له ، فلمّا لم يكن له حكم ، فقد أخذها ممّن ليس له الأخذ منه ، فإن أراد ردّها إلى الصبيّ ، لم يزل الضمان ، لأنّه بالأخذ قد لزمه الضمان ، فلا يسقط بهذا الرد ، لأنّه ردّ على من ليس له أن يردّ عليه ، إلا أن يردّها إلى ولي الصبيّ ، فإنّه يزول عنه بهذا الرد الضمان.
فأمّا إذا أودع عند صبيّ ، فإنّه لا يضمن ، لأنّ المودع ضيّع الوديعة ، وفرّط في ماله ، فأمّا إذا جنى الصبيّ على مال رجل ، فأتلفه من غير إيداع عنده ، فانّ الضمان يتعلّق في ماله دون مال عاقلته ، لأنّ في باب إتلاف الأموال ، الصبيّ والبالغ سواء ، فإن كانت الجناية على بدن آدميّ ، فعلى عاقلته ، سواء كانت الجناية على الآدمي ، عمدا أو خطأ.
باب المزارعة
المزارعة والمخابرة بالخاء المعجمة ، اسمان لعقد واحد ، وهو إعطاء الأرض إلى أجل ، محروس من الزيادة والنقصان ، ببعض ما يخرج منها مشاعا ، وسواء كان من أحدهما الأرض والبذر ، ومن الآخر العمل ، أو من أحدهما الأرض ، ومن الآخر العمل والبذر.
فإذا ثبت ذلك فالمزارعة مشتقة من الزرع ، والمخابرة من الخبار ، وهي الأرض الليّنة ، والأكّار ، يسمّى خابرا.
والمعاملة على الأرض ببعض ما يخرج من نمائها ، على ثلاثة أضرب مقارضة ، ومساقاة ، ومزارعة.
فأمّا المقارضة ، فإنّها تصحّ بلا خلاف على ما قدّمناه.
وأمّا المساقاة فجائزة عند جميع الفقهاء ، إلا عند أبي حنيفة وحده.
فإمّا المزارعة ، فهو أن يزارعه على سهم مشاع ، مثل أن يجعل له النصف ، أو الثلث ، أو أقلّ ، أو أكثر ، فإنّ ذلك عندنا جائز إذا ضربها بالأجل المحروس ،
وعيّن حقّ العامل.
وشرطه أن يكون جزء مشاعا من الخارج ، فلو عامله على وزن معيّن منه ، أو على غلّة مكان مخصوص من الأرض ، أو على تمر نخلات بعينها ، بطل العقد ، بلا خلاف بين من أجاز المزارعة والمساقاة ، ولأنّه قد لا يسلم إلا ما عيّنه ، فيبقى ربّ الأرض والنخل بلا شيء ، وقد لا يعطب إلا غلّة ما عينه ، فيبقى العامل بغير شيء ، وإذا تمّم المزارع أو المساقي عمله على هذا الشرط ، بطل المسمّى له ، واستحق أجرة المثل.
وتصرّف العامل بحسب ما يقع العقد عليه ، إن كان مطلقا ، جاز له أن يولي العمل لغيره ، ويزرع ما شاء ، وإن شرط عليه أن يتولّى العمل بنفسه ، أو يزرع شيئا بعينه ، لم يجز له مخالفة ذلك ، لقوله عليهالسلام : « المؤمنون عند شروطهم » (١).
ولو زارع ببعض الخارج من الأرض ، والبذر من مالكها ، والعمل والحفظ من المزارع ، جاز.
وكذا لو شرط على العامل في حال العقد ما يجب على ربّ المال ، أو بعضه ، أو شرط على ربّ المال ما يجب على العامل الذي هو الأكار ، المزارع أو بعضه ، كإنشاء الأنهار ، وإصلاح السواقي.
فأمّا الزكاة ، فإن بلغ نصيب كلّ واحد منهم ما يجب فيه الزكاة ، وجبت عليه ، لأنّه شريك مالك ، سواء كان البذر منه ، أو لم يكن ، وليس ما يأخذه المزارع الذي منه العمل دون البذر ، اجرة ولا كالأجرة.
وقال بعض أصحابنا المتأخّرين في تصنيف له : كلّ من كان البذر منه ، وجب عليه الزكاة ، ولا يجب الزكاة على من لا يكون البذر منه ، قال : لأنّ ما يأخذه كالأجرة.
__________________
(١) الوسائل : الباب ٢٠ من المهور ، ح ٤.
والقائل بهذا ، هو السيد العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي رحمهالله (١) شاهدته ورأيته ، وكاتبته ، وكاتبني ، وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذر رحمهالله بأعذار غير واضحة ، وأبان بها أنّه ثقل عليه الرد ، ولعمري أنّ الحقّ ثقيل كلّه ، ومن جملة معاذيره ومعارضاته لي في جوابه ، أنّ المزارع مثل الغاصب للحب إذا زرعه ، فإنّ الزكاة تجب على ربّ الحب دون الغاصب ، وهذا من أقبح المعارضات ، وأعجب التشبيهات ، وإنّما كانت مشورتي عليه ، أن يطالع تصنيفه ، وينظر في المسألة ، ويغيرها قبل موته ، لئلا يستدرك عليه مستدرك بعد موته ، فيكون هو المستدرك على نفسه ، فعلت ذلك علم الله شفقة وسترة عليه ، ونصيحة له ، لأنّ هذا خلاف مذهب أهل البيت عليهمالسلام.
وشيخنا أبو جعفر ، قد حقق المسألة في مواضع عدّة من كتبه ، وقال : الثمرة والزرع نما على ملكيهما ، فيجب على كلّ واحد منهما الزكاة ، إذا بلغ نصيبه مقدار ما يجب فيه ذلك ، وإنّما السيد أبو المكارم رحمهالله نظر إلى ما ذكره شيخنا من مذهب أبي حنيفة ، في مبسوطة (٢) ، فظنّ أنّه مذهبنا ، فنقله في كتابه على غير بصيرة ولا تحقيق ، وعرفته أنّ ذلك مذهب أبي حنيفة ، ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، لمّا شرح أحكام المزارعة ، ثمّ عقب بمذهبنا ، وأو مات له إلى المواضع التي حقّقها شيخنا أبو جعفر في كتاب القراض وغيره ، فما رجع ، ولا غيرها في كتابه ، ومات رحمهالله وهو على ما قاله ، تداركه الله بالغفران ، وحشره مع آبائه في الجنان وكذلك قوله في المساقاة.
وعقد المزارعة والمساقاة يشبه عقد الإجارة ، من حيث كان لازما ، فافتقر إلى تعيين المدّة ويشبه القراض ، من حيث كان سهم العامل مشاعا معلوما في المستفاد.
والمزارعة والمساقاة إذا كانت على أرض خراجية ، فخراجها على المالك
__________________
(١) الغنية : فصل في المزارعة والمساقاة.
(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب القراض ، ص ١٨٣ ، وكتاب المساقاة : ص ٢٢٠.
للأرض ، إلا أن شرّطه على العامل.
وإذا اختلف صاحب الأرض والبذر ، أو الشجر والعامل ، فقال : شرطت لك الثلث ، فقال العامل : لا بل النصف ، وعدمت البيّنة ، فالقول قول صاحب الشجر والأرض والبذر مع يمينه ، لأنّ جميع الثمرة لصاحب الشجرة ، لأنّها نماء أصله ، وانّما يثبت ويستحق العامل الحصّة بالشرط ، فإذا ادّعى شرطا بمقدار معيّن ، كان عليه البيّنة ، فإذا عدمها ، كان القول قول المالك مع يمينه ، فإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة ، قدّمت ، وسمعت بينة العامل ، لأنّه المدّعي ، لقوله عليهالسلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » (١) وصاحب الشجر مدّعى عليه ، وأيضا فالبيّنة بيّنة الخارج ، والعامل الخارج.
وإذا ادّعى ربّ البذر أنّه قدر معلوم ، وقال العامل : هو بخلافه ، فالقول قول العامل ، لأنّه أمين ، ومدّعى عليه أيضا.
فإن شرطا أن يخرج البذر قبل المقاسمة وسطا ، كان على ما شرطا ، وإن لم يشرطا ذلك ، كان جميع الغلّة بينهما ، على ما اتفقا عليه ، دون إخراج البذر ، وشيخنا أبو جعفر لم يذكر في كتاب المزارعة في مسائل خلافه ، إلا المسألة الأولى فحسب ، وجميع الكتاب ، في الإجارة ، لأنّ جميع الكتاب ، أعني كتاب المزارعة إحدى عشرة مسألة ، قال في المسألة الأولى : المزارعة بالثلث والربع والنصف ، أو أقل ، أو أكثر ، بعد أن يكون سهما (٢) مشاعا جائزة.
ثمّ قال في المسألة الثانية ، يجوز إجارة الأرضين للزراعة.
ثمّ قال : مسألة ، يجوز إجارة الأرض بكلّ ما يصحّ أن يكون ثمنا ، من ذهب أو فضة أو طعام.
ثمّ قال : مسألة ، إذا أكراه أرضا ليزرع فيها طعاما ، صحّ العقد.
__________________
(١) الوسائل : الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم.
(٢) ل. ق : سهمهما.
ثم قال : مسألة ، إذا أكرى أرضا للزراعة.
ثمّ قال : مسألة ، إذا أكرى أرضا للغراس.
ثمّ قال : مسألة إذا أكرى أرضا على أن يزرع فيها ويغرس.
ثمّ قال : مسألة ، إذا أكراه أرضا سنة للغراس ، ثمّ قال : مسألة ، إذا استأجر دارا أو أرضا.
ثمّ قال : مسألة ، إذا اختلف المكري والمكتري في قدر النفقة (١) أو قدر الأجرة.
ثمّ قال : مسألة ، إذا زرع أرض غيره ثمّ اختلفا ، فقال الزارع : أعرتنيها.
فهذه المسائل جميع ما ذكره في كتاب المزارعة ، ولعمري أنّ المزارعة عند الشرعيين غير الإجارة ، فكان الأولى والأحق أن يذكر جميع المسائل في كتاب الإجارة ، إلا مسألة واحدة ، وهي الأوّلة.
وقال في نهايته : لا بأس بالمزارعة بالثلث ، أو الربع ، أو أقل أو أكثر ، ثمّ قال : ويكره أن يزارع الإنسان بالحنطة والشعير ، والتمر والزبيب ، وليس ذلك بمحظور ، ثمّ قال رحمهالله : فإن زارع بشيء من ذلك ، فليجعله من غير ما يخرج من تلك الأرض ، ممّا يزرعه في المستقبل ، بل يجعل ذلك في ذمّة المزارع ، ثمّ قال : ولا بأس أن يواجر الأرض الدراهم والدنانير (٢).
قال محمد بن إدريس رحمهالله : جميع ما ذكره شيخنا رحمهالله وحكيناه عنه في نهايته ، ليس ذلك بمزارعة ، إلا مسألة واحدة ، وهي الأوّلة ، وما عداها إجارة ، وليس بمزارعة ، فلا حاجة به إلى ذكر ذلك في كتاب المزارعة وبابها ، بل موضع ذلك باب الإجارة.
ثمّ قال : فإن زارع الأرض على أن يكون المزارع يتولّى زراعتها بنفسه ، لم يجز له أن يعطيها لغيره ، وكذلك إن شرط عليه أن يزرع شيئا بعينه ، لم يجز له خلافه ،
__________________
(١) ج : المنفعة.
(٢) النهاية : كتاب التجارة ، أول باب المزارعة والمساقاة.
ولا بأس أن يشارك المزارع غيره ، ولم يكن لصاحب الأرض خلافه ، وهذا جميعه حسن ، ذكره في باب المزارعة ، على ما قدّمناه.
ثمّ قال : ومن آجر غيره أرضا ، كان للمستأجر أن يقيم في الأرض من ينوب عنه ، ويقوم مقامه.
ثمّ قال : ومن استأجر أرضا بالنصف أو الثلث أو الربع ، جاز له أن يؤجرها غيره بأكثر من ذلك وأقلّ.
قال محمّد بن إدريس : هذا غير مستقيم ، والإجارة هاهنا باطلة ، لأنّ الأجرة تحتاج أن تكون مضمونة في ذمة المستأجر ، والثلث والربع المذكور غير مضمون ، وربما لم تخرج الأرض شيئا ، وهذا غرر عظيم منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.
ثمّ قال : وإذا استأجرها بالدراهم والدنانير ، لم يجز له أن يوجرها بأكثر من ذلك ، إلا أن يحدث فيها حدثا ، من حفر نهر ، أو كرى ساقية ، وما أشبه ذلك (١).
والذي يقوى في نفسي ، أنّه يجوز له أن يوجرها بأكثر من ذلك الجنس الذي استأجرها به ، وإن لم يحدث فيها حدثا ، لأنّ منافعها صارت مستحقة له ، يفعل فيها ما شاء ، ويوجرها لمن شاء بما شاء ، لا مانع يمنع منه من كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّ بينهم خلافا في ذلك ، وما روي في ذلك (٢) أخبار آحاد تحمل على الكراهة ، دون الحظر ، فأمّا إذا اختلف الجنس فلا خلاف بينهم في جواز ذلك ، من غير حظر ولا كراهة ، بأكثر أو أقل ، سواء أحدث فيها حدثا ، أو لم يحدث ، مثال ذلك أن يستأجرها بدنانير ، فيؤجرها بدراهم ، أو يستأجرها بخبطه في ذمته ، لا ممّا تخرج الأرض ، ويؤجرها بدنانير أو دراهم وأشباه ذلك.
ثمّ قال : فإن كان شرط المزارع أن يأخذ بذره قبل القسمة ، كان له ذلك ، وإن
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب المزارعة والمساقاة.
(٢) الوسائل : الباب ٢٢ من أحكام الإجارة.
لم يكن شرط ذلك ، كان البذر عليه على ما شرط.
قال محمّد بن إدريس : إذا لم يكن شرط ، كيف يكون البذر عليه على ما شرط ، وهو قد نفى أن يكون شرط شيئا ، إلا أن يريد به أنّه شرط أن يأخذه بعد القسمة ، إذا لم يكن شرط أن يأخذه قبل القسمة ، وقد قلنا في ما مضى ، أنّه إذا لم يشرط إخراج البذر من وسطا ، لم يخرج ، بل يقسم الجميع (١) من غير إخراج بذر بين المزارع وبين ربّ الأرض.
ثمّ قال : وإن شرط عليه أيضا خراج الأرض ومئونة السلطان ، كان عليه ذلك ، دون صاحب الأرض ، فإن شرط ذلك وكان قدرا معلوما ، ثمّ زاد السلطان على الأرض المئونة ، كانت الزيادة على صاحب الأرض ، دون المزارع.
أمّا قوله « خراج الأرض » فما يتقدّر ذلك إلا في الأرض الخراجية ، على قدّمناه.
ومن استأجر أرضا مدة معلومة ، وجب عليه مال الإجارة ، وكانت له المدة المعلومة ، سواء زرع فيها ، أو لم يزرع ، فإن منعه صاحب الأرض من التصرّف فيها ، ثمّ انقضت المدّة ، لم يكن عليه شيء من الأجرة ، ومتى منعه من التصرّف فيها ظالم غير صاحب الأرض ، لم يكن على صاحب الأرض شيء.
فإن غرقت الأرض لا بجناية أحد من الناس ، غرقا لم يتمكن معه المستأجر من التصرّف فيها مدة الإجارة ، لم يلزمه شيء من مال الإجارة ، إلا أن يكون تصرّف فيها بعض تلك المدة ، فيلزمه بمقدار ما تصرّف فيها ، وليس عليه أكثر من ذلك ، ويكون العقد صحيحا في المدة التي تصرف فيها ، وينفسخ في باقي المدة ، وتقسط الأجرة بمقدار اجرة المثل ، مثال ذلك أن ينظر ، فإن كانت أوقات المدّة كلّها متساوية في الأجرة ، حسب على ما مضى بقسطه من الأجرة المسمّاة ، وإن كانت مختلفة نظركم اجرة مثلها فيما مضى ، وفيما بقي ، فإن كانت اجرة المثل في
__________________
(١) ل. ق : جميع الغلة.
المدّة التي مضت ، مثلي أجرة المدة التي بقيت ، فعليه ثلثا الأجرة المسمّاة ، وعلى هذا الترتيب ، إن كان الحال بخلاف ذلك.
ولا تصحّ المزارعة والإجارة إلا بأجل معلوم ، على ما قدّمناه ، فمتى لم يذكر فيهما الأجل ، كانت باطلة ، فإن كان قد تصرّف فيها المستأجر ، وأنفق فيها ، كان له ما أنفق ، ولصاحب الأرض ما يخرج منها ، وللزارع اجرة المثل ، إذا لم يكن ذكر الأجل ، ولم يكن له أكثر من ذلك.
ومن أخذ أرض إنسان غصبا ، فزرعها أو عمّرها ، وبنى فيها بغير إذن المالك ، كان لصاحب الأرض قلع ما زرع فيها وبنى ، وأخذ أرضه ، وله اجرة المثل على الغاصب مدّة ما كانت في يده ، فإن كان الغاصب زرع فيها وبلغت الغلّة ، كانت للغاصب ، لأنّها نماء بذره ، ويكون لصاحب الأرض طسق الأرض ، والطسق الوظيفة ، توضع على صنف من الأرض لكل جريب ، وهو بالفارسيّة تسك ، فأعرب ، وهو كالأجرة.
وإذا اكترى إنسان دارا ، ليسكنها وفيها بستان ، فزرع فيها زرعا ، وغرس شجرا ، فإن كان فعل ذلك بإذن صاحب الدار ، ثمّ أراد التحوّل عنها ، وأراد الزارع والغارس قلع ذلك ، فله قلعه ، فإن أراد تبقيته فيها ، وأراد صاحبها قلعه ، فإن جرى بينهما صلح ، حملا عليه ، وإن تشاحّا ، ولم يصطلحا على شيء ، فلصاحبها قلعه ، بعد أن يغرم له ما بين قيمته مقلوعا ونابتا ، فإن أبي ذلك ، لم يكن له قلعه ، لأنّه زرعه باذنه ، وليس هو بعرق ظالم ، وإن لم يكن استأذن صاحب الدار في ذلك ، كان له قلعه ، وإعطاؤه إيّاه للزارع والغارس ، لأنّ الرسول عليهالسلام قال : « ليس لعرق ظالم حق » (١).
ومتى زارع أرضا أو استأجرها ، فباع صاحب الأرض أرضه ، لم تبطل بذلك
__________________
(١) الوسائل : الباب ٣ من أبواب الغصب ، ح ١.
مزارعته ، ولا إجارته ، وإن كان البيع بحضرة المزارع والمستأجر ، ويكون البيع صحيحا ، غير أنّه يلزم المشتري أن يصبر إلى وقت انقضاء مدّة المزارعة والإجارة ، فإن مات المشتري لم تبطل أيضا بموته الإجارة والمزارعة ، ووجب على ورثته الصبر ، إلى أن ينقضي زمان المزارعة والإجارة.
ومتى مات المستأجر أو المؤجر ، بطلت الإجارة عند بعض أصحابنا ، وانقطعت في الحال ، وقال آخرون من أصحابنا : إنّها تبطل بموت المستأجر ، ولا تبطل بموت المؤجر ، وقال الأكثرون المحصّلون : لا تبطل الإجارة بموت المؤجر ، ولا بموت المستأجر.
وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، لأنّه الذي تقتضيه أصول المذهب ، والأدلة القاهرة ، عقلا وسمعا.
فالعقل ، أنّ المنفعة حقّ من حقوق المستأجر على المؤجر ، فلا تبطل بموته ، وإذا كانت حقا من حقوق الميّت فإنّه ، يرثه وارثه ، لعموم آيات المواريث ، ومن أخرج شيئا منها ، فعليه الدليل ، وهو تصرّف في مال الغير ، أعني المنفعة. ولا يجوز التصرّف في ذلك ، إلا بإذن صاحب المنفعة.
والسمع فقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد فيجب الوفاء به ، فمن فسخه وأبطله ، يحتاج إلى دليل ، ولن يجده ، فإن ادّعى إجماعا ، فقد بيّنا أنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، لا مجتمعون ، فإذا لم يكن إجماع ، ولا كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا دليل عقل ، فبأيّ شيء ينفسخ هذا العقد ، بل الكتاب قاض بصحّة هذا العقد ، ودليل العقل حاكم به ، وما اخترناه مذهب السيد المرتضى وخيرته في الناصريات في المسألة المأتين ، ومذهب أبي الصلاح الحلبي ، في كتابه كتاب الكافي (١) ، وهو كتاب حسن ، فيه تحقيق مواضع ، وكان هذا المصنّف من جملة أصحابنا الحلبيين ، من تلامذة المرتضى رضياللهعنهما.
__________________
(١) الكافي : فصل في ضروب الإجارة ، ص ٣٤٨.
والأوّل مذهب شيخنا رحمهالله (١) ، وخيرته ، مع قوله في مبسوطة : إنّ أكثر أصحابنا يذهبون إلى أنّ موت المؤجر لا يبطلها (٢). واستدل على صحة ما اختاره في مسائل خلافه (٣) بأشياء يرغب عن ذكرها ، ونقضها سترا على قائلها ، وما المعصوم إلا من عصمه الله سبحانه.
ومال الإجارة لازم ، وإن هلكت الغلّة بالآفات السماويّة.
ومن زارع أرضا أو ساقاها على ثلث ، أو ربع ، أو غير ذلك ، وبلغت الغلّة ، جاز لصاحب الأرض أن يخرص عليه الغلّة والثمرة ، فإن رضي المزارع أو المساقي بما خرص ، أخذها ، وكان عليه حصة صاحب الأرض ، سواء نقص الخرص ، أو زاد ، وكان له الباقي ، كما فعل عامل الرسول عليهالسلام بأهل خيبر وهو عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجيّ (٤) ، فإن هلكت الغلّة والثمرة قبل جذاذها وحصادها ، بآفة سماوية ، لم يلزم العامل الذي هو الأكار شيء لصاحب الأرض.
والذي ينبغي تحصيله في هذا الخبر والسؤال ، انه لا يخلو أن يكون قد باعه حصته من الغلّة والثمرة ، بمقدار في ذمّته من الغلّة والثمرة ، أو باعه الحصة بغلة من هذه الأرض ، فعلى الوجهين معا ، البيع باطل ، لأنّه داخل في المزابنة والمحاقلة ، وكلاهما باطلان ، وإن كان ذلك صلحا لا بيعا ، فإن كان ذلك بغلّة أو ثمرة في ذمة الأكار الذي هو المزارع ، فإنّه لازم له ، سواء هلكت الغلّة بالآفات السماوية ، أو الأرضية ، وإن كان ذلك الصلح بغلّة من تلك الأرض ، فهو صلح باطل ، لدخوله في باب الغرر ، لأنّه غير مضمون ، فإن كان ذلك ، فالغلّة بينهما سواء ، زاد الخرص أو نقص ، تلفت منهما ، أو سلمت لهما ، فليلحظ ذلك ، فهو
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإجارات ، ص ٢٢٤ ، وفيه ، والأظهر عندهم أنّ موت المستأجر يبطلها ، وموت المؤجر لا يبطلها ، وفيه خلاف.
(٣) الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ٢٠.
(٤) الوسائل : الباب ١٠ من أبواب بيع الثمار ، ح ٢ و ٣ و ٥.
الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، وتشهد به الأدلة ، فلا يرجع عنها بأخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، وإن كررت في الكتب.
باب المساقاة
المساقاة مفاعلة ، مشتقة من السّقي ، وهو أن يدفع الإنسان نخلة أو شجره الذي يحمل ثمرا ، أيّ شجر كان ، قبل خروج (١) المدّة المضروبة بينهما ، لأنّها لا تصحّ إلا بأجل محروس.
ويشرط له حصّة معلومة مشاعة.
ولا تصحّ إلا على أصل ثابت ، على أن يلقحه ويصرف الجريد ، ويصلح الأجّاجين تحت النخل والأخواص ، ويسقيها ، ويحفظ الثمرة ، ويلقطها ، ويجذّها ، ويحفر السواقي والأنهار لجري الماء إليها ، وكذلك الكرم ، على أن يعمل فيه ، فيقطع الشّفش ، ويصلح مواضع الماء ، ويسقيه ، ويحفظه.
وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أنّه يجب عليه كلّ ما كان فيه زيادة في الثمرة وربع ونماء ، فعلى هذا يجب عليه الكش ، وآلات السقي ، وما يتوصّل به إليه من الدلاء ، والنواضح ، والبقر ، والحبال ، والمحالات ، وغير ذلك.
وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة : الكش (٢) يلزم صاحب النخل (٣) ، وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه ، ولا شكّ أنّه قول بعض المخالفين ، ووضعه في الكتاب المذكور ، لأنّه رحمهالله يذكر فيه مذهبنا ومقالتنا ، ومقالة غيرنا ، من غير تفصيل كثيرا ما يعمل كذلك ، فصار الشجر على ضربين ، ضرب له ثمر يؤكل ، سواء تعلّق به الزكاة ، أو لم تتعلّق ، فإنّه يتعلّق به المساقاة ، وشجر لا ثمرة له ، فلا يجوز المساقاة عليه.
__________________
(١) ج : انقضاء.
(٢) الكش ، بالضم ، الذي يلقّح به النخل.
(٣) المبسوط : ج ٣ ، كتاب المساقاة ، ص ٢١٠.
والمساقاة تحتاج إلى مدة معلومة ، كالإجارة على ما قدّمناه.
وهي من العقود اللازمة ، لأنّها كالإجارة ، وبهذا فارقت القراض ، لأنّه لا يحتاج إلى مدّة ، بل هو عقد جائز من الطرفين.
والمئونة جميعها في المساقاة على المساقي ، على ما قدّمناه ، دون صاحب الأصل.
ومتى ساقى صاحب النخل والشجر غيره ، ولم يذكر ماله من الحصّة والقسمة ، كانت المساقاة باطلة ، وكان لصاحب الأصل ما يخرج من نخله وشجره ، وعليه وللمساقي أجرة المثل من غير زيادة ولا نقصان.
ويكره لصاحب الأرض أن يشترط على المساقي مع المقاسمة شيئا من ذهب أو فضة ، فإن شرطه أو شرط له ، وجب عليهما الوفاء بما شرطا ، اللهم إلا أن تهلك الثمرة بآفة سماوية ، فلا يلزمه حينئذ شيء ممّا شرط عليه ، على حال.
وخراج الثمرة على ربّ الأرض ، إذا كانت الأرض خراجية ، دون المساقي ، إلا أن يشترط ذلك على المساقي ، فيلزمه حينئذ الخروج منه.
وقد قلنا وذكرنا أحكام من أخذ أرضا ميتة فلا وجه لا عادته.
وقال شيخنا في نهايته ، في ذكر أحكام المساقاة : ومن استأجر أرضا بشيء معلوم ، جاز له أن يؤجر بعضها بأكثر ذلك المال ، ويتصرّف هو بما يبقى في الباقي ، وكذلك إن اشترى مراعى جاز له أن يبيع شيئا منها بأكثر ماله ، ويرعى هو بالباقي ما يبقى منها ، وليس له أن يبيع بمثل ما اشترى أو أكثر منه ، ويرعى معهم ، إلا أن يحدث فيه حدثا ، ويكون ذلك أيضا برضا صاحب الأرض ، فإن لم يرض ببيعه من سواه ، لم يجز له ذلك ، وإنّما يكون له أن يرعاه بنفسه ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته ، في آخر الباب (١).
قال محمد بن إدريس : أمّا المسألة الأولى ، فباب الإجارة أحق بذكرها فيها من باب المساقاة ، وأمّا المسألة الثانية ، فليس هي من قبيل المساقاة ، ولا قبيل
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب المزارعة والمساقاة.
المزارعة ، ولا الإجارة.
والأولى عندي أنّ له أن يبيع ما شاء كيف شاء ، سواء رضي صاحب الأرض ، أو لم يرض ، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم وأموالهم ، كيف شاءوا عملوا ، من سائر أنواع التصرّفات فعلوا ، بيعا ، أو هبة ، أو إجارة ، أو صدقة ، أو غير ذلك ، وإنّما هذه أخبار آحاد احتاج أن يوردها في غير مواضعها ، لئلا يشذّ منها شيء على ما اعتذر به في كتابه العدة (١) ، وإن لم يكن عاملا بها ولا معتقدا لصحتها ، أوردها إيرادا على ما هي عليه من الألفاظ ، لا اعتقادا على ما كرّرنا الاعتذار له في ذلك.
وإذا شرط في حال عقد المساقاة العامل على ربّ الأرض ، بعض ما يجب على العامل عمله ، لم يمنع ذلك من صحة العقد ، إذا بقي للعامل عمل ، ولو كان قليلا ، لأنّ هذا شرط لا يمنع منه كتاب ولا سنّة ، وكذلك إذا ساقاه بعد ظهور الثمرة كان جائزا.
وإذا اختلف ربّ النخل والعامل ، فقال ربّ النخل : شرطت على أن يكون لك ثلث الثمرة ، وقال العامل : بل على أن يكون لي نصف الثمرة ، كان القول قول ربّ النخل مع يمينه ، فإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة ، قدّمنا بيّنة العامل ، لأنّه المدّعي ، وهو الخارج ، دون بيّنة ربّ النخل ، على ما قدّمناه.
إذا ظهرت الثمرة ، وبلغت الأوساق التي تجب فيها الزكاة ، كانت الزكاة واجبة على ربّ النخل والعامل معا ، إذا بلغ نصيب كلّ واحد منهما ما تجب فيه الزكاة ، فإن لم يبلغ نصيب واحد منهما النصاب ، فلا تجب الزكاة على كلّ واحد منهما ، فإن بلغ نصيب أحدهما نصاب الزكاة ، وجب عليه دون من لم يبلغ حصّته ، لأنّ الثمرة ملك لهما ، وهذا مذهب أصحابنا بغير خلاف بينهم في ذلك ،
__________________
(١) العدة : الفصل ٤ من الكلام في الأخبار ، وقد نقلنا عبارتها في ذيل ص ٧٩١.
ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (١) ، وناظر المخالفين على صحته ودلّ عليه.
وقد كنّا قلنا أنّ بعض أصحابنا المتأخّرين ذكر في تصنيف له (٢) ، وقفنا عليه ، وعاودناه في مطالعته في حال حياة مصنّفه ، ونبّهناه على تجاوز نظره الحقّ في المسألة ، لأنّه قال : لا يجب الزكاة إلا على ربّ النخل دون المساقي ، وكذلك في المزارعة ، لا تجب إلا على من يكون منه البذر ، دون الأكّار ، لأنّ ما يأخذه كالأجرة ، والأجرة لا زكاة فيها ، وهذا منه رحمهالله تسامح عظيم ، والذي ذهب إليه أحد قولي الشافعي.
واستدلّ شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، على صحّة ما قلناه ، فقال : دليلنا انّه إذا كانت الثمرة ملكا لهما ، فوجبت الزكاة على كلّ واحد منهما ، فمن أوجب على أحدهما دون الآخر ، كان عليه الدليل (٣) ، الودّي ، بالواو المفتوحة ، والدّال غير المعجمة المكسورة ، والياء المشددة ، هو صغار النخل قبل أن تحمل ، فإذا ساقاه على وديّ ، ففيها ثلاث مسائل.
إحداها ساقاه إلى مدّة يحمل مثلها غالبا ، فالمساقاة صحيحة ، لأنّه ليس فيه أكثر ، من أنّ عمل العامل يكثر ويقلّ نصيبه ، وهذا لا يمنع صحّتها ، كما لو جعل له سهم من ألف سهم ، فإذا عمل ، نظرت ، فإن حملت ، فله ما شرط ، وإن لم تحمل شيئا ، فلا شيء له ، لأنّها مساقاة صحيحة ، ونصيبه من ثمارها معلوم ، فإذا لم تثمر لم يستحق شيئا ، كالقراض الصحيح إذا لم يربح شيئا.
الثانية ساقاه إلى مدّة لا يحمل الودي إليها ، فالمساقاة باطلة.
الثالثة ساقاه إلى وقت قد تحمل وقد لا تحمل ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فهذه أيضا مساقاة باطلة.
__________________
(١) الخلاف : كتاب المساقاة ، المسألة ١٣.
(٢) هو السيد ابن زهرة رحمهالله في كتاب الغنية ، فإنه « رحمهالله » قال في كتاب التجارة ، في فصل في المزارعة والمساقاة ، ما هذا نصه : فأمّا الزكاة فإنّها تجب على مالك البذر والنخل إلخ.
(٣) الخلاف : كتاب المساقاة ، المسألة ١٣.
إذا ساقاه على ودّي ، على أنّه إذا كبر وحمل ، فله نصف الثمرة ، ونصف الوديّ ، فالعقد باطل ، لأنّ موضوع المساقاة على أن يشتركا في الفائدة ، دون الأصول ، فإذا اشترط الاشتراك في الأصول ، بطل ، كالقراض إذا اشترط له جزء من رأس المال ، مضافا إلى وجوب الربح.
وإذا كان الوديّ ، مقلوعا ، فساقاه على أن يغرس ، فإذا علق وحمل ، فله نصف الثمرة ، والمدّة يحمل في مثلها إن علق ، فالمساقاة باطلة ، لأنّها لا تصحّ إلا على أصل ثابت يشتركان في فوائده ، فإذا كانت الأصول مقلوعة ، لم تصحّ المساقاة.
إذا اختلف ربّ النخل والمساقي في مقدار ما شرط له من الحصّة عند المقاسمة ، فالقول قول ربّ النخل مع يمينه ، لأنّ ثمرة النخل كلّها لصاحبها ، وإنّما يستحقّ العامل بالشرط ، وربّ النخل اعرف بما قال ، فإن أقام العامل بيّنة ، سمعت ، وسلّم إليه ما شهدت به البيّنة ، فإن أقام كلّ واحد منهما بيّنة بما يقوله ، قدّمنا بيّنة العامل ، لأنّه المدّعي ، والرسول عليهالسلام جعلها في جنبته ، دون جنبة الجاحد.
وقال شيخنا أبو جعفر في المزارعة هكذا (١) وهو الصحيح وقال في آخر كتاب المساقاة في مبسوطة : وإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة تعارضتا ، ورجعنا على مذهبنا إلى القرعة (٢).
قال محمّد بن إدريس : وأي تعارض هاهنا ، بل هذه المسألة لا فرق بينها وبين اختلاف الأكار في المزارعة وربّ البذر والأرض ، في أنّ كلّ واحد منهما إذا أقام البيّنة ، سمعت بينة الأكار ، لأنّه المدّعي ، والبيّنة جعلها الرسول عليهالسلام في جنبته ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في المزارعة ، ويخالف في المساقاة وهذا أمر طريف.
__________________
(١) لم نعثر عليه.
(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب المساقاة ، ص ٢١٩.
باب الإجارات
كلّ ما يستباح بعقد العارية يجوز أن يستباح بعقد الإجارة ، من إجارة الإنسان نفسه ، وعبيده ، وثيابه ، وداره وعقاره بلا خلاف ، بل الإجماع منعقد على ذلك ، والكتاب ناطق به.
والإجارة عقد معاوضة ، وهي من عقود المعاوضات اللازمة ، كالبيع.
وتفتقر صحّتها إلى شروط ، منها ثبوت ولاية المتعاقدين ، فلا يصحّ أن يواجر الإنسان ما لا يملك التصرّف فيه ، لعدم ملك ، أو إذن ، أو ثبوت حجر ، أو رهن ، أو إجارة متقدّمة ، أو غير ذلك.
ومنها أن يكون المعقود عليه من الجانبين معلوما ، فلو قال : آجرتك إحدى هاتين الدارين ، أو بمثل ما يوجر به فلان داره ، لم يصح.
ومنها أن يكون مقدورا على تسليمه ، حسا وشرعا ، فلو آجر عبدا آبقا ، أو جملا شاردا ، أو ما لا يملك التصرّف فيه ، لم يصحّ.
ومنها أن يكون منتفعا به ، فلو آجر أرضا للزراعة في وقت يفوت بخروجه ، والماء واقف عليها لا يزول في ذلك الوقت ، لم يصحّ.
ومنها أن يكون منتفعا به منفعة مباحة ، فلو آجر مسكنا أو دابة أو وعاء في محظور لم يجز ، وكانت الإجارة باطلة.
فإذا آجر الرجل داره أو دابته ، فإنّه يلزم العقد من الطرفين ، وليس لأحد منهما الخيار ، سواء افترقا من مجلس العقد ، أو لم يفترقا ، لأنّ خيار المجلس لا يثبت إلا في عقد البيع فحسب ، والإجارة ليست ببيع.
ويستحق الموجر الأجرة على المستأجر في الحال ، ولا يقف على تسليم الأعمال والفراغ منها ، بل بإطلاق العقد يستحق المؤجر الأجرة على المستأجر ، سواء كان عملا يمكن تسليمه ، أو لا يمكن تسليمه ، إلا أن يشترط المستأجر
التأخير في حال العقد ، فيكون على ما شرطا واتفقا عليه :
ويستحق المستأجر المنفعة على المؤجر ، حتّى أنّه صار أحقّ بها منه ، كما أنّ المؤجر أحقّ بالأجرة من المستأجر.
وليس لأحدهما فسخ عقد الإجارة بحال ، سواء كان لعذر أو لغير عذر ، فهي كالبيع في حال الفسخ ، لأنّ من اشترى شيئا ملك البائع الفسخ ، إذا كان الثمن معيّنا ووجد به عيبا ، وكذلك المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا ولا يملك الفسخ بغير العيب ، وكذلك المؤجر ، إنّما يملك الفسخ إذا تعذّر استيفاء الحقّ منه ، لفلس أو لغيره ، وكذلك المستأجر إنّما يملك الفسخ إذا وجد بالمنافع عيبا ، مثل أن ينهدم الدار أو بعضها ، أو تغرق الأرض على ما قدّمناه في باب المزارعة ، وإجارة الأرض ، وليس لهما الفسخ لغير عذر.
فإذا ثبت جواز الإجارة فإنّها على ضربين ، أحدهما ما تكون المدّة معلومة ، والعمل مجهولا ، والثاني أن تكون المدّة مجهولة ، والعمل معلوما ، فما تكون المدّة معلومة والعمل مجهولا ، مثل أن يقول : آجرتك نفسي شهرا لابني ، أو أخيط ، فهذه مدة معلومة ، والعمل مجهول ، وما تكون المدة مجهولة والعمل معلوما ، فهو أن يقول : آجرتك نفسي لأخيط ثوبا معلوما ، ولأبني هذا البناء المعلوم ، فالمدة مجهولة والعمل معلوم.
فأمّا إذا كانت المدّة معلومة والعمل معلوما ، فلا يصحّ ، لأنّه إذا قال : استأجرتك اليوم لتخيط قميصي هذا ، فإنّ الإجارة هذه باطلة ، لأنّه ربما يخيط قبل مضي النهار ، فيبقى بعض المدّة المستحقّة بلا عمل ، وربما لم يفرغ منه بيوم ، ويحتاج إلى مدّة أخرى ، فيحصل العمل بلا مدّة.
والمعقود عليه عقد الإجارة ، يجب أن يكون معلوما ، وقد بيّنا أنّه يصير معلوما تارة بتقدير المدّة ، وتارة بتقدير العمل ، فأمّا المنافع فيتقدر منافعها التي يعقد عليها تارة بتقدير المدّة ، وتارة بتقدير العمل ، والعقار لا يتقدّر منفعته إلا بتقدير المدّة ، لأنّه لا عمل لها ، فيقدّر في نفسه.
وليس من شرط صحّتها اتصال المدة (١) بالعقد ، ولا أن يذكر الاتصال بالعقد لفظا ، على ما يذهب إليه بعض المخالفين ، وقاله شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة (٢) ، ولم يذكر هل هو قولنا أو قول غيرنا؟ فلا يظنّ ظان أنّ ذلك قول لأصحابنا.
إذا استأجر على قلع ضرسه ، ثمّ بدا له ، فلا يخلو من أحد أمرين : إمّا (٣) أن يكون زال الوجع ، أو يكون الألم باقيا ، فإن كان بحاله ، فإنّه لا يملك فسخ الإجارة ، ولكن يقال له : قد استأجرته على استيفاء منفعة ، وأنت متمكّن من استيفائها ، فأمّا أن تستوفي منه ذلك ، وإلا إذا مضت مدّة يمكنه أن يقلع ذلك ، فإنّه قد استقر له الأجرة ، كمن استأجر دابة ليركبها إلى بلد ، وسلّمها إليه ، فلم يركبها ، فإنّه يقال له : أنت متمكن من استيفاء المنفعة بأن تركب وتمضي ، فأمّا أن تستوفي ، وإلا إذا مضت مدّة يمكنك أن تستوفيها ، فقد استقرّ عليك الأجرة ، وكذلك إذا استأجر دارا ، فسلمت إليه ، يقال له : إمّا أن تسكنها ، وإلا يستوفي منك الأجرة ، إذا مضت المدّة ، وأمّا إذا زال الوجع ، فقد تعذر استيفاء المنفعة من جهة الله تعالى شرعا ، لأنّه لو أراد أن يقلعها لم يجز ، ويمنع العقل والشرع معا من قلع السن الصحيح ، فانفسخت الإجارة بذلك ، كالدار إذا انهدمت ، فأمّا إذا استأجر عبدا فأبق ، فإنّه تنفسخ الإجارة لتعذّر استيفاء المنفعة (٤) المعقود عليها ، كالدار إذا انهدمت.
والمستأجر يملك من المستأجر المنفعة التي في العبد والدار والدابة ، إلى المدّة التي اشترط ، حتى يكون أحق بها من مالكها ، والمؤجر يملك الأجرة بنفس العقد ، على ما قدّمناه ، ولا تخلو الأجرة من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يشترطا فيها التأجيل ، أو التعجيل ، أو يطلقا ذلك ، فإن شرطا التأجيل إلى سنة أو إلى شهر ، فإنّه لا يلزمه تسليم الأجرة إلى تلك المدّة بلا خلاف ، فإن اشترطا التعجيل أو أطلقا ، لزمه ذلك في الحال ، على خلاف فيه من المخالفين (٥).
__________________
(١) ج : اتصال المنفعة.
(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإجارات.
(٣) ج : فلا يخلو إمّا.
(٤) ج : لتعذّر المنفعة.
(٥) ج : بلا خلاف فيه بين المخالفين.
ومتى عقدا الإجارة ، ثم أسقط المؤجر مال الإجارة ، وأبرأ صاحبه منها ، سقط بلا خلاف ، وإن أسقط المستأجر المنافع المعقود عليها ، لم تسقط بلا خلاف.
قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : إذا باع شيئا بثمن جزاف ، جاز ، إذا كان معلوما مشاهدا ، وإن لم يعلم وزنه ، ولا يجوز أن يكون مال القراض جزافا ، والثمن في السلم أيضا يجوز أن يكون جزافا ، وقيل : لا يجوز كالقراض ، ومال الإجارة يصحّ أن يكون جزافا ، وفي الناس من قال : لا يجوز ، والأول أصحّ ، إلى هاهنا كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، في كتاب الإجارة (١).
قال محمّد بن إدريس : الأظهر من المذهب بلا خلاف فيه إلا من السيد المرتضى في الناصريات (٢) ، أنّ البيع إذا كان الثمن جزافا بطل ، وكذلك القراض والسلم ، لأنّه بيع ، فأمّا مال الإجارة التي هي الأجرة ، فالأظهر من المذهب أنّه لا يجوز ، إلا أن يكون معلوما ، ولا تصح ولا تنعقد الإجارة إذا كان مجهولا جزافا ، لأنّه لا خلاف في أن ذلك عقد شرعيّ ، يحتاج في ثبوته إلى أدلّة شرعيّة ، والإجماع منعقد على صحته إذا كانت الأجرة معلومة غير مجهولة ، ولا جزاف ، وفي غير ذلك خلاف ، وأيضا نهى النبيّ عليهالسلام عن الغرر والجزاف (٣) ، وهذا غرر وجزاف.
وقال شيخنا في نهايته ، بما اخترناه ، فإنّه قال : الإجارة لا تنعقد إلا بأجل
__________________
(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإجارات ، ص ٢٢٣.
(٢) الناصريات : كتاب البيوع ، المسألة ١٧٢
(٣) قد مضى الإيعاز إلى ما يدل على نهيه عن الغرر في ذيل البحث عن شركة الأبدان ، ص ٤٠٠ ولعلّ نهيه صلىاللهعليهوآله عن الجزاف أيضا مستفاد من نفس النهى عن الغرر. وفي الوسائل : في الباب ٤ من أبواب عقد البيع ، بسند صحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « ما كان من طعام سميت فيه كيلا فلا يصلح مجازفة ». وفي سنن النسائي : كتاب البيوع باب بيع ما يشترى من الطعام جزافا ، عن ابن عمر أنّهم كانوا يبتاعون على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله في أعلى السوق جزافا فنهاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه.
معلوم ، ومال معلوم ، فمتى لم يذكر الأجل ولا المال ، كانت الإجارة باطلة ، وإن ذكر الأجل ولم يذكر مال الإجارة ، لم تنعقد ، ومتى ذكرهما كانت الإجارة صحيحة ، ولزم المستأجر المال إلى المدّة المذكورة ، وكان المؤجر بالخيار ، إن شاء طالبه به أجمع في الحال ، وإن شاء أخرها عليه ، اللهم إلا أن يشترط المستأجر أن يعطيه المال عند انقضاء الإجارة ، أو في نجوم مخصوصة ، فيلزم حينئذ بحسب ما شرط (١).
وقال رحمهالله : والموت يبطل الإجارة على ما بيّناه ، والبيع لا يبطلها على ما قدّمناه في الباب الأول (٢).
يريد رحمهالله باب المزارعة والمساقاة ، لأنّها المتقدّمة على باب الإجارة ، وذكر هناك أنّ موت المؤجر يبطلها ، وموت المستأجر أيضا يبطلها ، وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، فلا وجه لإعادته ، إلا ما قاله ابن البراج في كتابه المهذّب ، وحكاه ، فقال : الموت يفسخ الإجارة ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الميّت هو المستأجر أو المؤجر ، وعمل الأكثر من أصحابنا على أنّ موت المستأجر هو الذي يفسخها ، لا موت المؤجر وقد كان شيخنا المرتضى رضياللهعنه سوّى بينهما في ذلك ، بأن بيّن أنّ الوجه فيهما واحد ، وليس هذا موضع ذكر ذلك ، فنذكره ، هذا آخر كلام ابن البراج (٣).
قال محمّد بن إدريس : ليت شعري إن لم يكن هاهنا موضع ذكره ، فأين يكون ، ولكن حبّك للشيء يعمى ويصم ، كما قاله النبي عليهالسلام (٤) ، والصحيح التسوية بينهما ، بأنّ موت أحدهما لا يبطلها على ما اختاره المرتضى ، إذ دليلهما واحد ، وانّهما حقّان لكلّ واحد منهما ، يرثه وارثه ، لعموم آيات المواريث ، فمن يخصّ ذلك يحتاج إلى دليل ، فموت أحدهما لا يبطل حقّ الآخر ،
__________________
(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
(٣) المهذب : ج ١ ، كتاب الإجارات ، ص ٥٠١ ـ ٥٠٢.
(٤) من لا يحضره الفقيه : باب النوادر ، ج ٤ ، ص ٣٨٠ ، الرقم ٥٨١٤ من الألفاظ الموجزة عنه ( ص ).