التي لا يخلو منها منهج وضعه واحد من البشر يجهل حقيقة نفسه فضلا عن جهله بحقيقة غيره. ومهما أوتي الإنسان من العلم يظل عاجزا عن الوصول إلى المنهج الذي ينعم في ظله ويهتدي بهديه إلا أن يهتدي بهدي الله سبحانه وتعالى :
(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). (٤)
ولو حاول الإنسان وضع منهج للتربية بدون أن يقتبس من نور هذا المنهج الرباني لتأثر بجهله وهوى نفسه ، مما يجعل منهجه بعيدا عن الصواب وعن الحق ، ويجعله متحيزا غير ملائم للإنسان في جوانب حياته كلها ، وغير مناسب له في تكوينه الجسمي والنفسي ، وغير مستند إلى مبدأ المساواة والعدل بين الناس جميعا.
ومع أن الإنسان اكتشف الكثير من أسرار الكون ، وتمكن من التحليق في جو السماء والارتقاء إلى القمر ، ومن إطلاق السفن التي تخرق أجواز الفضاء لتصل إلى الكواكب البعيدة ، وتبث إليه صورها والمعلومات التي تسجلها آلاتها الدقيقة ، فإنه ما زال جاهلا بنفسه التي بين جنبيه ، وبعقله الذي يفكر فيه ، وكأنه غير مؤهل للخوض في هذا الغمار. ولا غرابة في ذلك ، فالعين تبصر ما حولها وتعجز عن إبصار نفسها ولا يستطيع أي عالم أن يجعل بني جنسه حقلا للتجارب ، ليخضعهم لمنهج وضعه ، ويقيس نتائج عمله ، ويعدل فيه حتى يصل إلى المنهج السوي ؛ لعدم قدرته على التحكم في العوامل التي تؤثر على الإنسان في حياته ، ولأن التنائج لا يمكن قياسها ومعرفة أبعادها قبل انقضاء حياة أولئك النفر الذين تربوا على ذلك المنهج ، وحينئذ تكون حياة العالم نفسه قد انقضت قبل أن يستكمل دراسته. ولو قدر بقاؤه أجيالا عديدة يجرب عليها ، لكان في تجاربه متأثرا بعقله القاصر وعلمه المحدود وهوى نفسه وسائر انفعالاته وعواطفه ، ولما تمكن من الوصول إلى الحقيقة ، وأنى له أن يتصورها ويضع المقاييس التي تحدد بعد طلابه أو اقترابهم منها ، وهو عاجر عن تصويب نظره إليها والإحاطة بها.
والإنسان أسمى من أن يجعل حقلا ليجرب عليه مناهج وأنظمة مختلفة. والمفاسد التي تنجم عن المناهج والنظم الفاسدة لا يمكن درؤها ، ومن الخير للناس أن يستمدوا نظام حياتهم ومنهجهم التربوي من الكتاب الذي أنزل لهدايتهم ، والذي وضعه العليم ببواطن النفوس الخبير بما يصلحهم.