لا يهاب ، فربما خرق بمجلسه بالمشاتمة ويكون فيه شدة من غير عنف ، ولين من غير ضعف ، فإن ذلك أولى بالمقصود.
ومتى حدثت حادثة ، فأراد أن يحكم فيها ، فإن كان عليها دليل من نص كتاب ، أو سنة مقطوع بها ، أو إجماع ، عمل عليه ، قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وعندنا ان جميع الحوادث هذا حكمها ، فلا يخرج عنها شيء ، قال رحمهالله : فإن شذت ، كانت مبقاة على الأصل (١).
وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا ، الذي لا يجوز العدول عنه.
وقال شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من الإستبصار ، في باب البيّنتين إذا تقابلتا ، أورد أخبارا تتضمن أنّ قوما اختصموا في بغلة أو دابة ، وأنهم أنتجوها على مذودهم (٢).
قال محمّد بن إدريس رحمهالله : المذود ، بالميم ، والذال المعجمة ، والواو ، والدال غير المعجمة : المعلف ، والمربط ، وهو مشتق من ذدت الشيء ، إذا حمى عنه ، وطرد عنه ، فهو مفعل من ذاد يذود ، فكأنما البهيمة تحمى وتطرد عن مربطها. ومعلفها ، قال الجاحظ في كتاب الحيوان : أورد في معنى البراغيث ، ثلاثة أبيات وهي :
هنيئا لأهل الري طيب بلادهم |
|
وأنّ أمير الري يحيى بن خالد |
بلاد إذا جنّ الظلام تقاقرت (٣) |
|
براغيثها من بين مثنى وواحد |
ديازجة سود الجلود كأنّها |
|
بغال بريد أرسلت من مذاود (٤) |
وقال المفضل بن سلمة في كتاب البارع : المرود بالراء ، موضع الذال ، الحبل الذي يرود فيه ، أي يذهب ويجيء وأنشد بيتا يصف نشاط فرس :
قاظ بذي الآرى فالمنحنا |
|
يقتلع الارىّ بالمرود |
__________________
(١) المبسوط : ج ٨ ، كتاب آداب القضاء ، ص ٩٧.
(٢) الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام الباب ٢٢ البينتان إذا تقابلتا ، ص ٣٨.
(٣) ج : تقاتلت ، وفي المصدر تقافزت.
(٤) الحيوان : ج ٥ ، ص ٣٩٠.
قال يعني بالمرود مع المرود ، يعني قاظ (١) بهذين الموضعين ، والآري محبس الدابة.
باب كيفية الاستحلاف
قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : قد بينا في كتاب الأيمان والنذور ما يجوز أن يحلف الإنسان به ، وما لا يجوز ، وما إذا حلف به كان حالفا ، وما لا يكون كذلك (٢).
قال محمّد بن إدريس : كتاب الأيمان والنذور في الجزء الثاني من نهايته ، فكيف يقول قد بيّنا ، وبعد ما وصل إليه ، ولا صنّفه؟ ، ولقائل أن يعتذر ويقول : أشار إلى الجملة التي يريد أن يعملها ، ويصنّفها ، وذلك جائز ، وكثيرا ما قالت ذلك العلماء في تصانيفهم ، ولأبي العباس ثعلب في أول الفصيح مثل هذا ، على ما يعتذر له ويقال ، ويجوز أيضا أنّه كان قد صنّفه قبل هذا ، لأنّه لا يمنع من ذلك مانع.
وينبغي للحاكم إذا أراد أن يحلف الخصم ، أن يخوّفه بالله تعالى ، ويذكره العقاب الذي يستحقه على اليمين الكاذبة ، والوعيد عليها ، فإن أنجع (٣) ذلك ، وراجع الحق ، حكم بما يقتضيه الحال ، مما يوجبه الشرع ، وإن أقام على الإنكار واليمين ، استحلفه بالله تعالى ، أو بشيء من أسمائه ، مما تنعقد اليمين به.
ولا تنعقد اليمين عند أهل البيت عليهمالسلام بشيء من المحدثات من الكتب المنزلة ، ولا المواضع المشرفة ، ولا الرسل المعظمة ولا الأئمة المنتجبة ، فإنّ اليمين بجميع ذلك بدعة في شريعة الإسلام.
ولا يحلف بالبراءة من الله ، ولا من رسله ، ولا من أئمته ، ولا من الكتب ، ولا بالكفر ، ولا بالعتق ، ولا بالطلاق ، فانّ ذلك كله غير جائز ، وإن اقتصر على أن يقول له : قل ، والله ماله قبلي حقّ ، كان كافيا ، فإن أراد الزيادة في الردع والإرهاب ، قال له : قل والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، الضار ، النافع ، المدرك ، المهلك ، الذي يعلم من السر ما يعلمه من
__________________
(١) ج : يعني بالمرود فاظ.
(٢) النهاية كتاب الشهادات ، باب كيفية الاستحلاف.
(٣) ج : نجع.
العلانية ، ما لهذا المدّعي على ما ادّعاه ، ولا له قبلي حقّ بدعواه ، فإذا حلف فقد برئت ذمته من ظاهر الحكم ، إن كان كاذبا ، وإن كان صادقا فقد برئت ذمته ظاهرا وباطنا ، وكان المعرّض له آثما.
واستحلاف أهل الكتاب يكون أيضا بالله ، أو بشيء من أسمائه ، وقد روي جواز أن يحلفوا بما يرون هم الاستحلاف به ، ويكون الأمر في ذلك إلى الحاكم ، وما يراه أنّه أردع لهم ، وأعظم عليهم (١).
ويستحب أن يكون الاستحلاف في المواضع المعظمة ، كالقبلة ، وعند المنبر ، والمواضع التي يرهب من الجرأة على الله تعالى.
وإذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس ، حلّفه بالإشارة والإيماء ، إلى أسماء الله سبحانه ، وتوضع يده على اسمه (٢) سبحانه في المصحف ، ويعرف يمينه على الإنكار ، كما يعرف إقراره وإنكاره ، كما قدّمنا القول في ذلك وشرحناه ، وإن لم يحضر مصحف ، وكتب اسم الله تعالى ، ووضعت يده عليه أيضا جاز.
وينبغي أن يحضر يمينه ، من له عادة بفهم أغراضه وإيمائه وإشارته ، وقد روي أنّه يكتب نسخة اليمين في لوح ، ثمّ يغسل ذلك اللوح ، ويجمع ذلك الماء ، ويؤمر بشربه ، فإن شرب ، كان حالفا ، وان امتنع من شربه ، ألزم الحق بعد ردّ اليمين على خصمه (٣) ، على ما قررناه في النكول.
ويمكن حمل هذه الرواية ، والعمل بها على أخرس ، لا يكون له كناية معقولة ، ولا إشارة مفهومة ، والأول على من يكون له ذلك ، على ما أسلفنا القول فيه.
وينبغي للحاكم أن لا يحلف أحدا إلا في مجلس الحكم ، فإن كان هناك من توجهت عليه اليمين ، ومنعه من حضور المجلس مانع ، من مرض ، أو عجز ، أو غير ذلك ، جاز للحاكم أن يستحلف من ينوب عنه ، في المضي إليه ، واستحلافه
__________________
(١) الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب الأيمان ، ح ٤ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١٢.
(٢) ج : على اسم الله.
(٣) الوسائل : الباب ٣٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.
على ما تقتضيه شريعة الإسلام.
والمرأة إذا وجبت عليها اليمين ، استحلفها الحاكم في مجلس الحكم ، وعظّم عليها الأيمان ، فإن كانت المرآة لم تجر لها عادة بالخروج من منزلها ، إلى مجمع الرجال ، أو كانت مريضة ، أو بها علّة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء ، أنفذ الحاكم إليها من ينظر بينها وبين خصمها ، من ثقاته وعدوله ، وأهل العلم والفقه عنده ، فإن توجهت عليها اليمين ، استحلفها في منزلها ، ولم يكلّفها الخروج إلى مجمع الرجال ، وإن توجّه عليها الحق ، ألزمها الخروج منه على ما يقتضيه شرع الإسلام ، وعدله ، فإن امتنعت من ذلك ، كان حكمها حكم الرجال ، وجاز له حبسها في الموضع الذي يجوز له حبس الرجال.
باب النوادر في القضاء والأحكام
روى أبو شعيب المحاملي ، عن الرفاعي ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن رجل قبل رجلا يحفر له بئرا عشر قامات ، بعشرة دراهم ، فحفر له قامة ، ثم عجز ، قال : يقسم عشرة ، على خمسة وخمسين جزءا ، فما أصاب واحدا ، فهو للقامة الأولة ، والاثنين للثانية ، والثلاثة للثالثة ، وعلى هذا الحساب إلى عشرة (١).
قال محمد بن إدريس : أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) ، وقال في مبسوطة ، في الجزء الثالث في كتاب الإجارات ، قال : يجوز الاستيجار لحفر البئر ، غير أنّه لا يجوز حتى يكون المعقود عليه معلوما ، ويصير معلوما بأحد أمرين ، بتقدير المدة ، أو تقدير نفس العمل ، فأمّا المدة فيكفي أن يقول : اكتريتك لتحفر لي بئرا ، يوما أو عشرة ، وما يقدره ، لأنّ المعقود عليه ، يصير معلوما محددا (٣) بذلك المقدار ، وإن قدر العمل ، فلا بدّ من مشاهدة الأرض التي يريد
__________________
(١) الوسائل : كتاب الإجارة ، الباب ٣٥ ، ح ٢ ، لكن في المصدر : عن أبي شعيب المحاملي الرفاعي.
(٢) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.
(٣) ج : المحاملي.
أن يحفر فيها ، لأنّها تختلف في الرخاوة والصلابة ، ولا بدّ من تقدير العرض والعمق ، فيقول قدر عرضه كذا ذراعا ، وقدر عمقه كذا وكذا ذراعا ، وتقدير ذلك بالذراع الذي هو معتاد بين الناس ، كما يقول في المكيال ، فإذا استأجره على ذلك ، وأخذ يحفرها ، فانهار عليه الجرف ، فحصل تراب الجرف في البئر ، فانطم بعضها ، كان على المستأجر إخراجه ، ولا يجب على الأجير ، لأنّه ملك المستأجر ، حصل في تلك الحفرة ، فهو بمنزلة ما لو وقع فيها طعام له ، أو دابة له ، أو تراب من موضع آخر ، فإن وقع من تراب البئر فيها ، لزم الحفار إخراجه ، لأنّ ذلك ممّا تضمنه العقد ، لأنه استؤجر ليحفر ، ويخرج التراب ، فإن استقبله حجر نظرت ، فإن أمكن حفره ونقبه ، لزمه ، وإن كان عليه مشقة فيه ، لأنّه التزم الحفر بالعقد ، فيلزمه على اختلاف حاله ، وإن لم يمكن حفره ، ولا نقبه ، انفسخ العقد فيما بقي ، ولا ينفسخ فيما حفر ، على الصحيح من الأقوال ، قال رحمهالله : ويقسّط (١) على أجرة المثل ، لأنّ الحفر يختلف ، فحفر ما قرب من الأرض ، أسهل ، لأنّه يخرج التراب من قرب ، وحفر ما هو أبعد ، أصعب ، قال رحمهالله : نظر ، فإن كان اجرة المثل على ما بقي ، عشرة ، وفيما حفر خمسة ، أخذ ثلث المسمّى ، قال رحمهالله وقد روى (٢) أصحابنا في مثل هذا ، مقدار (٣) ذكرناه في النهاية (٤) قال رحمهالله : وعلى هذا إن نبع الماء قبل انتهاء الحد ، ولم يمكن الزيادة على الحفر ، فالحكم على ما ذكرناه ، في الحجر إذا استقبله ، ولم يمكن حفره ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (٥) ، أوردناه حرفا فحرفا.
والذي يقوى في نفسي ، ما أورده في مبسوطة ، واختاره ، لأنّ الأدلة تقتضيه ، والأخبار ، والاعتبار والنظر السليم ، يقويه ، ولا يرجع في مثل هذا
__________________
(١) ج : ويسقط.
(٢) الوسائل : الباب ٣٥ من أبواب أحكام الإجارة.
(٣) ج : مقدارا.
(٤) النهاية : في آخر كتاب القضاء باب جامع في القضايا والأحكام.
(٥) المبسوط : ج ٣ كتاب الإجارات ، ص ٢٣٧.
الموضع ، إلى أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وقد ضعّفه شيخنا ، ولم يلتفت إليه ، وجعله رواية ، ولذلك أورده في أبواب النوادر في نهايته ، ولم يورده غيره من أصحابنا المتقدمين عليه ، لا شيخنا المفيد ، ولا السيد المرتضى ، ولا أمثالهما رحمهمالله جميعا.
وروى حماد بن عيسى ، عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام ، أتى بعبد لذمي قد أسلم ، فقال : اذهبوا ، فبيعوه من المسلمين ، وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ، ولا تقرّوه عنده (١).
قال محمد بن إدريس : هذه رواية صحيحة ، تعضدها الأدلة ، وهو قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (٢).
وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة والراء والزاء ) عن أبي عبيدة زياد بن عيسى الحذاء ، قال : قلت لأبي جعفر ، وأبي عبد الله عليهماالسلام : رجل دفع إلى رجل الف درهم ، يخلطها بماله ، ويتّجر بها ، قال : فلمّا طلبها منه ، قال : ذهب المال ، وكان لغيره معه مثلها ، ومال كثير لغير واحد ، فقال : كيف صنع أولئك؟ قال : أخذوا أموالهم ، فقال أبو جعفر ، وأبو عبد الله عليهماالسلام جميعا : يرجع عليه بماله ، ويرجع هو على أولئك بما أخذوا (٣).
قال محمد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤) ، ووجه الفقه والفتيا عندي على تسليم الخبر ، أنّ الأول دفع المال إليه ، فخلطه بغيره ، فلمّا خلطه يغيره ، فرّط فيه بالخلط ، فضمنه ، وأصحاب الأموال الباقية ، خلط أموالهم بإذنهم ، والأول خلط ماله في أموالهم بغير إذنه ، فيجب عليه الضمان ، للأول جميع ماله ، فلمّا أخذ أصحاب الأموال الذين أذنوا في الخلط ، ورضوا به ،
__________________
(١) الوسائل : الباب ٧٣ من أبواب العتق ، ح ١.
(٢) النساء : ١٤١.
(٣) الكافي : كتاب القضاء ، باب النوادر ، الحديث ١٦ ، ج ٧ ، ص ٤٣١. التهذيب : ج ٦ ، باب الزيادات في القضاء الحديث ٦ / ٧٩٩ ، ص ٢٨٨. الوسائل : الباب ٦ من أبواب الحجر ، ح ٢.
(٤) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.
أموالهم على التمام والكمال ، فقد أخذوا ما لم يكن لهم ، بل الواجب تسليم مال من لم يأذن بالخلط على الكمال ، ويدخل النقصان والخسران على الباقين ، فلمّا أخذوا المال ، رجع صاحب المال الذي لم يأذن بالخلط ، على المضارب المفرّط بالخلط ، بجميع ماله ورجع المضارب على من أخذ المال بقدر ما غرم.
وقوله في الخبر : يخلطها بماله ويتجربها ، المعنى فيه خلطها بماله ، واتجر بها ، وإن كان أتى به بلفظ الاستقبال ، فقد يأتي المستقبل بمعنى الماضيّ والماضي بمعنى المستقبل (١) وهذا كثير في كلام العرب والقرآن ، قال الله تعالى « وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ » (٢) معناه وينادي ، وقال الشاعر :
وانضخ جوانب قبره بدمائها |
|
فلقد يكون اخادم وذبائح |
معناه فلقد كان ، بغير شك ، هذا فقه الحديث.
محمد بن إسماعيل ، عن جعفر بن عيسى ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام ، جعلت فداك ، المرأة تموت ، فيدّعي أبوها ، أنّه أعارها بعض ما كان عندها من متاع ، وخدم ، أيقبل دعواه بلا بيّنة ، أم لا تقبل دعواه إلا ببيّنة؟ فكتب إليه يجوز بلا بينة (٣).
قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : أول ما أقول في هذا الحديث ، أنّه خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وفيه ما يضعفه ، وهو أنّ الكاتب الراوي للحديث ، ما سمع الإمام يقول هذا ، ولا شهد عنده شهود ، أنّه قاله ، وافتى به ، ولا يجوز أن يرجع إلى ما يوجد في الكتب ، فقد يزوّر على الخطوط ، ولا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي ، دون ما يجده بخطه ، بغير خلاف ، من محصل ضابط لأصول الفقه.
ولقد شاهدت جميعة من متفقهة أصحابنا ، المقلدين لسواد الكتب ،
__________________
(١) ج : المستقبل بمعنى الماضي
(٢) الأعراف : ٤٨.
(٣) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.
يطلقون القول بذلك ، وأنّ أبا الميتة ، لو ادّعى كلّ المتاع ، وجميع المال ، كان قوله مقبولا بغير بينة ، وهذا خطأ عظيم ، في هذا الأمر الجسيم ، لأنّه إن كانوا عاملين بهذا الحديث ، فقد أخطأوا من وجوه ، أحدها أنه لا يجوز العمل عند محصّلي أصحابنا بأخبار الآحاد ، على ما كررنا القول فيه ، واطلناه (١).
والثاني ، من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يقول بذلك ، ولا يعمل به ، إلا إذا سمعه الراوي من الشارع.
والثالث أنّ الحديث ما فيه أنّه ادّعى أبوها جميع متاعها وخدمها ، وانما قال بعض ما كان عندها ، ولم يقل جميع ما كان عندها.
ثم إنّه مخالف لأصول المذهب ، ولما عليه إجماع المسلمين ، انّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه ، والأصل براءة الذمة ، وخروج المال من مستحقه ، يحتاج إلى دليل ، والزوج يستحق سهمه ، بعد موتها بنص القرآن ، فكيف يرجع عن ظاهر التنزيل ، بأخبار الآحاد ، وهذا من أضعفها ، ولا يعضده كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فإذا خلا من هذه الوجوه ، بقي في أيدينا من الأدلة ، أنّ الأصل براءة الذمة ، والعمل بكتاب الله ، وإجماع الأمة ، على أنّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه.
ثمّ لم يورد هذا الحديث إلا القليل من أصحابنا ، ومن أورده في كتابه ، لا يورده إلا في باب النوادر ، وشيخنا المفيد ، والسيد المرتضى ، لم يتعرضا له ، ولا أورداه في كتبهما ، وكذلك غيرهما من محقّقي أصحابنا ، وشيخنا أبو جعفر رحمهالله ما أورده في جميع كتبه ، بل في كتابين منها فحسب ، إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله من غير اعتقاد لصحته ، على ما بيّناه ، وأوضحناه ، في كثير مما تقدّم ، في كتابنا هذا.
ثم شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمهالله رجع عنه وضعفه ، في جوابات المسائل الحائريات (٢) المشهورة عنه ، المعروفة.
__________________
(١) ج : وأطلقناه.
(٢) المسائل الحائريات : ص ٢٨٧ ، الطبع الحديث ، وفي ذيل الصفحة نقلا عن النسختين زيادة
وقد ذكر شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، رحمهالله في الرد على أصحاب العدد ، الذاهبين إلى أنّ شهر رمضان لا ينقض ، قال : فأمّا ما تعلّق به أصحاب العدد ، في أنّ شهر رمضان لا يكون أقل من ثلاثين يوما ، فهي أحاديث شاذة ، قد طعن نقاد الآثار من الشيعة الإمامية في سندها ، وهي مثبتة في كتب الصيام ، في أبواب النوادر ، والنوادر هي التي لا عمل عليها ، هذا آخر كلام المفيد رحمهالله. وهذا الحديث من أورده في كتابه ، ما يثبته إلا في أبواب النوادر.
ثم يحتمل بعد تسليمه وجها صحيحا ، وهو يجوز بلا بينة ، المراد به الاستفهام ، وأسقط حرفه ، كما قال عمرو بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا |
|
عدد القطر والحصى والتراب |
ويحتمل أيضا أنّه أراد بذلك ، التهجين والذم ، لمن يرى عطية ذلك بغير بيّنة ، بل بمجرد دعوى الأب ، كما قال تعالى ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) (١) عند قومك وأهلك ، فهذان وجهان صحيحان ، يحتملهما الكلام ، إذا سلّم تسليم جدل.
قال : وكتبت إليه ، إن ادّعى زوج المرأة الميتة ، وأبو زوجها ، أو أم زوجها ، من متاعها ، أو خدمها ، مثل الذي ادّعى أبوها ، من عارية بعض المتاع ، أو الخدم أيكونون بمنزلة الأب في الدعوى ، فكتب : لا.
وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن يزيد (٢) بن إسحاق ، عن هارون بن حمزة ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن رجل استأجر أجيرا ، فلم يأمن أحدهما صاحبه ، فوضع الأجر على يد رجل ، فهلك ذلك الرجل ، ولم يدع وفاء ، فاستهلك الأجر فقال : المستأجر ضامن لأجرة الأجير حتى يقضي ، إلا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك ، فرضي بالرجل ، فان فعل ، فحقّه حيث وضعه ورضى به (٣)
__________________
« يتم الاستدلال معها ».
(١) الدخان : ٤٩.
(٢) ج : زيد.
(٣) الوسائل : الباب ٦ من كتاب الإجارة ، ح ١.
قال محمّد بن إدريس : فقه ذلك : انّ المستأجر إذا لم يقبض الأجير الأجرة ، ولا وكيل الأجير ، فهو ضامن لها ، إلى أن يقبضها الأجير ، أو وكيله ، ومن وضعها على يده فهو وكيل للمستأجر ، دون الأجير ، فلأجل هذا كان ضامنا لها ، لأنّ الأجير لو طلبها ممّن سلّمت إليه ، لم يسلمها فأمّا إذا (١) تسلّمها الأجير ، أو أمر المستأجر أن يسلّمها إلى شخص ، رضيه ، وهلكت ، فإنّها تكون من مال الأجير تهلك ، دون مال المستأجر ، لأنّه لو طلبها ، لم يجز لمن هي عنده أن يسلّمها إليه.
وروى محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : قضى أمير المؤمنين عليهالسلام ، برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث (٢).
قال محمّد بن إدريس : سألني شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصي (٣) المتكلّم الرازي ، رحمهالله ، عن معنى هذا الحديث ، وكيف القول فيه؟ فقلت : الحبيس معناه ، الملك المحبوس على بنى آدم ، من بعضنا على بعض ، مدة حياة الحابس ، دون حياة المحبوس عليه ، فإذا مات الحابس ، فإنّ الملك المحبوس ، يكون ميراثا لورثة الحابس ، وينحل حبسه على المحبوس عليه ، فقضى عليهالسلام ، بردّه إلى ملك الورثة ، لأنّه ملك مورثهم ، وانّما جعل منافعه مدة حياته للمحبوس عليه ، دون رقبته ، فلمّا مات بطل ما كان جعله له ، وزال الحبس عنه ، فهو ملك من أملاكه ، فترثه ورثته عنه ، بعد موته ، كما ترث سائر أملاكه ، فأنفذ المواريث عليهالسلام فيه ، على ما تقتضيه شريعة الإسلام.
فأمّا إذا كان الحبيس ، على مواضع قرب العبادات ، مثل الكعبة والمشاهد ، والمساجد ، فلا يعاد إلى الأملاك ، ولا ينفذ فيه المواريث ، لأنّه بحبسه على هذه المواضع ، خرج عن ملكه ، عند أصحابنا ، بغير خلاف بينهم فيه ، فلأجل هذا قلنا :
__________________
(١) ج : فإذا.
(٢) الوسائل : الباب ٥ من أبواب أحكام السكنى والحبيس ، ح ١.
(٣) قال الأردبيلي « رحمهالله » في جامع الرواة : علامة زمانه في الأصولين ، ورع ثقة ، له تصانيف إلخ.
« على بني آدم بعضنا على بعض » ، احترازا من الحبيس الذي على مواضع العبادات.
فأعجبه ذلك ، وقال : كنت أتطلّع (١) على المقصود فيه ، وحقيقة معرفته ، وكان منصفا ، غير مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقته ، ولا من صنعته ، وحقا ما أقول : لقد شاهدته على خلق قل ما يوجد في أمثاله ، من عوده إلى الحق ، وانقياده الى ربقته ، وترك المراء ونصرته ، كائنا من كان صاحب مقالته ، وفقه الله وإيّانا لمرضاته وطاعته.
وروى يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم ( بالحاء غير المعجمة ) عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت عشرة كانوا جلوسا ، ووسطهم كيس ، فيه عشرة ألف (٢) درهم ، فسأل بعضهم بعضا ، ألكم هذا الكيس ، فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو ، قال للذي ادّعاه (٣).
قال محمّد بن إدريس رحمهالله : فقه هذا الحديث صحيح ، وليس هذا ممّا أخذه لمجرد دعواه ، وانّما لم يثبت له صاحب سواه ، واليد على ضربين ، يد مشاهدة ، ويد حكمية ، فهذا يده عليه يد حكمية ، لأنّ كلّ واحد منهم نفى (٤) يده عنه ، وبقي يد من ادّعاه عليه يد حكمية ، ولو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة ، أو متفرقا هو لي ، لكان الحكم فيه غير ذلك ، وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ، ثم ادّعاه غيره ، لم يقبل دعواه بغير بيّنة ، لأنّ اليد المشاهدة عليه ، لغير من ادّعاه ، والخبر الوارد في الجماعة ، أنّهم نفوه عن أنفسهم ، ولم يثبتوا لهم عليه يدا لا من طريق الحكم ، ولا من طريق المشاهدة ، ومن ادّعاه له عليه يد من طريق الحكم ، فقبلنا دعواه فيه ، من غير بيّنة ، ففقهه ما حرّرناه ، وأيضا إنّما قال ادّعاه ، من حيث اللغة ، لأنّ الدعوى الشرعية ، من ادّعى في يد غيره ، عينا أو دينا.
وروى محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها
__________________
(١) ج : لم أطّلع.
(٢) ج : فيه ألف.
(٣) الوسائل : الباب ١٧ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.
(٤) ج : كلّ واحد نفى.
متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء ، قسم (١) بينهما ، وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أن المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (٢).
قال محمّد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا في نهايته (٣) ، وليس بين المسألتين تناف ، ولا تضاد ، أمّا القول في صدر الخبر : وفي بيتها متاع : فلها ما يكون للنساء ، أي ما يصلح للنساء ولا يصلح للرجال ، فهو عند أصحابنا للمرأة ، من غير مشاركة الرجال فيه ، بل تعطاه بمجرد دعواها ، مع يمينها.
وقوله بعد ذلك : وما يكون للرجال وللنساء ، المراد به ما يصلح للرجال والنساء ، يكون بينهما نصفين ، لأنّ (٤) يديهما عليه.
ولم يذكر فيه ما يصلح للرجال ، ويكون للرجال دون النساء ، بل ذكر قسمين فحسب : أحدهما (٥) ما يكون للنساء ، لا يشركهن الرجال فيه ، والآخر ما يكون للرجال والنساء ، قسم بينهما.
ثم قال في آخر الكلام : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء ، لا يشرك كل واحد منهما الآخر ، فيما لا يصلح إلا له ، فذكر قسمين فحسب ، ولم يذكر الثالث ، وهو الذي يصلح للرجال والنساء معا ، بل ذكره في صدر الكلام ، فالثالث يكون بينهما نصفين ، على ما قدّمناه (٦) وذكره أولا ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي ، يذهب في كتاب الاستبصار (٧) ، ويعمل بان المتاع جميعه للمرأة ، وأورد اخبارا في ذلك في صدر الباب ، ثم قال في آخر الباب : فأمّا ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى ،
__________________
(١) ج : فيقسم.
(٢) الوسائل : كتاب الفرائض والمواريث ، الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، ح ٤.
(٣) النهاية : باب جامع في القضايا والأحكام ، لكن في المصدر : الحسين بن مسكين.
(٤) ج : بينهما ، لأنّ.
(٥) ج : قسمين : أحدهما.
(٦) ل : ما قدمنا ذكره.
(٧) الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام ، باب اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت. وفي الوسائل أورد الخبر في الباب ٩ من أبواب ميراث الأزواج ، ح ٤.
عن محمد بن الحسين ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما ، قال : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى الرجل أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (١) قال رحمهالله : فهذا الخبر يحتمل شيئين ، أحدهما أن يكون محمولا على التقية ، لأنّ ما أفتى به عليهالسلام ، في الأخبار الأوّلة ، يعني رحمهالله في الأخبار التي أوردها بأنّ المال جميعه للمرأة ، لا يوافق عليه أحد من العامة ، وما هذا حكمه ، يجوز أن يتقى فيه ، قال رحمهالله : والوجه الآخر أن نحمله على أن يكون ذلك على جهة الصلح ، والوساطة بينهما ، دون مرّ الحكم (٢).
قال محمد بن إدريس : وخبر رفاعة هو مذهب شيخنا في نهايته (٣) ، وفي مسائل خلافه ، في الجزء الثالث ، فإنّه قال : مسألة ، إذا اختلف الزوجان في متاع البيت ، فقال كل واحد منهما كله لي ، ولم يكن مع واحد منهما بينة ، نظر فيه ، فما يصلح للرجال ، القول قوله ، مع يمينه ، وما يصلح للنساء ، فالقول قولها مع يمينها ، وما يصلح لهما ، كان بينهما ، وقد روي ، أنّ القول في جميع ذلك ، قول المرأة مع يمينها ، والأول أحوط ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقد أوردناها في الكتابين المقدّم ذكرهما (٤).
فجعل رحمهالله : ما أورده في الإستبصار ، في الأخبار الكثيرة ، وجعله مذهبا له ، واختاره رواية في مسائل خلافه ، وما اختاره في مسائل خلافه ، رواية في استبصاره ، ثم دلّ على صحّته بإجماع الفرقة ، وكذلك يذهب في مبسوطة ، إلى ما يذهب إليه في مسائل خلافه ، من مقالة أصحابنا ورواياتهم ، ويحكى الرواية الشاذة التي اختارها ، مذهبا في استبصاره.
__________________
(١) راجع المصدر السابق.
(٢) ج : مرّ الحق.
(٣) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.
(٤) الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسألة ٢٧.
والذي يقوى عندي ، ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، لأنّ عليه الإجماع ، وتعضده الأدلة ، لأنّ ما يصلح للنساء ، الظاهر أنّه لهن ، وكذلك ما يصلح للرجال ، فأمّا ما يصلح للجميع ، فيداهما معا عليه ، فيقسم بينهما ، لأنّه ليس أحدهما أولى به من الآخر ، ولا يترجح أحدهما على الآخر ، ولا يقرع هاهنا ، لأنه ليس بخارج عن أيديهما ، وانّما لو كان في يد ثالث ، وأقام كل واحد منهما البينة ، وتساوت البينتان في جميع الوجوه ، كان الحكم فيه القرعة ، لأنّه ليس هو في (١) أيديهما.
وروى علي بن محمد القاساني ، عن القسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، بكسر الميم ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، منسوب إلى دارابجرد.
قال محمّد بن إدريس : هكذا ذكره ابن قتيبة ، والزجاج ، قالا : إنّهم (٢) إذا نسبوا إلى دارابجرد ، قالوا : دراوردي ، وقال غيرهما : هو منسوب إلى دراورد ، قرية بخراسان ، وهو مولى بلّى ، وبلّى قبيلة من العرب ، والنسب إليها بلوي ) قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عمّن أخذ أرضا بغير حقها ، وبنى فيها ، قال : يرفع بناءه ، ويسلّم التربة إلى صاحبها ، ليس لعرق ظالم حق (٣).
قال محمّد بن إدريس : يقال العرق بكسر العين ، وتسكين الراء ، ولا يجوز بفتح العين والراء ، لأنّ ذلك تصحيف ، وأنما يقال مضافا إلى ظالم ، ومنفصلا عنه ، بالتنوين ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة.
وروى عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، عن أبيه ، عن علي عليهمالسلام ، أنّه قضى في رجلين ، اختصما في خصّ ، فقال : إنّ الخص ، للذي إليه القمط (٤).
وقالوا : القمط ، هو الحبل ، والخص الطن ، الذي يكون في السواد ، بين
__________________
(١) ج : ليس في.
(٢) ج : لأنّهم.
(٣) الوسائل : الباب ٣ من أبواب الغصب ، ح ١.
(٤) الوسائل : الباب ١٤ من أبواب أحكام الصلح ، ح ٢.
الدور ، فكان من إليه الحبل ، هو أولى من صاحبه ، وهذا هو الصحيح ، لأنّ عليه إجماع أصحابنا.
وروى الحسن (١) بن عليّ بن يقطين ، عن أميّة بن عمرو ، عن الشعيري ، قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام ، عن سفينة انكسرت في البحر ، فاخرج بعضه بالغوص ، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، فقال : أمّا ما أخرجه البحر ، فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأمّا ما اخرج بالغوص ، فهو لهم ، وهم أحق به (٢).
قال محمد بن إدريس رحمهالله : وجه الفقه في هذا الحديث ، أنّ ما أخرجه البحر ، فهو لأصحابه وما تركه أصحابه ، آيسين منه ، فهو لمن وجده ، وغاص عليه ، لأنّه صار بمنزلة المباح ، ومثله من ترك بعيره من جهد ، في غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنّه حلاه آيسا منه ورفع يده عنه ، فصار مباحا ، وليس هذا قياسا ، لأنّ مذهبنا ترك القياس ، وانّما هذا على جهة المثال ، والمرجع فيه إلى الإجماع ، وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد ، وعلى الخبرين إجماع أصحابنا منعقد.
وروى ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن جماعة من أصحابنا ، عنهما عليهماالسلام ، قال : الغائب يقضى عليه ، إذا قامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ، ويقضى عنه دينه ، وهو غائب ، ويكون الغائب على حجته ، إذا قدم ، قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة ، إلا بكفلاء (٣).
وقد قدّمنا ذلك وشرحناه (٤).
وروى محمّد بن يحيى الخزاز ، عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أن عليّا عليهالسلام ، كان يفلس الرجل ، إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر به فيقسم (٥) ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى ، باعه فقسّمه بينهم ، يعني ماله (٦).
__________________
(١) ج : الحسين.
(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب اللقطة ، ح ٢.
(٣) الوسائل : الباب ٢٦ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.
(٤) كتاب الديون ، ص.
(٥) ج : التوى عن غرمائه : ثمّ يأمره فيقسم.
(٦) الوسائل : الباب ٦ من أبواب أحكام الحجر ، ح ١.
قال محمّد بن إدريس رحمهالله : معنى التوى ، أي دافع ومطل ، قال الشاعر : « تديمين ليّاني وأنت ملية » أي تديمين مطلي.
عنه عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليهالسلام ، كان يحبس في الدين ، فإذا تبيّن إفلاس وحاجة ، خلّى سبيله ، حتى يستفيد مالا (١).
وروى السكوني ، بفتح السين ( قال محمّد بن إدريس ، منسوب إلى السكون ، قبيلة من اليمين ، واسمه إسماعيل بن أبي زياد ، وهو عامي المذهب ، إلا أنّه يروي عن الأئمة عليهمالسلام ) عن أبي عبد الله عليهالسلام ، عن أبيه ، عن علي عليهالسلام ، أنّ امرأة استعدت على زوجها ، أنّه لا ينفق عليها ، وكان زوجها معسرا ، فأبى أن يحبسه ، وقال : إنّ مع العسر يسرا (٢).
وعنه ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليهالسلام ، كان يحبس في الدين ، ثم ينظر ، إن كان له مال ، أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال ، دفعه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم فآجروه ، وإن شئتم استعملوه ، وذكر الحديث (٣) ، قال محمد بن إدريس : هذا الخبر غير صحيح ، ولا مستقيم ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا ، ومضاد لتنزيل الكتاب ، قال تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (٤) ولم يذكر استعملوه ، ولا فاجروه وانّما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٥) إيرادا ، لا اعتقادا.
وقد رجع في مسائل الخلاف ، فقال : مسألة ، إذا أفلس من عليه الدين ، وكان ما في يده لا يفي بقضاء ديونه ، فإنّه لا يواجر ، ليكتسب ، ويدفع إلى الغرماء ، ثم قال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، ولا دليل على وجوب إجارته ، وأيضا قوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » ولم يأمر بالتكسب ،
__________________
(١) و (٢) و (٣) الوسائل : الباب ٧ من أبواب أحكام الحجر ، ح ١ و ٢ و ٣.
(٤) البقرة : ٢٨٠.
(٥) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.
هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني (١).
وروى أبو بصير ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة ، وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه ، إن شاء حاكم بينهم (٢) ، وإن شاء تركهم (٣).
هذا الخبر صحيح ، وعليه إجماع أصحابنا من عقد ، لأنّ الحاكم بالخيار في ذلك ، إن شاء حكم ، وإن شاء ترك ، ولا يجب عليه الحكم ، إلا أنّه إن حكم ، فلا يجوز له أن يحكم إلا بما تقتضيه شريعة الإسلام وعدله ، ولا يجوز له أن يحكم إلا بالحق ، لقوله تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٤) وإن شاء أعرض عنهم لقوله تعالى ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (٥) فقد خيره في ذلك.
وروى طلحة بن زيد ، والسكوني جميعا ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليهالسلام ، أنّه كان لا يجير كتاب قاض إلى قاض ، في حدّ ، ولا غيره ، حتى وليت بنو أمية ، فأجازوا بالبينات (٦).
قوله : فأجازوا بالبينات يريد بذلك ، أنّ هذا كتاب فلان القاضي ، لا أن (٧) المقصود أجازوا الأحكام بالبيّنات ، وقد بيّنا ، أنّه لا خلاف بين أصحابنا ، سلفهم وخلفهم ، بل إجماعهم منعقد ، على أنّه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ، ولا يعمل به ، ولا يحكم ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.
وأيضا فلا يجوز للحاكم الثاني ، والقاضي الثاني ، أن يقلد القاضي الأول ، بل يجب عليه أن يحكم بالحق ، وإقامة البينة ، أو الإقرار ، وما ثبت من ذلك عنده ، دون ما ثبت عند غيره.
__________________
(١) الخلاف : كتاب التفليس مسألة ١٥.
(٢) ج : حكم بينهم.
(٣) الوسائل : الباب ٢٧ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.
(٤) المائدة : ٤٧.
(٥) المائدة : ٤٢.
(٦) الوسائل : الباب ٢٨ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.
(٧) ج : لأن.
فأمّا ما يدّعي من كتب الرسول عليهالسلام ، إلى البلدان ، فجميع ذلك أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وما عمل بالكتاب ، بل بالتواتر ، بما في الكتاب دونه ، إن كان عمل بشيء من ذلك ، على ما بيّناه.
وروى هارون بن حمزة ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت رجلان من أهل الكتاب نصرانيان ، أو يهوديان ، كان بينهما خصومة ، فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجوز ، فأبى الذي قضى عليه أن يقبل ، وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين ، قال : يرد إلى حكم المسلمين (١).
قال محمّد بن إدريس : إن كان قد قضى عليه بما هو صحيح في مذهبهم ، فقد أمرنا أن نقرهم على أحكامهم ، فلا يجوز لنا أن نفسخ حكمهم عليهم ، ولا نردّه عليهم ، ولا نجيبه إلى دفعه عن نفسه ، وإن كان قد قضى عليه بجوز على مذهبهم ، فنردّه ، ويسلّم ظاهر الحديث ، لأنّا ما أمرنا أن نقرهم ، إلا على أحكامهم ، وما يجوز عندهم ، دون ما لا يجوز ، ويعضد ما قلناه ، قوله في الحديث : قضى بينهما حاكم من حكامهما بجور ، وما يكون حقا عندهم ، ما يكون جورا على المحكوم عليه ، بل هو عنده حقّ وصواب.
وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة ، وآخر الاسم زاي ) عن محمد بن مسلم ، وزرارة ، عنهما جميعا قال : لا يحلف أحد عند قبر النبيّ عليهالسلام على أقل ممّا يجب فيه القطع (٢).
قال محمّد بن إدريس : هذا على جهة التغليظ ، فانّ الحاكم ، لا يلزمه أن يحلف هناك ، إلا إذا كانت الدعوى مقدار ربع دينار ، فإن كان أقل من ذلك ، فلا يلزمه أن يحلف هناك.
وروى عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليهالسلام ،
__________________
(١) الوسائل : الباب ٢٧ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٢ ثمّ ان جواب الإمام لم يذكر في نسخة الأصل.
(٢) الوسائل : الباب ٢٩ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.
قال : قلت له جعلت فداك ، في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال : في ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة ، قلت : فإنّه لم يحتلم ، فيها ، قال : وإن لم يحتلم ، فإنّ الأحكام تجري عليه (١).
قال محمّد بن إدريس : قد ورد هذا الحديث ، وهو من أخبار الآحاد ، والاعتماد عند أصحابنا على البلوغ في الرجال ، وهو إما الاحتلام ، أو الإنبات في العانة ، أو خمس عشرة سنة ، وفي النساء الحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين ، فانّ شيخنا أبا جعفر رحمهالله ، أورد هذا الحديث في نهايته (٢) إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّه أورده في باب النوادر ، ورجع عنه في سائر كتبه ، وذهب إلى أنّ حد بلوغ النساء المحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين.
وروى أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن رجل ، دبّر غلامه ، وعليه دين ، فرارا من الدين ، قال : لا تدبير له ، وإن كان دبّره في صحّة منه وسلامة ، فلا سبيل للديان عليه (٣).
قال محمّد بن إدريس : قد أورد هذا الحديث شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤). والذي عندي أنّ التدبير الذي لا عن نذر ، عند أصحابنا بمنزلة الوصية ، لا خلاف بينهم في ذلك (٥) ، فعلى هذا التقرير والتحرير ، سواء دبّره في حال صحة منه وسلامة ، أو غير ذلك ، فإنّه يباع في الدين ، ويبطل التدبير ، وهذا خبر واحد ، أورده شيخنا ، إيرادا ، لا اعتقادا.
وقال بعض أصحابنا ، وهو صاحب كتاب الفاخر قال : ومن دبّر عبدا لا مال
__________________
(١) الوسائل : الباب ٤٥ من أبواب أحكام الوصايا ، ح ٣.
(٢) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.
(٣) الوسائل : الباب ٩ من أبواب التدبير ، ح ٢.
(٤) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.
(٥) ج : في ذلك ، وإجماعهم منعقد على ذلك.
له غيره ، وعليه دين ، فدبره في صحة منه ، ومات ، فلا سبيل للديان عليه ، فإن كان دبّره في مرضه ، بيع العبد في الدين ، فإن لم يحط الدين بثمن العبد ، استسعى في قضاء دين مواليه ، وهو حرّ إذا تممه ، هذا آخر كلامه ، وقد قلنا ما ما عندنا في ذلك ، وهو أنّه لا تدبير إلا بعد قضاء الدين ، سواء دبّره وعليه دين ، أو لم يكن عليه دين ، وسواء دبّره في حال مرضه ، أو صحّته.
وروى غياث بن كلوب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أن عليا عليهالسلام ، كان يقول : لا ضمان على صاحب الحمام ، فيما ذهب (١) من الثياب ، لأنّه إنّما أخذ الجعل (٢) على الحمام ، ولم يأخذ على الثياب (٣).
قال محمّد بن إدريس : هذا خبر صحيح ، لأنّ الإجماع منعقد من أصحابنا عليه ، هذا إذا لم يستحفظه الثياب ، فأمّا إن استحفظه ، وفرّط في الحفاظ ، فعليا الضمان ، لأنّه صار مودعا ، وكذلك إذا استأجره على حفظ الثياب ، ودخول الحمام ، فإنّه يجب عليه حفاظها ، فإذا فرط في ذلك ، فإنّه يجب عليه الضمان ، فأمّا إذا لم يستحفظه ، ولا استأجره على حفظها ، فلا ضمان عليه ، كما ورد في الحديث.
وروى عبد الرحمن بن سيابة ( بالسين غير المعجمة والياء بنقطتين من تحت ، والباء بنقطة واحدة من تحت ، مفتوحة السين ، والياء خفيفة ، وهي الخلالة ، فسمى الرجل باسمها ) عن أبي عبد الله عليهالسلام ، أنّه قال : على الإمام ، إن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ، ويوم العيد إلى العيد ، فيرسل معهم ، فإذا قضوا الصلاة والعيد ، ردّهم إلى السجن (٤).
وروي هذا الحديث غير متواتر ، فإن كان عليه إجماع منعقد ، رجع اليه ، أو دليل سوى الإجماع ، عوّل عليه ، ولا يرجع إلى أخبار الآحاد في مثل هذا.
__________________
(١) ل : يذهب.
(٢) ج : يأخذ الجعل.
(٣) الوسائل : الباب ٣٠ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٢.
(٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٢.