وهى الحركة الدائمة المستمرة فى الداخل والخارج ، فهى تشمل ما يدخل فى النفس من أسباب الحياة ، وما يخرج منها لتستمر الحياة ، ويقال نفس عنى أى فرج عنى ، وبذلك يكون كلمة التنفس يندرج فيها ثلاثة معان تتصل بالحياة الدائمة المستمرة أولها التنفس بمعنى الحياة ، وثانيها حركتها واستمرارها ، وثالثها تدرجها فى الظهور شيئا فشيئا ، ولو أنك وضعت كلمة أشرق بدل تنفس ، كأن يقال ولكلام الله تعالى المثل الأعلى : «والصبح إذا أشرق ، أو أصبح أو أنار أو أضاء» فإن كلمة منها أو كلمات لا تقوم مقام تنفس ، ولا تغنى غناءها.
ولو أننا تركنا لفظ تنفس بانفرادها ، وتابعناها مقترنة بكلمة الصبح ، وهو النور الذى يبتدئ به النهار ونظرنا ما يصوره قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) ورأينا كل حى فى الوجود ، يفيض عليه الإصباح بالعمل والحركة ، فالندى يصيب الزهور ، والضوء يضيء الحدائق الغناء ، والطيور تزقزق بموسيقاها ، وينبعث كل من فى الوجود خارجا من لباس الليل إلى معاش النهار ، فالزارع يخرج إلى حقله ، والماشية تنبعث من مرابضها ناعقة فرحة ، سائرة إلى المراعى ترعاها ، والكلأ تنتجعه ، والصبيان يخرجون من أكنانهم كما تخرج الطير من أكنانها ، وكل ما فى الوجود يخرج مما يخفيه الظلام.
وهكذا نجد كل مظاهر الحياة تندرج فى الظهور ، حتى يصل إلى الضحى فيكون المعترك القوى الصاخب اللاغب ، فهل ترى كلمة تدل على هذه المعانى أبلغ من كلمة : والصبح إذا تنفس ، وبهذا يتبين أن ألفاظ القرآن الكريم كل كلمة فى حيزها ، لا يملأ غيرها فى موضعها فراغها.
٥١ ـ بعد هذا البيان الذى حاولنا فيه أن نتسامى إلى أن نذكر مواضع البلاغة أو الفصاحة فى كل الكلمات التى سقناها وتلونا آياتها ، وكون كل كلمة فى موضعها ذات بلاغة خاصة تصور صورة بيانية رائعة ، وهى مع أخواتها تتلاقى فى صورة كاملة ، لها أطياف تروع القارئ ، وتستولى على لب المتفهم.
ولننتقل الآن من الألفاظ إلى عبارات لها معان لا يحل محلها فى نسجها ولا فى مدلولها ما يقوم مقامها ، ولنذكر منها أربع آيات.
أولاها قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦) [الأعراف : ١٧٥ ، ١٧٦].
وإن هاتين الآيتين الكريمتين تصوران رجلا آتاه الله تعالى العلم بالآيات الموجبة التصديق بالحق ، وإن هذه الآيات أحاطت بقلبه ونفسه ، حتى لا مناص من إنكارها كما