٦ ـ التطور والثبات
وهذا المنهج يتصف بالثبات في أهدافه ومبادئه وأسسه العامة ، والتطور في فروعه وأجزائه ووسائله ، ليس بالجامد الذي يصلح لأمة دون غيرها ولعصر دون سائر العصور ، وليس بالمائع الذي لا يعرف له شكل ولا يستقر على حال ، وإنما هو مرن يلائم الناس جميعا في كل أحوالهم مع المحافظة على خصائصه ومزاياه. وهو في هذا شبيه بالأرض وسائر الكواكب التي تدور وتسبح في الفضاء الرحب ، ولكنها لا تسير في كل اتجاه ، ولا تتجه حيثما بدا لها ، وإنما تدور حول محور ثابت ، وتسير في فلك معين لا تحيد عنه ، وكذلك يقبل هذا المنهج التطور حول محور ثابت وضمن إطار محدد.
فما يتعلق بكيان الإنسان الجسمي والنفسي ، وما ينظم صلته بربه هو ثابت ، لأن الإنسان لا يتغير في تكوينه وبنيته ، ولا في خصائصه وحاجاته الأساسية. أما ما يتعلق بكيفية حصول الإنسان على حاجاته ، وبطريقة استفادته من هذا الكون الذي يعيش فيه ، وبشكل مسكنه وملبسه ونوع طعامه وشرابه ، فهو متطور ليتناسب مع درجة الرقي ومستوى الحضارة التي وصل إليها. وهو في تطوره يبقى مقيدا بأحكام أساسية حتى لا يضل في رحلته الطويلة.
ولقد فصل هذا المنهج تفصيلا دقيقا لا يقبل الزيادة ولا التغير فيما هو ثابت كأركان الإيمان والإسلام ، وأحكام العبادات وكيفيتها ، والمحرمات من النساء ونصيب كل وارث من تركة المتوفى. واكتفى بالبيان المجمل والمبادئ العامة فيما هو متطور ، كنظام المال ونظرية الملكية ، ونظام المعاملات وأنواع العقود التجارية ، ونظام الحكم وطرق السياسة الشرعية.
ففي نظام الحكم مثلا أمر بالعدل والشورى وطاعة الحاكم المؤمن ما لم يأمر بمعصية. ولم يحدد ما وراء ذلك من التفصيل كشكل الشورى وكيفية اختيار الحاكم ، ودرجات المحاكم واختصاصها ، كما لم يحدد أعضاء الحكومة وواجبات كل منهم ، وإنما ترك تنظيم ذلك للأمة بما يتفق مع درجة التطور التي وصلت إليها.
وبإمكان هذا المنهج أن يستفيد من دراسات العلماء وأبحاثهم ، ومن اكتشافات المخترعين وتجاربهم ، بل إنه يدفع المؤمنين إلى مواصلة البحث ومتابعة الدراسة في المجالين العلمي والنفسي ، لتيسير سبل الحياة ، وتسهيل طرق التربية ، وخدمة البشر ورفع مستواهم ، ثم يعتمد على ما توصلوا إليه من نتائج ، ويدخل ذلك في مضمونه بدون أن يتخلى عن هويته ، وبذلك أصبح هذا المنهج صالحا لكل الأمم والشعوب في كل مكان وزمان.