يحيط الإهاب بالجسم ، ولكنه ترك الأخذ بالهدى استجابة لداعى الشيطان وصار من الضالين الذى أغواهم إبليس اللعين ، فكان مثله كمثل من ينسلخ عن الإهاب الذى لبسه ولصق بجسمه ، ولو شاء الله تعالى لرفعه من كبوة الضلال بما آتاه الله تعالى من علم ، ولكنه هو الذى انحط إلى الأرض ونزل إليها ، بسبب هواه فصار مثله كمثل الكلب يلهث دائما ، إن ترك يلهث ، وإن حمل عليه يلهث ، ولننظر فى الكلمات التى تشتمل عليها هذه الآيات.
الكلمة الأولى : (انسلخ) والسلخ نزع جلد الحيوان يقال سلخته فانسلخ ، ووضع هذه الكلمة فى ذلك النص الكريم له معنى لا يوجد فى لفظ غيره ، وهو يشير إلى أن البينات والآية المعلمة للحق أحاطت به ، ولصقت بنفسه واتصلت بعقله اتصال إهاب الحيوان بلحمه ، ولكنه انسلخ من هذه البينات فكلمة انسلخ فيها استعارة ، فشبه الكفر والفساد ، بالانسلاخ فى الإهاب لكمال الملازمة ، ولأن الانسلاخ يكون بمعاناة وعنف ، إذ إن مادة المطاوعة لا تكون إلا للأفعال التى تحتاج إلى معالجة ، فلا يقال كسرت القلم فانكسر ، ولا يقال كسرت الزجاج فانكسر ، ولكن يقال كسرت الباب فانكسر ، ويقال طويت الحديد فانطوى ، فكان هذا تصويرا لإثبات أن الكفر ضد الفطرة ، وأنه يحتاج إلى يحتاج إلى معاناة للنفس ، ومقاومة لدواعى الهوى ، ولكنها لا تكون إلا اتباعا لهوى الشيطان.
الكلمة الثانية : أتبعه الشيطان : أى لحقه الشيطان ، فإنه يقال أتبعه إذا لحقه ، ومن ذلك قوله تعالى : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (٦٠) [الشعراء : ٦٠] ، وقوله تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٨٥) [الكهف : ٨٥] ، وقوله تعالى : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢) [القصص : ٤٢] ، وإن وضع هذه الكلمة فى هذا الموضع لهو وضع بلاغى عميق ، ففيه إشارة إلى أن الشيطان إنما يلاحق الذين يتركون الآيات ، ولا يعملون على الأخذ بموجب البينات ، فأول دركات الضلال هو ترك الدلالة المعلمة للحق مع قوة سلطانها ، وإذا تركها فإن الشيطان يلحقه ، ويأخذ به إلى آخر غايات الضلال ، وإذا وصل إلى هذه الدرجة صار من الغاوين ، والغواية معناها الجهل المردى ، الذى يصحبه اعتقاد فاسد مردود ، وكأنه بهذا الانسلاخ من موجبات المعرفة ، ودواعى الحقيقة ينقلب من عالم بالبينات مدرك لها إلى جاهل أرداه جهله فى الفساد.
الكلمة الثالثة : (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ومعنى أخلد إلى الأرض ركن إليها يحسب أن الركون إليها يجعله خالدا ، ويجعله باقيا مستمرا ، وهو يريد البقاء على أى صورة ، وإن مقابلة هذه الكلمة بقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أى بالبينات يفيد أنه اختار الاستفال بدل الارتفاع ، والضعة بدل الرفعة ، ويكون فى هذا إثبات أن الرفعة تكون بطلب الحق والإيمان والاستجابة لبيناته ، وعدم الانخلاع من موجبها.