إلا أنّه رجع عن ذلك في استبصاره (١) ، وهو الحق اليقين ، لأنّا قد بيّنا ، أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا نقدا ، ونسيئة ، إلا ما خرج بدليل ، من الذهب والفضة ، فإنّه لا يجوز بيعهما نسيئة.
ولا يجوز التفاضل في الأدهان ، إذا كان الأصل يرجع إلى جنس واحد ، مثل أن يباع الشيرج بالشيرج ، الذي فيه البنفسج ، فإنّه يسمّى دهن البنفسج ، أو دهن الورد ، وما أشبه ذلك ، ممّا كان الأصل فيه دهن الشيرج.
ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج ، ولا بزر (٢) الكتان بدهنه ، بل ينبغي أن يقوّم كل واحد منهما ، على انفراده.
ولا يجوز بيع البسر بالتمر ، متفاضلا ، ويجوز متماثلا ، لأنّهما جنس واحد ، بغير خلاف ، فلو كان التعليل في المنع ، من جواز بيع الرطب بالتمر صحيحا ، لما جاز بيع البسر بالتمر ، مثلا بمثل ، ولا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، من أنّه لا يجوز بيع البسر بالتمر متفاضلا ، وإن اختلف جنسه ، ولا بيع نوع من تمر بأكثر منه ، من غير ذلك ، لأنّ ما يكون من النخل ، في حكم النوع الواحد ، بغير خلاف بين أصحابنا.
وحكم الزبيب ، وتحريم التفاضل فيه ، وإن اختلف جنسه ، مثل التمر سواء ، لأنّ جميعه في حكم الجنس الواحد ، ولا يجوز بيع الدبس المعمول من التمر ، بالتمر متفاضلا ، ولا بأس ببيعه مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز نسيئة.
ولا بأس ببيع التمر بالزبيب متفاضلا ، نقدا ونسيئة ، إلّا أنّه روى كراهة بيعه نسيئة وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا يجوز نسيئة.
وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك ، من أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، لما دللنا عليه من قبل.
__________________
(١) الاستبصار : ج ٣ ، كتاب البيوع ، باب اسلاف السمن بالزيت ، فراجع كلامه قدسسره.
(٢) البزر ـ بالكسر ـ كل حب يبذر للثبات.
ولا بأس ببيع الزبيب ، بالدبس المعمول من التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، ولا يجوز بيعه بما يعمل من الزبيب من الدّبوس ، متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة ولا يجوز بيع العنب بالزبيب إلا مثلا بمثل.
والعصير والبحتج ، لا يجوز التفاضل فيهما ، ويجوز بيع ذلك مثلا بمثل ، يدا ولا يجوز نسيئة لأنّهما معا جنس واحد ، إلا أنّ أحدهما مسّته النار ، وهو البحتج ، والآخر ما مسته ، وهو العصير ، قال الجوهري ، في كتاب الصحاح : والطلاء ما طبخ من عصير العنب ، حتى ذهب ثلثاه ، ويسمّيه العجم الميبختج هكذا حكاه بالميم المكسورة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، المسكنة ، والباء المنقطة من تحتها بنقطة واحدة ، المضمومة ، والخاء المعجمة المسكنة ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، المفتوحة ، والجيم ، هكذا ذكره ، وهو أعرف بهذا الشأن ، والأول روايتنا وسماعنا.
وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ، ويكره ذلك نسية ، وإن كان غير محرّم ، لأنه لا ربا فيهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ الربا عندنا في المكيل والموزون مع التفاضل ، والجنس واحد ، والمعدود ليس كذلك.
قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ولا يجوز ذلك فيه نسيئة ، مثل البيضة بالبيضتين ، والجوزة بالجوزتين ، والحلّة ـ بالحاء غير المعجمة ، وهي جنس من الثياب ـ بالحلتين ، وما أشبه ذلك ، ممّا قدّمناه فيما مضى ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (١).
وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : وحكم ما يباع عددا ، حكم المكيل والموزون ، لا يجوز في الجنس منه التفاضل ، ولا في المختلف منه النسيئة (٢).
وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : ما اخترناه أولا ، وهو أنّه يجوز
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.
(٢) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب بيع الواحد بالاثنين ص ٦٠٥.
التفاضل في المعدود ، وإن كان الجنس واحدا يدا بيد ويكره ذلك نسيئة وزاد على قولنا ، أنّه لا كراهة في النسيئة ، وهو الذي يقوى عندي ، لأنّ الكراهة تحتاج إلى دليل ، قال رحمهالله في مسائل الخلاف : مسألة ، لا ربا في المعدودات ، ويجوز بيع بعضه ببعض متماثلا ، ومتفاضلا ، نقدا ونسيئة ، وللشافعي فيه قولان ، ثم قال رحمهالله : دليلنا الآية ، وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وأيضا عليه إجماع الفرقة ، وأخبارهم تدل على ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (١).
وهو الحق اليقين ، فقد رجع عمّا ذكره في نهايته ، واستدل بالآية وإجماع الفرقة وبأخبارهم ، فليت شعري ، الذي ذكره في نهايته من اين قاله ، وكيف جاز له أن يرجع عنه ، لو كان عنده حجة ، وإنما أورده من طريق خبر الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، فلو كان الرجل عاملا بأخبار الآحاد ، لما جاز له أن يرجع عن ذلك ، فلا يتوهم على شيخنا خلاف ما يعتقده ، وإن وجد له في بعض كتبه كلام ، يدلّ على أنّه يعمل بأخبار الآحاد ، فقد يوجد له في معظم كتبه ، وتصنيفه ، كلام يدل على أنّه غير عامل بأخبار الآحاد ويوجد ذلك في استبصاره كثيرا ، فإنّه يقول : هذا خبر واحد وأخبار الآحاد عندنا غير معمول عليها ، فلو كان عاملا بأخبار الآحاد ، لما ساغ له أن يقول ذلك كذلك ، لأنّه يكون مناقضا في أقواله ، مضادا لأفعاله.
وإذا كان الشيء يباع في مصر من الأمصار ، كيلا أو وزنا ، ويباع في مصر آخر جزافا ، فحكمه حكم المكيل والموزون ، إذا تساوت الأحوال في ذلك ، وإذا اختلفت ، كان الحكم فيه حكم الأغلب والأعم.
الماء لا ربا فيه ، لأنّه ليس بمكيل ولا موزون ، فيدخل تحت الأخبار ،
__________________
(١) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٧٢ ، وفيه : بعضها ببعض.
والآيات ، وقد بيّنا أنّه لا ربا إلا فيما يكال ويوزن.
يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب ، مثلا بمثل ولا يجوز متفاضلا وبيع خل التمر بخل التمر ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل العنب ، مثلا بمثل ، ولا يجوز متفاضلا ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، ويجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما فصل ، بالقاف المفتوحة ، والصاد غير المعجمة المحرّكة ، واللام ، قال الجوهري في كتاب الصحاح : القصل في الطعام مثل الزوان ، قال الشاعر : « قد غربلت وكربلت من الفصل » أبو عمرو كربلت الحنطة إذا هذبتها مثل غربلتها.
قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : يجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما قصل ، وهو عقد التبن ، أو زوان ، وهو حب أصغر منه ، دقيق الطرفين ، أو شيلم ، وهو معروف.
وقد قلنا أنّ الألبان أجناس مختلفة ، فلبن الغنم الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلف أنواعه ، ولبن الغنم الوحشي ، وهي الظباء جنس آخر ، وكذلك لبن البقر الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلفت أنواعه ، ولبن البقر الوحشي ، جنس آخر.
يجوز بيع اللبن بالزبد ، إذا كان من جنسه ، متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، لا نقدا ولا نسيئة ، على ما قدّمناه.
الجبن ، والأقط ، والسمن ، والمصل ، واللبن ، كل واحد منها ، بالآخر يجوز متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، إذا كانت من جنس واحد.
يجوز بيع مدّ من تمر ودرهم ، بمدّي تمر ، وبيع مدّ من حنطة ودرهم ، بمدّي حنطة ، ومدّ من شعير ودرهم بمدّي شعير ، وهكذا إذا كان بدل الدرهم ، في هذه المسائل ، ثوبا ، أو خشبة ، أو غير ذلك ممّا فيه الربا ، أو لا ربا فيه ، وهكذا يجوز بيع درهم وثوب ، بدرهمين ، وبيع دينار وثوب ، بدينارين.
وجملته أنّه يجوز بيع ما يجري فيه الربا بجنسه ، ومع أحدهما غيره ، ممّا فيه
الربا ، أو لا ربا فيه ، إذا كان العين (١) مع أقل العرضين اللذين هما المثمنان (٢).
باب الصّرف وأحكامه
الصرف عبارة في عرف الشرع ، عن بيع الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة ، أو الذهب بالفضة ، أو الفضة بالذهب ، وقد بيّنا في باب الربا ، أنّه لا يجوز بيع درهم بدرهمين ، لا نقدا ولا نسيئة ولا بيع درهم بدرهم نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا وكذلك لا يجوز بيع دينار بدينارين (٣) لا نقدا ولا نسيئة ، ولا بيع دينار بدينار ، نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا ، ولا بأس ببيع دينار بدراهم نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.
وإذا كان للإنسان على غيره دراهم ، جاز أن يأخذ بها دنانير ، وكذلك إن كان له دنانير ، فيأخذ بها دراهم ، لم يكن به بأس ، فإن كان له دنانير وأخذ الدراهم ، ثم تغيّرت الأسعار ، كان له سعر يوم قبض الدراهم ، من الذي كان له عليه الدنانير ، دون يوم المحاسبة ، على ما قدّمناه ، في الجزء الأوّل من كتابنا هذا.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان لإنسان على صيرفي دراهم ، أو دنانير ، فيقول له : حول الدنانير إلى الدراهم ، أو الدراهم إلى الدنانير ، وساعره على ذلك ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه في الحال ، ولا يناقده ، لأن النقدين جميعا من عنده (٤).
قال محمد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : إن أراد بذلك ، انّهما افترقا قبل التقابض من المجلس ، فلا يصح ذلك ، ولا يجوز بغير خلاف ، لأنّ الصرف لا يصح أن يفترقا من المجلس ، إلا بعد التقابض ، فإن افترقا قبل أن يتقابضا ، بطل البيع والصرف ، وإن أراد أنّهما تقاولا على السعر ، وعينا الدراهم المبتاعة ، أو الدنانير المبيعة ، وتعاقدا البيع ، ولم يوازنه ، ولا ناقده ، بل نطق البائع
__________________
(١) ل : كان الغير.
(٢) ل : المتماثلان.
(٣) الى هنا ينتهى نقص نسخة الأصل.
(٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.
بمبلغ المبيع ، ثم تقابضا قبل التفرّق والانفصال من المجلس ، كان ذلك جائزا صحيحا ، وإن أراد الأوّل فذلك باطل ، بلا خلاف.
يدلك على ما قلناه ، ما قاله شيخنا رحمهالله في مبسوطة ، فإنّه قال : تصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، ان كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا يقبض بدله من جنس آخر مثل ان يأخذ دراهم بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير ، كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم بدل الدنانير ، وجب ان يقبضها في المجلس ، قبل ان يفارقه ، لان ذلك صرف وإن أخذ عرضا آخر ، جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين بثمن في الذمة ، هذا آخر كلامه رحمهالله في مبسوطة (١).
وقال شيخنا أيضا في نهايته : وإذا أخذ إنسان من غيره دراهم ، فأعطاه الدنانير ، أكثر من قيمة الدراهم ، أو أخذ منه الدنانير ، وأعطاه الدراهم ، مثل ماله ، أو أكثر من ذلك ، وساعره على ثمنه ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد ، ولا يجوز ذلك إذا كان ما يعطيه أقل من ماله فإن أعطاه أقل من ماله ، وساعره ، مضى البيع في المقدار الذي أعطاه ، ولم يمض فيما هو أكثر منه ، والأحوط في ذلك أن يوازنه ويناقده في الحال ، أو يجدّد العقد في حال ما ينتقد ويتزن (٢).
وهذا يبيّن لك ، انّ مراده رحمهالله ، في المسألة الأولة ، أنّه ما فارقه من المجلس ، إلا بعد أن تقابضا ، كما أنّ هاهنا ، قال : « وساعره على ثمنه كان ذلك جائزا وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد » يريد
__________________
(١) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص ١٨٧.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف واحكامه.
أنّ الأخبار بمبلغ الموزون أو المكيل ، يقوم مقام الوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، لأنّهما لا يجوز أن يباعا جزافا ، من دون وزن ، أو اخبار بوزن ، أو كيل ، أو اخبار بكيل.
ولا بأس أن يبيع الإنسان ألف درهم ودينارا ، بألفي درهم ، من ذلك الجنس ، أو من غيره من الأجناس والدراهم ، وإن كان الدينار لا يساوي ألف درهم في الحال ، وكذلك لا بأس أن يجعل بدل الدينار شيئا من الثياب ، أو جزء من المتاع ، على ما قدّمناه ، ليتخلص من الربا ، ويكون ذلك نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، وكذلك لا بأس أن يبيع ألف درهم صحاحا ، وألفا مكسرة ، وهي الغلّة « لأن مكسرة الدراهم ، تسمّى الغلّة ، مثل مكسرة الدنانير ، تسمّى قراضة » بألفين صحاحا ، أو بألفين غلة نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.
وقال شيخنا في نهايته : وكذلك لا بأس أن يبيع درهما بدرهم ويشرط معه صياغة خاتم ، أو غير ذلك من الأشياء (١).
ووجه الفتوى بذلك ، على ما قاله رحمهالله : إنّ الربا هو الزيادة في العين ، إذا كان الجنس واحدا ، وهاهنا لا زيادة في العين ، ويكون ذلك على جهة الصلح في العمل ، فهذا وجه الاعتذار له ، إذا سلم العمل به ، ويمكن أن يحتج بصحته ، بقوله تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، والربا المنهي عنه غير موجود هاهنا ، لا حقيقة لغوية ولا حقيقة عرفية شرعية.
وإذا باع الإنسان دراهم بالدنانير ، لم يجز له أن يأخذ بالدنانير دراهم مثلها ، إلا بعد أن يقبض الدنانير ، ثم يشتري بها دراهم إن شاء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٢).
قال محمّد بن إدريس : إن لم يتفارقا من المجلس ، إلا بعد قبض الدراهم المبتاعة بالدنانير التي على المشتري الأول ، فلا بأس بذلك وإن لم يكن قبضه الدنانير التي هي ثمن الدراهم الأولة المبتاعة ، هذا إذا عيّنا الدراهم الأخيرة
__________________
(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.
المبتاعة ، فإن لم يعيّناها ، فلا يجوز ذلك ، لأنّه يكون بيع دين بدين ، وإن عيّناها ، لم يصر بيع دين بدين ، بل يصير بيع دين بعين.
ولا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره ، من الدراهم والدنانير ، بدراهم معينة ودنانير معينة ، ويقبضها قبل التفرق من المجلس ، من الذي هي عليه ، على ما أسلفنا القول فيه ، وحررناه ، ولا يجوز له أن يبيعها إيّاه بدراهم ، أو دنانير غير معيّنة ، لأنّها إذا كانت غير معيّنة ، فإنها تكون في ذمته ، وإذا كانت في ذمته ، فهي دين عليه ، فيصير بيع دين بدين ، لأنّ الأثمان عندنا تتعيّن ، فإذا كانت معيّنة ، وهلكت قبل القبض ، بطل البيع ، فإذا لم تكن معينة ، وهلكت لم يبطل البيع الذي هي ثمن له لأنّها إذا لم تكن (١) معيّنة ، فإنّه دين في الذمة ، بغير خلاف ، فافترق الأمران ، وتباين القولان.
وقد حكينا عن شيخنا أبي جعفر ، ما قاله في مبسوطة ، قبيل هذا الكلام في هذا الباب وتصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، إن كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا بقبض بدله من جنس آخر ، مثل أن يأخذ دراهم ، بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا ، أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم ، بدل الدنانير ، وجب أن يقبضها في المجلس ، قبل أن يفارقه ، لأنّ ذلك صرف ، وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين ، بثمن في الذمة (٢).
فدلّ ذلك ، على أن الدراهم أو الدنانير المبتاعة بالثمن الذي في الذمة معيّنة ، بقوله : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : لأنّه بيع عرض
__________________
(١) ج : هي فيه ثمن ، لأنها لم تكن.
(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص ١٨٧.
معين بثمن في الذمة » فجعل التعيين في المسألتين الأخذ ، لأنّه قال : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : « لأنّه بيع عرض معيّن بثمن في الذمة » وما جرى للتعيين ذكر إلا بقوله أخذ ، فلو لم يكن العرض معيّنا ما علله بقوله : لأنه بيع عرض معيّن ، وكذلك في الدنانير المبيعة بالثمن الذي في الذمة لا بد من تعيينها ، لئلا يكون بيع دين بدين ، على ما حرّرناه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، ففيه غموض (١) على غير المحصّل لهذا الشأن.
وإذا اشترك نفسان في شراء دراهم بدنانير ، ونقد أحدهما الدنانير عن نفسه ، وعن صاحبه ، وجعل نقده عنه دينا عليه بأمره له وقوله : ثم أراد أن يشتري منه حصته بالدنانير التي له عليه من ثمنها ، أو أقل منها ، أو أكثر ، لم يكن به بأس ، إذا كانت الدراهم المبتاعة في يد المشتري ، وإن كانت في يد البائع ، فلا بدّ من أن يتقابضا بها قبل التفرق من المجلس ، فإن افترقا قبل أن يقبضها المشتري الذي هو صاحب الدين ، مع البائع الذي هو شريكه ، بطل البيع ، لأنّه صرف.
ولا يجوز إنفاق الدنانير والدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، إلا ان تكون معلومة الحال ، شايعة متعاملا بها ، غير مجهولة في بلدها ، وعند بائعها ، ومشتريها ، فيقوم ذلك مقام تبين حالها.
وشيخنا أبو جعفر ، قال في نهايته : ولا يجوز إنفاق الدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، وأطلق ذلك ، وحرّر ذلك على ما حرّرناه ، وشرحناه ، في الجزء الثالث من استبصاره (٢) ، وبه أورد الأخبار المتواترة الكثيرة ، ثم أورد الخبر الذي ذكره في نهايته ، فتأوله ، والخبر عن الفضل بن عمر الجعفي ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام ، فالقي بين يديه دراهم ، فألقى إليّ درهما
__________________
(١) ج : عموم. والظاهر ان هذه النسخة « غموم ».
(٢) الاستبصار : كتاب البيوع ، باب إنفاق الدراهم المحمول عليها ، والخبر الخامس منه هو خبر مفضل وفي الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ١٠ من أبواب الصرف.
منها ، فقال : أيش هذا؟ فقلت : ستوق ، فقال : وما الستوق؟ قلت : ثلاث طبقات طبقة فضة ، وطبقة نحاس (١) ، وطبقة فضة فقال : اكسرها (٢) فإنّه لا يحل بيع هذا ، ولا إنفاقه.
قال شيخنا أبو جعفر : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار ، وكان قد أورد قبل هذا الخبر أخبارا كثيرة بأنّه لا بأس بإنفاقها ، إذا كان الغالب عليها الفضة (٣) ، وبعضها ، قال : سألته عن الدراهم المحمول عليها ، فقال : لا بأس بإنفاقها (٤) وفي بعضها قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن إنفاق الدراهم المحمول عليها ، فقال : إذا جازت الفضة الثلثين ، فلا بأس (٥) ، قال رحمهالله : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار ـ أنّ الدراهم إذا كانت معروفة متداولة بين الناس ، فلا بأس بإنفاقها ، على ما جرت به عادة البلد ، فإذا كانت دراهم مجهولة ، فلا يجوز إنفاقها إلا بعد أن يبين عيارها ، حتى يعلم الآخذ لها قيمتها.
قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وهذا التأويل والمذهب الذي حرّره في استبصاره ، هو الذي يقوى في نفسي ، لأنّه الحقّ اليقين ، وبه تشهد العادات والحالات ، فإنّه إذا كان المعنى معلوما بشاهد حال ، جرى مجرى المنطوق به.
قال محمّد بن إدريس : أمّا استفهام الإمام عليهالسلام ما السّتوق ، فإنّها كلمة فارسيّة غير عربية ، وهي مفتوحة السين ، غير المعجمة ، مشدّدة التاء المنقّطة من فوقها ، بنقطتين ، المضمومة ، والواو ، والقاف ، ومعناها ثلاث طبقات ، لأنّ « سه » بالفارسيّة ثلاثة ، وتوق ، طبقات وهو الزائف الردي البهرج ، قال الصولي في كتاب الأوراق : اعترض مخلد الشاعر الموصلي ، الخليفة المعتمد بالله ، لمّا دخل الموصل ، بمدح وحلّفه أن يسمعه ، فأحضره ، وسمع مدحه ، ثم قال له :
__________________
(١) ق : طبقتين فضة وطبقة نحاس.
(٢) ل. ق : اكسر هذا.
(٣) هو خبر عمر بن يزيد ، وهو ثالث أخبار الباب المذكور.
(٤) هو رواية محمّد بن مسلم ، وهو أوّل خبر من الباب.
(٥) هو خبر آخر عن عمر بن يزيد وهو الرواية الثانية من الباب.
أنشدني هجاك لأهل الموصل ، فأنشده :
هم قعدوا فانتقوا لهم حسبا |
|
يجوز بعد العشاء في العجب |
حتى إذا ما الصّباح لاح لهم |
|
بيّن ستوقهم من الذهب |
والنّاس قد أصبحوا صيارفة |
|
اعلم شيء ببهرج النسب |
ولا يجوز بيع الفضة إذا كان فيها شيء من المس أو الرصاص أو الذهب ، أو غير ذلك إلا بالدنانير ، إذا كان الغالب الفضة ، فإن كان الغالب الذهب ، والفضة الأقل ، فلا يجوز بيعه إلا بالفضة ، ولا يجوز بيعه بالذهب ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، لأنّه ما يتحصل مقدار ما في ذلك ، فيصير مجهول المقدار ، وليس كذلك إذا باع فضة معلومة ، معها جنس آخر بفضة أكثر منها ، لأن تلك معلومة ، فتكون الفضة بالمثل مثلا بمثل ، والزائد ثمن الجنس الآخر ، وما منعنا من ذلك ، إلا إذا لم يحصل العلم بمقدار كل واحد منهما على التحقيق ، فإن تحقق ذلك ، جاز بيع كل واحد منهما بجنسه ، مثلا بمثل ، من غير تفاضل.
وكذلك حكم الأواني المصوغة من الذهب والفضة ، والسيوف المحلاة بالذهب والفضة إن كان ممّا يمكن تخليص كل واحد منهما من صاحبه ، فلا يجوز (١) بيعها بالذهب والفضة ، فإن لم يمكن ذلك فيها ، فان كان الغالب فيها الذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، وإن كان الغالب فيها الفضة ، لم تبع إلا بالذهب ، لما قلناه من الجهل بما فيها ، وخوف الربا ، فان تساوى النقدان ، وعلما ، بيع بالذهب والفضة معا.
والسيوف المحلاة والمراكب المحلاة |
|
بالذهب والفضة ، فإن كانت محلاة |
بالفضة ، وعلم مقدار ما فيها ، جاز بيعها بالذهب والفضة نقدا ، ولا يجوز نسيئة. فإن بيع بالفضة ، فيكون ثمن السيف أكثر مما فيه من الفضة ، جاز ، وإن كان أقل ممّا فيه أو مثل ما فيه لم يجز (٢) بيع ذلك ، إلا أن يستوهب السيف والسير ، أو يشتريهما ،
__________________
(١) ج : فإنّه يجوز.
(٢) أقلّ ممّا فيه لم يجز.
أعني السيف والسير نسيئة في ذمته ، ويعجل الفضة أو الذهب الذي هو مثل الخلية ، قبل مفارقه المجلس ، هذا إذا كان مثل ما فيه ، فأمّا إذا كان أقلّ ممّا فيه من الفضة ، فلا يجوز على حال ، لأنّ ذلك ربا محض ، وكذلك الحكم فيها إذا كانت محلاة بالذهب ، وعلم مقدار ما فيها ، بيع بمثلها وأكثر منها بالذهب ، ولا يجوز بيعها بأقل مما فيها من الذهب ، ويجوز بيعها بالفضة ، سواء كان أقل ممّا فيها من الذهب ، أو أكثر ، إذا كان نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة على حال.
ومتى لم يعلم مقدار ما فيها ، وكانت محلاة بالفضة ، فلا تباع إلا بالذهب ، وإن كانت محلاة بالذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، أو بجنس آخر سوى الجنسين من السلع والمتاع.
ومتى كانت محلاة بالفضة ، وأرادوا بيعها بالفضة ، وليس لهم طريق إلى معرفة مقدار ما فيها ، فيجعل معها شيء آخر ، وبيع حينئذ بالفضة ، إذا كان أكثر مما فيه تقريبا ، ولم يكن به بأس ، وكذلك الحكم فيما كان من الذهب ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).
ولي في ذلك نظر.
ولا بأس ببيع السيوف المحلاة بالفضة (٢) ، نسيئة إذا نقد مثل ما فيها من الفضة ويكون ما يبقى ، ثمن السير والنصل ، على ما قدّمناه.
ولا يصح أن يشتري الإنسان سلعة بدينار غير درهم ، ولا بدراهم غير دينار ، لأنّ ذلك مجهول.
قال محمّد بن إدريس : قولنا « لا يصح » نريد به العقد لا يصح ، وقولنا (٣) « لأنّه مجهول » المراد به الثمن مجهول ، وإذا كان الثمن مجهولا ، فالعقد والبيع لا يصح ، وهو غير صحيح ، ووجه كون الثمن في هذه الصورة مجهولا ، لأنّه لا يدرى كم حصة الدرهم من الدنانير ، ولا حصّة الدنانير من الدراهم ، إلا بالتقويم ،
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.
(٢) ج : المحلاة بالفضة بالفضة.
(٣) ج : قوله لا يصح يريد به العقد لا يصح وقوله.
والرجوع إلى أهل الخبرة ، وذلك غير معلوم وقت العقد ، فهو مجهول.
فإن استثنى من جنسه ، فباع بمائة دينار إلا دينارا ، أو بمائة درهم ، إلا درهما ، صحّ البيع ، لأنّ الثمن معلوم ، وهو ما بقي بعد الاستثناء.
إذا اشترى خاتما من فضة مع فضة بفضة ، جاز إذا كان الثمن أكثر ممّا فيه من الفضة ، هذا إذا كانت فضة الخاتم معلومة المقدار.
ومن أقرض غيره دراهم ، ثمّ سقطت تلك الدراهم التي أقرضها إيّاه ، وجاءت غيرها ، لم يكن عليه إلا الدراهم التي أقرضها ، أو سعرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه.
ولا بأس أن يعطي الإنسان غيره دراهم أو دنانير ، ويشترط عليه أن ينقدها إيّاه ، بأرض أخرى مثلها ، في العدد أو الوزن ، من غير تفاضل فيه ، ويكون ذلك جائزا لأن ذلك (١) يكون على جهة القراض لا على جهة البيع ، بل هو محض القرض ، وهذا القرض ما جر نفعا حتى يكون حراما ، لأنّ المحرّم من القرض ، هو أن يشترط زيادة في العين أو الصفة ، وهاهنا لا زيادة في العين والمقدار ، ولا زيادة في الصفة ، ولأنّ البيع في المثلين ، لا يجوز إلا مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة وجوهر الفضة لا يجوز بيعه ، إلا بالذهب ، أو بجنس غير الفضة ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، ولأنّ ما فيه من الفضة غير معلوم ، ولا محقق.
وجوهر الذهب ، لا يجوز بيعه إلا بالفضة ، أو بجنس غير الذهب ، وجوهر الذهب والفضة معا يجوز بيعه بالذهب والفضة معا (٢).
ولا يجوز بيع تراب الصاغة ، فإن بيع ، كان ثمنه للفقراء والمساكين ، يتصدّق به عليهم ، لأنّ ذلك لأربابه الذين لا يتميزون ، فإن تميزوا ، ردّ عليهم أموالهم ، واصطلحوا فيما بينهم ، على ما رواه أصحابنا ووجد في رواياتهم (٣).
__________________
(١) ج : ل : الا ان.
(٢) ج : يجوز بيعه بالفضة والذهب.
(٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، الباب ١٦ من أبواب الصرف.
وجوهر الأسرب « مضموم الأوّل ، مسكّن السّين ، مضموم الراء ، مشدّد الباء وهو الرّصاص » وكذلك جوهر النحاس ، والصّفر « مضموم الصاد » لا بأس بالاسلاف فيه ، دراهم ودنانير ، إذا كان الغالب عليه ذلك ، وإن كان فيه فضة يسيرة ، أو ذهب قليل.
الدراهم والدنانير يتعيّنان بالعقد ، فإذا اشترى سلعة بدراهم أو دنانير بعينها ، لم يجز له أن يسلّم غيرها ، إذا ثبت أنّهما يتعيّنان.
متى باع دراهم بدنانير ، أو دنانير بدراهم ، ثم خرج أحدهما زائفا ، بأن يكون الدراهم رصاصا ، أو الدنانير نحاسا ، كان البيع باطلا ، لأنّ العقد وقع على شيء بعينه ، فإذا لم يصح ، بطل ، وثبوته وانتقاله إلى غيره ، يحتاج إلى دليل ، فإن وجد بالدراهم عيبا من جنسه ، مثل أن يكون فضة خشنة ، أو ذهبا خشنا ، أو يكون سكة مضطربة ، مخالفة لسكة السلطان ، فهو بالخيار ، بين أن يردّه ، ويسترجع ثمنه ، وليس له بدله ، فإن كان العيب في الجميع ، كان بالخيار ، بين أن يرد الجميع ، وبين الرضا به ، فإن كان العيب في البعض ، كان له ردّ الجميع ، لوجود العيب في الصفقة ، وليس له أن يردّ البعض المعيب ، ويمسك الباقي.
وإذا باع دراهم بدراهم أو دنانير بدنانير بأعيانها ، فوجد ببعضها عيبا من جنسها ، كان ذلك عيبا ، له ردّه وفسخ العقد ، وله الرضا به ، وان كان العيب من غير جنسه ، كان البيع باطلا.
باب الشرط في العقود
لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، ويتعيّن عليه ملكه ، فإن باع مالا يملكه ، ولا يملك بيعه ، كان البيع باطلا.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، فإن باع مالا يملكه ، كان البيع موقوفا على صاحبه ، فإن أمضاه ، مضى
وإن لم يمض ، كان باطلا (١).
إلا أنّه رحمهالله رجع عن هذا في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا باع إنسان ملك غيره بغير إذنه ، كان البيع باطلا ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ينعقد البيع ويقف على إجازة صاحبه ، وبه قال قوم من أصحابنا ، قال رحمهالله : دليلنا إجماع الفرقة ومن خالف منهم لا يعتد بقوله ، وأنّه لا خلاف أنّه ممنوع من التصرّف في ملك غيره ، والبيع تصرّف ، وأيضا روى حكيم عن النبي عليهالسلام ، أنّه نهى عن بيع ما ليس عنده (٢) ، وهذا نص ، وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي عليهالسلام ، أنّه قال : لا طلاق إلا فيما يملك ، ولا عتق إلا فيما يملك ، ولا بيع إلا فيما يملك (٣) ، فنفى عليهالسلام البيع من غير الملك ، ولم يفرّق ، هذا أخر كلام شيخنا (٤).
فانظر يرحمك الله ، إلى قوله رحمهالله : « دليلنا إجماع الفرقة ، ومن خالف منهم لا يعتد بقوله » فلو كان ما ذكره في نهايته جميعه حق وصواب كيف كان يقول لا يعتد بقوله ، وهو القائل به في نهايته ، وانّما يورد أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، فيتوهم المتوهم ، ويظن الظان ، أنّ ذلك اعتقاده وفتواه ، وأنّه يعمل بأخبار الآحاد ، ولو كان ما ذكره في نهايته حقا وصوابا ، وعليه أدلة ، ما رجع عنه ، ولا استدل على خلافه.
وإذا باع ما يملك وما لا يملك ، في صفقة واحدة ، وعقد واحد ، مضى البيع فيما يملك ، وكان فيما لا يملك باطلا ، حسب ما قدّمناه ، واخترناه ، وكذلك إذا باع ما يجوز بيعه ، من جملة ما يملك وما لا يجوز بيعه من المحرّمات ، مضى البيع فيما يصح بيعه ، وبطل فيما لا يصح البيع فيه.
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
(٢) و (٣) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب عقد البيع وشرطه ، الحديث ٣ ـ ٤ باختلاف يسير.
(٤) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٢٧٥.
مثال الأول ، باع ملكه وملك غيره بثمن واحد ، في عقد واحد ، ومثال الثاني ، باع شاة مملوكة له ، وخنزيرا ، وهو مسلم ، في عقد واحد بثمن واحد ، فإن البيع في المملوك صحيح ، والبيع في غير المملوك ، وفي غير المحلل للمسلم تملكه باطل.
فإذا تقرر هذا ، فالمشتري بالخيار بين أن يردّ الصفقة جميعها ، أو يمسك ما يصح فيه البيع ، بما يخصّه من الثمن الذي يتقسط عليه ، مثاله باع شاة وخنزيرا بثلاثة دنانير ، فإنّ الثمن يتقسط على قدر قيمة الشاة ، وقيمة الخنزير عند مستحليه ، فيقال : كم قيمة الشاة؟ فيقال : قيراطان ، ويقال : كم قيمة الخنزير؟ فيقال : قيراط ، فيرجع بثلث الثمن ، وهو دينار ، وبالعكس من ذلك ، أن يقال : قيمة الشاة قيراط ، وقيمة الخنزير عند مستحليه قيراطان ، فيرجع المشتري بثلثي الثمن ، وهو ديناران.
وكذلك في ملكه وملك الغير ، إذا باعهما معا في عقد واحد ، بثمن واحد ، فبحساب ما صوّرناه ، لا يختلف الحكم في ذلك ، فالاعتبار بالقيم ، ويرجع في الأثمان بحسب القيمتين.
وقال شيخنا في نهايته : وإذا باع فلا ينعقد البيع ، إلا بعد أن يفترق البيعان ، بالأبدان ، فإن لم يفترقا ، كان لكلّ واحد منهما فسخ البيع ، والخيار (١).
قال محمّد بن إدريس : هذه عبارة موهمة غير واضحة ، كيف يقال : فإذا باع فلا ينعقد البيع ، وهذا كالمتناقض ، فإنّه إذا باع انعقد البيع ، وإن كان ما باع فما انعقد البيع ، وإنما مراد شيخنا في هذا الموضع ، أنّ البيع ، إذا لم يفترقا بالأبدان ، لم يلزم كل واحد منهما ، بل لكلّ واحد منهما الخيار في فسخه وإمضائه ، فإذا بالأبدان ، لزم واستقرّ من كل واحد منهما ، وليس لكل واحد منهما الخيار ، إلا أن يظهر عيب في المبيع ، قبل عقدة البيع ، فيكون المشتري بالخيار ، بين الرد
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
والإمساك ، فإذا ردّ يرجع بجميع الثمن ، وإذا اختار الإمساك ، رجع بأرش العيب ، « بفتح ألف الأرش » على البائع ، لا يجبر المشتري على أحد الأمرين ، هذا ما لم يتصرّف فيه تصرفا يؤذن بالرضا ، في العادة ، أو ينقص قيمته بتصرّفه.
ومتى شرط المبتاع على البائع ، مدّة من الزمان ، كان ذلك جائزا ، كائنا ما كان ، على ما قدّمناه فيما مضى ، فإن هلك المتاع في تلك المدّة ، من غير تفريط من المبتاع ، ولا تصرفه فيه ، التصرّف المذكور ، كان من مال البائع ، فإن هلك بعد انقضاء المدة ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، على كل حال ، سواء تصرف فيه ، أو لم يتصرف ، لأنّ بعد المدة ، ما بقي له خيار.
فكل من كان له الخيار ، فالمتاع يهلك من مال من ليس له خيار ، لأنّه قد استقرّ العقد عليه ، ولزم ، والذي له الخيار ، ما استقر عليه العقد ، ولا لزمه ، فإن كان الخيار للبائع ، دون المشتري ، وكان المتاع قد قبضه المشتري ، وهلك في يديه ، كان هلاكه من مال المشتري ، دون البائع ، لأنّ العقد استقرّ عليه ، ولزم من جهته.
وإذا باع الإنسان شيئا ، ولم يقبض المتاع ، ولا قبض الثمن ، ومضى المشتري ، ولم يشترطا خيارا لهما ، ولا لأحدهما ، ولا ضربا للثمن أجلا ، ولا قبض أحدهما شيئا من المعوضين ، لا الثمن ولا المثمن ، ففي هذه الصورة يكون العقد موقوفا ، عند أصحابنا إلى ثلاثة أيّام ، فإن جاء المبتاع في مدة الثلاثة الأيّام ، كان البيع له ، وإن مضى ثلاثة أيّام ، كان البائع أولى بالمتاع ، إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء لم يفسخه ، وطالب المشتري بالثمن ، لا يجبر على أحد الأمرين ، بل الخيرة له في ذلك.
فإن هلك المتاع في مدة هذه الثلاثة الأيام ، ولم يكن قبّضه إيّاه ، ولا قبض ثمنه ، ولا مكّنه من قبضه ، على ما حرّرناه ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فذهب شيخنا المفيد ، والسيّد المرتضى ، وغيرهما ، إلى أنّ هلاكه من مال المشتري ، وذهب شيخنا أبو جعفر ، وجماعة من أصحابنا ، إلى أن هلاكه من مال
البائع ، دون مال المبتاع ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع على كل حال عند الجميع ، وعلى الأقوال كلها بغير خلاف.
والذي يقوى في نفسي ، ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمهالله ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد في غير هذه الصورة ، أنّ المبيع إذا هلك قبل أن يقبضه بايعه ، للمشتري ، أو قبل تمكين البائع للمشتري (١) من قبضه فإنّه يهلك من مال بايعه وهذا من ذاك وأيضا فلا خلاف انّ بعد الثلاثة الأيام يهلك من مال بايعه ، والخيرة له ، ولا خيرة للمشتري ، بل العقد لزمه ، واستقر عليه ، ولا خيار له ، وانما هلك من ماله ، لأنّه ما مكن المشتري من قبضه ، ولا قبّضه إيّاه ، وفي قبل انقضاء المدّة التي هي الثلاثة الأيّام ، هذا حكمه ، والدليل قائم فيه ، ثابت ، لأنّ القبض ما حصل ، ولا التمكين (٢) من القبض حصل.
وأيضا الأصل براءة ذمة المشتري ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّا قد قلنا أنّ أصحابنا مختلفون في المسألة ، فما بقي من الأدلة ، إلا دليل الأصل ، وهو براءة الذمة ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل.
واحتج شيخنا المفيد ، لمقالته في مقنعته ، بأن قال : ولو هلك المبيع في مدّة هذه الثلاثة الأيّام ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما عن تراض ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، لأنّه أحق به ، وأملك ، على ما بيّناه ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمهالله (٣).
فعلل رحمهالله ، واستدل ، بأن قال « كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما » وهذا التعليل والاستدلال يلزمه بعد الثلاثة الأيام ، لأنّ العقد ثابت بينهما بغير خلاف ، إذا لم يختر فسخه البائع ، وعنده رحمهالله ، أنّه إذا
__________________
(١) المشتري ، أو يمكن البائع المشتري.
(٢) ج : ولا التمكّن.
(٣) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب عقود البيع ص ٥٩٢.
هلك بعد الثلاثة الأيام ، فإنّه من مال بايعه ، وإن لم يفسخ البيع ، والثبوت الذي استدل به قبل مضي الثلاثة الأيام ، قائم بعد الثلاثة الأيام ، بغير خلاف.
وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وإذا اشترى إنسان عقارا ، أو أرضا ، وشرط البائع ، أن يرد على المبتاع ، بالثمن الذي ابتاعه به في وقت بعينه ، كان البيع صحيحا ، ولزمه ردّه عليه في ذلك الوقت ، وإن مضى الوقت ، ولم يجئ البائع ، كان بالخيار فيما بعد ، بين ردّه وإمساكه ، فإن هلك المبيع في مدة الأجل المضروبة ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع ، وكذلك إن استغل منه شيئا كان له ، وكان له أيضا الانتفاع به ، على كل حال (١).
قال محمّد بن إدريس : المقصود من هذه المسألة ، وحقيقة القول فيها ، أنّ البائع جعل عند عقدة البيع ، لنفسه الخيار ، دون المشتري ، في أجل محروس ، من الزيادة والنقصان ، بأن يردّ عليه الثمن ، مكملا في ذلك الوقت ، فلو حضر الوقت ، ولم يحضر الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، وكذلك إن أحضر بعض الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، لأنّه شرط في خياره أن يحضر الثمن ، ويرده في ذلك الوقت ، فإما إن باع العقار ، وجعل لنفسه خيار مدّة من الزمان ، وفسخ العقد في جميع المدة المضروبة ، انفسخ ، وإن لم يحضر الثمن ، ولا شيئا منه ، ولا سلّمه إلى المشتري ، لأنّ هذه المسألة ، غير تلك ، لأنّ تلك ، اشتراط أن يجيء بالثمن ، في المدّة المضروبة ، وما جاء بالثمن ، فلم يحصل له شرطه وهذه المسألة ، جعل لنفسه الخيار بين الفسخ والإمضاء ، في هذه المدّة ، من غير إحضار الثمن ، فافترقتا.
والشرط في الحيوان كله ، الدواب ، والحمير والبغال ، وغيرها ، والأناسي من العبيد ، أيضا ثلاثة أيّام ، شرط ذلك في حال العقد ، أو لم يشرط ، يثبت
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
بمجرّد العقد ، للمشتري خاصة ، على الصحيح من المذهب ، الخياران معا ، خيار المجلس وخيار الثلاث ، بمجرّد العقد وإطلاقه.
فإن اشترط المشتري أكثر من ذلك ، كان على ما شرط ، وإن اشترط البائع ، أن لا خيار بينهما ، في المجلس ، ولا مدة الثلاث ، كان أيضا جائزا.
وإن اشترط البائع أيضا لنفسه ، خيار مدة معلومة ، كان أيضا جائزا ، وثبت بحسب الشرط.
وقولنا : « ثبت الخيار للمشتري ، ثلاثة أيّام في الحيوان ، شرط ذلك أو لم يشرط » نريد به شرط المشتري ذلك ، أو لم يشرطه ، ولا يظن ظان ، أنّ المراد به شرط البائع ، أن لا يثبت بينهما خيار ، أو لم يشرط ، لأنّه إذا شرط البائع أن لا يثبت بينهما خيار في هذه المدة ، كان على ما شرط ، ويكون خيار مدة الثلاث ، مع ارتفاع الشروط ، وإطلاق العقد ، وتجرده ، للمشتري خاصة ، على ما أسلفنا القول فيه.
وقد قلنا فيما مضى أنّ السيد المرتضى رحمهالله ، جعل للاثنين معا الخيار ، مدّة هذه الثلاثة الأيام.
والأظهر من المذهب ، الأول ، وقد استدللنا فيما مضى ، على صحة ذلك ، بما لا فائدة في إعادته.
هذا ما لم يحدث المبتاع في هذه المدة ، حدثا يدل على الرضا ، أو يتصرف فيه تصرّفا ينقص قيمته ، أو يكون لمثل ذلك التصرّف ، اجرة تستحق في العرف والعادة ، بأن يركب الدابة ، أو يستعمل الحمار ، أو يقبّل الجارية ، أو يلامسها ، أو يعتقها ، أو يدبّرها تدبيرا ليس له الرجوع فيه ، وهو المنذور ، أو يكاتبها ، أو غير ذلك من أنواع التصرف ، فإنّه يلزمه البيع ، ويستقر عليه ، وإن كان قبل مضى الثلاثة الأيّام ، ولم يكن له بعد ذلك التصرّف والاحداث ردّ على صاحبه على حال ، وإن لم يحدث فيه حدثا إلى أن يمضي ثلاثة أيّام ، لم يكن له بعد مضيها خيار ، إلا أن يجد فيه عيبا ، قبل عقدة البيع ، فإن هلك الحيوان في مدّة