واختلفوا في المزاج والخلاص فزعم بعضهم أن النور داخل الظلمة والظلمة تلقاه بخشونة وغلظ فتأذى بها وأحب أن يرققها ويلينها ثم يتخلص منها ، وليس ذلك لاختلاف جسمها ، (١) ولكن كما أن المنشار جنسه حديد وصفيحته لينة وأسنانه خشنة فاللين في النور ، والخشونة في الظلمة ، وهما جنس واحد فتلطف للنور بلينة حتى يدخل تلك الفرح ، (٢) فما أمكنه إبتلك الخشونة ، فلا يتصور الوصول إلى كمال ووجود إلا بلين وخشونة.
وقال بعضهم : بل الظلام احتال حتى تشبث بالنور من أسفل صفيحته فاجتهد النور حتى يتخلص منه ويدفعها عن نفسه فاعتمد عليه فلحج(٣) فيه ، وذلك بمنزلة الانسان الذي يريد الخروج من وحل وقع فيه فيعتمد على رجله ليخرج فيزداد ولوجا فيه ، (٤) فاحتاج النور إلى زمان ليعالج التخلص منه والتفرد بعالمه.
وقال بعضهم : إن النور إنما دخل الظلام اختيارا ليصلحها ويستخرج منها أجزاء صالحة لعالمه ، فلما دخل تشبث به زمانا فصار يفعل الجور والقبيح اضطرارا لا اختيارا ، ولوانفرد في عالمه ماكان يحصل منه إلا الخير المحض والحسن البحت ، وفرق بين الفعل الضروري وبين الفعل الاختياري انتهى.(٥)
__________________
ولاتمييز ، وزعموا أن الشر يقع منه طباعا وخرقا ، وزعموا أن النور جنس واحد ، وكذلك الظلام جنس واحد ، وأن إدراك النور إدراك متفق ، وأن سمعه وبصره وسائر حواسه شئ واحد ، فسمعه هو بصره ، وبصره هو حواسه ، وانما قيل : سميع بصير لاختلاف التركيب ، لا لانهما في نفسيهما شيئان مختلفان. وزعموا أن اللون هوالطعم ، وهو الرائحة وهو المجسة ، وإنما وجده لونالان الظلمة خالطته ضربا من المخالطة ، ووجده طعما لانها خالطته بخلاف ذلك الضرب ، وكذلك تقول في لون الظلمة وطعمها ورائحتها ومجستها ، وزعموا أن النور بياض كله « وأن الظلمة سواد كلها » لم يزل يلقى الظلمة بأسفل صفحته منه ، وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحته منها.
(١) في المصدر : وليس ذلك لاختلاف جنسهما.
(٢) في نسخة : حتى يدخل فيما بين تلك الفرج.
(٣) لحج إليه : لجا. لحج السيف : نشب في الغمد فلايخرج. بالمكان : لزمه. وفى نسخة : فولج فيه. وفى المصدر المطبوع بالقاهرة : فلجج فيه.
(٤) وفى المصدر المطبوع بالقاهرة : فيزداد لجوجا فيه.
(٥) الملل والنحل ٢ : ٨٩ ٩١ ط القاهرة ، وص ١٢٤ ط ايران.