الآثار.
(٤) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الغصب ، ص ٦٢.
للغير ، فلا يخلو أن تكون ثيبا أو بكرا ، فإن كانت ثيبا فلا يخلو إمّا أن تكون مكرهة أو مطاوعة.
فإن كانت مطاوعة فلا شيء لسيّدها على الزاني ، لأنّ الرسول عليهالسلام نهى عن مهر البغي (١).
وإن كانت مكرهة فيجب على الزاني لسيّدها مهر أمثالها ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ عليه نصف عشر ثمنها ، والأول هو الصحيح ، لأنّ ذلك ورد في من اشترى جارية ووطأها وكانت حاملا ، وأراد ردّها على بائعها ، فإنّه يردّ نصف عشر ثمنها (٢) ، ولا يقاس غير ذلك عليه.
فأمّا إن كانت بكرا ، فلا يخلو إمّا أن تطاوع ، أو تغصب وتكره على الفعال ، فإن كانت مكرهة فعليه مهر أمثالها ، وعليه ما نقص من قيمتها قبل افتضاضها ، يجمع ما بين الشيئين بين المهر وما نقص من القيمة من الأرش ، لأنها غير بغي.
وإن كانت مطاوعة فلا يلزم المهر ، بل يجب عليه ما نقص من قيمتها من الأرش ، والمهر لا يلزم لأنّها هاهنا بغي ، والرسول عليهالسلام نهى عن مهر البغي.
فأمّا إن كانت المزني بها حرة ، فإن كانت ثيبا ، وكانت مطاوعة عاقلة ، فلا شيء لها على الزاني بها ، وإن كانت مكرهة ، فيجب عليه مهر أمثالها ، لأنّها غير بغي.
وإن كانت بكرا وكانت مطاوعة فلا شيء لها ، وإن كانت مكرهة فلها مهر نسائها فحسب.
إذا غصب خفين قيمتهما عشرة ، فتلف أحدهما ، وكانت قيمة الباقي ثلاثة ، ردّه ، وقيمة التالف خمسة ، وما نقص بالتفرقة وهو درهمان ، فيرد الباقي ومعه سبعة ، لأنّ التفرقة جناية منه ، فيلزمه ما نقص بها.
إذا غصب دارا أو دابة ، سكنها أو لم يسكنها ، ركبها أو لم يركبها ، ومضت
__________________
(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ، الباب ١ ذكر جمل من مناهي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
(٢) الوسائل : الباب ٥ من أبواب أحكام العيوب ، ح ٧ و ٨ و ٩.
مدة يستحق لمثلها اجرة ، لزمته الأجرة ، لأنّ المنافع تضمن بالغصب عندنا.
فإن غصب عصيرا فصار خمرا ، ثم صار خلّا ، ردّ الخل بحاله ، وليس عليه بدل العصير ، لأنّ هذا عين ماله ، فإن كان قيمة الخل قيمة العصير ، أو أكثر ، ردّه ولا شيء عليه ، وإن كان أقلّ من ذلك ردّه وما نقص من قيمة العصير.
إذا غصب جارية فهلكت ، فعليه أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين الهلاك والتلف.
فإن اختلفا في مقدار القيمة ، فالقول قول الغاصب مع يمينه ، لأنّ الأصل براءة ذمته ، ولقوله عليهالسلام : « البينة على المدّعى واليمين على المدعى عليه » (١) والغاصب منكر.
وإن اختلفا فقال الغاصب : كانت معيبة برصاء ، أو جذماء ، وغير ذلك ، فالقول قول المالك ، لأنّ الأصل السلامة ، والغاصب يدّعي خلاف الظاهر ، فإن كان بالعكس من هذا ، فقال السيد : كانت صانعة ، أو تقرأ القرآن ، فأنكر الغاصب ذلك ، فالقول قول الغاصب ، لأنّ الأصل انّ لا صنعة ولا قراءة.
إذا غصب منه مالا مثلا بمصر ، فلقيه بمكة ، فطالبه به ، فإن كان المال له مثل ، فله مطالبته ، سواء اختلفت القيمة في البلدين ، أو اتفقت ، وإن كان لا مثل له ، فله مطالبته بقيمته يوم الغصب ، دون يوم المطالبة ، إذا أهلكه وأتلفه في يوم غصبه ، فإن بقي في يده ، فعليه أكثر القيم إلى يوم الهلاك.
فأمّا ماله مثل ، فعليه مثله يوم المطالبة ، تغيّرت الأسعار أو لم تتغيّر ، فإن أعوز المثل ، فله قيمته يوم إقباضها ، هذا تحقيق القول ، والذي تقتضيه أصول مذهبنا.
وقد ذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (٢) ، تفاصيل مذهب المخالفين ، ونقله
__________________
(١) الوسائل : الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم.
(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الغصب ، ص ٧٦.
ابن البراج في تصنيفه على غير بصيرة (١).
ولأنّ المغصوب منه ، لا يجب عليه الصبر إلى حين العود إلى مصر ، بل يجب على الغاصب ردّ مثل الغصب إن كان له مثل ، أو قيمته إن لم يكن له مثل ، فانّ هذا الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلة ولا يعرج إلى خلافه بالآراء والاستحسان.
والكلام في القرض ، كالكلام في الغصب سواء ، لا يفترقان.
وكذلك الكلام إن كان الحق وجب له عن سلم.
وقال بعض أصحابنا : لم يكن له مطالبته به بمكة ، لأنّ عليه أن يوفيه إيّاه في مكان العقد ، والذي ذكره بعض أصحابنا حكاية قول المخالفين ، دون أن يكون ذلك قولا تقتضيه أصول مذهبنا ، أو وردت به أخبارنا.
إذا غصب شيئا ، لم يملكه ، غيره عن صفته التي هو عليها أو لم يغيره ، مثل إن كان حنطة فطحنها ، فإنّه لا يملك الدقيق ، وإن أخذ من غيره عصيرا ، فاستحال خلا أو خمرا ، ثمّ استحال خلا في يده ، ردّه عليه ، لأنّه عين ماله ، ولا يملكه بتغيّره واستحالته في يده ، على ما قدّمناه.
ما يتسلم على طريق السوم ، فإنّه مضمون على الآخذ له ، أو على أنّه بيع صحيح ، فكان فاسدا ، أو عارية بشرط الضمان ، أو بلا شرط الضمان ، وتكون العارية فضة أو ذهبا.
وإذا غصب خبزا فأطعمه مالكه من غير إعلام له أنّه خبزه ، وجب عليه الضمان ، فإن كان الآكل غير مالكه ، ولم يعلمه بأنّه غصب ، كان المغصوب منه بالخيار بين أن يرجع على الغاصب ، أو على الآكل ، فإن رجع على الغاصب ، فلا يرجع الغاصب على الآكل ، وإن رجع على الآكل ، فللآكل الرجوع على الغاصب ، لأنّه غرّه.
__________________
(١) وهو المهذب ، في ج ١ ، كتاب الغصب والتعدّي ، ص ٢٤٣.
وكذلك إذا غصب حطبا ، فاستدعى مالكه ، فقال له : اسجر به التنور ، أو غير صاحبه ، مثل الخبز ، حرفا فحرفا ، « اسجر به التنور » بالسّين غير المعجمة ، يقال : سجرت التنور ، اسجره سجرا ، إذا أحميته ، وسجرت البحر ملأته ، ومنه البحر المسجور.
إذا غصب شاة فأنزى عليها فحل نفسه فأتت بولد ، كان لصاحب الشاة ، لا حق لصاحب الفحل في الولد ، لأنّ الولد يتبع الام وجزء منها ونماؤها ، فإن كان غصب فحلا فأنزاه على شاة نفسه ، فالولد لصاحب الشاة ، وعليه اجرة الفحل عندنا ، وإن كان الفحل قد نقص بالضراب ، فعلى الغاصب أرش النقصان بتعديه.
وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فأمّا أجرة الفحل فلا تجب على الغاصب : لأنّ النبيّ عليهالسلام نهى عن كسب الفحل (١).
وما ذهبنا إليه هو مذهب أهل البيت عليهمالسلام ، وما قاله وذكره شيخنا في مبسوطة ، حكاية مذهب المخالفين ، فلا يتوهم متوهم عليه أنّه اعتقاده.
إذا غصب عبدا ومات في يده ، أو قتله هو أو غيره ، فللمغصوب منه أكثر ما كانت قيمته إلى يوم الهلاك ، وإن تجاوزت قيمته دية الحر ، فأمّا إذا لم يغصبه وقتله ، فلا يتجاوز بقيمته دية الحر ، فليلحظ الفرق بين المسألتين.
إذا كان في يد مسلم خمر أو خنزير فأتلفه متلف ، فلا ضمان عليه ، مسلما كان المتلف أو مشركا ، فإن كان ذلك في يد ذمي وقد أخرجه وأظهره في دروب المسلمين ، فلا ضمان على المتلف أيضا ، وإن أتلفه في بيته أو في بيعته وكنيسته ، فالضمان عليه عندنا ، مسلما كان المتلف أو مشركا ، والضمان هو قيمة الخمر والخنزير عند مستحليه ، ولا يضمن بالمثلية على حال.
إذا غصب من رجل دارا وباعها ثم ملكها الغاصب بميراث أو هبة أو شراء صحيح ، ثم ادّعى الغاصب على الذي باعها منه ، فقال : اشتريت مني غير
__________________
(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الغصب ، ص ٩٦.
ملكي ، فالبيع باطل وعليك ردّ الدار ، وأقام البائع الغاصب شاهدين بذلك ، فهل يقبل هذه الشهادة أم لا؟ نظرت ، فإن كان البائع قال حين البيع : بعتك ملكي ، سقطت الشهادة ، لأنّه مكذب لها ، لأنّه قال حين البيع : هي ملكي ، وأقام البيّنة أنّها غير ملكه ، فهو مكذب لها ، وإن كان أطلق البيع ، ولم يقل ملكي ، قبلت هذه الشهادة ، لأنّه قد يبيع ملكه وغير ملكه ، فإذا قامت البينة أنّها لم تكن ملكا له ، لم يكن مكذبا لها ، فقبلت هذه الشهادة ، إلا أن يكون في ضمن البيع ما يدل على أنّها ملكه ، مثل ان قال : قبضت ثمن ملكي ، أو ملكت الثمن في مقابلة ملكي ، فتسقط الشهادة حينئذ أيضا.
إذا ادّعى في يد رجل دارا ، وقال : غصبتها مني ، فأنكر ، فأقام المدّعي شاهدين ، نظرت ، فإن شهد أحدهما أنّه غصبها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنّه غصبها يوم الجمعة ، لم تكمل الشهادة ، لأنّها شهادة بغصبين ، لأنّ غصبه يوم الجمعة غير غصبه يوم الخميس ، وهكذا لو شهد أحدهما أنه غصبها ، وشهد الآخر على إقراره بغصبها ، لأنّ الغصب غير الإقرار ، فإن شهد أحدهما على إقراره بذلك يوم الخميس ، وشهد الآخر على إقراره به يوم الجمعة ، كانت الشهادة صحيحة ، لأنّ المقرّبة واحد ، لكن وقع الإقرار به في وقتين.
إذا غصب أمة فباعها ، فأحبلها المشتري ، فانّ السيد يرجع على المشتري ، وهل يرجع المشتري على البائع أم لا؟ نظرت فكل ما دخل على أنّه له بعوض ، وهو قيمة الرقبة ، لم يرجع به على أحد (١) ، وكلّ ما دخل على أنّه له بغير عوض ، فإن لم يحصل له في مقابلته نفع وهو قيمة الولد ، رجع به على البائع ، قولا واحدا ، وإن حصل له في مقابلته نفع ، وهو مهر المثل في مقابلة الاستمتاع ، فلا يرجع به على البائع.
وإن رجع على البائع ، فكلّما لو رجع به على المشتري ، رجع المشتري على البائع ، فالبائع لا يرجع به عليه ، وكلّما لو رجع به على المشتري ، لم يرجع به على
__________________
(١) ج : وهو الرقبة يرجع به على البائع.
البائع ، فإذا رجع به على البائع ، رجع البائع به على المشتري.
إذا أرسل في ملكه ماء فسال إلى ملك غيره ، فأفسده عليه ، أو أجج في ملكه نارا ، فتعدت إلى ملك غيره فأحرقته ، فالماء والنار سواء ، ينظر فيه ، فإن أرسل الماء في ملكه بقدر حاجته ، فسال إلى ملك غيره ، نظرت ، فإن كان غير مفرّط ، مثل ان ثقب الفار أو غيره ، أو كان هناك ثقب لم يعلم به ، فلا ضمان عليه ، لأنّها سراية عن فعل مباح ، فذهب هدرا ، وهكذا النار إذا أججها في ملكه ، فحملها الريح إلى ملك غيره فأتلفته ، فلا ضمان عليه ، لأنّه سراية عن مباح.
وأمّا إن أرسل الماء إلى ملكه ، وفرّط في حفاظه بأن توانى ، وهو يعلم أنّه يطفح إلى ملك غيره فأتلفه ، كان عليه الضمان ، لأنّها سراية عن فعل محظور ، وهكذا إن أجج نارا عظيمة في زرعه ، أو حطبه على سطحه ، وهو يعلم أنّه في العادة تصل إلى ملك غيره ، كان عليه الضمان.
فأمّا إن أرسل الماء في ملكه بقدر حاجته إليه ، وهو يعلم أنّ الماء ينزل إلى ملك غيره ، وأن للماء طريقا إليه ، فعليه الضمان ، لأنّه إذا علم أنّه يجري إلى ملك غيره ، وأنّه لا حاجز يحجزه عنه ، فهو المرسل له ، وهكذا النار إذا طرحها في زرعه أو حطبه ، وهو يعلم أنّ زرعه أو حطبه متصل بزرع غيره وحطب غيره ، وانّ النار تأتي على ملكه وتتصل بملك غيره ، فعليه الضمان ، لأنّها سراية حصلت بفعله.
فإن ادّعى دارا في يد رجل ، فاعترف له بدار مبهمة ، ثمّ مات المقر المعترف ، قيل للوارث : بين ، فإن لم يبيّن ، قيل للمدّعي : بيّن أنت ، فإن عيّن دارا ، وقال : هذه التي ادّعيتها ، وقد أقرّ لي بها ، قيل للوارث : ما تقول؟ فإن قال : صدق ، تسلّم الدار المدّعي ، وإن قال الوارث : ليست هذه له ، فالقول قوله مع يمينه ، فإذا حلف سقط تعيين المدّعي ، وقيل للوارث : نحبسك حتى تبين الدار التي أقر له أبوك بها ، وتحلف ، أو نجعلك ناكلا عن اليمين ، ويعيّن المدّعي الدار ، ويردّ اليمين عليه ، ويستحق ما حلف عليه ، وإلا أدّى إلى إبطال حقّ الآدميّين ووقوف الأحكام.
فإن غصب عبدا فردّه وهو أعور ، واختلفا ، فقال سيده : عور عندك ، وقال الغاصب : بل عندك ، فالقول قول الغاصب ، لأنّه غارم ومدّعى عليه.
وقال بعض أصحابنا : فإن اختلفا في هذا والعبد قد مات ودفن ، فالقول قول سيّده أنّه ما كان أعور.
والفصل بينهما أنّه إذا مات ودفن ، فالأصل السلامة ، حتى يعرف عيب ، فكان القول قول السيّد ، وليس كذلك إذا كان حيا ، لأنّ العور موجود مشاهد ، فالظاهر أنّه لم يزل حتى يعلم حدوثه عند الغاصب.
والذي يقوى عندي أنّ القول قول الغاصب ، لأنّه غارم في المسألتين معا ، ومدّعى عليه ، والأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشيء أو علق عليها حكما ، يحتاج في إثباته إلى دليل ، وهذا الذي ذكره بعض أصحابنا ، تخريج من تخريجات المخالفين ومقاييسهم واستحساناتهم.
والذي تقتضيه أصول مذهب أهل البيت عليهمالسلام ما ذكرناه واخترناه ، فليلحظ بالعين الصحيحة.
فإن غصب عبدا ومات العبد واختلفا ، فقال الغاصب : رددته حيا فمات في يدك أيها المالك ، وقال المالك : بل مات في يدك أيها الغاصب من قبل أن تردّه إليّ ، وما رددته إليّ إلا ميتا ، وقال الغاصب : رددته حيا. فالذي عندي ويقوى في نفسي ، أنّ القول قول المالك مع يمينه ، وعلى الغاصب البينة ، لأنّه المدّعي لرد الملك بعد إقراره بغصبه ، وكونه في يده حيا ، والمالك منكر للرد وجاحد له ، ومدّعى عليه ، فالقول قوله ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين ، وهذا داخل تحت ذلك ، فإن أقام كلّ واحد منهما بينة ، سمعت بينة المدّعي للموت ، لأنّ الرسول عليهالسلام جعلها في جنبته ، ولأنّ بينته تشهد بشيء ربما خفي على بيّنة الغاصب ، وهو الموت ، فهذا تحرير الفتيا في هذا السؤال.
وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فإن غصب عبدا ومات العبد فاختلفا ،
فقال : رددته حيا ومات في يدك ، وقال المالك : بل مات في يدك أيّها الغاصب ، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة بما ادّعاه ، عمل على ما نذكره في تقابل البيّنتين ، فإن قلنا ان البيّنتين إذا تقابلتا سقطتا ، عدنا إلى الأصل وهو بقاء العبد عنده حتى يعلم ردّه ، كان قويا هذا آخر كلامه رحمهالله (١) ، لم يذكر في المسألة غير ما ذكره وحكيناه عنه.
والذي قوّاه وقال : كان قويا ، مذهب الشافعي في تقابل البينتين لا مذهب أصحابنا ، وإنّما مذهب أصحابنا بغير خلاف بينهم ، الرجوع إلى القرعة لأنّه أمر مشكل ، وهذا ليس من ذلك بقبيل ، ولا هو منه بسبيل ، ولا في هذا إشكال ، فنرجع فيه إلى القرعة.
بل مثاله رجل غصب رجلا مالا ، فقال الغاصب : رددته ، وقال المغصوب منه : ما رددته إليّ ، فكان القول قول المغصوب منه مع يمينه ، فإن أقام كلّ واحد منهما بينة ، سمعت بينة الغاصب ، لأنّ لبينته مزية على بينة المغصوب منه ، لأنّها تشهد بأمر خفي على بيّنة المالك.
وكذلك من كان له على رجل دين ، فقال له : قضيته وخرجت إليك منه ، وأنكر من له الدين ذلك ، فالقول قوله مع يمينه ، فإن أقام كلّ واحد منهما بيّنته ، كانت المسموعة بينة القاضي ، لأنّها تشهد بشيء قد يخفى على بينة من له الدين ، ولا يقول أحد من العلماء انّ مما هنا تستعمل القرعة ، ولا يعاد إلى الأصل وتقابل البيّنتين وأنّهما تسقطان.
فهذا تحرير هذه الفتيا والله الموفّق للصواب ، ومرضي الجواب.
الذي تقتضيه أخبارنا وأصول مذهبنا ، أنّه إذا جنى على عبد جناية تحيط بقيمة العبد ، كان بالخيار بين أن يسلّمه إلى الجاني ، ويأخذ قيمته ، وبين أن
__________________
(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الغصب ، ص ١٠٥.
يمسكه ولا شيء له ، وما عدا ذلك فله الأرش ، إمّا مقدّرا ، إن كان له في الحرّ مقدّر ، أو حكومة ، إن لم يكن له في الحرّ مقدّر ، وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.
وما عدا الرقيق من بنى آدم ، من سائر الحيوانات المملوكات ، ما عدا بني أدم المملوكين ، إذا جنى عليه جان ، فليس لصاحبه إلا أرش الجناية.
وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر وتحريره في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب الغصب ، في المسألة التاسعة ، فإنّه رجع عمّا قاله في المسألة الرابعة ، ورجوعه هو الصحيح الذي تقتضيه الأدلة ، على ما قاله رحمهالله ، فإنّه قال في المسألة التاسعة ، والذي تقتضيه أخبارنا ومذهبنا ، أنّه إذا حنى على عبد جناية تحيط بقيمة العبد ، كان بالخيار بين أن يسلمه ويأخذ قيمته ، وبين أن يمسكه ولا شيء له ، وما عدا ذلك فله الأرش ، إما مقدرا أو حكومة ، على ما مضى القول فيه ، وما عدا المملوك من الأملاك إذا جنى عليه ، فليس لصاحبه إلا أرش الجناية ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم وقد ذكرناها في الكتاب المقدّم ذكره ، هذا آخر كلام شيخنا في المسألة.
ثمّ قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا قلع عين دابة ، كان عليه نصف قيمتها ، وفي العينين جميع القيمة ، وكذلك كل ما كان في البدن منه اثنان ، ففي الاثنين جميع القيمة ، وفي الواحد نصفها ، وقال أبو حنيفة : في العين الواحد ربع القيمة ، وفي العينين نصف القيمة ، وكذلك في كلّ ما ينتفع بظهره ولحمه ، وقال الشافعي ومالك : عليه الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وروي عن عمر ، أنّه قضى في عين الدابة ربع قيمتها ، ورووا ذلك عن علي عليهالسلام ، وهذا يدلّ على بطلان قول من يدّعي الأرش ، فإمّا قولنا ، فدليله إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط (١) هذا آخر كلامه رحمهالله.
__________________
(١) الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة ٤.
قال محمّد بن إدريس : ما ذكره رحمهالله من قوله : « كل ما في البدن منه اثنان ففي الاثنين جميع القيمة ، وفي الواحد نصفها » انّما ورد في الرقيق المماليك من بني آدم فحسب ، دون البهائم ، والصحيح ما ذكره في المسألة التاسعة ، وهو الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، لأنّ القياس عندنا باطل ، فمن حمل البهائم على بنى آدم المملوكين ، كان قايسا.
وأيضا فقد قال رحمهالله في مسائل خلافه : مسألة ، إذا جنى على حمار القاضي ، كان مثل جنايته على حمار الشوكي سواء ، في أنّ الجناية إذا لم تسر إلى نفسه ، يلزم أرش العيب ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : إن كان حمار القاضي ، فقطع ذنبه ، ففيه كمال قيمته (١).
قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : إن كان الطريقة التي ذهب شيخنا إليها في عين الدابة مرضية صحيحة ، فقول مالك صحيح مرضيّ ، لأنّ في الدابة ذنبا واحدة ، وقد دلّ على فساد قول مالك ، ويدخل فيه فساد قوله رحمهالله وهذا متناقض ، وذكر في نهايته أنّ عليه ربع قيمتها (٢) والصحيح ما حرّرناه.
باب الإقرار
إقرار الحر البالغ الثابت العقل غير المولّى عليه جائز على نفسه ، للكتاب والسنّة والإجماع.
فإذا ثبت ذلك فلا يصح الإقرار على كلّ حال إلا من مكلّف غير محجور عليه لسفه ، أورق.
فلو أقرّ المحجور عليه لسفه بما يوجب حقا في ماله ، لم يصح ، ويقبل إقراره بما يوجب حقا على بدنه ، كالقصاص والقطع والجلد.
فأمّا إن كان محجورا عليه لجنون أو صغر ، فلا يصح إقراره على ماله ، على بدنه.
__________________
(١) الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة ٤.
(٢) النهاية : تقدم في ص ٨٧٩.
وإن كان محجورا عليه لفلس ، يصح إقراره في ماله ، وعلى بدنه عند بعض أصحابنا.
والأولى عندي أنّه لا يقبل (١) إقراره في أعيان أمواله بعد الحجر عليه ، فأمّا إن أقرّ بشيء في ذمته لا في أعيان أمواله ، فإنّ إقراره يصح. ولا يقاسم المقر له الغرماء في أعيان الأموال ، لأنّا إن قبلنا إقراره بعد الحجر في أعيان أمواله ، فلا فائدة في حجر الحاكم ، ولا تأثير لذلك ، لأنّ ذلك يكون إقرارا بشيء ، قد تعلّق به حقّ الغير ، فلا يقبل منه ، فأمّا إن أقرّ بدين في ذمته ، فإنّه يقبل إقراره.
فأمّا إقراره على بدنه فمقبول على كلّ حال ، فأمّا إن كان محجورا عليه لرق ، فإنّه لا يقبل إقراره عند أصحابنا ، لا في مال في يديه ولا على بدنه ، سواء أقرّ بقتل العمد ، أو بقتل الخطإ ، لأنّ ذلك إقرار على الغير ، لكنه يتبع به إذا لحقه العتاق ، ومتى صدقه السيد ، قبل إقراره في جميع ذلك بلا خلاف.
ويصحّ إقرار المريض الثابت العقل ، للوارث وغيره ، سواء كان بالثلث أو أكثر منه ، وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، وأيضا قوله تعالى « كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » (٢) والشهادة على النفس هي الإقرار ، ولم يفصل ، وعلى من ادّعى التخصيص الدليل.
ويصح الإقرار المبهم ، مثل أن يقول لفلان عليّ شيء ، ويرجع في تفسيره إليه ، فمهما فسّره به قبل ، إذا كان ممّا يتموّل ويملكه المسلمون ، قليلا كان أو كثيرا ، ولا تصح الدعوى المبهمة ، لأنّا إذا رددنا الدعوى المبهمة ، كان للمدّعي ما يدعوه إلى تصحيحها ، وليس كذلك الإقرار ، لأنّا إذا رددناه ، لا نأمن أن لا يقرّ ثانيا.
والمرجع في تفسير المبهم إلى المقر ، على ما قدّمناه ، ويقبل تفسيره بأقل ما يتمول في العادة ، فإن لم يقر جعلناه ناكلا ، ورددنا اليمين على المقر له ، فيحلف على ما يقول ، ويأخذه ، فإن لم يحلف فلا حقّ له.
__________________
(١) ج : لا يصحّ.
(٢) النساء : ١٣٥.
وإذا قال له عليّ مال عظيم أو جليل ، أو نفيس ، أو خطير ، لم يقدر ذلك بشيء ، ويرجع في تفسيره إلى المقر ، ويقبل تفسيره بالقليل والكثير ، لأنّه لا دليل على مقدر معيّن ، والأصل براءة الذمة ، وما يقر به مقطوع عليه ، فوجب الرجوع إليه ، ويحتمل أن يكون أراد ، عظيم عند الله تعالى من جهة المظلمة ، وأنّه جليل نفيس عند الضرورة إليه ، وإن كان قليل المقدار ، وإذا احتمل ذلك وجب أن يرجع إلى تفسيره ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا نعلّق عليها شيئا محتملا. ويحتج على المخالف بما روي من قوله عليهالسلام : « لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفس منه » (١) لأنّه يقتضي أن لا يؤخذ منه أكثر ممّا أقرّ به.
وإذا قال له عليّ مال كثير ، كان إقرارا بثمانين ، لما رواه أصحابنا (٢) وأجمعوا عليه. وروي في تفسير قوله تعالى « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ » (٣) أنّها كانت ثمانين موطنا (٤).
والأولى عندي أنّه يرجع في التفسير إليه ، لأنّ هذا قول مبهم محتمل ، ولا تعلّق على الذمم شيئا بأمر محتمل ، وانّما ورد في أخبار أصحابنا ، وأجمعوا عليه في النذر فحسب ، ولم يذهب أحد منهم إلى تعديته إلى الإقرار والوصية ، سوى شيخنا أبي جعفر رحمهالله في فروع المخالفين في المبسوط (٥) ، ومسائل خلافه (٦) ، والقياس عندنا باطل ، فمن عدّاه إلى غير النذر الذي ورد فيه ، يحتاج إلى دليل.
ثم لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين ، أنّه إذا باع دارا بمال كثير ، يكون البيع باطلا ، لأنّ الثمن مجهول المقدار ، فلو كان الشارع قد جعل حدّ الكثير ثمانين في كلّ شيء ، لما كان البيع باطلا ، وكذلك إذا باع الدار بجزء من ماله ،
__________________
(١) الوسائل : الباب ١ من أبواب القصاص ، ح ٣ ، وفيه : لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه وفي المستدرك : الباب ١ من أبواب الغصب ح ٦ : المسلم أخو المسلم لا يحل ماله الا بطيب نفس منه.
(٢) و (٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب النذر والعهد.
(٣) التوبة : ٢٥.
(٥) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ٦.
(٦) الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة ١.